الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: كيف وصلتنا السنة؟ (4)
تاريخ النشر: 30th, May 2024 GMT
إن الحقيقة الأولى التى ينبغى أن تعلم هى أن أول من قام بتدوين السنة النبوية هو سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه، صلى الله عليه وسلم، أمر بتدوين السنة، فكان مما أمر صلى الله عليه وسلم بتدوينه السنن التى تعد قوانين عامة تنظم النواحى الاقتصادية والسياسية والإدارية للدولة، ومن ذلك أمره، صلى الله عليه وسلم، بكتابة تلك الصحيفة التى آلت إلى سيدنا على رضى الله عنه بعد ذلك.
وهى صحيفة فيها بيان لحدود حرم المدينة النبوية، والنهى عن تغيير علامات حدود الأرض والتعدى عليها، والقوانين الجنائية الخاصة بأنواع الجراحات وما يترتب عليها من قصاص أو دية، وتحديد أعمار الإبل التى تجب فى الديات، والنهى عن إجارة الجناة، والأمر بالحفاظ على عهود المسلمين وعدم نقضها، وغير ذلك.
وقد كانت هذه الصحيفة معلقة بقراب [غمد] سيف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه دلالة على أنها قانون ثابت لا ينقض.
ويرى د. محمد حميد الله أن هذه الصحيفة هى «وثيقة المدينة» التى كتبها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دستوراً لدولة الإسلام الأولى بالمدينة المنورة، والتى تعد أول دستور لدولة فى تاريخ العالم، وقد ذكرت بطولها فى بعض كتب السيرة، وروى نصوصاً منها كأحاديث متفرقة بعض المحدثين كالإمام أحمد والبخارى ومسلم وأبوداود والترمذى وابن ماجه.
كما أنه، صلى الله عليه وسلم، كتب كتاباً خاصاً بالصدقات بين فيه مقدار زكاة الحيوانات، وظل مع الخلفاء بعده، وحينما تولى سيدنا أبوبكر رضى الله عنه أمر الخلافة نسخ نسخة من هذا الكتاب لسيدنا أنس بن مالك رضى الله عنه حينما وجهه إلى البحرين، وكان لدى سيدنا عمر نسخة من هذا الكتاب، توارثها آله من بعده.
وقد روى البخارى وغيره أن أناساً شكوْا إلى سيدنا على سعاة «عمال» عثمان على الزكاة، فأرسل سيدنا على ولده محمد ابن الحنفية إلى سيدنا عثمان رضى الله عنه بهذا الكتاب، فرده سيدنا عثمان لأنه كان على علم بما فيه، ولا يستبعد أن تكون لديه نسخة منه أيضاً.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر بتدوين مثل هذه السنن لمن يرسلهم إلى الجهات المختلفة، ومن هذا كتابه الذى كتبه لعمرو بن حزم (ت 53هـ)، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ويأخذ صدقاتهم، وقد احتوى هذا الكتاب على أحكام فى الصلاة، والزكاة، والديات، والطلاق، والعتاق، وبيان بعض الكبائر.. وغير ذلك.
وقد كان أصحاب النبى، صلى الله عليه وسلم، والتابعون يرجعون إلى هذا الكتاب ويدعون آراءهم.
وقد احتفظ عمرو بن حزم بهذا الكتاب حتى صارت نسخة متوارثة عند آله من بعده، حتى إن سيدنا عمر بن عبدالعزيز (ت 101هـ) حينما استخلف، أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى الصدقات، وكتاب عمر بن الخطاب السابقة الإشارة إليه، فوجد عند آل عمرو بن حزم كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى عمرو بن حزم فى الصدقات، ووجد عند آل عمر كتاب عمر فى الصدقات، مثل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسخا له.
وقد اطلع محمد بن شهاب الزهرى (ت 124هـ) على هذا الكتاب بنفسه، حيث أحضره له أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم (ت 120هـ)، وقد اعتمد الأئمة الأربعة فى مذاهبهم على هذا الكتاب.
وقد كتب، صلى الله عليه وسلم، كتاباً مثل هذا للعلاء بن الحضرمى (ت 21هـ) حين أرسله إلى البحرين بين فيه فرائض الصدقة فى الإبل والبقر والغنم والثمار والأموال، وكتب أيضاً كتاباً لوائل بن حجر (ت 50هـ) لما أراد الشخوص إلى بلاده.
وكذلك كتب، صلى الله عليه وسلم، لمن وفد عليه من الوفود كتباً تتضمن ما يحتاجونه من أمور السنة، ومن كتبه هذه ما كتبه لوفد ثقيف، ووفد تجيب، ووفد نجران، ووفد غامد..
