الخرطوم- ترتب الحكومة المصرية لاستضافة مؤتمر للقوى السياسية السودانية في نهاية يونيو/حزيران المقبل، حسبما أعلنت وزارة الخارجية الثلاثاء، وهي الخطوة الثانية من نوعها خلال أقل من شهر في سياق مساعي القاهرة للإسهام في إنهاء الأزمة السودانية.

ففي الأسبوع الأول من مايو/أيار الجاري، استضافت مصر مؤتمرا شاركت فيه 8 كتل سياسية سودانية كبرى، تضم تحت لافتتها أكثر من 50 تنظيما سياسيا وحركات مسلحة وتجمعات مهنية ودينية، توج بالتوقيع على ما أطلق عليه "الميثاق الوطني"، تضمن رؤية تأطيرية لشكل الحكم، ونادى بتوحيد القوى السياسية في كيان واحد، يقدم بدوره خريطة طريق لحل شامل.

وتزامنت الدعوة المصرية هذه مع اجتماعات لتنسيقية تحالف القوى المدنية "تقدم" في أديس أبابا، شارك فيها نحو 600 ممثل لتنظيمات سياسية وواجهات مدنية ونقابية ومهنية، ولم يشارك التحالف في الاجتماع السابق في القاهرة، وسط اتهامات له بموالاة قوات الدعم السريع، التي تقاتل الجيش في الخرطوم وعدد من ولايات السودان الغربية.

كيف انخرطت مصر في الأزمة السودانية؟

برزت القاهرة بشكل لافت في الأزمة السودانية مؤخرا، ومالت باتجاه إجراء ترتيبات لمعالجة الأزمة السياسية، بينما كانت جدة تستضيف مفاوضات لوقف إطلاق النار بين طرفي النزاع، الجيش والدعم السريع.

وحاولت الحكومة المصرية تجميع خيوط السياسة باستضافة اجتماع لقوى إعلان الحرية والتغيير-المجلس المركزي، ثم تلاها زيارة رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك للقاهرة في مارس/آذار الماضي، حيث عقد اجتماعات مع الفاعلين المصريين، ركزت على كيفية المساهمة في وقف الحرب.

وسبق هذا الاجتماع لقاء رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أواخر فبراير/شباط الماضي، حيث عرض فيه البرهان رؤيته لإنهاء الحرب واستدامة السلام والاستقرار في بلاده.

وفي 13 يوليو/تموز 2023، استضافت القاهرة مؤتمرا لدول جوار السودان، حث على ضرورة إنهاء الحرب والاحترام الكامل لسيادة السودان ووحدته، ووقف تدخل الأطراف الخارجية إلى جانب الحفاظ على الدولة السودانية، كما احتضنت القاهرة مؤتمر القضايا الإنسانية في السودان في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وشملت توصياته مجالات متعلقة بالجوانب الإنسانية والإغاثية.

ما الهدف من الاجتماع القادم؟

حددت الخارجية المصرية نهاية يونيو/حزيران القادم موعدا لعقد مؤتمر يضم كافة القوى السياسية المدنية السودانية، وقالت في بيان إن المؤتمر سيحضره كافة الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين، بهدف التوصل إلى توافق بين مختلف القوى السياسية المدنية السودانية، حول سبل بناء السلام الشامل والدائم في السودان، عبر حوار وطني سوداني-سوداني.

وتأتي الدعوة المصرية -وفقا للبيان- انطلاقا من إيمان راسخ بأن النزاع الراهن في السودان هو قضية سودانية بالأساس، وأن أي عملية سياسية مستقبلية ينبغي أن تشمل كافة الأطراف الوطنية الفاعلة، وفي إطار احترام مبادئ سيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها.

كما أفاد البيان بأن مصر ستنظم هذا المؤتمر استكمالا لجهودها ومساعيها المستمرة من أجل وقف الحرب الدائرة، وضمن إطار من التعاون والتكامل مع جهود الشركاء الإقليميين والدوليين، لاسيما دول جوار السودان، وأطراف مباحثات جدة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة "إيغاد".

