إيران… الحياة بوصفها إخفاءً بارعاً للموت
تاريخ النشر: 30th, May 2024 GMT
يغدو الطفل، حين يكبر ويُرسَل إلى المدرسة، بحاجة إلى معلّم جيّد، وليس إلى الممرّضة الجيّدة التي وَلدتْه.
هذه كانت الصورة التي استخدمها آرثر شوبنهاور للقول إنّ أوروبا تجاوزت المسيحيّة والحاجة إليها.
والحال أنّ المشكلة مع النظام الإيرانيّ، ومع أنظمة مشابهة متشبّثة بالبقاء رغم كلّ شيء، أنّ «الطفل» بلغ من العمر 45 عاماً، لكنّ الممرّضة لا تزال تتولّى رعايته.
وحين نتأمّل قليلاً في الحدث الأخير الذي أودى بابراهيم رئيسي وحسين أمير عبد اللهيان ورفاقهما، تتبدّى بوضوح نتائج ترك الممرّضة تتعهّد «الطفل». فليس من المبالغة القول إنّ إعلان وفاة القادة المذكورين انطوى على إعلان وفيّات كثيرة أخرى يُراد إقناعنا بأنّها علامات حياة وحيويّة. فالموت الثاني، الذي يُدارى إعلانه بالصمت والكتمان، يطال الواجهة السياسيّة للنظام، ومن ثمّ مبدأ الانتخاب الإيرانيّ الذي فرز هذه الواجهة. ذاك أنّ الأمور تمضي على حالها برئيس جمهوريّة وبوزير خارجيّة أو بدونهما، بنتيجة أنّ السلطة الفعليّة، وكما هو معروف، مستقرّة في يد المرشد الأعلى علي خامنئي ومعه «الحرس الثوريّ». وهذا ما يجعل الكثير من التحليلات التي ظهرت حول التغيّرات المحتملة في سياسة طهران تبذيراً في التكهّن. أمّا المراقبون الأقلّ تبذيراً فاستوقفهم الموضوع الفعليّ الذي هو وراثة المرشد، إذ هنا يكمن الجوهريّ.
وطال إعلانُ الموت الثاني التقنيّاتِ العلميّة المدنيّة التي يُراد للتقنيّات العسكريّة، المتقدّمة نسبيّاً، أن تحجب بؤسها. وفي وسع إيران أن تسمّي عِلمها عِلماً «مُقاوماً»، وهكذا، وعلى جاري العادة، تتغلّب لفظيّاً على غيابه وتحوّل الغياب إلى فضيلة. لكنّ الحقيقة أنّ البلد بدا، بمقاومة أو بدونها، كهلاً متداعياً، تماماً كما بدا الاتّحاد السوفياتيّ في آخر سنوات ليونيد بريجنيف، قبل أن يكشف انفجار تشيرنوبيل حجم تأخّره العلميّ والتقنيّ. وفي ظلّ قيادة ميخائيل غورباتشوف، راح يتبيّن أنّ ضربة معول واحدة كفيلة بجعل الهيكل كلّه يتداعى.
أمّا إعلان الموت الثالث فكان موضوعه المعرفة المتاحة للسكّان. فالحصول على معلومات تبدّد الغموض والارتياب هو، في ذاك البلد السريّ، كالبحث عن النور تحت الوسادة. وأمّا «تسريب» معلومة مخالفة للرواية الرسميّة، أو تسريبها قبل «أوانها»، عملاً بـ «الأوان» كما تحدّده السلطة، فيندرج حتماً في التآمر. وسلوكٌ كهذا يُكسبه زمن التواصل الاجتماعيّ وشيوع المعلومات طبيعة فضائحيّة.
تُضاف إعلانات الموت هذه، التي دلّ إليها حدث واحد، إلى مِيْتات كثيرة معروفة وشائعة، بعضها يخصّ الوضع الاقتصاديّ المتهرّىء، وبعضها يطال أحوال المرأة التي باتت مصائر مهسا أميني، وقبلها نِدى آغا سلطان، شهادتين عليها، وهذا فضلاً عن إحراز أعلى نسبة إعدام في العالم قياساً بعدد السكّان، أو الشعور العميق بأنّ أدوار طهران الخارجيّة لا تزدهر إلاّ وسط التوتّر، فيما تنتكس مع كلّ تحوّل سلميّ في المنطقة. ويبقى جلوس القادة السياسيّين والعسكريّين المفترضين عند قدمي المرشد، المتربّع على منصّة أعلى، مشهداً فريداً ليس له مُعادل في العالم كلّه.
