بغداد اليوم- دهوك

يحذر باحثون ومختصون بالبيئة والصحة من تداعيات إنبعاثاتها الغازية ومخلفاتها الصلبة والسائلة على التربة والمياه والهواء، وتهديداتها للصحة العامة، وتسببها باختلال النظام البيئي

تُحكِم (أ.م) (42 عاما) التي تعيش في مجمع باستكي السكني شمالي دهوك باقليم كردستان، اغلاق نوافذ منزلها وتطفيء مبردة الهواء وتطلب من الأطفال الدخول الى المنزل، مع بدء ساعات المساء حين تلفظ مصافي نفط بدائية تعمل على مسافة قريبة، ملوثاتها وتطلق أدخنتها في السماء حاملة روائح كريهة.

تقول السيدة بغضب، وهي تشير الى منطقة كواشي الصناعية "الأمر لايطاق، منذ سنوات ونحن في هذا الحال، هي تحمل أنواع المخاطر لنا، لكن لا أحد يستطيع ايقافها".

الملوثات التي تخلفها المنشآت الصناعية في المنطقة، تشكل معضلة حياتية، ومصدر خطر لآلاف من سكان المنطقة ومحيطها، وفقاً لتصريحات نشطاء بيئيين وباحثين ومختصين بالصحة، يؤكد بعضهم ان التربة والمياه كما الهواء باتت ملوثة وان المخاطر وصلت الى الثروة الحيوانية، وان الأمر بلغ حد "اختلال النظام البيئي".

وهو ما كان يحذر منه ولسنوات، الناشط البيئي إدريس آسهي (50 سنة) الذي يتكرر ظهوره على وسائل التواصل الاجتماعي وهو يبرز ما يصفه بـ"مخاطر بيئية وصحية كبيرة" تخلفها مصانع ومصافي تكرير النفط الأهلية بمنطقة كواشي التي لا يتوافق عمل الكثير منها مع المعايير البيئية.

يقول آسهي وهو معاون طبيب بدائرة صحة قضاء سميل (15 كلم شمال غرب دهوك) بينما يقلب صور تظهر مجاري مائية ملوثة بمخلفات المصانع، وأدخنة متصاعدة من منشآت صناعية صغيرة: "هنا المخلفات والإنبعاثات الخطرة تجدها في كل مكان، هي تلوث الأرض والمياه والهواء، وتهدد السكان القريبين بالاصابة بجملة أمراض، وتذهب آثارها بعيدا عبر الهواء والمياه".

يطلق آسهي، وباعتباره من سكان المنطقة، استغاثات متكررة للحكومة والقوى النافذة لإنقاذ سكان المناطق المحيطة بكواشي من مخاطر ملوثاتها بإيقاف مصادرها أو حتى التقليل منها. كما قدم مع آخرين، شكاوى لجهات متعددة، لكن أصواتهم وتحركاتهم ظلت "دون جدوى، رغم الوعود المتكررة".

يضيف وهو يهز رأسه بإنفعال:"جهات قضائية أوقفت عمل تلك المنشآت، لكن ذلك لم يستمر سوى لأيام، فعاودت عملها مجدداً.. من الواضح أن عمل هذه المنشآت يتجاوز السلطات المحلية والجهات المعنية".

لا تقتصر مشكلة كواشي على المخالفات البيئية من خلال ما تطلقه من أدخنة وغازات، كما يقول آسهي "فالمنطقة تضم مصافي نفط استولى أصحابها على الأراضي التي شيدت عليها بطرق غير قانونية، وليست لديهم تصاريح عمل حكومية.

وينبه الناشط البيئي الى قيام البعض بالتحايل على القوانين والتعليمات، من خلال إنشاء مصانع تحت مسميات معينة، ثم تحويل استخدامها لاحقاً إلى أغراض أخرى مثل صناعة النفط.

"لكن ماذا ينجم عن هذه المصافي البدائية؟"، يتساءل آسهي، وهو يرفع كلتا يديه، ثم يجيب بنفسه: "عاماً بعد عام، تزداد حالات الإصابة بالسرطان في عموم مناطق إقليم كردستان. في عام 2019 وصلت الأعداد المسجلة إلى 1300 حالة، لكن خلال الفترة التي تبعت جائحة كوفيد-19، شهدت انخفاضاَ نتيجة توقف الأنشطة الصناعية الملوثة للبيئة". 

ولا تتوفر احصاءات عن أعداد حالات الإصابة بالأمراض التنفسية والصدرية والسرطانية في محيط المنطقة الصناعية بمنطقة كواشي، خاصة في ظل عدم وجود مستشفى مختص بالأمراض السرطانية في المنطقة، لكن نشطاء بيئيين وأطباء مختصين متيقنون من تأثيرها الخطر على الصحة.

"الأمر يشبه أن تكون لديك في المنزل قنينة غاز مفتوحة وعليك استنشاق غازها ليل نهار"، هكذا يصف آسهي ما يواجهه سكان المنطقة.

الخوف من الاصابة بأمراض خطرة والهرب من الرائحة الكريهة التي تصدرها المنشآت الصناعية طوال ساعات الليل، تدفع العشرات من سكان المنطقة الى النزوح منها، يؤكد ذلك أحد سكان مجمع "باستكي" فضل عدم ذكر أسمه:"لو قمت بجولة صغيرة ستجد بأن العديد من المنازل مكتوب على جدرانها معروض للبيع، قبل يومين رحلت عائلة، وقبلها جاري انتقل إلى مدينة زاخو، وأنا لدي نية لبيع منزلي والذهاب للعيش في مكان آخر".