كما تتطلع القاهرة إلى المشاركة الفعالة من جانب كافة القوى السياسية المدنية السودانية، والشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين، وتكاتف الجهود من أجل ضمان نجاح المؤتمر في تحقيق تطلعات الشعب السوداني.

مؤتمر تقدم من أجل السودان بمشاركة نحو 600 ممثل لتنظيمات سياسية ومدنية في أديس أبابا (مواقع التواصل) هل سيشارك تحالف القوى المدنية الديموقراطية "تقدم" في الاجتماع المرتقب؟

يقول القيادي في تنسيقية القوى المدنية والأمين العام لحزب الأمة الواثق البرير للجزيرة نت إنهم لم يتلقوا حتى الآن دعوة رسمية من القاهرة بشأن الاجتماع المرتقب، وإنهم سمعوا به من الإعلام فقط، ومع ذلك يشير إلى ترحيبهم بكل المساعي والمبادرات التي ترمي لحل الأزمة السودانية وإيقاف الحرب.

وأضاف البرير أنهم يحتاجون لمعرفة التفاصيل، ومن ثم تقييم شكل الاجتماع ومن هي أطرافه والقضايا التي ستطرح فيه، لكنهم من حيث المبدأ "يدعمون كل المبادرات التي تهدف لإيقاف الحرب وإقرار التحول المدني الديمقراطي".

ويضم تحالف "تقدم" كتلا فاعلة في الساحة السياسية، على رأسها حزب الأمة القومي والمؤتمر السوداني والجبهة الثورية، وعددا من الحركات المسلحة والواجهات المدنية، وتتفق جميعها في وجوب عزل عناصر النظام السابق من أي مساعٍ مستقبلية للحل، بينما تتحدث الكتل المؤيدة للجيش والتي اجتمعت في القاهرة مؤخرا عن ضرورة إسهام كل القوى السودانية في الحل دون عزل أي طرف.

ما شروط الحكومة السودانية لنجاح الدعوة المصرية؟

رحبت الخارجية السودانية بالدعوة المصرية لعقد المؤتمر، معتبرة أن مصر وقيادتها الأحرص على أمن وسلام واستقرار السودان، إلا أنها دعت لاستصحاب جملة من الرؤى لضمان نجاح المؤتمر، من بينها وجود تمثيل حقيقي للغالبية الصامتة من الشعب السوداني، "ممن سفكت دماؤهم وانتهكت أعراضهم ونهبت ممتلكاتهم وهجروا قسريا"، والذين تعبر عنهم المقاومة الشعبية.

ودعت الخارجية في بيانها كذلك لتوضيح من هم الشركاء الإقليميون والدوليون الذين سيحضرون المؤتمر، وما هي حدود دورهم، خاصة أن المؤتمر يقصد منه الوصول لرؤية سودانية خالصة.

وشددت على أنه لن يكون مقبولا للشعب السوداني أن يحضر المؤتمر من وصفتهم بـ"رعاة مليشيا الدعم السريع الإرهابية، الذين يواصلون إمدادها بالأسلحة الفتاكة، لقتل الأبرياء وانتهاك الأعراض، وتدمير البنيات الأساسية للبلاد".

كما رفضت الخارجية مشاركة دول الجوار التي أشار إليها تقرير خبراء مجلس الأمن أنها شريكة في تمرير وعبور رحلات السلاح، من دولة الإمارات وصولا إلى تشاد، من خلال مطار أم جرس الذي هُيئ لدخول ھذه الإمدادات، ومنھا إلى دارفور.

وتحدث بيان الخارجية عن عدم قبول تمثيل أي منظمة إقليمية أو دولية سكتت عن إدانة الدعم السريع وانتهاكاتها الجسيمة للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان في جوانبھا المتعددة، ولو بصفة مراقب.

كما تمسك البيان بعدم مشاركة الاتحاد الأفريقي و"إيغاد"، ما لم يسبق ذلك بدء خطوات فعلية لرفع تجميد نشاط السودان بالمنظمة القارية، وأن تصحح المنظمة موقفها الذي ينتهك سيادة السودان، حتى تكون محل ثقة الشعب السوداني، بما يمكنها من حضور مؤتمر كهذا.

