لجريدة عمان:
2025-02-04@01:57:44 GMT

الحرب تقطع قلوب البشر

تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT

كنت في شقة صديقين لي في العاصمة العراقية بغداد، وكل واحد منهما روى لي كيف تأثر بالحرب البشعة غير القانونية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على بلدهم في عام 2003. «يوسف» و«أنيسة» كلاهما يحملان عضوية في اتحاد الصحفيين العراقيين، وكلاهما لديه الخبرة الكافية في العمل الإعلامي، وعملا كمراسلين لمؤسسات إعلامية غربية كانت قد قَدِمَت إلى العراق وسط الحرب.

في زيارتي الأولى لهما في شقتهما، كنت ضيفًا لتناول وجبة العشاء معهما، وتقع الشقة في حي «الوزيرية»، وهو موقع جيد في العراق. دُهشت من رؤية «أنيسة» وهي محجبة، وأنا أعرفها بأنها لا ترتدي الحجاب، وعندما سألتها عن ذلك أجابت بأنها ترتدي الحجاب لإخفاء الندبات الموجودة على فكها، «الندبة خلفتها رصاصة جندي أمريكي أصابه الذعر عند انفجار عبوة ناسفة بجانب الدورية التي كان يقف بجانبها».

وفي وقت يسبق زيارتي لهما بقليل، أخذني يوسف في جولة حول مدينة بغداد الجديدة، وتحديدًا نحو موقع حدثت فيه واقعة بشعة، حيث قتل جنود أمريكيون وهم في مروحية من طراز أباتشي حوالي 20 مدنيًا وأصابوا طفلين، وذلك في عام 2007، ومن بين الضحايا العشرين صحفيان كانا يعملان كمراسلين لوكالة رويترز هما «سعيد شماغ» و«نمير نور الدين».

قال يوسف موجهًا أصبعه نحو الساحة: «هذا هو المكان الذي قتلوا فيه»، ونحو بقعة أخرى أشار: «وهذا هو المكان الذي أوقف فيه صالح سيارته في محاولة لإنقاذ الصحفي سعيد قبل أن يستشهد، وهنا أطلقت المروحية النار على سيارة صالح وأصابت طفليه سجاد ودعاء بجروح خطيرة».

كنت مهتمًا كثيرًا بالرواية التي يقولها يوسف؛ لأن ما يقوله فعلاً تم تصويره من قبل الجيش الأمريكي، وفيما بعد نُشِرَ المقطع المصور على موقع ويكيليكس، وحمل المقطع المرئي عنوان «جريمة قتل هامشية». حاليًا لا يزال «جوليان أسانج» في السجن، وهو الذي قاد فريق الكشف عن هذا المقطع المرئي، وفي فترة سابقة قريبة منحته المحكمة حق الطعن أمام المحكمة البريطانية في مسألة تسليمه إلى الولايات المتحدة. لقد ساهم «جوليان أسانج» في تقديم دليل واضح على جريمة حرب بشعة.

«لم يسلم أحد من هذه الحرب، ومن أعمال العنف»، هذا ما قالته أنيسة، واسترسلت: «نحن مجتمع أصيب بصدمات نفسية كبيرة، جارتي مثلاً فقدت والدتها في قصف أمريكي، وبعد فترة قريبة تعرض زوجها للعمى جراء قصف آخر».

ملأت دفتر الملاحظات خاصتي بهذه القصص والتي يبدو أنها لن تنتهي، هنا الحديث فقط عن حرب العراق التي واجهها العراقيون وخلفت آثارًا نفسية إلى اليوم. واليوم يعيش الفلسطينيون معاناة الحرب، يعيشون على ندوب عميقة حاليًا، من الصعب التعافي منها ومن العنف الواقع عليهم.

ونحو منطقة منكوبة أخرى، كنت أسير مع الأصدقاء في أحد مناطق فيتنام، وهي «هوشي». في ذلك الطريق أشار الأصدقاء إلى مناطق الحقول الخاوية، يقولون بأنها مناطق شاسعة ومسمومة، سممتها الولايات المتحدة بإلقاء مواد كيميائية برتقالية. في حديثهم يشيرون إلى أن هذه الحقول لم تعد صالحة للزراعة وإنتاج الغذاء، وسيستمر الوضع لأجيال عديدة.