تبلغ مساحة منطقة كواشي 2200 دونماً، توجد فيها 175 منشأة صناعية حاصلة على الموافقات الرسمية بينها ثلاثة معامل طحين، الى جانب عشرات المصافي الصغيرة، قسم منها غير مجاز بيئياً، وفقاً لدائرة بلدية قضاء سميل. 

مخلفات تلك المنطقة شكلت تلالاً من النفايات يمكن رصدها من بعيد، وجدولان من المخلفات النفطية التي  تطرحها مصافي النفط، بينما تغطي السماء أعمدة من الدخان، كما تخلف روائح كريهة تنتشر على مدى عدة كيلومترات.وتقع بجوار كل ذلك قرى ومجمعات سكانية مثل "مرينا" و"باستكي" الى جانب مدينة سميل.

مخالفات بيئية

المهندس محسن عبد الكريم، مدير دائرة بلدية سميل، يقول بأن منطقة كواشي تضم مصانع للمنتجات الثقيلة كالحديد، فضلاً عن البلاستيك والفلين ومنتجات أخرى متنوعة "ولعدم جواز وجود هكذا منشآت داخل المدن خصصت لها هذه المنطقة".

ويذكر بأن هذه المصانع حاصلة على الموافقات الرسمية، وأن تراخيصها نوعان "تنمية صناعية وإستثمار" وأن طلبات التراخيص ترفع إلى لجنة عليا تشرف عليها إدارة محافظة دهوك، وهي التي ترسلها إلى دائرة البلدية فتقوم الأخيرة بتخصيص المساحة المناسبة لكل مصنع أو منشاة صناعية بعد الحصول على موافقة التخطيط العمراني، ومع اكتمال تلك الإجراءات يتم تصديق جميع الإجازات من قبل المحافظة.

وفي حال كانت الإجازة استثمارية، يتم تحويل العقار باسم هيئة الاستثمار ويتم تنظيم عقد مع المستثمر، أما إذا كانت الإجازة عن طريق التنمية الصناعية، فإن العقود تنظم في البلدية ويتم الإشراف عليها من قبل دائرة الصناعة.

رغم ذلك، يؤكد مدير دائرة بلدية سميل، وجود مصافٍ في منطقة كواشي تعمل بدون رخصة رسمية، وأن دائرته لم تمنح أصحابها الإجازات أو نظمت لهم عقوداً.

ويشير الى احدى طرق تجاوز القانون:"في البداية تم تخصيص الأراضي ومنح إجازات لمشاريع معينة، لاحقا قام أصحابها بالتجاوز وتغيير صنف العمل دون موافقتنا، فتم توجيه إنذارات لهم ومنحهم مدداً زمنية ليعملوا بموجب الإجازات الممنوحة لهم كل حسب الصنف المخصص له، وإلا سيتم سحب الإجازة، وقد احيل بالفعل غير الملتزمين إلى المحاكم المختصة". 

معد التحقيق حصل على معلومات، تفيد بحصول إدارات عدد من المصافي على استثناءات خاصة، شرط التزامهم باللوائح الخاصة بعمل المصافي. رداً على ذلك يقول مدير بلدية سميل ان "هذه المصافي غير رسمية ولا يمكن منحها إجازات، المصافي تابعة لوزارة الثروات الطبيعية، وعلى إداراتها الحصول على إجازاتها من هناك، وحتى الآن لم تصلنا أية إجازة بخصوصها من قبل تلك الوزارة".


إجراءات بيئة دهوك

تؤكد كل الجهات المعنية بالبيئة التي تم التواصل معها، تسبب المصانع ومصافي النفط في كواشي بأضرار بيئية بعضها جسيمة.

تلك الحقيقة، تتجسد في الإجراءات القانونية التي اتخذتها دائرة بيئة دهوك ضد المنشآت المخالفة بين عامي 2019 و 2022 وفقا للحقوقي شيروان أكرم مسؤول الشعبة القانونية، الذي كشف عن قيام دائرته بتغريم 34 مصفاً ومصنعاً في كواشي، وأن الغرامات فرضت بحسب درجة التلوث الحاصلة. 

ويقول أكرم ان لجان بيئية مختصة تقوم بإستمرار بمتابعة مصادر التلوث سواءً كانت تابعة لشركات أم لأفراد عاديين، وأن الغرامات كانت تفرض من قبل دائرته مباشرة في بادئ الأمر، لكن منذ العام 2022 أصبحت المهمة من اختصاص محكمة الجنح، بينما دائرة البيئة تدخل في الدعاوى بصفة مشتكي.

وفق ذلك التحول قامت دائرة البيئة بين عامي 2022 و 2023 برفع 32 دعوى ضد المصانع ومصافي النفط في كواشي، يقول الحقوقي شيروان:"رفعنا الدعاوى بصفة مشتكي عن طريق الادعاء العام في محكمة جنح سميل، وتم فرض العقوبات المالية على العديد منها وفقاً لتعليمات هيئة حماية وتحسين البيئة المرقمة (2) لسنة 2023 المعدلة، ومازالت هنالك دعاوى لم تحسم بعد".

وفيما يتعلق بالاستثناءات، أوضح أنه تم استثناء 12 مصفى من إيقاف العمل "بسبب امتثالها لتعليمات البيئة، على الرغم من أن عملها لا يتماشى تماماً مع هذه التعليمات".

من جانبه يقول المدعي العام في محكمة سميل، حكيم عبد الواحد يونس، انهم وجهوا عدة كتب ومراسلات الى الجهات المعنية بشأن مخالفات في منطقة كواشي، بما فيها كتاب إلى محكمة تحقيق قضاء سميل، تضمن فتح تحقيق واتخاذ الإجراءات القانونية ضد (20) مصفى ومعمل لتكرير النفط، قام أصحابها بالتجاوز على أراضي الدولة والاستيلاء عليها بصورة غير قانونية، وتسببها بإنبعاث غازات سامة تضر بالبيئة وصحة المواطنين".