ما الجديد الذي سيحمله الاجتماع القادم في سياق حل الأزمة؟

يعتقد حاتم السر علي المستشار السياسي لرئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي أن الدور المصري لا يمكن الاستغناء عنه لحل الأزمة في السودان، ويقول للجزيرة نت إن الجديد في الاجتماع المرتقب هو انتقال مصر من مرحلة التعامل مع القوى السودانية بالتجزئة إلى مرحلة التعامل معها بالجملة، بعد أن خلقت أرضية مشتركة للتعامل مع القضية السودانية.

ويشير إلى أن مصر استبقت إطلاق دعوتها بالتواصل مع كل أطراف الحركة السياسية السودانية، وحصلت منها على موافقات مبدئية بالمشاركة.

ويلفت المستشار إلى أن الاجتماع القادم يعد أول محاولة لفتح الباب والتفاهم بين القوى السياسية السودانية، ومنع تحول الخلافات إلى قتال وصراع دامٍ، بعد أن واجهت التكتلات الحزبية حالة من الاستقطاب الحاد، ولم يسبق لها الجلوس للتحاور حول الثوابت الوطنية وتحديد الأولويات والاتفاق على رؤية مشتركة.

ويضيف أن ملتقى القاهرة يشكل "بارقة أمل" للخروج من حالة الانقسام وانسداد الأفق السياسي، وحالة الاستقطاب الحاد بين القوى السياسية السودانية التي تعيشها البلاد حاليا، والتي تعتبر الحرب أحد إفرازاتها الخطيرة، و"لهذا السبب فإن مفتاح النجاح لحل الأزمة السودانية سياسي بامتياز".

ما فرص نجاح الدعوة المصرية للتقارب بين السودانيين؟

يتوقع القيادي في الكتلة الديمقراطية مبارك أردول أن يكون اجتماع القاهرة المقبل "حدثا كبيرا"، بالنظر إلى الدور المحوري الذي تلعبه مصر في المنطقة والإقليم، مؤكدا للجزيرة نت مشاركتهم في جلساته.

ويشير أردول إلى أن مصر كانت قد دعت لاجتماع مشابه قبل الحرب، لكن "بعض الجهات" رفضته وعملت على عرقلته، مبديا اعتقاده أن تلك الجهات، التي لم يحددها، لن يكون موقفها الحالي مشابها للسابق، في ظل حاجة السودانيين لحوار شامل يضم كل الأطراف.

ويعدد المستشار السياسي حاتم السر فرص نجاح المبادرة المصرية الجديدة، من بينها تهيئة القاهرة منذ وقت مبكر للبيئة الملائمة التي تسبق جلوس الأطراف، لضمان نجاح المبادرة وتفاديا لأي سوء فهم أو تقاطعات، وتجنبا لمصير مبادرات سابقة، قال إنها "ماتت في مهدها".

وأضاف أن توازن مصر في التعاطي مع الأزمة السودانية جعلها تتميز عن الآخرين، كما أن الاتصالات والتحركات الدبلوماسية والسياسية التي قامت بها مع كل الاطراف استباقا لعقد الملتقى تمهد لضمان النجاح.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات السیاسیة السودانیة الأزمة السودانیة الدعوة المصریة القوى السیاسیة فی السودان أن مصر مصر فی

إقرأ أيضاً:

على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (14 – 20)

"لن يستطيع أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لَمْ تَكُنْ مُنحنياً"

