يمانيون:
2025-03-05@19:35:26 GMT

جريمة غزة..وانكشاف الانحطاط والتوحش

تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT

جريمة غزة..وانكشاف الانحطاط والتوحش

يمانيون – متابعات
عندما تخاذل العرب والمسلمون، أنظمة وشعوبا عن نصرة غزة، تحديدا أولئك المطبعون، واللهيثون للحاق بقطار التطبيع، تحرك الضمير الإنساني مناصرا لمظلومية غزة، ومتحديا لعنف الأنظمة الصهيوغربية، التي واجهت تحركات المحتجين، الرافضين استمرار وتتابع أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والواقع إنه لمن المخجل، بل ومن المخزي، أن يتحرك لنصرة أهل غزة من هم على بعد الالاف الأميال، ولا تربطهم بهم سوى رابطة الإنسانية، ويتخلف من هم مشتركون مع غزة وأهلها في الجغرافيا، واللغة والتاريخ والمصير المشترك، وقبل ذلك، وبعد ذلك، وفوق ذلك، يرتبطون معهم برابطة الدين، الذي أوجب عليهم النصرة لإخوانهم في قوله تعالى ﴿إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ فلماذا ينصر غزة البعيد ويخذلها القريب؟

إن من ينصر غزة اليوم، وعلى بعد الالاف الاميال، ويواجه قمع الأجهزة الأمنية للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، تأبى إنسانيته الصمت في مواجهة الظلم، وهذه هي الفطرة السليمة للإنسان السوي، بغض النظر عن دينه أو معتقده، وقد سبق للإمام علي عليه السلام، الإشارة الى ذلك في عهده لواليه على مصر، الاشتر النخعي وهو يوصيه في الناس بقوله، (… إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) بمعنى أن اختلاف الدين لا يمكن أن يكون مبرراً للظلم والاجحاف، فإذا لم يكن الدين هو الرابط، فإن الإنسانية هي رابطة مشتركة بين البشر، وهذه هي الفطرة السليمة للإنسان السوي، وهي من حرك المحتجين من طلاب الجامعات في الغرب، للمطالبة بوقف الظلم والاجرام بحق نظرائهم في الخلق في قطاع غزة، هذا من جانب، ومن جانب أخر، فإن هؤلاء المحتجين طالما سمعوا وقرأوا عن مناصرة الأنظمة الحاكمة في بلدانهم، خلال عقود خلت من الزمن لحقوق الانسان في مواجهة الأنظمة المستبدة، وخصوصا في البلدان العربية، وهم بالتأكيد كانوا يقابلون المواقف المعلنة لأنظمة الحكم في بلدانهم بكل ارتياح وفخر، لكنهم وجدوا أنفسهم اليوم أمام حقيقة صادمة، وتناقض صارخ، فأنظمة الحكم في بلدانهم التي افتخروا بمواقفها، حسب الترويج المعلن من جانبها ولعقود من الزمن بالدفاع عن حقوق الانسان، بجميع صورها سواء تلك المتعلقة بحقوق الأطفال، أو حقوق النساء، أو حقوق الأقليات، أو غيرها من الصور التي ابتدعتها القوى الاستعمارية الغربية، وأبدعت في الترويج للدفاع عنها في مواجهة الحكام المستبدين.

وهاهم شباب الجامعات الغربية المحتجين يشاهدون بأم أعينهم، يوميا وعلى مدار الساعة أنظمة الحكم في بلدانهم، كيف اشتركت في إهدار أسمي حقوق الإنسان الفلسطيني في قطاع غزة (الحق في الحياة) وهو ما أصابهم بالصدمة والذهول، فكيف لهم أن يصدقوا فعلا أن أفعالا شنيعة كهذه يمكن أن تصدر عن أنظمة الحكم في بلدانهم، التي زعمت ولعقود من الزمن الدفاع عن حقوق الانسان، وهي في حقيقة الامر تنتهك حقوق الانسان بوحشية مفرطة، فمن هم في قطاع غزة من صغار وكبار ونساء ورجال، يتعرضون لجريمة إبادة جماعية، ما كان لمرتكب أفعالها المباشرة ليجرؤ على ارتكابها، لولا الاسناد والإصرار والدعم بالمال والسلاح والمواقف السياسية من جانب أنظمة بلدانهم الاستعمارية الصهيوغربية.