ويؤكد يونس، أن المخالفين سوف يعرضون أنفسهم لعقوبات قد تشمل الحبس أو الغرامة أو كلتا العقوبتين، ووفقاً لاحكام قانون حماية وتحسين البيئة المرقم (8) لسنة 2008 تصل الغرامات الى 200 مليون دينار عراقي.

لم يتسن لمعد التحقيق معرفة تفاصيل القضايا المفتوحة، نظراً لكونها في طور التحقيق، غير أن مصادر قانونية ذكرت بأن تسويات ربما تحدث، من خلال تعهد أصحاب تلك المصافي بإتخاذ التدابير اللازمة لتقليل ضرر الإنبعاثات الغازية من خلال استخدام عوادم توضع في أعلى المشاعل، ومعالجة مخلفاتها السائلة بطرق مقبولة بيئياً.


معمل لفرز النفايات

بحسب بلدية قضاء سميل، منحت الموافقات الرسمية لجعل كواشي منطقة صناعية في سنة 2005، وبعد عشر سنوات افتتحت العديد من المصانع هناك التي بدأت بطرح مخلفاتها السائلة والصلبة دون معالجة وفي ظل غياب انشاء بنية صرف سليمة لا تهدد البيئة. ثم انضمت مصافي لتضيف مخلفاتها السائلة وانبعاثاتها الغازية غير المعالجة.

الجهات الحكومية كانت قد استبقت عمل المصانع والمصافي، بانشاء مصنع لفرز النفايات وإنتاج السماد على مساحة (1360000م2) تم تشغيله في أيار/مايو 2011، لكن المعمل الذي كان يفترض به معالجة المخلفات الصلبة والحد من بعض مصادر التلوث، صار بدوره مصدرا للتلوث في كواشي!. 

التدريسية بجامعة دهوك ژيان سليمان تناولت هذا المشروع في دراسة لها، عنوانها (تدوير النفايات الصلبة في منطقة كواشي الصناعية-دراسة في جغرافية التلوث) ذكرت فيها أن النفايات جلبت إلى المصنع من ثلاثة مصادر رئيسية "دهوك، سميل، ومخيمات النازحين" وبمعدل يومي بلغ 850 إلى 950 طناً، إضافة إلى طن واحد من النفايات ناجم عن الأنشطة في منطقة كواشي ذاتها".

في حين أن الطاقة الإستيعابية للمصنع تتراوح بين 250-300 طناً، لذا يتم  طمر الكميات المتبقية بنحو غير صحيح من الناحية البيئية، حيث تدفن في حفرة عادية وتغطيها بتربة سمكها (10سم) فقط، وأحياناً تتعرض تلك النفايات للحرق قبل عملية الطمر وذلك نتيجة تفاعل المواد مع بعضها مؤدية الى تلوث البيئة المحيطة  والتربة والمياه.

الدراسة، التي نشرتها المجلة العلمية لجامعة دهوك، كشفت ايضاً أن عملية فرز النفايات في المصنع لاتتم بكفاءة عالية، وأن 50% من النفايات المفروزة لايتم الإستفادة منها:"مما يؤدي إلى تراكمها في مكب النفايات القريب من المصنع، وهذه النفايات تكون رطبة في الغالب، ما يؤدي إلى انبعاث الغازات الضارة منها مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، والتي تزيد من حدوث وتكرار الحرائق في المكب نظراً لكون الميثان غازاً ذا احتراق ذاتي".

كما أن كميات كبيرة من المياه تستخدم في معالجة النفايات لتصبح سماداً عضويا:"فيتم تلويث التربة بمستويات عالية من أيون النترات NO-3، تفوق احتياجات النباتات فتؤدي إلى موتها، فضلاً عن انبعاث غازات كريهة الرائحة، مثل غاز الهيدروجين الكبريتي H2S، الذي يتعرض له عمال المصنع يومياً، مما يضعهم تحت تأثير سلبي على المدى الطويل" وفقاً للدراسة.

منطقة طمر النفايات في كواشي


الباحثة ژيان، أشارت الى ان صغر المساحة المخصصة لدفن النفايات وعدم قدرتها على استيعاب كل المخلفات التي تلقى فيها من مصنع فرز النفايات، تؤدي الى تراكم النفايات في العراء، ليتم حرقها أو تتعرض لأشعة الشمس والحرارة وتحرق تلقائيا "وفي كلتا الحالتين تحدث تلوثاً بيئياً".

معد التحقيق حصل على معلومات، تفيد بفرض دائرة بيئة دهوك غرامة على مصنع فرز النفايات بسبب وجود النفايات المكشوفة في منطقة الطمر، لكن المشكلة لم يتم معالجتها على الرغم من ذلك.

المهندس حسن البامرني، وهو مختص في المجال الكيمياوي، ومسؤول عن قسم البيئة الحضرية في دائرة بيئة دهوك، يوضح جوانب من مشكلة معالجة النفايات في كواشي. يقول، هناك مكبان، إذا كانت النفايات منزلية فيتم فرزها في مصنع الفرز وتدفن في المكب النظامي، وتذهب نفايات أخرى للمكب غير النظامي وتدفن فيه مباشرة بدون فرز.

ويضيف: "تخرج من المخلفات العصارة التي تذهب بدورها الى محطة المعالجة لكن وحدة المعالجة الموجودة في مصنع فرز النفايات غير مكتملة، فيها نواقص عديدة عطلت فعليا عملها".