مارتن لوثر كينج

النور حمد

الإسلامويون والجيش ودولتهم الموازية

من العوامل التي هيأت الفرص لكي تصبح موارد السودان الخام نهبًا للجيش ولمنتسبي الحركة الإسلاموية، وما يحيط بهم ممن يوالونهم من التجار، إنشاؤهم الدولة الموازية، التي استقلت بنفسها عن الدولة الأم في السودان. وأصبحت تعيش في داخلها كما تعيش الدودة الشريطية في أمعاء الإنسان. فكما سبق أن أشرنا، خلقت ما تسمى "الحركة الإسلامية" في السودان لنفسها دولةً موازيةً تدير اقتصادًا موازيًا يتحرك خارج الأطر المؤسسية المعروفة لأي دولة. فأصبحت هناك دولةٌ موازيةٌ فاحشة الثراء غارقةٌ في الفساد حتى أذنيها، وهناك الدولة الأم التي تعيش حالة من الفقر المدقع ومن انهيار مطرد للخدمات كالكهرباء والمياه والاتصال والأمن والتعليم والصحة والنظافة العامة، وغير ذلك. أهل الدولة الموازية هم التنظيم الحاكم والقوى الأمنية التي تحرسه من قوات مسلحة ورديفاتها من المليشيات الخاصة بالحركة الإسلامية ومن أجهزة الأمن المختلفة ومن الشرطة، ومن أصحاب المصالح من الرأسماليين الطفيليين الذين يتحلَّقون حول كل نظامٍ للحكم، أيًّا كان، كما سلفت الإشارة.

شرع الدكتور حسن الترابي منذ تدبيره الانقلاب على النظام الديمقراطي في السودان في تمكين أتباعه من كل مفاصل الدولة. وأتبع ذلك بتحويل الأملاك العامة للدولة إلى أملاك لتنظيمه الحاكم ولمنظومة الحكم القائمة. وبعد ابعاده الترابي في عام 1999، ركز الرئيس المخلوع عمر البشير، على حماية نفسه بالجيش والأجهزة الأمنية لكي يأمن على نفسه من أي انقلابٍ تقوم به المجموعة التي ذهبت مع الدكتور حسن الترابي. تطورت الأمور منذ نهاية العشرية الأولى لنظام البشير ليصبح الجيش والأجهزة الأمنية، بمرور السنوات، دولةً كاملةً مستقلةً، تدير اقتصادًا ضخمًا موازيًا، يجري خارج إطار الدولة وأجهزتها التي تقع عليها مهمة رقابة المال العام. وهي دولة تكسب مليارات الدولارات لكنها لا تصرف إلا على نفسها، فقط. وكما ذكر رئيس وزراء الفترة الانتقالية، عبد الله حمدوك، فإن حوالي 80% من شركات القوات المسلحة والقوات النظامية تعمل خارج ولاية وزارة المالية على المال العام.

في عام 1993 أنشأ النظام الإخواني في السودان ما تسمى منظومة الصناعات الدفاعية، التي ضمَّت، ضمن ما ضمَّت، مجمع اليرموك للصناعات العسكرية، ومجمع جياد الصناعي الضخم في منطقة الباقير جنوبي الخرطوم. كما ضمَّت مجمع ساريا الصناعي في العاصمة الخرطوم، الذي جرى إنشاؤه في عام 1997. وكغيرها من الجيوش العربية التي سيطرت على مختلف البلدان، اتجهت القوات المسلحة السودانية إلى السيطرة على الاقتصاد ووضعه تحت قبضتها، بل، وقامت بإدارته خارج إطار الدولة. تعدت أنشطة الجيش الصناعات الدفاعية وأخذت تنشئ العديد من الشركات التجارية التي انخرطت في مختلف الأنشطة الاقتصادية. وقد أوردت صحيفة الراكوبة في 8 سبتمبر 2011، أن موسى كرامة المدير الأسبق لشركة الصمغ العربي، الذي كان جزءًا من المنظومة الحاكمة، قال: إن بنية الإقتصاد السوداني تم حرفها تماماً لتصب في صالح الموالين للحكومة من جيش وشرطة وقوى أمن بجعلهم يهيمنون على الشركات شبه الخاصة. وذكر كرامة، أيضًا، أن النظام يمنح ما أسماه "الشركات الرمادية"، العقود بصورةٍ غير شفافة. وقال إن 413 شركة شبه حكومية تسيطر على الاقتصاد السوداني. وأن هذه الشركات ترفض الخضوع للتدقيق والمراجعة. (راجع: صحيفة الراكوبة على الرابط: https://shorturl.at/gDGsQ). كما أورد الصادق على حسن المحامي الذي تجمعه صلة قرابة بموسى كرامة، في تقرير له نشرته مجلة الديمقراطي في أول يونيو 2021، أن موسى كرامة قال له: لديَّ وصية أريدك أن تنقلها لجماعتكم في الحكومة (يقصد حكومة الفترة الانتقالية): هنالك أشياء بالضرورة أن يسمعوها متعلقة بالذهب والتعدين وحصائل الصادر والشركات والأفراد الذين ينهبون ثروات البلاد. وكذلك، التهريب الذي لا يزال مستمرًا من خلال شبكةٍ متكاملةٍ تضم نظاميين يعملون بموانئ السودان الجوية والبحرية والبرية، وشبكات خارجية. إلى جانب ذلك هناك قضايا الصمغ العربي والتهريب المستمر وإختلال ميزان الصادر والوارد بسبب السياسات الخاطئة. (راجع: صحيفة الديمقراطي على الرابط: https://shorturl.at/QzL7t).