ولم تقتصر أفعال جريمة الإبادة الجماعية، المرتكبة في قطاع غزة على مجرد استهداف عدد محدود من البشر، بل إن الواضح تماما، أن كل مظاهر الحياة في قطاع غزة تعرضت للتدمير، حتى لا يجد من بقي على قيد الحياة من السكان ما يأويه، أو يسد جوعه، أو يروي عطشه، أو يداوي جراحه، وسيكون الأمر بالنسبة لبقائه حيا مسألة وقت، ليواجه مصيره المحتوم وهو الموت، والواضح أن المحتجين من شباب الجامعات في الدول الغربية، قد استخلصوا من مشاهداتهم مدى إصرار الأنظمة الحاكمة في بلدانهم على تنفيذ إبادة جماعية بحق كل من يصر على البقاء في قطاع غزة.

ولكل ذلك فلم يكن أمام الشباب المحتجين من خيار، سوى التعبير عن انسانيتهم في مواجهة التناقض الكبير الصادم، الذي كشف حقيقة أنظمة الحكم في بلدانهم، التي سبق أن انطبعت الصورة في أذهانهم عنها أنها أنظمة ديمقراطية، تعلي من شأن حقوق الانسان، وتدافع عنها، لكن الحقيقة التي صدمتهم أن أنظمتهم ليست مستبدة فحسب، مثلما كانت تصف هي أنظمة الحكم في بلدان الشرق الأوسط، لكنها أنظمة متوحشة ولا حد لوحشيتها، وهو ما حرك الطلاب المحتجين في الجامعات الامريكية، وامتدت موجات الغضب والاحتجاج لتشمل جامعات أخرى في عدد من الدول الغربية.

وهذا التحرك الطلابي الإنساني، واجهته الأجهزة الأمنية في الدول الغربية بعنف مفرط، بهدف قمع هذه التحركات الطلابية ووأدها في مهدها، فأدى ذلك القمع الى تصعيد الاحتجاجات، وإصرار الطلاب المحتجين على التعبير عن غضبهم، وإدانتهم لمواقف أنظمة بلدانهم، المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية، بحق سكان قطاع غزة، ومن شأن تصاعد قمع الأجهزة الأمنية للمحتجين، أن يؤدي الى نتائج عكسية تماما، يترتب عليها تصعيد الاحتجاجات الطلابية، لتتجاوز النطاق الجغرافي للجامعات الى نطاقات أوسع، فالطلاب ليسوا فئة اجتماعية منقطعة الصلة عن غيرها من فئات المجتمع، بل على العكس من ذلك، فالطلاب المحتجين لهم اتصال وارتباط وثيق بالمجتمع، ففيه أباءهم وأماتهم واخوتهم واخواتهم، وقرابتهم بمختلف الدرجات وكذلك أصدقائهم.

وأولئك جميعا سيتحركون لمساندة الطلاب المحتجين في مواجهة قمع الأجهزة الأمنية، وسيشكل هذا التحرك العام عامل ضغط مهم على أنظمة الحكم في بلدانهم، وسيجبرونها على الرضوخ لمطالبهم، وإذا ما تصاعدت الإجراءات القمعية من جانب الأجهزة الأمنية، فقد تتصاعد الاحتجاجات، وقد لا تتوقف إلا بإزاحة الحكام المجرمين من سدة الحكم، كما حصل في احتجاجات الربيع العربي سنة 2011م، لنكون بعد أكثر من عقد من الزمان بصدد ربيع غربي، خصوصا بعد أن أدرك الطلاب المحتجون زيف أنظمة الحكم في بلدانهم، في ترويجها للدفاع عن حقوق الانسان، وهي في الوقت الراهن لم تتقبل مجرد تعبير الطلاب عن غضبهم بصورة سلمية.

