مصائر أمام البحر قراءة في رواية «لعبة مصائر» لهلال البادي
تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT
«لعبة مصائر»- دار الانتشار العربي - بيروت 2024 رواية للكاتب والمصور والمسرحي العماني هلال البادي، تتميز بما يمكن تسميته بروايات تدافع الشخصيات واشتباك مصائرها في الحيز المحدود أو الحارة الواسعة، محليا يمكن -في هذا السياق- استحضار رواية «تبكي الأرض يضحك زحل» لعبدالعزيز الفارسي، التي تتعارك فيها شخوص القرية الساحلية شناص، وعربيا رواية «آخر الملائكة» لفاضل العزاوي التي أيضًا تتعارك في حلبتها الواسعة شخوص عراق الخمسينيات والستينيات في بغداد.
شخصيات الحارة وما بعدها:
تحتشد «لعبة مصائر» بشبكة من الشخصيات وبالتالي من المصائر المتقاطعة في بحر الحياة/ حياة قرب البحر، كما توحي عتبة الغلاف، بريق يسطع من الماء في مقابل ظلال شبحية لثلاثة أطفال وامرأة جالسة وأخرى يظهر جزء من هيئتها، وفي الغلاف الخلفي ما يكمل طريق هذه المصائر، حيث يظهر في عرض البحر عدد من الأشخاص بعضهم في الماء والآخر على حوافه. يشكل إذن البحر في الرواية خلفية مكانية دون تسمية محددة، كما توحي بذلك أحد عتبات الرواية، الغلاف الأمامي والخلفي الذي يفيض بحرًا لا يحده أفق.
وهكذا يتجول القارئ في بحر هذه المصائر (أو مصائر أمام البحر): فايز الذي يتحول في ساعة غضب زوجته شوان إلى فايوز ولد سويلم. وأولادهما قاسم وخماس ورحمة وشنة وأمل الأكبر التي تستحوذ على جانب واسع من أجواء الرواية، مع رفيقة طفولتها وداد، حيث تشهد حياتهما انعطافات وتوترات عديدة. وشوين -أخ وداد- الذي يكمل حلقة اليتم، حين يوفى الأبوان بسبب حادث سير،عاش الطفلان بعد ذلك في كنف خالهما أبو طلال المتوحش وزوجته أم طلال طيبة القلب. وهناك طلال ابن خالهما المتقلب السلوك، الذي بدوره يأخذ حيزًا من السرد في البيت والمدرسة أولا إلى أن يتم طرده من قبيلة الأسرة ليعمل مع الحاج رضا حسن في مسقط وهناك يتعرف على الأوروبية جرايس التي تقع في شباك (حب شرقي) قبل أن تنقلب العلاقة رأسا على عقب حين تكتشف أن العربي الوسيم الذي شغفت به حبا لم يكن مخلصا سوى لنزواته العابرة. وهناك أيضا فيوليتا الآسيوية التي تضحي بكشف أسرارها من أجل تشتيت غريمتها. وشخصية فتحية التي تظهر في صفحات الرواية بسبب مأساتها الخاصة، حين زوجت في عز فترة دراستها كأنما لتنجو قدريا من حريق شب في بيت أهلها بعد مغادرتها فقضوا جميعهم لتنجو من المصير الناري، لكنها نجاة تشبه المستجير (العكسي) من النار بالرمضاء، حين تبتلى بزوج شاذ السلوك يعمل حارسًا لمدرسة، أدى به انحرافه إلى السجن. عائشة أم سالم جارة وداد وشوين في مسقط التي ذكرتهم شخصيتها الطيبة بشخصية أم طلال. لبنة التي توفيت في أحداث العراق وراية المدرسة صديقة وداد. وأبوعبدالله المشغوف بالفتوى والنصح من أجل تحقيق مآرب خاصة، أبو عبد الله أيضا هو الذي نقل في الحارة عدوى الزواج من فتيات صغيرات كما حدث مع أبو طلال: «رأينا في ذلك اليوم صورة أخرى لأبي عبدالله، رأينا رجلا لم نتوقع أن يحلق لحيته البيضاء الكثة، كانت تلك اللحية واحدة من دلائل وجاهته لكنه حلقها عند صومار حلاق الحارة العتيد، الذي بمكينة الحلاقة ذات الصوت المميز لديه، كانت رؤوسنا جميعا حقولا يرتادها بين الحين والآخر، وها هي لحية الشيخ أبي عبدالله تتشرف بنيل الرعاية الكريمة من تلك الماكينة، ومن أسلوب صومار المعروف لم يكتف بذلك وحسب، فقام بصبغها، فبدا عجيبا في ذلك اللون الفاحم، كنت أرى الابتسامات الساخرة من الرجال والشباب على السواء، كان منظره يجعل الواحد يضحك بلا إرادة منه، وما كان يهم لحضور العرس أكثر في ذلك اليوم هو الطعام» الرواية ص 78