عبر البرهان استباحت مصر موارد السودان

ورث البرهان هذه البنية الاقتصادية المختلة من نظام سلفه الرئيس المخلوع عمر البشير، فقام بحراستها بل وبالتوسع فيها وتقويتها. سيطر الجيش وجهاز الأمن على تجارة السلع الضرورية. وإلى جانب سهولة جني المال من التجارة في السلع الضرورية الأكثر استهلاكًا، فإن السيطرة على هذا المجال كان لها منذ فترة حكم الرئيس عمر البشير، هدفٌ آخر، وهو استخدامها في خنق أي نظامٍ يعقب نظامهم؛ سواءً أتي بثورةٍ شعبيةٍ أو بانقلابٍ عسكري. وهذا ما حدث بالفعل لحكومة الفترة الانتقالية التي قادها الدكتور عبد الله حمدوك. فقد خلقت قوى النظام القديم لحكومة حمدوك ضوائق معيشية بالغة الشدة، كما سبق أن ذكرنا. وهذه الشركات بالإضافة إلى سيطرتها على السلع الضرورية؛ كدقيق الخبز والوقود، فإنها تسيطر أيضًا على وسائل نقل وتوزيع هذه السلع. وعلى سبيل المثال فيما يتعلق باحتكار شركات الجيش تصدير اللحوم، أوردت صحيفة الراكوبة الإلكترونية في 14 مارس 2021، أن وزير التجارة والتموين في الفترة الانتقالية، على جدو، أعلن عن ابرام اتفاق مع نظيره المصري علي فتح تصدير الماشية للشركات السودانية دون احتكار لأي جهة. شريطة أن تقوم الشركات المصدرة بتحويل حصائل الصادر لبنك السودان مشيرًا الى إيقاف الشركات التى لا تلتزم بتحويل عائد الصادر. (راجع: موقع الشروق على الرابط: https://shorturl.at/0YwgX). ويدل هذا على أن عوائد الصادر في الفترة السابقة التي كانت فيها شركات الجيش تحتكر تصدير الماشية إلى مصر، لم تكن تعود إلى الخزينة العامة. وقد كانت شركة الاتجاهات المتعددة، التي تتبع للجيش، هي التي تحتكر تصدير الماشية الحية واللحوم الي مصر، وفق اتفاقٍ خاصٍّ، قبل الإطاحة بالرئيس عمر البشير. وواضحٌ أن ما تضمنه حديث وزير التجارة والتموين في حكومة حمدوك التي أطاح بها الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، أنه عمد إلى تنبيه الجانب المصري إلى أن شركات الجيش لم تكن تدفع عوائد الصادر لوزارة المالية، وإنما كانت تحتفظ بكل ما تحصل عليه من التصدير إلى مصر، لنفسها.