ويرى ان التلوث بمنطقة كواشي، ناتج عن المخلفات التي تطرحها المعامل بكل تصنيفاتها، سواء المرتبطة بالمشتقات النفطية ومصانع المواد الغذائية أو معامل صهر الحديد وغيرها. 

ويشير الى أن بعض المعامل لديها وحدات معالجة بدائية، مثل "معمل الدباغة وصناعة البطاريات وغيرها، هي لا تصل للحد المرجو للمعالجة، حسب شروط البيئة، فالمعالجة هناك نسبية".

ومع المخاطر المتمثلة بتفاعل المخلفات الصلبة والسائلة مع التربة وتغلغها وصلا الى المياه الجوفية، ينبه المهندس حسن، الى خطر الإنبعاثات الغازية التي تصدرها الأنشطة الصناعية والنفطية "هي تذوب مع الأمطار المتساقطة على التربة، وتؤثر على مقدار الحامضية فيها، وتؤثر على المياه الجوفية".

في هذا الصدد، يذكر بأن بئراً ارتوازية في منطقة "مرينا" السكنية القريبة، تأثرت بملوثات كواشي "تم غلقها مؤخراً من قبل دائرة الماء لمنع تسببها بأمراض للسكان".

ويشير إلى سبب عدم محاسبة المصانع والمصافي مباشرة عما تفرزه من ملوثات "المنشآت هناك ليست لديها مجار مخصصة لكل منها، وعددها كبير، لذا التسريبات تحدث عشوائياً دون تحديد المصدر بشكل دقيق، لذلك لن نستطيع التعرف على المتسبب لإتخاذ الاجراءات بحقه".

معد التحقيق حاول التواصل مع إدارات عدد من المصانع ومصافي النفط في كواشي، بشأن مخلفاتها والتلوث الذي تحدثه والإجراءات التي تقوم بها لتحجيم ضرره، إلا أنه لم يتلق رداً من أي منها. كما أن قيوداً قانونية منعته من الوصول إلى حيثيات الدعاوى المقامة ضد بعضها لأنها مازالت في طور التحقيق.


نداءات استغاثة

أبو أحمد (46 سنة) عامل بناء بأجر يومي، يعيش في مجمع "مرينا"، يعتقد بأن التلوث الذي مصدره المنشآت الصناعية التي لا تعمل وفق المتطلبات البيئية، أدى الى تفاقم مرض أبنه البالغ ثماني سنوات والذي يعاني من مشكلة في القلب.

يعبر بقلق بالغ عن ذلك بقوله:"لديه مشكلة في صمام القلب، ودخان مصافي النفط وبقية المعامل والروائح الكريهة المنبعثة من مخلفاتها تسبب له ضيق في التنفس، وتفاقم حالته".

يضيف وعيناه تلاحق الدخان المتصاعد من عوادم المصافي القريبة:"أنفقت لغاية الآن 20 ألف دولار لمعالجته في الإقليم وخارجه،  قسم منها من مدخراتي والبقية قروض بذمتي، لكن هذا لن يكون كافياً لشفائه".

ويستدرك وهو يشير الى حيث المصافي:"لابد أن تجد الحكومة حلا للتلوث على الأرض، وفي مياهنا، والسماء التي تغطينا".

تتداول وسائل إعلام محلية ومنصات تواصل اجتماعي، وبنحو مستمر نداءات إستغاثة يوجهها أبناء المناطق المحيطة بكواشي، إلى الجهات الحكومية للتدخل من أجل وقف التلوث. 

رمضان مجيد، وهو طبيبٌ متخصص في مجال الأمراض السرطانية، يؤكد أن منطقة كواشي تعاني من "تلوث شديد" سواءً في التربة أو المياه أو الهواء "يرتفع مستوى الحموضة والأملاح هناك التي تتسرب الى التربة مع مياه الأمطار".

ويرى الطبيب، الذي ينشط في مجال بث الوعي بخطورة التلوث البيئي وتأثيراته على الصحة العامة، ولديه بحوث في هذا المجال، أن المياه الملوثة التي تتغلغل الى التربة ليمتد تأثيرها السلبي إلى الأشجار وباقي النباتات فضلاً عن الحيوانات.

 ويضيف:"كما تهدد المياه الجوفية التي يعتمد عليها السكان بنحو كبير للحصول على المياه العذبة من خلال الآبار الإرتوازية" وهو ما يعده مصدر قلق لإرتفاع احتمال تعرضهم للإمراض.

ويلفت الطبيب رمضان، إلى أن تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 30% من حالات الجلطة الدماغية والقلبية والسرطان يعود سببها إلى التلوث الجوي، أي الهواء. ويحذر من ان "تلوث الهواء يمكن أن يسبب أمراضاً خاصة عندما تختلط الجزيئات الملوثة بالمياه أو بالإستنشاق وهو ما يحدث في كواشي"، يقول جازماً.

طبيب الأمراض السرطانية كشف عن انشغاله حاليا بإنجاز تحليلات مختبرية للهواء والتربة والمياه بمنطقة كواشي، لأنه يعتقد أن كواشي احدى المصادر الرئيسية المتسببة لزيادة نسبة السرطان في المنطقة.

وعلى الرغم من عدم وجود أدلة او احصائيات تربط الإصابة ببعض الأمراض الخطرة بالتلوث في مناطق انتشار تلك المنشآت الصناعية التي لا تخضع للمعايير البيئية العالمية، إلا أن باحثين يربطون ارتفاع معدلات الاصابة بتلك الأمراض بزيادة الملوثات في السنوات الأخيرة.