وهذا الذى ذكرناه من الكتب التى أمر صلى الله عليه وسلم بتدوينها ليس هو كل كتبه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو نماذج تدل بجلاء على أن أول من بدأ بتدوين السنة فعلاً هو سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ منها أيضاً أن التصنيف فى السنة - أى: كتابة الكتب فى موضوعات خاصة- كان هو صلى الله عليه وسلم أول من سنه وبدأ به.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: السنة النبوية المطهرة وثيقة المدينة صلى الله علیه وسلم سیدنا رسول الله رضى الله عنه هذا الکتاب
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: قصة سيدنا إبراهيم نموذج قرآني للتفكر في الكون والتوصل إلى الإيمان
أكد الدكتور نظير عياد -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- أن التفكُّر هو أمارة من أمارات الإيمان، وعلامة على صلاح الإنسان، وبوابة أساسية للوصول إلى المعرفة الحقيقية بالله سبحانه وتعالى، مشددًا على أن الإسلام يحث على التأمل والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفي النفس الإنسانية، لأن هذا التدبر العميق هو ما يقود الإنسان إلى إدراك الحقائق الكبرى التي تحكم الكون والحياة.
جاء ذلك خلال اللقاء الرمضاني اليومي للمفتي مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج "اسأل المفتي"، الذي يُبث عبر فضائية "صدى البلد"، حيث تناول فضيلته أهمية العقل والتفكر في الإسلام، وضرورة تحقيق التوازن بين النقل والعقل في فهم النصوص الدينية.
نعمة العقلواستهلَّ المفتي حديثه بالتأكيد على أن نعمة العقل التي منحها الله للإنسان ليست عبثًا، بل هي لأجل تحقيق غاية عظيمة، وهي التأمل في الكون ومعرفة الله حق المعرفة، موضحًا أن القرآن الكريم يعرض لنا نموذجًا فريدًا في قصة خليل الله إبراهيم عليه السلام، حيث قاده التفكر العميق إلى استنتاج وجود خالق واحد لهذا الكون.
وقال: "حين نظر سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب والنجوم والشمس، أدرك بعد تأمل عميق أنها ليست آلهة، لأنها تخضع لقوانين التغيير والتحول، فاستنتج أن هناك إلهًا واحدًا أزليًّا لا يتغير، هو الذي خلق هذه الأجرام وسائر المخلوقات".
وأضاف أن الإنسان إذا تأمل في ملكوت السماوات والأرض سيدرك النظام البديع الذي وضعه الله في الكون، وسيكتشف الإتقان والإحكام الذي يؤكد الوجود الإلهي، مؤكدًا أن النظر في العالم العلوي والسفلي، وتأمل النفس البشرية، يقود الإنسان إلى إدراك عظمة الخالق، استنادًا إلى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
وفي سياق حديثه، شدَّد المفتي على أن الإسلام لم يضع العقل في مواجهة مع النصوص الدينية، بل جعله أداة لفهم هذه النصوص، مستشهدًا بما ذهب إليه العلماء من أن العقل والنقل يكمل أحدهما الآخر. وأوضح فضيلته أن بعض الناس قد يروجون لوجود تعارض بين المدرسة العقلية والمدرسة النقلية، وهذا غير صحيح، لأن الإسلام لا يقف ضد العقل، بل إن العقل يعد من مصادر التشريع الإسلامي، ويتجلى ذلك في القياس، وهو عمل عقلي يستند إلى أسس شرعية.
وأضاف المفتي أن الفيلسوف الإسلامي ابن رشد أكَّد على العلاقة القوية بين النصوص الدينية والأدلة العقلية، موضحًا أن أي ادعاء بوجود تعارض بينهما يرجع إما إلى سوء الفهم، أو ضعف التأمل، أو الأهواء الشخصية. كما أشار فضيلته إلى أن العلماء اعتبروا أن الله تعالى أرسل نوعين من الرسل للبشرية: الأول هو الرسول الظاهر وهو النبي، والثاني هو العقل الذي يعد أداة داخلية للوصول إلى الحق، ولا يمكن أن يستقيم أحدهما دون الآخر، فكما أن اتباع النبي واجب، فإن استقامة العقل ضرورية لفهم الدين بشكل صحيح.
وأشار إلى أن بعض المغرضين قد يحاولون إحداث قطيعة بين العقل والنقل، عبر اجتزاء القراءة للنصوص الدينية، أو إخراجها عن سياقها، أو الترويج لشبهات قائمة على مغالطات، مستدلًّا بقوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، مؤكدًا أن التأمل المنهجي في النصوص الدينية وَفْقَ الضوابط المعروفة يقود إلى إدراك أنها لا تتعارض مع العقل السليم، بل تتناغم معه.
وفي حديثه عن المدارس الفكرية، أوضح المفتي أن تقسيم العلماء إلى مدرسة عقلية ومدرسة نقلية أمر قديم، ويعود إلى ما يعرف بمدرسة الأثر ومدرسة الرأي، مشيرًا إلى أن هذه المدارس لم تكن سببًا في تعارض أو صراع فكري، بل كان لكل منها قواعده وضوابطه التي تحكمه. وقال: "لدينا على سبيل المثال مدرسة التفسير بالأثر التي يمثلها الإمام الطبري والإمام ابن كثير، ومدرسة التفسير بالرأي التي يمثلها الإمام الرازي والإمام الألوسي، ومع ذلك لم يكن هناك تعارض جوهري بين المدرستين، بل كانتا مكملتين لبعضهما البعض".
