كلام الناس
نورالدين مدني
بعيداً عن إطار النظريات
• لم يكن مؤتمراً صحفياً عادياً ذلك الذي جمعنا بالرئيس الإرتري أسياس أفورقي بمقر الرئاسة بالعاصمة الإرترية أسمرا ، إنما كان لقاءً تفاكرياً لم يخل من " عصف ذهني " كما أراده هو للتشاور وتبادل الآراء حول مختلف القضايا الإرترية.
• لذلك اتسم هذا اللقاء الذي رتب له سفير السودان في إرتريا في ذلك الوقت ماجد يوسف بالصراحة والعفوية ونحن نتنقل عبر مداخلاتنا العلاقات السودانية الإرترية إلى المحيط الخارجي إقليمياً ودولياً وإلى أثر المتغيرات والمستجدات والتحديات الداخلية على المستقبل .
• عندما سألناه عن إمكانية استمرار الدور الإرتري الذي قاده شخصياً بمبادراته في المصالحات السودانية السودانية وجدناه متابعاً لكل ما يجري في الساحة السودانية في جميع النواحي ، وله رأي واضح في المجريات الآنية ، تنطلق من حرصه على استقرار وسلام السودان لأنه ينعكس بصورة مباشرة على إرتريا.
• قال إن القرار الاقتصادي في السودان يؤثر فوراً على الاقتصاد الإرتري ، وأن بنوك إرتريا ( في السودان ) وأن سعر الخروف الإرتري يتمدد في السوق السوداني وأن العمل التجاري السوداني الإرتري مفتوح على طول الحدود بلا قيود وأن المنتجات السودانية هي الغالبة في السوق الإرتري.
• قال إن التحديات الداخلية في الساحة الإرترية تغذيها التدخلات والأجندة الخارجية وأن الهاجس الأهم في هذه المرحلة هو بناء الأمة الإرترية التي حاولوا تقسيمها دينياً وإثنياً ولكنها بقيت متماسكة.
• له رأي سالب في الديمقراطية ربطها بالعمالة لأمريكا وإسرائيل وأنها استغلت لتأسيس كيانات دينية وإثنية تهدد نسيج الأمة الإرترية ، وقال إن السودان مؤهل لأن يكون أمة واحدة رغم كل ما جرى.
• أكد الرئيس الإرتري رفضه التام لتدويل القضايا الداخلية وضرورة حلها بعيداً عن الوساطات والتدخلات والأجندة الخارجية وأنه ما لم يتم الحل السوداني الشامل بمعالجات أشمل فسيتحقق مخطط تقسيمه.
• تناولنا في اللقاء آثار المتغيرات المحيطة على مستقبل العلاقات بين شعوب المنطقة وقال إنه ما لم تحدث تدخلات في الشئون الداخلية فإنه متفائل بمستقبل العلاقات بين شعوب المنطقة خاصة في البحر الأحمر والقرن الإفريقي وأنه يمكن الاتفاق بين دول المصب ودول المنبع حول مياه النيل بما يخدم مصالح الشعوب بعيداً عن التوترات والنزاعات .
• اكتشفنا اهتمامه بالفنون التشكيلية من خلال اللوحات الجميلة التي تزين جدران المكتب الذي جرى فيه اللقاء وقال إنه يرسم وكان من الممكن أن يكون فناناً تشكيلياً وكشف عن نظرية خاصة به تحت عنوان ( الرجل يتجدد ) أيد فيها تعدد الزوجات وفق متوالية هندسية شرحها لنا.
• أكد الرئيس الإرتري أهمية مثل هذه اللقاءات التفاكرية ودعا إلى ضرورة استمرارها عبر ندوات ولقاءات تعقد في الخرطوم وأسمرا بعيداً عن ( إطار النظريات ).
noradin@msn.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الموت بالوكالة: كيف صار الشعب السوداني رهينةً لسلطتين قاتلتين؟
في البدء، كان الحلم هشًّا، يتنازعه الواقع والممكن، بين دولة لا يحكمها العقل وجيوش يحكمها الرعب. لم يكن السودان يومًا استثناءً في سياق التراجيديا التاريخية التي صنعتها الجيوشُ العربية منذ أن تحولت من مؤسساتٍ وظيفية إلى كياناتٍ فوق الدولة، تمارس السلطة دون مساءلة، وتحكم دون أن تُحاكم.