ووفقاً لإحصاءات رئاسة صحة دهوك، فإن أعداد حالات الإصابة المسجلة بمرض السرطان ارتفعت في الإقليم من 486 حالة مسجلة في سنة 2013، إلى 1180 حالة سجلت في عام 2023، مع تسجيل أعلى مستوى للإصابات في عام 2022 والتي بلغت 1434 حالة. 

وفيما يخص قضاء سميل القريبة من مصدر التلوث في كواشي، فقد أشارت احصائيات مديرية الصحة إلى تسجيل 10 حالات فقط في سنة 2013، إرتفعت لأكثر من ستة أضعاف خلال عشر سنوات، إذ تم تسجيل 68 حالة سنة 2023.

في وقت تشير مصادر صحية الى ان جزءا من حالات الاصابة لا تسجل في اقليم كردستان حيث يلجأ أصحابها الى العلاج خارج البلاد، خاصة في ظل عدم وجود مستشفيات متخصصة بالأمراض السرطانية في معظم مدن الاقليم. 

إختلال النظام البيئي

معد التحقيق قام بجولة تفقدية لمصادر التلوث في كواشي، مع الأستاذ الجامعي المتخصص بشؤون البيئة، د.نجم الدين نيروي، الذي أكد تعرض المنطقة لاختلال في النظام البيئي.

ويقول ان "1% فقط من بقايا المواد العادمة في المياه الملوثة تؤثر سلبا على تركيبة ووظيفة الكائنات الحية الدقيقة في التربة ومياه الشرب، مما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات في توازن البيئة".

وينبه نيروي الى ان الحد الأقصى المسموح به للأملاح الصلبة الذائبة في المياه يجب ألا يتجاوز 500 ملغم/لتر "إلا ان البحث الذي أجريته في منطقة كواشي، أظهر أنها تتجاوز هذا الحد بست مرات، وهذا يشكل تهديدا جدياً على البيئة".

ويوضح:"هذه الزيادة في الملوثات يمكن أن تقلل من التنوع البيولوجي وتؤثر سلباً على الكائنات الحية، بما في ذلك الأسماك، وتنعكس هذه الآثار أيضا على سلامة الحيوانات الأخرى، مثل المواشي التي تعتمد على موارد المنطقة".

ويرى بأن التوجهات الحكومية لمعالجة المياه العادمة الملوثة وهي المياه الناتجة عن العمليات الصناعية، غالباً ما تكون غير مبنية على أسس علمية صحيحة، على الرغم من الجهود التي تبذلها والتعليمات التي تصدرها "فمعظم المشاريع السكنية والصناعية والمعامل لا تلتزم بها".

بدوره يحذر، د. مصطفى إسماعيل مصطفى، الأستاذ بقسم الأراضي والمياه بكلية الهندسة الزراعية بجامعة دهوك، من خطورة تلوث المياه الناتجة عن الصناعات الثقيلة في منطقة كواشي على صحة الإنسان بنحو عام وعلى الحيوانات بوجه الخصوص.

مصطفى، توصل في دراسة نشرها سنة 2022 في المجلة الدولية لعلوم الصحة، بعنوان "تأثير الفائض الصناعي على بيئة الأغنام في منطقة كواشي"، إلى أن ندرة الموارد المائية في هذه المنطقة، خاصة خلال فصل الصيف، تجبر الحيوانات على شرب مياه ملوثة بالنفايات والمواد الخام.

وبينت الدراسة أن انبعاثات المصانع تحتوي على:"أكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكبريت وثاني أوكسيد الكربون وأول أوكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين" ومركبات عضوية متطايرة مثل الميثان، وهي تؤدي الى انتشار الأمراض التنفسية بين الأغنام، ما يؤدي إلى نفوق أعداد كبيرة منها كل عام.

ووفقاً لـ د.مصطفى فأن نحو عشرة آلاف رأس غنم، مصابة بأمراض مختلفة جراء تناولها مياه الصرف الثقيلة التي تتسرب عبر سهل منطقة سليفاني حتى تصل إلى سد الموصل ومنطقة كواشي تقع في طريقها، كما أظهرت تحقيقات البحث أن 50% من الأغنام تعرضت للاجهاض خلال عام واحد فقط. 

وأكد الباحث وجود عناصر خطيرة تجاوزت الحدود المقررة من منظمة الصحة العالمية مثل (الكاديوم والرصاص) في دم المواشي والحليب، وكذلك في نماذج الدم للاشخاص الذين يعيشون في تلك المنطقة. مما يجعل احتمال ظهور السرطان لدى الأطفال مرتفعة للغاية. 

معد التحقيق لاحظ بان الجهات الرقابية قد أدركت أثر تلوث كواشي على الثروة الحيوانية، لهذا فأن دائرة بيئة دهوك، تفرض غرامات على أصحاب الماشية التي ترعى في المنطقة، وهذا ما أكده الحقوقي شيروان أكرم، مسؤول الشبعة القانونية في الدائرة.

إذ قال بأن دائرته سبق وأن قامت بفرض غرامة مالية على صاحب قطيع ماشية مقدارها (8) مليون دينار عراقي (أكثر 6 ألف دولار) بسبب تواجد قطيعه بالقرب من المناطق الملوثة في كواشي.

تأثيرات التلوث على التربة باتت تثير قلق مزارعي المنطقة، يقول الحاج عبد العزيز (73 سنة) من سكان قرية "كولميني" التي تبعد نحو 15 كيلومترا عن كواشي: "مع كل ما أسمعه عن المخاطر، لم أعد أجرؤ على زراعة أي شيء".

يضيف بنبرة مستنكرة: "كانت القرية في السابق مصدرا للعديد من محاصيل الخضر والفواكه، ولكن مع ظهور المنشآت الصناعية باتت الأراضي تتحول إلى مناطق جافة غير صالحة للزراعة"، مشيرا الى

أن المياه الملوثة أصبحت تختلط عبر المجاري الطبيعية مع مياه القرية التي كانت تُعد مصدراً رئيسياً للري، مما أدى إلى تلف المحاصيل. 