لقد أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية ما لا يقل عن 74 مليون لتر من المواد الكيميائية السامة، معظمها المادة البرتقالية، أسقطتها على كمبوديا ولاوس وفيتنام، ولقد استهدفت لعدة سنوات خط الإمداد الغذائي الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب. هذه المواد الكيميائية لم تصب الأراضي الزراعية فقط، بل شوهت حوالي 5 ملايين فيتنامي.

وقد نشرت الصحفية الفيتنامية «تران تو نجا» كتابها المعنون بـ «أرضي المسمومة» في عام 2016، في محاولة منها للفت الانتباه إلى فظائع الجرائم الأمريكية في فيتنام، والتي تستمر إلى اليوم منذ أكثر من أربعة عقود من بعد خسارة الولايات المتحدة الحرب. وتصف في الكتاب كيف قامت الولايات المتحدة برش المواد الكيميائية في عام 1966 بواسطة الطائرات التابعة لقواتها الجوية، كانت الطائرات من طراز «فيرتشايلد سي 123»، كانت المواد كيميائية وغريبة، رشتها الطائرات واختفت ثم استنشقها الناس وشربتها الأرض بعدما نزلت من السماء.

وتروي قصتها قائلة إنها عندما ولدت ابنتها بعد حوالي عامين من الحادثة، توفيت الطفلة متأثرة بالمواد الكيميائية البرتقالية، وتقول: «كان أهل القرية يرزقون بأطفال مشوهين جيلاً بعد جيل».

غزة

كل ما ذكرته فيما سبق هي ذكريات، وما يحدث في غزة اليوم كأنه شريط لتلك الذكريات. في الحروب غالبًا ما يتم التركيز على أعداد الموتى وتدمير البنى الأساسية والطبيعة، ولكن -إلى جانب أهمية ذلك- هناك أرقام في الحرب الحديثة من الصعب حسابها، منها حجم صوت الحرب الهائل، وضجيج القصف وأصوات الصرخات، تلك الأصوات التي تتعمق في نفوس الناس من الأطفال الصغار والنساء حيث لا بد أن يترك أثرًا طويلاً في حياتهم. صوت الحرب الرهيب، صدى القصف والصرخات، يتسلل إلى وعي الأطفال الصغار ويترك في نفوسهم جراحًا طويلة لا تبرأ.

خذوا أطفال غزة على سبيل المثال، الذين وُلدوا عام 2006. هؤلاء الأطفال، الذين يبلغون اليوم 18 عامًا، عاشوا حروبًا منذ ولادتهم. لقد شهدوا ويلات القصف عام 2006، ثم في 2008 إلى 2009، و2012، و2014، و2021، وأخيرًا 2023 والمستمرة إلى اليوم. وبين هذه الحروب الكبيرة السابقة، تعرضوا لقصف أقل حجمًا لكنه كان مدمرًا ومميتًا كذلك.

لا ننسى الغبار، فالمباني الحديثة تُشيد بمواد سامة كيميائية، منذ عام 1982، اعترفت منظمة الصحة العالمية بظاهرة «متلازمة المباني المريضة»، حيث يتسبب البناء بالمواد السامة في إصابة الناس بالأمراض. وتخيلوا سقوط قنبلة «MK84» بوزن 2000 رطل على مبنى، والغبار السام الذي يتطاير ويبقى معلقًا في الهواء وعلى الأرض.

هذا الغبار السام هو ما يتنفسه أطفال غزة الآن والنساء والناس عمومًا، حيث تلقي إسرائيل مئات القنابل المميتة على الأحياء السكنية. يوجد في غزة الآن أكثر من 37 مليون طن من الحطام والدمار، جزء كبير منه ملوث بالمواد السامة.

حتى بعد وقف إطلاق النار، تظل مناطق الحرب خطرة. في حالة غزة، لن ينتهي العنف بمجرد توقف القصف.