وهذا لا يعني أنّ إيران ميّتة، فهي حيّة جدّاً: تستطيع أن ترعى مشروعاً نوويّاً، وأن يُحسب حسابها في المعادلات الإقليميّة والدوليّة. وهي تُنزل إلى الشارع حشوداً ضخمة تغضب بكبسة زرّ، موزّعةً «الموت» يمنة ويسرة بقبضات مشدودة وهتاف واحد مُوقّع. وتستطيع، إلى هذا، أن تبني مواقع نفوذ جدّيّة في أربع عواصم عربيّة، وتمضي في احتلال قسم معتبر من سوريّا أرضاً وسلطةً.
وهكذا فنموذجها نموذج باهر في جعل الحياة إخفاءً ناجحاً للموت، ومن ثمّ إدامة هذا الإخفاء زمناً يطول أو يقصر. وفي تلك الغضون يقتدي بالنموذج هذا كثيرون، بعضهم يقولون إنّهم يريدون تحرّراً ما، وبعضهم يريدون تحريراً ما، وثمّة منهم مَن يعلنون نيّتهم العيشَ كما عاش الأجداد، وهذا مع الشكّ العميق في أن يكون أجدادنا قد عاشوا هكذا. ويتعاظم التوكيد على راهنيّة النموذج الإيرانيّ وصلاحه فيما الغرب ونموذجه يواجهان أصعب أزمنتهما كما يتزايد الشكّ بهما. وإذ تطرد دول أفريقيّة آخر المواقع الغربيّة لديها، تصدح في جامعات أميركيّة أصوات تعبّىء العالم ضدّ استعمار يقال أنّه يصدّ الهواء عن شعوب الأرض قاطبةً.
ونعلم أنّ ثورة 1979 الإيرانيّة كانت ولا تزال أكمل ردّ على النموذج الغربيّ بكلّيّته، بالإمبرياليّ فيه وبالتنويريّ، ما يوحي بأنّ ما يخسره ذاك الغرب ربحٌ صافٍ لنموذجها.
بيد أنّ إيران ومن يوالونها يسيرون إلى متاهة عظمى لا تكفي أزمة النموذج الغربيّ لإسباغ الوضوح والوجهة عليها. يُستدل على المتاهة تلك بالموت الكثير المطمور تحت سطح الحياة المصطنعة. وبالضبط لأنّ القوّة المدّعاة عارضة وعابرة، ولو طال بها الزمن، يُفرض على الإيرانيّين البقاء أطفالاً ترعاهم الممرّضة، ولا تسعى بهم قدم إلى مدرسة.
*نشر أولاً في صحيفة الشرق الأوسط
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق آراء ومواقفWhat’s crap junk strategy ! Will continue until Palestine is...
الله يصلح الاحوال store.divaexpertt.com...
الله يصلح الاحوال...
الهند عندها قوة نووية ماهي كبسة ولا برياني ولا سلته...
ما بقى على الخم غير ممعوط الذنب ... لاي مكانه وصلنا يا عرب و...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: هجمات البحر الأحمر فی الیمن ة التی
إقرأ أيضاً:
105 هجمات خلال شهر مارس.. أين تتمركز خريطة العنف في باكستان؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تشهد باكستان تصاعدًا غير مسبوق في وتيرة العنف المسلح، حيث سجّل شهر مارس 2025 أعلى عدد من الهجمات المسلحة في البلاد منذ عام 2014، وفقًا لإحصاءات معهد باكستان لدراسات الصراع والأمن. فقد شهدت البلاد 105 هجمات، ما أسفر عن مقتل 228 شخصًا، بينهم 73 من أفراد الأمن، و67 مدنيًا، و88 مسلحًا.
كما نفذت قوات الأمن الباكستانية عمليات مكثفة لمكافحة التمرد، أسفرت عن مقتل 107 أشخاص، بينهم 83 مسلحًا و13 من أفراد الأمن و11 مدنيًا، ليصل إجمالي عدد القتلى خلال الشهر إلى 335 شخصًا. ويعكس هذا الرقم تصاعدًا في العنف لم تشهده البلاد منذ عقد، حيث كان شهر مارس ثاني أكثر الشهور دموية بالنسبة لقوات الأمن الباكستانية خلال العشر سنوات الأخيرة، بعد يناير/كانون الثاني 2023.
وتتسم خارطة العنف في باكستان بتمركز واضح للهجمات في مناطق تشهد اضطرابات أمنية مزمنة، مثل مقاطعتي بلوشستان وخيبر بختونخوا، إلا أن اللافت في تصاعد العنف خلال مارس هو تسجيل زيادة غير مسبوقة في النشاط المسلح في مقاطعة البنجاب، حيث وقعت سبع هجمات، معظمها منسوبة إلى حركة طالبان باكستان.