لكن في هذا البلد، كان للعسكر وجوهٌ كثيرة، كلٌّ منها أكثر فتكًا من الآخر، حتى أصبح المواطن السوداني، ذاك الكائن المعذَّب، رهينَ طاحونةٍ تدور برؤوسٍ متشابكة، إحداها الجيش الذي خنق الدولة منذ 1956، والأخرى مليشيا خرجت من رحم التوحش وصارت قوة تنازع الطاغية ذاته على سلطانه، في مشهد عبثي تتداخل فيه الأدوار بين الجلاد والضحية، حتى بات الوطن كله رهينةً بين المطرقة والسندان.
بدأت السردية القاتلة منذ أن استيقظ السودان المستقل على حقيقة أنه لم يُخلق ليحكم نفسه، بل ليكون حقلَ تجاربٍ لأوهام الضباطِ الذين قرأوا نصفَ كتبِ القوميةِ العربية، وظنوا أن الشعب صفحةٌ بيضاءُ قابلةٌ لإعادة التشكيل وفق أوامرِ القيادةِ العامة.
الفريق عبود، أول الطغاة، جاء كظلالٍ ممتدة لجيوشِ ما بعد الاستعمار، حيث لم يكن الاستقلالُ سوى قناعٍ رثٍ لاستعمارٍ داخلي أكثر فجاجة. ثم تلاهُ نُميري، العائد من شطحاتِ البعثِ الماركسي إلى خرافاتِ الهوسِ الديني، في مسيرةٍ عكست هشاشةَ السرديات التي حاول العسكرُ تسويقها، والتي انتهت إلى أن الشعب ليس سوى متغيرٍ ثانوي في معادلة الحكم.
لكن اللعبةَ الأكثر فجاجةً كانت في 1989، حين اختُزلت الدولةُ في معادلةٍ وحيدة: الإسلاميون والجيشُ كيانٌ واحد، والحربُ على المواطنِ أصبحت معركةَ استئصالٍ مفتوحة.
هنا، بدأ الجيش في التحول إلى عصبةٍ متآمرة، حيث لم يعد مجردَ قوةٍ تحكم باسم الدولة، بل صار جهازًا أيديولوجيًا يعمل لتصفية أي مشروعٍ خارج ثنائية “الطاغية المخلص” و”العدو الوجودي”. كانت الإنقاذُ لحظةَ التحامِ القمعِ المقدسِ مع السلاحِ الدنيوي، حيث أصبح الوطنُ مجردَ ساحةٍ تُعادُ هندستها وفق أوهامِ البقاءِ الأبدي.
في تلك اللحظة، وُلدت المليشيات.
وجيف الخطى الأولى ظهرت في دارفور، حيث اختُزلت الدولةُ في معسكراتِ الموت، وتحولت الجيوشُ النظاميةُ إلى أشباحٍ تراقبُ المذابح من بعيد. ومن رماد الجنجويد، خرجت قوات الدعم السريع، كظلٍّ كثيفٍ لنظامٍ أفرط في صناعة الوحوش، حتى كادَ يُبتلع بها.
حميدتي، بائع الإبل الذي صعد من ثقافة الغزو البدائي، أصبح رجل الدولة بامتياز، في استعارةٍ فظةٍ لصعود العوامِ المسلحين في الإمبراطورياتِ الآفلة. هنا، لم يكن الصراعُ مجردَ لعبةِ سلطة، بل كان إعادةَ توزيعٍ للقوةِ خارج أطرها التقليدية، حيث أصبح الموتُ رأسمالًا قابلًا للمساومة، وصارت الحربُ استثمارًا مفتوحًا، بمدخلاتِ الذهبِ ومخرجاتِ الخراب.