أما عن خذلان غزة وأهلها من القريب عربيا واسلاميا وجغرافيا وتاريخا ومصيرا، فإن لذلك أسباب متعددة، أدت جميعها الى تثبيط حركتهم بسبب الخوف من قمع السلطات، وبسبب ترويج تلك الثقافة المغلوطة التي تقوم على وجوب طاعة ولي الامر، وعدم مخالفة توجيهاته وتوجهاته، فأصبحت المكونات الاجتماعية لشعوب الامة العربية مخدرة تماما بفعل ذلك التدجين الذي استمر لعقود من الزمن، وتولى كبره علماء السوء، خدمة للحكام، وقد تجسدت نتائجه السلبية مؤخرا في صورة ترفيه وانفتاح على المنكرات، والتي تكلف علماء السوء في تبريرها، لتبدو في مستقبلها مماثلة لما هو سائد في الشعوب الغربية في ما يعرف بالحريات الشخصية، وهي انحلالية اباحية، فهناك حرية الزناء، والحرية المثلية، وحرية تعاطي المسكرات، والحرية في جميع المنكرات.

وقد أتضح مؤخرا، أن الأنظمة الغربية التي أباحت لشعوبها كل الحريات، التي نتيجتها انحطاط أخلاقي وقيمي، لا تبيح لشعوبها حرية حقيقة للتعبير عن الرأي، والاحتجاج على تصرفات تلك الأنظمة، وهو ما يعني أن تشجيع تلك الأنظمة للحريات الإباحية، ما هو الا من أجل تتويه وتمييع وتضييع وتخدير شعوبها، لتتفرغ تلك الأنظمة الاستعمارية الإجرامية التي عمادها الرسمالية المتوحشة، لتنفيذ سياساتها واجنداتها على مستوى الداخل والخارج، وعلى حين غفلة من شعوبها، ولان الأنظمة الحاكمة في الشعوب العربية تدرك يقينا أنه لم يعد مجديا الاستمرار في إقناع الشعوب بوجوب طاعة ولي الأمر في صيغتها التقليدية، ومن ثم لا بد من محفزات جديدة تتوه وتخدر بها هذه الأنظمة شعوبها، كما هو عليه الحال بالنسبة للأنظمة الغربية.

ولذلك جلبت الأنظمة العربية لشعوبها الانفتاح، وما ينطوي عليه من حريات شخصية انحلالية، وهي مسألة مقبولة، ومرحب بها على ما يبدو في الشعوب العربية، القائمة على ثقافة ( وجوب طاعة ولي الامر وإن أخذ مالك وجلد ظهرك) وهذا الانفتاح المنشود، ما هو إلا انحراف أخلاقي بكل تأكيد، وهذا الانحراف ما كان للشعوب العربية المسلمة أن تقبل به، لو لم يسبقه انحراف ديني، مات معه حتى الجانب الإنساني لدى الشعوب العربية والإسلامية، وليس مستغربا اليوم تخاذل الشعوب العربية وصمتها وقعودها عن نصرة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بل والأدهى من ذلك والأمر، صمت هذه الشعوب عن اشتراك أنظمة الحكم فيها، في جريمة الإبادة الجماعية، بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، التي ترتكب أفعالها منذ ثمانية أشهر القوى الاستعمارية الصهيوغربية.

والحقيقة أن حالة الشعوب العربية أشد سواء من حالة الشعوب الغربية، فإذا كانت الأنظمة الغربية، وكما ذكرنا أنفا قد روجت للحريات الشخصية لشعوبها، وروجت لحقوق الانسان، والدفاع عنها في مواجهة الأنظمة الاستبدادية حول العالم، وهو ما ترتب عليه تكريس ثقافة الدفاع عن حقوق الانسان في ذهنية الشعوب الغربية، وحين وجدت هذه الشعوب أن أنظمة حكمها، هي من تنتهك وتهدر حقوق الانسان استدعت فورا ما ترسخ في ذهنيتها من ثقافة الدفاع عن حقوق الانسان، فتحركت لتجسد هذه الثقافة على أرض الواقع.

أما الشعوب العربية فإن الثقافة التي ترسخت في ذهنيتها هي ثقافة (وجوب طاعة ولي الامر)، والتي تقتضي عدم الاعتراض على تصرفات الحكام، مهما كانت ماسة بحقوق وحريات الاخرين! وحين تحرك الحكام العرب، ليمنحوا شعوبهم حوافز انفتاحيه انحلالية، نظير طاعتهم العمياء، وجدت هذه الشعوب ان ما يحصل في غزة، يعد منغصا لمستقبلهم الترفيهي الانحلالي.