في أوائل نوفمبر 2023، قدّر المرصد «الأورومتوسطي» لحقوق الإنسان أن إسرائيل أسقطت 25 ألف طن من المتفجرات على غزة، ما يعادل قنبلتين نوويتين. ورغم أن مساحة هيروشيما تبلغ 900 كيلومتر مربع، فإن مساحة غزة تبلغ 360 كيلومترا مربعا فقط.

ولم يتوقف الأمر، فبحلول نهاية أبريل 2024، أسقطت إسرائيل أكثر من 75 ألف طن من القنابل على غزة، ما يعادل ست قنابل نووية، وتقدر الأمم المتحدة أن إزالة الذخائر غير المنفجرة في غزة ستستغرق 14 عامًا، مما يعني استمرار سقوط الضحايا حتى عام 2038.

في الصالة الصغيرة لشقة يوسف وأنيسة، يرتفع علم فلسطيني صغير، بجانبه قطعة من الشظايا التي دمرت عين يوسف اليسرى، لا يوجد شيء آخر على الوشاح، سوى هذا العلم والشظية التي تروي حكاية الألم والصمود.

فيجاي براشاد مؤرخ وصحفي هندي ومحرر في معهد البحوث الاجتماعية

نقلا عن آسيا تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المواد الکیمیائیة الولایات المتحدة فی عام

إقرأ أيضاً:

إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟

نشر موقع " لو ديبلومات" الفرنسية تقريرا سلّط فيه الضوء على طبيعة القوة الحقيقية في الولايات المتحدة، حيث لا يستأثر الرئيس بصنع القرار بشكل مطلق بل تلعب المؤسسات الفيدرالية وخاصة البيروقراطية والإدارات الأمنية والعسكرية دورا أساسيا في توجيه الاستراتيجية الأمريكية.

وقال الموقع، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن السلطة الإمبريالية الأمريكية لا تكمن في البيت الأبيض - على عكس ما يُعتقد - حتى عندما يحظى بدعم أغلبية الكونغرس، بل الأجهزة الضخمة للإدارة الفيدرالية هي التي تحدد مسار الأمة مما يضمن الاستمرارية الاستراتيجية للهيمنة الأمريكية.

يُنظر إلى انتخاب الرئيس على أنه محطة مفصلية في المسار الإمبريالي، لكنه في الواقع لا يعدو كونه تغييرا في التمثيل والسرد السياسي أكثر من كونه تغييرا حقيقيًا في النهج، حسب التقرير.


وأشار الموقع إلى أن الانتخابات الأمريكية وتنصيب الرئيس الجديد دائمًا ما يثيران اهتمامًا كبيرًا لما يكتسيانه من أهمية في مسار القوة العظمى المهيمنة عالميًا. لكن في الواقع، يعد مدى تأثير الرئيس في الولايات المتحدة على السياسات العامة والمسار الاستراتيجي للبلاد مبالغًا فيه إلى حد كبير.

وقال الموقع إن أكبر جهة توظيف في العالم ليست إحدى الشركات متعددة الجنسيات الخاصة التي تعمل على نطاق عالمي مثل "وول مارت" أو "ماكدونالدز" أو "كوكاكولا"، وليست أيضًا جيش أحد البلدين الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، الهند والصين، بل هي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) التي تضم ما يقارب ثلاثة ملايين موظّف. وهذا الرقم لا يشمل الموظفين "السريّين" أو العاملين في الشركات الخاصة التي تعتمد عليها الوزارة، مثل المتعاقدين.

تعد أجهزة المخابرات الأمريكية بدورها كيانا واسعا ومعقدا للغاية، حيث تتألف من سبع عشرة وكالة استخباراتية أبرزها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) التي غالبًا ما تختلف في رؤاها وتكتيكاتها وتتنافس بشدة فيما بينها. ونظرًا للشبكة الواسعة من المنظمات ومراكز الأبحاث والشركات المرتبطة بها، يصعب تحديد العدد الدقيق لإجمالي العاملين في هذا القطاع.