سوريون يهربون الفحم السوداني

لقد سبق أن ذكرت أن درجة الاستباحة التي جرت لموارد السودان، منذ أن صعد الفريق البرهان إلى قمة السلطة، لم تحدث منذ أن ظهر السودان إلى الوجود. والسبب في ذلك أن البرهان قايض مصر أن تحمي وجوده في السلطة نظير فتح الباب لها لنهب موارد السودان. وهو لم يأت بجديدٍ في فاجعة نهب موارد السودان التي وصلت حدًّا لا يُصدق. فهي قد بدأت في فترة حكم سلفه المخلوع عمر البشير، لكنه زاد عليها ووسعها كثيرا. وعلى سبيل المثال، جرى الكشف عن أن الفحم المستخرج من حطب الطلح السوداني، المعروف بجودته العالية، يجري إنتاجه وتهريبه بواسطة بعض السوريين. وفي تقديري، غالبًا ما يكون هؤلاء السوريون من جماعة الإخوان المسلمين الذي فتح لهم نظام عمر البشير فرص الاستيطان في السودان، وقام بمنحهم جوازات سفر سودانية. هذا التصدير غير القانوني للفحم السوداني جرى الكشف عنه في الفترة الانتقالية التي ترأس وزارتها عبد الله حمدوك. فقد أوردت صحيفة الجريدة في 17/9/2019 أن رئيس الهيئة الفرعية لعمال رئاسة الهيئة النقابية القومية للغابات معتصم محمد كشف عن تورّط سوريين في تهريب فحم الطلح الذي تمّ إيقافه بقرارٍ رسمي منذ العام 2013. لكن، رغم ذلك، ظهر أن هناك سوريين لا يزالون يعملون في تصدير فحم الطلح للخارج. وقال إن تلك المخالفات أدّت إلى فقدان البلاد 17 مليار دولارا من عائدات الفحم بسبب تصديره بطرقٍ غير قانونية، وأن هذا النشاط تسبّب في زيادة معدلات التصحّر.(راجع: موقع أخبار السودان، على الرابط: https://shorturl.at/Jj2Y5).

مصر تصدِّر الفحم السوداني!

يمكن أن يستورد بلدٌ ما موادًا أوليةً من بلدٍ آخر ثم يضع عليها من خلال التصنيع قيمة مضافةً ويقوم بتصديرها. لكن سلعة كالفحم هي في الأصل سلعة جاهزة للتصدير، ويمكن لبلد المنشأ وهو السودان، أن يقوم بتغليفها وتصديرها مباشرةً، والحصول في مقابلها على عملات صعبة، بدلًا عن بيعها للمصريين بالجنيه السوداني لتقوم مصر بتصديرها وتكسب من ورائها عملةً حرة. لدهشتي، أثناء بحثي في شبكة الإنترنت عثرت على موقع هيئة تنمية الصادرات المصرية الذي يُرمز إليه بالإنجليزية بـ EDA. ورد في هذا الموقع أن شركة مرجان للفحم النباتي تملك مصانع وشركات لإنتاج وتصدير فحم الطلح السوداني من السودان إلي كافة الدول العربية والدول الأوروبية، وأن في وسع الشركة التوصيل إلي أي ميناء حول العالم. وتقول الشركة في الترويج لبضاعتها هذه: "فحم الطلح السوداني معروف بجودته العالية ومنافسته لجميع أنواع الفحم النباتي حول العالم". (راجع: موقع هيئة تنمية الصادرات المصرية EDA على الرابط: https://shorturl.at/cpOCq). ( *الخط* تحت الجملة من وضعي).