هل هناك تعارض بين العقل والنقل؟وأضاف أن هذه المسميات لم تُستغل في الصراعات الفكرية إلا في العصور المتأخرة، حيث حاول البعض تصوير النصوص الدينية وكأنها تعطل العقل، بينما الحقيقة أن النصوص تدعو إلى التفكر والتدبر والتأمل، وأن كلتا المدرستين تنطلقان من أصول وقواعد منهجية تؤدي في النهاية إلى الوصول إلى الحقيقة.
وأكد المفتي أن الإسلام دين العقل والتدبر، وأن أي محاولة لإحداث تعارض بين العقل والنقل لا تستند إلى أسس علمية صحيحة، بل هي نتيجة لأهواء أو أغراض خاصة، مشددًا على أن الجمع بين العقل والنقل هو السبيل للوصول إلى الفهم الصحيح للدين، مستشهدًا بقول الله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35].
وأضاف المفتي أن الشريعة الإسلامية دعت إلى إعمال النظر وأوجبت الكفاءة في الاجتهاد، مشيرًا إلى أن الاجتهاد هو صناعة دقيقة جدًّا، وقد أوجبت الشريعة هذا النوع من الفكر والإعمال العقلي، لكنها في ذات الوقت لم تترك الأمر دون ضوابط وشروط ينبغي أن تتوافر في المجتهدين.
وأوضح أن المجتهد لا بد أن يكون متحليًا بعدَّة أمور أساسية، أولها الذكاء الفطري الذي يمكنه من الربط بين النصوص والواقع، وتمييز كيفية عرض الدليل، وطرح الفتوى بالشكل المناسب، إضافة إلى الموضوعية والعدل، والأمانة والعدالة، حيث ينبغي للمفتي أو المجتهد أن يدور مع الحق أينما دار.
وأشار المفتي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى الاجتهاد عناية فائقة، حتى إنه قام بتدريب أصحابه عليه، وكأنه كان يتنبأ بما آل إليه حال الناس اليوم، من التسرع في الاجتهاد دون مراعاة الضوابط العلمية والقواعد الأصولية والأسس الشرعية، فضلًا عن إدراك الواقع والشأن الحياتي.
وفي سياق متصل، أجاب مفتي الجمهورية عن أسئلة المشاهدين، حيث تطرق فضيلة المفتي إلى مسألة الطلاق عبر الهاتف ووسائل التواصل الحديثة، موضحًا أن الأصل في الطلاق أن يقع مشافهة، لكن مع استحداث وسائل الاتصال الحديثة، إذا أرسل الزوج إلى زوجته عبارة الطلاق عبر تطبيقات مثل "واتساب"، يتم استدعاؤه للتحقق من نيته، فإذا أقر بأنه كتبها وقصدها؛ وقع الطلاق. أما إن كانت العبارة تحتمل التأويل وكانت من ألفاظ الكناية، فيتم استيضاح النية منه، فإن قصد الطلاق وقع، وإلا فلا.
وأضاف أن قضية الطلاق ليست بالأمر الهين، حيث تتجاوز آثارها الأسرة وتمتد إلى المجتمع، مشيرًا إلى أن هناك بعض الظواهر السلبية المنتشرة، مثل التسرع في التلفظ بالطلاق لأتفه الأسباب، أو استخدام ألفاظ الطلاق في المعاملات التجارية والمساومات، كقول بعض التجار: "عليَّ الطلاق بالثلاثة إن لم يكن هذا السعر هو الأقل"، وهو أمر غير جائز شرعًا لما فيه من امتهان لحدود الله.
كما تحدث المفتي عن انتشار ألفاظ مثل "أنتِ حرام عليَّ" أو "أنتِ كأمي"، موضحًا أن هذه العبارات تحتاج إلى تفصيل فقهي، حيث إن كان القصد منها التهديد أو الوعيد، فإنها تدخل في باب اليمين ويجب على الزوج حينها أن يكفر عن يمينه، أما إن كان يقصد بها الظهار، فيجب عليه الكفارة وفق الأحكام الشرعية، والتي تتضمن عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
كما شدد على خطورة قطع صلة الرحم بسبب الخلافات الزوجية، معتبرًا ذلك سلوكًا غير محمود شرعًا، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "أنا الرحمن، خلقت الرحم، واشتققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته." مؤكدًا أن قاطع الرحم ملعون ومطرود من رحمة الله، وأن الوصل بين الأرحام يجلب البركة في العمر والرزق.
وفي ختام حديثه، أجاب المفتي عن سؤال حول حكم الوفاء بالنذر، موضحًا أن من نذر طاعةً لله وجب عليه الوفاء بها، إلا إذا تعذَّر ذلك أو لم تكن لديه القدرة على الوفاء، فيسقط عنه العهد. مستدلًّا بحديث الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم معترفًا بأنه أتى أهله في نهار رمضان، فأعطاه النبي كفارة، فقال: "ما في المدينة أحوج إلى هذا مني"، فعفا عنه.