قدّمت صحيفة "واشنطن بوست" في سنة 2010 تقديرًا تقريبيًا يفيد بأن أكثر من 800 ألف شخص لديهم حق الوصول إلى معلومات حساسة تتعلق بالأمن القومي. لكن هذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار العدد غير المحدد من العملاء المنتشرين في جميع أنحاء العالم الذين لا تظهر أسماؤهم في السجلات الرسمية بسبب عملهم كعملاء سريين أو متخفين.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار المنظومة الفيدرالية الأمريكية بكاملها، فإننا نتحدث عن أكثر من خمسة ملايين موظف مسجلين، من بينهم آلاف المسؤولين الحكوميين الذين يشغلون مناصب رفيعة يدعمهم عشرات الآلاف من الخبراء الفنيين الذين يمتلكون مهارات متخصصة ويتولّون إدارة وتحمل مسؤولية المناطق الجغرافية الموكلة إليهم حول العالم.

ووفقا للتقرير، فإنه بغض النظر عن هوية الشخص الذي يشغل البيت الأبيض أو الانتماء السياسي للأغلبية في الكونغرس، فإن الآلة الضخمة للإدارة الفيدرالية تضمن الاستمرارية الاستراتيجية للإمبراطورية غير الرسمية التي تقوم على ركيزتين أساسيتين: السيطرة على جميع بحار العالم والهيمنة على أوروبا. للحفاظ على هذه السيطرة وتعزيزها، من الضروري تمامًا منع ألمانيا من التقارب الجيوسياسي مع روسيا والصين وكذلك منع بكين من فرض سيطرتها على بحر الصين من خلال الاستيلاء على تايوان. على هذا النحو، لن يكون بإمكان أي رئيس للولايات المتحدة مهما كان توجّهه السياسي أو أي أغلبية في الكونغرس التخلي عن هذه المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد لأن الأجهزة الفيدرالية لن تسمح بذلك.

لكن التواجد في الخطوط الأمامية للحفاظ على الهيمنة العالمية وتعزيزها هو مهمة شاقة للغاية، وليس فقط بسبب حالة الحرب الدائمة التي تفرضها. فكما كان الحال مع الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البريطانية اللتين سبقتاها، لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية تجاهل عاملين أساسيين يحددان مكانتها كقوة مهيمنة: العجز التجاري الهائل والتدفق الهائل للمهاجرين. العجز التجاري هو أداة ضرورية لإبقاء الدول التابعة اقتصاديًا، حيث تصبح أميركا المستهلك الرئيسي لمنتجاتها مما يضمن استمرار تبعيتها. أما الهجرة الجماعية، فهي ضرورية للحفاظ على مجتمع ديناميكي وتنافسي للغاية، والأهم من ذلك، إبقاء السكان في حالة شبابية عدوانية وعنيفة.


لكن التضحيات الاقتصادية الناجمة عن إلغاء التصنيع والاستيعاب المتواصل للمهاجرين بأعداد متزايدة والاستنزاف الناتج عن الحروب المستمرة، كلها عوامل أدت إلى تنامي شعور بالضيق والسخط داخل بين صفوف العرق المهيمن، وهو شعور يميز جميع الإمبراطوريات الكبرى في مراحلها المتأخرة. في الولايات المتحدة، بدأت ملامح هذا الاستياء بالظهور خلال الولاية الثانية لإدارة جورج بوش الابن، ومنذ ذلك الحين استمرت في التصاعد بشكل ملحوظ.

أورد الموقع أن دونالد ترامب يُعد تجسيدًا بارزًا للعرق الجرماني المهيمن، وقد تمكن من التعبير عن استيائه بوضوح. ارتكزت حملته الانتخابية على شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" وهي تستند إلى ثلاثة أهداف رئيسية لمعالجة هذا الاستياء: إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة واستعادة الهيمنة الاقتصادية، تقليص تدفق الهجرة للحد من التأثيرات الثقافية والديموغرافية، وإنهاء الحروب الخارجية وإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن.

لكن هذه الرؤية غير واقعية إلى حد بعيد لأنها تعني انسحاب الولايات المتحدة من إمبراطوريتها غير الرسمية والتراجع إلى عزلة قومية قديمة الطراز. وهذا أمر لن يسمح به الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو ما أكده بوضوح خلال الولاية الأولى لترامب الذي اصطدم بصلابة "الدولة العميقة" التي حالت دون تنفيذ الكثير من سياساته.