ينظر الحاج عبد العزيز حوله، ويقول "الآن نزرع فقط القمح والحنطة التي تعتمد على مياه الأمطار، أما بقية المحاصيل فقد تخلينا عن زراعتها".

حلول وإجراءات

لمواجهة مصادر التلوث في دهوك، التي يحذر مختصون من تأثيراتها على صحة الانسان والحيوان والنبات، تبدي مديرية بيئة دهوك جديتها في مواجهة الملوثين.

ويقول مدير الدائرة المهندس دلشاد عبد الرحمن، انهم يحاسبون كل المتسببين بتلويث البيئة، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو جهات تجارية "نتخذ الإجراءات القانونية اللازمة ونحيل المخالفين إلى القضاء". 

ويؤكد تحركهم لمواجهة أي تلوث في المياه "يتم الاستجابة لشكاوى المواطنين أو للمعلومات التي تصل عن طريق جهات رسمية مثل البلدية ودائرة الماء والمجاري، وبعد تحليل عينات في المختبر اعتمادا على الفحصين الرئيسيين  (BOD-COD)وعند تجاوز النتائج للمستويات المحددة من قبل منظمة الصحة العالمية، تتخذ المديرية الإجراءات الإدارية والقانونية بحق المخالفين".

والأمر ينطبق كذلك على المخلفات الصلبة كالنفايات العادية او المصنعية فضلاً عن الانبعاثات الغازية، إذ يتم التحقق بشأنها وتفرض الغرامات، وتتم إحالة المخالفين الى القضاء في الكثير من الحالات. 

المحامي المستشار عبد الله محمد إبراهيم، يشير إلى أن أحكام القانون رقم (8) لسنة 2008 الخاص بحماية وتحسين البيئة في إقليم كردستان العراق، تعالج المسؤولية التقصيرية والتعويض عن الضرر، فالمادة (21) تمنح المتضررين من التلوث البيئي الحق في مقاضاة الأفراد أو الجهات المسببة للضرر نتيجة للإهمال أو الأفعال الشخصية. 

ويشدد على أهمية أن يتحمل مسببوا التلوث مسؤوليتهم بتعويض المتضررين وإزالة الضرر واستعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحدث، وانه في حالة الإهمال أو الامتناع عن اتخاذ الإجراءات اللازمة، يحق للجهات المعنية اتخاذ التدابير الضرورية لإزالة الضرر، مع تحمل المسؤول التكاليف والنفقات الإدارية، مع مراعاة درجة خطورة المواد الملوثة وتأثير التلوث على البيئة.

وجود تلك القوانين لم تمنع فعليا من استمرار التلوث، لذا يعتقد ناشطون ومختصون أن المشكلة ليست في القوانين، وإنما في تطبيقها، من بين هؤلاء ناشط بيئي طلب عدم الإشارة إلى أسمه، قال ان التلوث الذي تحدثه مصانع ومصافي النفط في كواشي "يصل مداه القطري إلى 22 كم".

وينبه الى أن آلافا من حالات الأصابة بحساسية التنفس سجلتها الجهات الصحية في سميل والمناطق القريبة منها خلال سنة 2023 لوحدها بسبب الانبعاثات الغازية التي مصدرها مصافي النفط في كواشي. 

ويرى بأن الحل الحقيقي لا يتمثل بفرض الغرامات وتوجيه الانذارات، بل بالوقف الفوري لعمل جميع هذه المصافي دون أية استثناءات وإجبارها على تفكيكها أو اتخاذها الإجراءات الكفيلة بمنع ضرر إنبعاثاتها الغازية والسائلة "كتركيب عوادم مانعة للتلوث في المشاعل، ووحدات معالجة فاعلة للمخلفات السائلة".

وكذلك إجبار المصانع الأخرى في المنطقة على التعامل مع نفاياتها ومخلفاتها بنحو يتوافق مع المحددات البيئية، ومراقبة عمل مصنع فرز النفايات في المنطقة، وإجباره على العمل وفقاً للشروط البيئية.

ويتساءل الناشط البيئي "ما جدوى ان تحال الى المحاكم وتعود لمزاولة عملها بدون التزام بأي شيء فعلي؟ صحيح أن هنالك مصاف تم وقف عملها لحين اتخاذها التدابير اللازمة لمنع الضرر البيئي، لكن هنالك أخرى مستمرة بالعمل، وتلوث البيئة ليل نهار".

صديق بدو (57 سنة) موظف متقاعد، يسكن مع أفراد عائلته العشرة، في مجمع "باستكي"، يقول ان "400 عائلة تسكن في المجمع، جميعها تجد نفسها يوما بعد آخر محاصرة برائحة الملوثات السامة، خاصة في فترة ما بعد المغيب و حتى صباح اليوم التالي". ويضيف بحدة:"لا يمكننا النوم ولو لدقيقة على سطوح منازلنا في أشهر الصيف كما كنا متعودين طوال عقود". 

ويشير إلى أنه وباقي السكان يضطرون إلى غلق الأبواب والشبابيك باستمرار "لانستطيع حتى تشغيل مبردات الهواء لأنها تسحب الهواء الملوث".

صديق، لا يملك مصدر دخل غير راتبه، وهو يواجه مثل غيره مشاكل مالية مع عدم انتظام توزيع الرواتب في كردستان "منزلي لا يساوي شيئاً لأبيعه وأشتري منزلاً في مكان آخر، لذا يصعب علينا المغادرة، والنجاة بأرواحنا، كما فعل المتمكنون".