ولذلك فالشعوب العربية لا ترى إلا ما يراه حكامها، الذين يتمنون سرعة انتهاء ما يحدث في غزة ولو اقتضى الأمر تهجير جميع سكانها، أو ابادتهم ليبدأ مرثون الحريات الترفيهية الانفتاحية الانحلالية، التي تشرف عليها في أهم بلد عربي واسلامي هيئة تسمى (هيئة الترفيه) قامت على انقاض هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا التناقض الصارخ، دفع الشعوب العربية إلى الصمت، بينما دفع التناقض الذي تكشّف للشعوب الغربية إلى التحرك، ولعل الجواب على السؤال السابق، قد اتضح بشكل مفصل، ولم يعد أمرا مبهما، نصرة غزة إنسانيا على بعد الالاف الاميال، وخذلانها عربيا ودينيا في نطاق جغرافي متصل!

عبدالرحمن المختار

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: جریمة الإبادة الجماعیة الفلسطینی فی قطاع غزة الطلاب المحتجین الأجهزة الأمنیة عن حقوق الانسان الشعوب العربیة فی مواجهة من الزمن من جانب وهو ما

إقرأ أيضاً:

الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني

عندما نتساءل أي مستقبل للعرب، لنقل من هنا لمنتصف القرن، يتبادر للذهن ثلاثة سيناريوهات كبرى:

 الأول: تواصل الاستبداد – أكان علمانيًا أم دينيًا- بتشبِيبه وتأقلمه واستعماله المحكم تقنيات التضليل والمراقبة، مما يعني تواصل الوضع الكارثيّ للشعوب والدول. الثاني: صراع مُتزايد الحدّة والوتيرة بين الثورات والثورات المضادّة، مما ستنتج عنه حالة من الفوضى قد تصل لمصافّ الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة (السودان والصومال إنذارًا).  الثالث: نجاح المشروع الديمقراطي في التمكن والبقاء والتطور.

لقائل أن يقول أين الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات التي تلغي وجوده، والحال أنه اليوم المنتصر في سوريا، المقاوم في غزة، والمستعدّ للعودة في أكثر من بلد بعد الفشل المخزي للثّورات المضادّة؟

قناعتي أن تيارًا منه سيعود لجولة استبدادية عبثية جديدة؛ لأنه سيواجه بمقاومة المكوّن الثابت الآخر للمجتمع؛ أي المكون العلماني، وأن تيارًا آخرَ سينخرط في المشروع الديمقراطي ليثريه وينعشه بالقيم المتجذرّة في ثقافة المجتمع. مما يعني أننا لن نخرج، حتى بإقحام الإسلام السياسي، من السيناريوهات الثلاثة.

أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟

رغم استحالة التنبّؤ، هناك احتمالات محدودة قد تكون هي مصيرنا. يمكن أن تتجاور داخل الفضاء العربي – بغض النظر عن الحدود- مناطقُ يحكمها الاستبداد، ومناطق سيدتها الفوضى المدمرة، أو مناطق فوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو مناطق فوضى فظيعة بجانب مناطق فوضى أفظع.

إعلان

ما علّمنا التاريخ، هو أن المستقبل قلّما يتمخّض عما نأمل، أو عما نخشى، والعادة أنه يتمخّض عما يفاجئنا ولم نتوقعه لحظة.

لكن الثابت أنه لا شيءَ مقدرًا أو مكتوبًا، فانتصار الديمقراطية -ونهاية التاريخ حسب فوكو ياما- ليس أكثر حتمية من انتصار الشيوعية، كما كانت قناعة الماركسيين في القرن العشرين. وفي نفس الوقت لا شيء يمنع من هذا الانتصار.

السؤال هو: لماذا يجب أن نتشبّث بهذا الخيار رغم ما يعاني في عالَمنا المعاصر من أزمات، وما شروط ثباته ثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟

لنبدأ بالتأكد من وجود تصوّر جامع للديمقراطيين العرب، إذ كيف نناضل من أجل شيء مبهم أو غير متّفق على أبجدياته.