لهذا تتمحور نوايا ترامب، رغم غموضها الكبير، حول تقليص نفوذ الإدارة الفيدرالية التي يصفها بـ "الدولة العميقة" - بمعنى سلبي - ورفع سلطة البيت الأبيض بدعم من الأغلبية في الكونغرس لإعادة تشكيل نهج أميركا الجيوسياسي نحو العزلة. لكن هذا الطموح يصطدم بعائق جوهري وهو استحالة تنفيذ نظام "التطهير الإداري" على عشرات الآلاف من البيروقراطيين المتخصصين، الذين يشكلون العمود الفقري للدولة. حتى لو نجح ترامب بمعجزة في هذا التحدي الضخم، فإن الهوية العميقة للأمة الأمريكية لن تتخلى أبدًا عن دورها كقوة عظمى مهيمنة عالميا.

وقال الموقع إن هنا تصطدم الدعاية الانتخابية بالواقع الجيوسياسي الصلب، حيث لا يمكن للرئيس بغض النظر عن سلطته ونفوذه أن يغيّر بسهولة الأسس الاستراتيجية التي تقوم عليها الهيمنة الأمريكية في العالم. لكن موظفي ما يُعرف بـ"الدولة العميقة" ينتمون في الغالب إلى التيار المهيمن، مما يجعلهم شديدي الحساسية والاستجابة لمشاعر هذا التيار وتوجهاته. وقد شكّل الهجوم على مبنى الكابيتول قبل أربع سنوات نقطة تحوّل كبيرة في المسار الإمبراطوري لواشنطن، حيث أن الأجهزة الحكومية لم تستهِن أبدًا بهذه الموجة الحادة من السخط التي اجتاحت العاصمة قادمة من عمق البلاد.

يوضح ذلك التغيير التاريخي في الموقف الذي بدأته الولايات المتحدة خلال إدارة باراك أوباما، والذي تسارع بشكل كبير في عهد جو بايدن، مباشرة بعد محاولة الانقلاب في 6 كانون الثاني/ يناير 2021. وقد قلّصت أمريكا إلى الحد الأدنى تدخلها بل وحتى وجودها في المناطق التي تعتبرها أقل استراتيجية، معتمدة على وكلائها المحليين لإدارة تلك الساحات بدلاً منها.

يعد الشرق الأوسط، حسب التقرير، مثالًا بارزًا حيث عملت الأجهزة الحكومية الأمريكية بشكل مكثف على تحقيق تقارب بين "إسرائيل" والدول العربية السُّنية بهدف احتواء إيران، مما أدى في النهاية إلى توقيع "اتفاقيات إبراهيم". وبنفس النهج، جاء الانسحاب من أفغانستان، لكن بطريقة "غير منظمة" – إن صح التعبير – حيث لم يكن هناك توافق بشأن الانسحاب وتسليم البلاد في الوقت نفسه إلى حركة طالبان، بل شهدت الساحة انقسامًا واضحًا بين الوكالات الفيدرالية الأمريكية المختلفة.

وفي منطقة الساحل الإفريقي، أدت إعادة تموضع واشنطن إلى فشل فرنسا في الحفاظ على جميع مواقعها، مما تسبب في خسارة بعض معاقلها التقليدية أمام نفوذ روسيا. وفي الوقت ذاته، كثفت الولايات المتحدة سيطرتها على المناطق التي تعتبرها استراتيجية، مثل ألمانيا وأوروبا الشرقية والشرق الأقصى.

وذكر الموقع أن فرض الرسوم الجمركية أو تبني سياسات تحفيزية للصناعة الأمريكية، التي بدأت في عهد "باراك أوباما"، واستمرت خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب وتسارعت تحت إدارة جو بايدن لم يكن يهدف إلى تحقيق هدف وهمي أو غير اجتماعي متمثل في إعادة التصنيع كجزء من مشروع إمبريالي، بل كان الهدف منه تحقيق هدف استراتيجي واضح يتمثل في تقليص الفوائض التجارية الضخمة لكل من الصين وألمانيا.