ويعد هذا الرقم الأعلى في المقاطعة خلال العقد الأخير، ما يشير إلى تغير واضح في استراتيجيات الجماعات المسلحة، التي باتت توسع عملياتها خارج نطاقها التقليدي. إن هذا التوسع الجغرافي للعنف يعكس تحولًا في المشهد الأمني داخل باكستان، حيث لم تعد مناطق التوتر مقتصرة على الأطراف الحدودية، بل امتدت إلى مناطق كانت تُعد أكثر استقرارًا نسبيًا.
لا يمكن فهم التصعيد الحالي في باكستان بمعزل عن العوامل الإقليمية، حيث تتهم الحكومة الباكستانية حركة طالبان الأفغانية بتوفير بيئة حاضنة للجماعات المسلحة التي تشن هجمات داخل أراضيها. ووفقًا لمسؤولين باكستانيين، فإن المسلحين يستغلون الأراضي الأفغانية كقاعدة انطلاق لتنفيذ عملياتهم، لا سيما في المناطق الشمالية الغربية من البلاد. من جانبها، تنفي طالبان هذه الاتهامات، ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني في المنطقة.
هذا التوتر المستمر بين إسلام أباد وكابول يفتح الباب أمام تصعيد أكبر، وربما يؤدي إلى تدخلات إقليمية إضافية، خاصة في ظل الضغوط الدولية المتزايدة على كلا البلدين لضبط الأمن على حدودهما المشتركة. ومع ذلك، فإن غياب التنسيق الأمني الفعّال بين الحكومتين يجعل من الصعب احتواء هذا التهديد المتنامي، ما يزيد من احتمال استمرار العمليات المسلحة خلال الأشهر المقبلة.
في ظل هذه المعطيات، يواجه الأمن الباكستاني تحديات متزايدة، حيث لم تنجح العمليات العسكرية وحدها في القضاء على الجماعات المسلحة بشكل كامل. فعلى الرغم من تنفيذ حملات أمنية مكثفة خلال السنوات الماضية، لا تزال الجماعات المتشددة قادرة على إعادة تنظيم صفوفها وشن هجمات واسعة النطاق.
وتطرح هذه التطورات تساؤلات حول جدوى النهج الأمني الحالي، ويدعو إلى التفكير في استراتيجيات بديلة تتجاوز الحلول العسكرية التقليدية، فإلى جانب المواجهات المسلحة، تحتاج الحكومة إلى معالجة الأسباب الجذرية التي تغذي العنف، بما في ذلك الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي، التي توفر بيئة خصبة للتطرف.
على الصعيد السياسي، يزيد تصاعد العنف من الضغوط على الحكومة الباكستانية، التي تواجه بالفعل تحديات داخلية متعددة، بما في ذلك الأزمة الاقتصادية وغياب الاستقرار السياسي. إن تزايد الهجمات المسلحة يؤثر بشكل مباشر على صورة الحكومة أمام الرأي العام، حيث تتعرض لانتقادات بسبب عدم قدرتها على ضبط الأوضاع الأمنية. ومن المرجح أن يؤدي استمرار العنف إلى مزيد من التوترات السياسية، خاصة إذا استغلت المعارضة هذا التصعيد لمهاجمة سياسات الحكومة الأمنية. كما أن التراجع الأمني قد تكون له تداعيات اقتصادية، حيث يتردد المستثمرون في ضخ أموالهم في بلد يعاني من اضطرابات متكررة، مما يزيد من تفاقم الأزمة المالية التي تمر بها البلاد.
يبدو أن باكستان أمام اختبار صعب يتطلب إعادة تقييم شاملة لسياساتها الأمنية والإقليمية. فبينما تواصل قوات الأمن عملياتها لمواجهة الجماعات المسلحة، يبقى التساؤل حول مدى قدرة الدولة على احتواء هذه الموجة من العنف ومنع امتدادها إلى مناطق جديدة. إن الأرقام المسجلة في مارس 2025 ليست مجرد إحصاءات، بل تعكس واقعًا معقدًا يستدعي حلولًا جذرية تتجاوز النهج العسكري البحت. وفي ظل التوترات الإقليمية المستمرة، تظل خيارات الحكومة محدودة بين التصعيد الأمني أو البحث عن حلول سياسية ودبلوماسية، وهو تحدٍّ قد يحدد ملامح الاستقرار في باكستان خلال السنوات القادمة.