يأخذ نفساً عميقاً ويضيف بحرقة:"لا خيار أمامي إلا البقاء وسط مخاطر هذه الملوثات، أو إستئجار منزل بمنطقة أخرى، لكن حينها كيف سأتدبر معيشة عشرة أفراد والراتب كله سيذهب للايجار؟".


المصدر: شبكة (نيريج) ضمن مشروع "الصحافة البيئية" الذي تديره منظمة أنترنيوز


المصدر: وكالة بغداد اليوم

كلمات دلالية: الأمراض السرطانیة المنشآت الصناعیة النظام البیئی سکان المنطقة مصادر التلوث على الرغم من النفایات فی فی المنطقة التلوث فی یؤدی إلى من سکان من خلال تلوث فی إلى أن الى ان من قبل

إقرأ أيضاً:

غزة.. منطقة المواصي أكبر مدينة للخيام في العالم

الثورة  /وكالات

 

بدلاً أن تكون منطقة زراعية خالية، تكسوها السوافي الرملية، والمناطق الخضراء، باتت منطقة المواصي أكبر مدينة للخيام في العالم، تحوي في جنباتها آلاف المواطنين الذين شردوا قسرًا وإرهابًّا من منازلهم، ومعها تحوي آلامهم وقصص وجعهم، وغربتهم التي طالت، حتى الأرض التي يفترشونها باتت قبورًا لهم ولأحلامهم وآمالهم.

وتمتد المواصي على الشريط الساحلي للبحر المتوسط جنوب قطاع غزة، وتبعد عن مدينة غزة نحو 28 كيلو متراً، ويبلغ طولها 12 كيلو مترًا، بعرض نحو كيلو متر، وتمتد من جنوب دير البلح حتى رفح جنوبًا، مرورًا بخان يونس.

سر التسمية

استمدت المواصي اسمها من استخراج المزارعين للمياه في المنطقة عبر حفر البرك (برك امتصاصية) واستخدامها لري المزروعات، حيث تُعد منطقة غنية بالمياه الجوفية، وهي التي شاركت الغزيين معركتهم الكبيرة منذ السابع من أكتوبر، وقاسمتهم الصمود، وهي التي تعرضت لمرات لا تكاد تحصى من القصف والقتل الصهيوني، وفيها حدثت مجازر مروعة معها ابتلعت الرمال خيامًا وأناسًا في مشاهد مروعة على الإجرام والحقد الصهيوني.

منسيون في المواصي

أجساد متعبة، طعام شحيح، ماء بعيد، علاج مفقود، بكاء متقطع، ترقب مستمر، حشرات وأمراض.

كل يوم نسمع خلق الله من البشر وسط خليط الوجع والدم والقهر واليأس يقولون نحن بخير، وهم في كرب لا يعلمه إلا الله.

وتقدر مساحة المواصي الإجمالية بنحو 12 ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع)، وتمثل نحو 3% من مساحة قطاع غزة، وتتكون المنطقة من كثبان رملية، يطلق عليها محلياً “السوافي”، وهي عبارة عن رمال صحراوية بيضاء، تتخللها منخفضات زراعية خصبة غنية بالمياه الجوفية.

وتقسم المواصي إلى منطقتين متصلتين جغرافيا، تتبع إحداهما محافظة خان يونس، وتقع في أقصى الجنوب الغربي من المحافظة، في حين تتبع الثانية محافظة رفح، وتقع في أقصى الشمال الغربي منها.

وتضم المواصي في أغلبها أراضي زراعية أو كثباناً رملية قاحلة، أمّا المناطق السكنية فيها فهي محدودة، إذ لا يوجد فيها أكثر من 100 وحدة السكنية، وهي بالكاد تتسع للقاطنين الأصليين، فضلاً عن افتقار المنطقة للبنى التحتية والشوارع المرصوفة وشبكات الصرف الصحي وخطوط الكهرباء وشبكات الاتصالات والإنترنت.

أوجاع لا تتوقف

أوجاع النازحين في المواصي لا تتوقف، فمنذ أكثر من عام، تحتضن الأرض الرملية خيامًا تحوي نازحين ومهجرين، لا تحميهم من حر الصيف ولا برد الشتاء، إلا أنهم صابرون راضون بقدر الله، آملين أن ينتهي كابوسهم بنصر مؤزر يعوضهم عن ويلات النزوح وترك الديار.

على ناصية شارع روني صالح -أحد أشهر الشوارع في منطقة المواصي- يقف الحاج غانم أبو غانم وعلى محياه كهولة وألم شهور، يقول: منذ عام من الزمن ونحن هنا، نكابد الوجع، ونتعالى على الجراح، ونعيش أوضاعًا قاهرة، بائسة، بالجوع والعطش، والعوز نواجه المحتل.

يتابع أبو غانم ويروي قصة النزوح من منطقة شمال مخيم النصيرات إلى رفح ومن ثم إلى المواصي في خان يونس، يقول: “نحن لا نعرف النوم من البرد، الشوادر مع كل ليلة تزداد بردًا، وكل يوم قصف متواصل في المنطقة التي قالوا إنها آمنة، نحن لا نعيش، والحياة في غلاء دائم، الخيام لا تمنع بردًا ولا حرًا، السقف النايلون كل صباح يغطيه الندى والماء، نسمع صوت البحر الهائج، العريشة تكاد تنخلع من الأرض، وأنا رب أسرة مكونة من 6 أشخاص”.

منطقة «المواصي» التي صُنّفت أنها مناطق آمنة؛ هي شريط ساحلي على شاطئ البحر ضيق لا يصلح للحياة لانعدام مقوماتها.!!