أيضًا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أوردت صحيفة التغيير الإلكترونية في 11 مارس 2023، أن هناك تزايدًا في عمليات التهريب للسلع السودانية لمصر، خاصةً عقب افتتاح معبر أرقين. وأن كميات من الذهب السوداني المُهرَّب يجرى ضبطها في المعبر من قبل الجانبين المصري والسوداني. كما أوردت أن أعداد الماشية التي تصدر بطريقةٍ كبيرة جدًا ويوجد بها إناث بأعدادٍ قليلة، ويبدو أن السبب في ذلك أن الإناث يجري تهريبها عبر البر بالطرق البديلة، وتقوم به عصاباتٌ متخصصةٌ تضم سودانيين ومصريين. كما أوردت الصحيفة أن كميات من السمسم يجري تصديرها بطريقة رسمية وأن عدد الشاحنات التي تذهب يوميًّا إلى مصر، وعلى متنها أبقار حوالي (11) شاحنة في اليوم، وتحمل الشاحنة حوالي (150) رأساً. وقد ذكر عضو القوى الثورية المسماة "تروس الشمال" التي كانت تحجز الشاحنات المصرية الخارجة من السودان، عبد الوهاب سعيد للصحيفة: أنهم اكتشفوا كميات من الشاحنات تحمل إناث الإبل والضأن والأبقار إلى جانب لحوم ذبيح وأطنان من اللحوم المجمدة ليست عليها أختام أو ديباجات. وقال إن هذا الأمر يفتح الباب للمصريين لتغيير اسم بلد المنشأ والإنتاج. أيضا أوردت صحيفة التغيير الإلكترونية في 19 يناير 2022، أن مدير إدارة الهندسة الزراعية بمشروع الجزيرة، المهندس محمد عبد الله الجدع، وصف ما يحدث في قطاع القطن بالفوضى، وكشف عن تهريب القطن ببذوره دون حلج، إلى خارج السودان بواسطة أجانب. هذا النهب الواسع للثروات ليس وقفًا على هذه السلع التي ذكرناها، فهذه مجرد نماذج. فهناك سلعٌ سودانيةٌ كثيرةٌ عُرف السودان بإنتاجها يجري تهريبها بكمياتٍ ضخمة، كالصمغ العربي، وبذور التبلدي "القونقوليس"، والكركدي، وحب البطيخ، والفول السوداني وغيرها.

مصر تصدر زيت السمسم السوداني

أما بخصوص الزيوت والكركديه وبعض السلع السودانية الأخرى، فقد أكد رئيس شعبة مصدري الحبوب الزيتية، محمد عباس، وجود فسادٍ وعملٍ ممنهجٍ يجري في صادر الحبوب الزيتية. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الفول السوداني والحبوب الزيتية الأخرى. وشنَّ هجوماً عنيفاً على بنك السودان المركزي وجهاتٍ أخرى، لم يسمها، قائلاً إنها تعمل على عرقلة صادر الحبوب الزيتية عن طريق منع الدفع المقدم باعتبارها تحويلات غير حقيقية. وأوضح أنهم ظلوا يشتكون لمدة عامين من الفوضى والتلاعب في صادر الحبوب الزيتية عبر فورمة (دي أي)، وعدَّها تهريباً مقنناً. وأوضح عباس أن وزارة التجارة تصدر سنوياً إلى مصر 135 ألف طن سمسم بما قيمته 140 مليون *دولار* ، عدَّها تهريباً مقنناً. وأشار إلى أن مصر تأخذ سنوياً كركدي وسنمكة وسمسماً بما قيمته أكثر من 300 مليون دولارا. وأوضح أنهم طالبوا مراراً باعتماد قرار الدفع المقدم، إلا أنه قوبل بالرفض. وشدد على ضرورة اعتماد الدفع المقدم خاصة مع دول الجوار. (راجع: صحيفة مداميك، على الرابط: https://shorturl.at/LJvP1).

وقد نقلت نفس هذا الخبر صحيفة الراكوبة التي نسبت إلى محمد عباس قوله، إن ما بين 40 إلى50 عربة شاحنة تخرج الى مصر يوميًا. وشدد على ضرورة اعتماد الدفع المقدم خاصة مع دول الجوار، ونوه إلى أن السودان يفقد سنويا من 200 إلى 250 مليون دولارا تذهب إلى مصر، الأمر الذي عده تخريبًا للاقتصاد السوداني. وأضاف أن الحكومة لا تقبل الدفع المقدم لأن هذا هو ما تريده. وقال إن مصر تصدِّر إلى الخارج سنويًّا 100 طنًّا من زيت السمسم المجلوبة حبوبه من السودان. كما أشار إلى تصدير آلاف الأطنان من السمسم في العام السابق للصين ومصر، من غير غربلة. (راجع: صحيفة الراكوبة، على الرابط: https://shorturl.at/2fR6l).