للبتّ في فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2024، ناقشَ فيه أكثر من مئة من السياسيين والمثقّفين والإعلاميين من مختلف الأجيال، ورقةً تحضيريةً أعدتها قيادة المجلس، وانتهوا بعد ثلاثة أيام بالاتفاق على تصوُّر ضُمّن في وثيقة سُمّيت العهد الديمقراطي العربي (موجودة على موقع المجلس).

إنها الوثيقة التأسيسية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة الطريق لنضالات الأجيال المقبلة، وتبدأ بالعودة إلى أهمّ سؤال: لماذا الإصرار على الديمقراطية وهي اليوم كاليتيم على مأدبة اللئام؟

تُختزل الديمقراطية عند أغلب الناس في الحريات الفردية والحريات العامة والقضاء المستقل والانتخابات الحرة والنزيهة. لكن هذه وسائل وآليات الديمقراطية وليست لبّها وهدفها.

أحسن مدخل لفهم هدفها هو تصوّر غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الدكتاتوريات: النظام السوري الأسدي نموذجًا.

الظاهرة الأساسية في كل مجتمع منكوب بمثل هذا النظام: خوف المجتمع من الدولة، وخوف الدولة من المجتمع.

إنه خوف المحكومين من الحيطان التي لها آذان، من زوّار الفجر، من مراكز الشرطة، من غرف التعذيب، من السجون والمنافي.

إعلان

إنه خوف الحكام من المؤامرات الصامتة، من الثورات الصاخبة، من اكتشاف فضائحهم وجرائمهم ربما الخوف الأكبر اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، وإنما أشخاص عاديون وأحيانًا حتى أقل من العاديين.

هذا الخوف العام هو أبرز مظاهر الحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع في شكل انقلابات وثورات.

أما السبب الأول، فمصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، الثروةَ والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظلّ الخوف والمذلّة.

لهذا يقول العهد الديمقراطي:

"الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي".

إن عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في الحكم وحتى على قيد الحياة.

هي أيضًا في تحرير المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس.

لا يحدث هذا بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة، حيث لا قدرة لأحد بين عشية وضحاها على توزيع عادل للثروة والسلطة والاعتبار، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي.

هكذا تنظم آلياتُها الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية والسلاح هو الكلمات لا اللكمات. تأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة تفصل مرحليًا بين المتنازعين فيعلَن منتصرًا من صفف أكبر عدد ممكن من الجنود على ساحة المعركة.

بعد إعلان الفوز يُتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. لا يبقى على المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا؛ لأن اللعب مفتوح، وثمة دومًا أمل بالانتصار في المعركة السلمية المقبلة.

من أحوج منا -نحن العرب- لمثل هذا النظام لكي ننتهي من الصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، حتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قامعة ومجتمع مقموع، لا انتصار فيها إلا وكان عابرًا باهظ الثمن للجميع؟

إعلان

لقائل أن يقول: بهذا المفهوم كل المجتمعات بحاجة لنَفَس الديمقراطية كما هي بحاجة لنفس الهواء النقي والغذاء الكافي، فما الداعي لإضافة "العربي" لتوصيف العهد؟ هل للتعريف الجغرافي أم لإفراغ المصطلح من فحواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟

لا هذا ولا ذاك. نحن – العرب- بحاجة ككل الشعوب للديمقراطية، لكن لنا فيها بحكم وضعنا الكارثي أربعة مآرب أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها.

لماذا ديمقراطية اجتماعية؟

كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الجنينية، هو السخرية من الحريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. النتيجة – كما جرّبنا على امتداد سبعين سنة في أكثر من بلد- هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، أكانت سياسية أم اجتماعية.

هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم، أن ديمقراطية لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، هي مجرد فاصل بين جولتين استبداديتين.

لذلك يقول العهد الديمقراطي: "نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية، كما تروّج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا.

أولوية الأولويات بالنسبة لنا، هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية".