تعتمد هاتان الدولتان بشكل رئيسي على تلك الفوائض للحد من القوى الانفصالية الداخلية القوية، التي لولاها لتفككت وحدتهما الوطنية. في الوقت نفسه، تساعد هذه الفوائض في تعزيز طموحاتهما الجيو-اقتصادية، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. ومع ذلك، لا يمكن للتأثير الجانبي الناجم عن إعادة التصنيع الجزئي الناتج عن هذه التدابير إلا أن يخفف من حالة السخط الاقتصادي داخل الفئة السكانية المهيمنة في الولايات المتحدة.

أشار الموقع إلى أن بناء جدار حدودي مع المكسيك، الذي بدأ في عهد إدارة أوباما ولا يزال مستمرًا منذ أربع سنوات، لا يهدف إلى وقف تدفق المهاجرين من أمريكا اللاتينية بل يسعى لتحقيق هدف إمبريالي بحت يتمثل في تسهيل عملية استيعاب المهاجرين من خلال إنشاء حاجز مادي يقطع روابطهم الثقافية مع وطنهم الأم.

نتيجة انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر والخطاب الافتتاحي الأول لدونالد ترامب يؤكّدان توجهًا هيكليًا مستمرًا منذ ما يقارب عشرين عامًا داخل المجتمع الأمريكي: وهو الشعور بالسخط داخل العرق المهيمن. فالولايات المتحدة القارية، التي يغلب عليها الأصل الجرماني والتي تتحمل العبء الثقيل للإمبراطورية، تشعر بالإحباط والغضب. إنها تحمل ضغينة تجاه السواحل و"مقاطعات" أوروبا الغربية - أو ما يُعرف بـ"القارة العجوز" - حيث تُعتبر هذه المناطق طفيليات تعيش على حسابها وتُصنف على أنها المستفيد الأكبر من "السلام الأمريكي" دون تقديم أي تضحيات ضرورية لحمايته. وقد تمكن الرئيس الجديد من استيعاب هذا الشعور بالغضب والسخط والتعبير عنه بمهارة، مما مكنه من تحقيق انتصار في المواجهة الانتخابية.

بعيدًا عن كونه نقطة تحول أو حتى بداية لعصر جيوسياسي جديد، فإن تولي رجل الأعمال النيويوركي الرئاسة في البيت الأبيض سيعزز الموقف الأمريكي الجديد الذي يتبناه الجهاز الفيدرالي منذ أواخر سنة 2010، لا سيما على مستوى السرد السياسي. سترتفع الرسوم الجمركية، خاصة تلك المفروضة على المنتجات الألمانية والصينية.

وبحسب التقرير، فإنه من المؤكد أن "الشركاء" الأوروبيين سيتم دفعهم لتحمل مسؤوليات أكبر داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) للمساهمة في الدفاع عن "السلام الأمريكي" ضد خصومه. ومع أن نبرة الخطاب حول هذه القضايا تتغير، إذ أصبحت أقل ودية مقارنة بالحكومة السابقة، إلا أن الجوهر لا يزال كما هو.

مقالات مشابهة

  • فتاة شعبية.. «المتحدة» تكشف عن البوستر الفردي لـ فرح يوسف من مسلسل «ولاد الشمس»
  • المتحدة تطرح البوستر الدعائي لفرح يوسف في مسلسل ولاد الشمس
  • هذه أبرز النزاعات التي تواجه العالم في عام 2025.. حروب ترامب من بينها
  • خالد عمر يوسف: حرب السودان امتداد لصراعات الماضي والحل في عقد اجتماعي جديد
  • أول خلاف مع إدارة ترامب.. كوريا الشمالية تتوعد الولايات المتحدة
  • باحث في الشؤون الإسرائيلية: الولايات المتحدة غطت العجز الاقتصادي لتل أبيب
  • هددوا الولايات المتحدة وحلفاءنا.. ترامب يعلن قتل إرهابيين في الصومال
  • زي النهارده.. توقيع معاهدة سلام تورون التي أنهت الحرب البولندية الليتوانية التوتونية
  • شاهد بالفيديو.. نساء (الحاج يوسف) بمدينة بحري يخرجن لاستقبال جنود الجيش بالزغاريد والدموع بعد أيام عصيبة من المعاناة طوال فترة الحرب
  • إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