مصر على وشك الإطباق على السودان

من يتابع مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام لابد أن يلحظ انشغالاً مصريًا يبلغ حد الهوس بالسودان. في هذه المواقع تجد من يحتفلون بالغناء السوداني الذي لم تستسغه ذائقتهم في يوم من الأيام. كما تجد إشاداتٍ بأخلاق السودانيين وكرمهم واهتمامًا بالعادات الاجتماعية السودانية، وغير هذا من أساليب جهاز المخابرات المصرية التي تتسم بالمدح وبالاسترضاء الفج حينا، وبمحاولات الاستغفال الفجة، حينا آخر. وهذا أمرٌ نبَّه إليه الأستاذ محمود محمد طه المصريين قبل أكثر من ثمانين عامًا، حين خاطب في عام 1952 قائد الانقلاب على النظام الملكي في مصر اللواء محمد نجيب بهذه العبارة: "فإن السودانيين قومٌ يؤذيهم أن يطمع طامعٌ فيما يحمون، كما يؤذيهم أن يبالغ في العطف عليهم العاطفون". ولا يأخذني شكٌّ أبدًا أن بعض ما غصَّت به وسائط التواصل الاجتماعي المصرية مؤخرًا، يجري وفقًا لحملاتٍ منظمةٍ يقف وراءها جهاز المخابرات المصري، الذي شعر أن لحظة الإطباق على السودان، من جديدٍ قد أزفت. ومن يُرد أن يعرف كيف تخطط مصر للإطباق النهائي على السودان، في فترة وجود البرهان في السلطة، ولماذا هي حريصة كل الحرص على وجوده فيها، عليه مشاهدة الفيديو الذي أعده وبثه الصحفي المصري محمد عاصي، الذي يصف نفسه بأنه "صحفي إقتصاد". (شاهد: فيديو محمد عاصي على تطبيق يوتيوب على الرابط: https://shorturl.at/PYRcU). وقد قام السودانيون بنشر هذا الفيديو بكثافةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي في الأسبوعين الأخيرين. وإلى جانب ذلك، هناك سياسيون واقتصاديون يتحدثون عن ضرورة الذهاب إلى السودان وشراء الأراضي فيه واستخدام مياهه لصالح مصر، ومن أمثلة ذلك د. محمود عمارة. وسوف أعود في حلقة أو حلقتين عقب نهاية هذه السلسلة لأسلط الضوء بتفصيلٍ أكثر على فيديو محمد عاصي، وربما على حديث محمود عمارة. لكن، ما ورد في فيديو محمد عاصي، على وجه الخصوص، يحتاج إلى إفراد مناقشةٍ خاصةٍ له. فأخطار الهيمنة فيه تتعدى السودان لتصل إلى كل الجوار المصري؛ القريب منه والبعيد. هذا الفيديو يكشف عن توسُّعٍ خديويِّ جديدٍ ناعم.

(يتواصل).

 

elnourh@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • وزير خارجية السودان: القوى المدنية مسؤولة عن الحرب.. ومصر المستهدف الرئيس مما يجري حاليًا
  • “عافية”.. خطوة من القنصلية السودانية في أسوان لتخفيف معاناة المهجرين
  • هيئة حقوقية تطالب بفتح بحث قضائي في مالية جامعة ألعاب القوى التي دمرها أحيزون
  • كيكل: نحن جزء لا يتجزأ من القوات المسلحة السودانية، وعلى أهبة الاستعداد لترتيبات الدمج والتسريح
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (14 – 20)
  • محمود فوزي: تجاوزنا التحديات بفضل الإرادة السياسية والتحالف بين القوى السياسية
  • التوفيق والمصالحة تنجح في تسوية 78% من القضايا خارج أروقة المحاكم
  • خبير: الارتقاء بالتعليم إرادة شعب تتوافق مع الرغبة السياسية
  • مدبولي يترأس اجتماع مجلس إدارة وكالة الفضاء المصرية لاستعراض الإنجازات وخطط المستقبل
  • الحرب ستشتعل في الضعين؛ قراءة في المشهد القادم!