لماذا ديمقراطية اتحادية؟

إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا، ليست فقط أزمة النظام السياسي وإنما أزمة الدولة القُطرية، فباستثناء أربع دول بترولية، لا قدرة لثماني عشرة دولة عربية أخرى على تلبية الحاجيات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى ولو حكمتها أحسن الأنظمة وأقلها فسادًا.

إعلان

هذا ما فهمه باكرًا الوحدويون والقوميون العرب، لكن ما لم يفهموه أن النظم الاستبدادية التي يقدّسون لا تتّحد، والدليل صراع البعثيين الذين حكموا سوريا، والعراق في سبعينيات القرن الماضي.

النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد :"نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية.

لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرّق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها.

هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحدَه على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة".

لماذا ديمقراطية سيادية؟

المستبدون في العالم العربي تبّع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية، أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران، أو روسيا، وإسرائيل.

الديمقراطية، إذن، ليست الضمان الأكبر لتمتُّعنا بالحريات الفردية والجماعية فقط، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار أفرغ من كل مضمون.

لهذا يقول العهد الديمقراطي: "نرى في الديمقراطية، ليس فقط وسيلة للتحرّر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار".

إعلان لماذا ديمقراطية مواطنية؟

لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعّال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع، هي في نفس الوقت حق وواجب.

أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون فلا فضل لرجل على امرأة، لغني على فقير، لطائفة على طائفة… إلخ، في التمتُّع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وأساسًا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فضرورة اضطلاع تلقائي حرّ لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين.

هكذا يمكن أن نعرّف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، لا يتخلون عن أي منها مهما سُلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه.

مجمل القول:

أن تكون اليوم مواطنيًا أي وريثًا عنيدًا لحُلم الحقوقيين بمجتمع كل أفراده يتمتعون بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون تقدميًا اشتراكيًا، وريثًا عنيدًا لحُلم العدالة الاجتماعية، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون سياديًا استقلاليًا، وريثًا عنيدًا لحُلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة غير تابعة، غير "محمية"، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون عروبيًا وحدويًا وريثًا عنيدًا لحُلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

خلاصة الخلاصة: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل واعد إلا إن استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، شعوب من المواطنين، اتحاد شعوب حرة ودول مستقلة، والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق المشروع العظيم: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية).

إعلان

لقائل أن يقول: مشروع جميل لكن ما حظوظه من التحقيق، خاصة في ظل انحسار الديمقراطية في العالم والتهاب الشعبوية في كل مكان، ومتانة الأنظمة الاستبدادية التي قد تشكل الثورة التكنولوجية طوق نجاتها بما توفر من إمكانات غير مسبوقة للتحكم في العقول وفي الأجساد؟

هذا ما يحملنا للتحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي.

لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بدّ من قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها ومن مناضلين صادقين يجاهدون طوال حياتهم لفرضه وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لتعهده وحمايته.

أين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تعطي للديمقراطية العربية -كما حددها العهد- بعضَ حظوظ الفوز في سباقها مع الاستبداد المخيف والفوضى المرعبة؟

وللحديث بقية

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • استشاري: تطوير أنظمة المطارات يُعزز الأمن القومي
  • مفيدة شيحة تهاجم مسلسلات رمضان: إيه كم الانحطاط وقلة الأدب دي
  • أهم أنظمة الأسلحة الأميركية التي قد تخسرها أوكرانيا
  • مؤشر الديمقراطية يكشف تراجع الدول العربية عن العام الماضي.. أين وصلت؟
  • حماس: نرحب بخطة إعادة إعمار غزة التي اعتمدتها القمة العربية
  • هل تستطيع أوروبا تعويض كييف عن المعدات العسكرية التي أوقفتها واشنطن؟.. خبراء يجيبون
  • هل تستطيع أوروبا تعويض كييف المعدات العسكرية التي أوقفتها واشنطن.. خبراء يجيبون
  • الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني
  • مفيدة شيحة منتقدة مسلسلات رمضان: كم من الانحطاط وقلة الأدب!
  • المرض الخبيث يتفشى .. فمتى تستفيق الشعوب العربية؟