حين انفجرت الحرب في 15 أبريل 2023، لم تكن سوى لحظةٍ حتمية في سياقٍ بدأ منذ أن تخلّى الجيشُ عن كونهِ مؤسسةً وطنية، وأصبح مجردَ أداةٍ لصناعةِ الطغاة. لكنها كانت أيضًا إعلانًا لانهيارِ النموذجِ نفسه، حيث لم يعد بالإمكان إخفاءُ هشاشةِ الدولةِ خلفَ أستارِ البيروقراطيةِ العسكرية. الجيشُ الذي كان يُراد له أن يكون درعَ الدولة، أصبح شبحًا يتآكل من داخله، والدعمُ السريع، الذي أُنشئ كأداةِ قمع، أصبح دولةً صغيرة داخل الدولة، حتى خرجت الأمور عن نطاق السيطرة.
لا شيء يعبر عن هذه اللحظة أكثر من أصواتِ الخرطومِ المنكوبة، حيث تحوّلت المدينة إلى أطلالٍ تتردد فيها أصداءُ الأسئلة التي لم تجد إجابة: من يحكمُ السودان؟ هل هو الجيشُ الذي صار ظلًّا لنفسه؟ أم المليشياتُ التي خرجت من رحمِ الفوضى وأصبحت القوةَ الوحيدةَ القادرةَ على فرضِ معادلاتها؟ أم أن البلادَ محكومةٌ بمنطقِ الحربِ الدائمة، حيث الدولةُ مجردُ مرحلةٍ عابرة بين معركتين؟
إذا كان ماركس قد تحدث عن “الدولة كأداةٍ للقمع الطبقي”، فإن السودان يقدم نموذجًا أكثر تعقيدًا، حيث الدولةُ لم تعد موجودةً أصلًا، والقمعُ أصبح مُوزّعًا بين عدةِ أقطابٍ، كلٌّ منها يحاولُ أن يؤسسَ روايتهُ الخاصة.
الأمر ليس صراعًا بين سلطةٍ وشعب، بل بين عدةِ سلطاتٍ، كلٌّ منها ترى في الشعب مادةً خامًا لإعادةِ التشكيل.
هذا ما يُفسرُ لماذا تحولت المليشياتُ إلى كياناتٍ اقتصاديةٍ ضخمة، ولماذا أصبح الجيشُ نفسه طرفًا في تجارةِ الحرب، حيث لا أحد يرغبُ في إنهاءِ النزاع، لأن النزاع ذاتهُ أصبح مصدرَ الشرعيةِ الوحيد.
لكن المأساةَ الحقيقية ليست في القتلةِ فحسب، بل في الذين ما زالوا يبحثون عن تبريرٍ أخلاقي لهذه الفوضى. هنا، تأتي السردياتُ التي تحاولُ اختزالَ الأمرِ في “حربٍ بين معسكرين”، وكأن هناك حقًا معسكرًا يمثلُ الشعب. الحقيقةُ أن الشعبَ السوداني، الذي ظلَّ لعقودٍ محاصرًا بين الطغاةِ والجلادين، لم يعد طرفًا في المعادلة. لقد صار مادةً للفرجةِ في مسرحيةٍ دمويةٍ تُعيد إنتاج نفسها بوجوهٍ مختلفة، لكنها تحتفظُ بالحبكةِ ذاتها: الوهمُ، القمع، ثم السقوط.
عبد الخالق محجوب، الذي قُتل لأنه رفض أن يرى في الجيشِ حليفًا، كان يُدركُ أن العسكرَ لا يصنعون الثورات، بل يُجهضونها. غرامشي، الذي تحدث عن “الهيمنة” كأداةٍ لصياغةِ الوعي، كان ليجدَ في السودانِ نموذجًا فريدًا لهيمنةٍ لم تُصنع عبر الأفكار، بل عبر الرصاص. وبين هذا وذاك، يظل المواطنُ السوداني، الذي اعتاد أن يكون مشروعَ شهيد، في انتظارِ أن يسألهُ أحدهم: متى تُريدُ أن تكونَ مواطنًا كاملَ الحقوق؟
لكن لا أحد يسألُ هذا السؤال، لأن في السودان، كما في كل الدول التي سقطت في قبضةِ العسكر، السؤالُ الوحيدُ الذي يُسمعُ دائمًا هو: لمن السلطة؟ وما دامت الإجابةُ تأتي بالسلاح، فإن المواطنَ لن يكونَ سوى صدىً للأقدامِ التي تجوبُ الخرطوم، بحثًا عن غنيمةٍ جديدة.
zoolsaay@yahoo.com