وأكثر النازحين خرجوا لها مضطرين بملابس صيفية خفيفة!!

الآن يواجهون موجات بردٍ قارس مع دخول الشتاء.

أما محمود الحداد فقد نزح ثلاث مرات قبل الوصول إلى المواصي، وفي كل نزوح قصص ألم، ووجع لا تكاد للكلمات أن تصفه، أو حتى الصورة، فالقلوب موجوعة، والانتظار قاتل، لكنه على يقين أن الفرج قادم، وأن الله سيعوضهم بكل جميل.

يعاني الحداد وفق حديثه لمراسلنا من صعوبة بالغة للحياة: “لا طعام ولا طحين، وأنا رجل مريض أحتاج لعلاج، وليس لدي ما أقدمه لنفسي ولا لأولادي، وحينما أمطرت السماء قبل أيام غرقت الخيمة، ولا أدري ما الذي تخبئه الأيام المقبلة لنا؟!”

الحاجة جملات أم لشهيدتين، استشهدتا في شمال قطاع غزة، دون أن يعطيها الاحتلال أي حق في وداع قبل الرحيل تقول: “يقولون المواصي هي الآمنة، أو هي منطقة المساعدات، ومنذ أن أتينا لم نر نومًا أو طعامًا، لا طحين يوزع، ولا أمان فالقصف اشتد كثيرًا في كل ناحية، وقبل أيام قصفوا المنطقة واستيقظ الأولاد من نومهم مفزوعين، يركضون في كل مكان دون هدف!”.

لا تنسى الحاجة جملات ما حرمت منه قبل أشهر: “استشهدت بناتي وأنا بعيدة عنهن، لقد دفنوهم في الشمال، ولم أرَ أيًا منهن، لكني دائمًا أقول، الحمد لله، لقد كرّمنا الله بهن”.

ثبات وصبر

وتعرف منطقة المواصي إلى جانب قصص النازحين حكايتها الخاصة، حكاية ثبات وانتظار وصبر، وهي المنطقة التي تحملت رجس الاستيطان في سنوات طويلة مضت، حيث بنت إسرائيل مستوطنات قطاع غزة على أراضيها بعد الاحتلال في عام 1967م، وأقامت مجمع مستوطنات غوش قطيف، وصار الفلسطينيون في غزة محاطون بحوالي 14 مستوطنة.

لكنها أيضًا تحفظ جميل مقاوميها، وتذكر جيدًا عام 2005 ذلك اليوم الذي غادر فيه آخر مستوطن من الأرض البراح الواسعة، لتصبح ملكًا لأصحابها، ثم ها هي تدخل تحديًا جديدًا، بعدما رفع الغزي شعار (أكون أو لا أكون) في وجه المحتل الذي يريد إعادة السنوات إلى الوراء، ولكن أهل قطاع غزة يحفظون الدرس جيدًا.

في منطقة المواصي، أناس مظلومون، مقهورون، لكنهم صامدون صابرون، راضون، وهم على يقين أن تعبهم وصبرهم لن يضيع هباءً، وهم المتيقنون بعودة إلى ديارهم ومنازلهم وثم إلى الأرض المحتلة عام 48م.

وبقيت المواصي منطقة هادئة خالية من السكان، حتى فتحت ذراعيها لشعبها الذي نزح قسرًا وفرارًا من نار الحرب الهمجية، وهي التي كانت سلة الغذاء لقطاع غزة، وبعدها أصبحت مدينة للنزوح ونسج قصص الألم والبطولة، وحتى أصبحت منطقة روت بالدماء.

يقول النازح محمود صافي إنه يتذكر الغارة التي ضربت المواصي في يوليو وراح ضحيتها قرابة 100 شهيد.

في واحدة فقط من الخيام الـ 20 التي استطاع الدفاع المدني انتشال أصحابها في مجزرة المواصي، وجدوا مشهدًا مأساويًا.

في خيمة بعرض 2 متر وطول 2 متر مدفونة تحت التراب، وجد الدفاع المدني ستة فرشات، واحدة بجانب الأخرى. كان الأب، أحمد فوجو، ينام بجوار زوجته، وعلى الفرشات الأربعة المتبقية أولاده.

وأضاف لمراسلنا أن هذه المجزرة ليست الوحيدة، بل إن الطائرات الحربية والمدافع الصهيونية تقصف مناطق المواصي بين الفينة والأخرى، ملاحقة النازحين في مناطق ادعت إسرائيل زورًا وبهتانًا أنها آمنة.

مقالات مشابهة

  • «التنمية الحضرية»: العشوائيات غير الآمنة كانت من أبرز التحديات التي واجهت الدولة
  • غزة.. منطقة المواصي أكبر مدينة للخيام في العالم
  • "التلوث البيئي وعلاقته بالتغيرات المناخية".. ندوة بإعلام المحلة
  • خبير تخطيط عمراني: نقلة نوعية كبيرة في ملف تطوير العشوائيات
  • “البيئة” ترصد هطول أمطار في 8 مناطق.. والحدود الشمالية تسجّل أعلى كمية بـ (32.8) ملم في عرعر
  • "البيئة" ترصد هطول أمطار في 8 مناطق.. والحدود الشمالية تسجّل أعلى كمية
  • مصانع تقرر الخروج من العمل في الخرطوم والوالي يصدر توجيهات ويطلق وعدًا
  • القوات الخاصة للأمن والحماية تضبط مقيمًا مخالفًا لنظام البيئة لاستغلاله الرواسب في منطقة تبوك
  • أصوات من خارج الأرض تقتحم الانتخابات الأمريكية.. كيف وصلت؟
  • تلوث دجلة والفرات: حرب صامتة على الصحة والبيئة