وإن كانت الرواية قد اكتفت بالبحر مكانًا دالا، فإنها زمنيًا تشير أيضًا إلى فترة معلومة يمكن أن يقاس عليها وهي حرب العراق:«كانت لبنة في تلك الأيام تود لو أنها تخرج كل يوم في التظاهرات الرافضة للحرب لكن الحرب قامت وبدأ القصف العميق ومالت الرؤوس تجاه شاشة التلفاز تتابع الجزيرة، كانوا يتحاورون وكأنها مباراة في كرة القدم من سيفوز، إلا أنهم جميعا كانوا يدركون أن الموت يحيط بهم من كل جانب، خيبة أخرى علينا أن نتلقاها ما ذا فعلنا كي لا نقع في الخيبة؟ لا شيء. لا شيء على الإطلاق.. كان ذلك آخر حوار مع لبنى، ثم رحلت عن الدنيا، وسقطت بغداد تحت أقدام المحتلين الجدد، لعلها وهي تموت أدركت أن الخلاص في الرحيل الأبدي، قالت لنفسها وهي ترى الأحداث تتوالى أمامها تحاصرها وتجعلها عاجزة في لحظة غير قادرة على المقاومة، ولكنها قبل أن تيأس تماما، تفكر في خطوة أخرى مبادرة بالبدء من جديد» الرواية ص 234
تقديم مزدوج:
التقنية التي اختارها الكاتب لسرد شخصياته أخذت أكثر من مستوى، بين التعبير بضمير المتكلم الذي يتيح للشخصيات الحديث عن نفسها خارج الحوارات الواضحة والجدلية، لذلك تأخذ الرواية في سردها من هذه الجهة أسلوب الاعترافات،حيث سيلاحظ القارئ أن العديد من شخصيات الرواية تتمنى أن تكتب سيرتها واعترافاتها وتبوح بآلامها، أو هي مشرعة في عمل ذلك عن طريق رسائل ترسلها إلى خارج محيطها كما هو الأمر مع الفتاة الأوروبية جرايس. هذه التقنية السردية تظهر في بعض صفحات الرواية من أجل قول خوالج وجوانيات الشخصيات وكأنها بذلك تحدث نفسها باطمئنان وتعبر عن حيرتها وإحباطها دون أن تتوخى سوى سامعين محتملين لأحاسيسها: «مر وقت طويل وأنا أرمي بأوراقي وشهاداتي في كل جهة، معتقدا أن الأمر سهل، وبأنني سأحصل على الوظيفة المناسبة، إلا أن ذلك لم يحدث، أو لم يحدث بالسهولة أو بالسرعة التي كنت أتوقعها. لقد تغيرت تلك الأيام التي يجد فيها الحاصل على شهادة جامعية على الموقع المناسب، الموقع الذي يختاره! كان لابد من انتظار طويل ظننت أنه لن ينتهي» الرواية صفحة 186
كما تفيد هذه التقنية في التعبير عن شعور من الصعب إطلاقه إلا مع الذات: «حدث التعارف بشكل سريع. يومذاك كنت خارجًا من أمسية أدبية في الجامعة، مستاء أيما استياء، جراء إفساد إحداهن جو الأمسية، عندما وقفت وقالت بصوت عال: خيبر خيبر يايهود، جيش محمد سوف يعود» ص 112
التقنية الأخرى -وهي الغالبة في تقديم الرواية- استخدام الكاتب لضمير الغائب، حيث يكون السارد عليمًا ومثقفًا وعارفًا بمختلف أجواء الرواية: «كان المحاضر يتحدث بحماس منقطع النظير عن غسان كنفاني، وبأنه سيظل أحد أهم رموز المقاومة الباسلة في فلسطين» صفحة 186
كما تفيد هذه التقنية في سبر الجوانب الجوانية المتعلقة بالعواطف واللواعج السرية: «في أعماقه يدرك كم كان مخطئا،في الوقت الذي كان يحبها. لكن اكتشاف الحب يأتي بعد الخسارة المؤلمة، يأتي في اللحظة التي لا يمكن للزمن فيها أن يعود إلى الوراء، ويأتي بلا احتمالات، فالحب لا يأبه للاحتمالات على الإطلاق» ص 210
مسرح الكلام:
كثيرا ما تلجأ الرواية إلى نوع ثالث من التعبير وهو الحوار المسرحي، ربما نظرًا لكون الكاتب هلال البادي صاحب خبرة عملية في هذا الجانب كونه أيضًا كاتب مسرح، فالحوارات تتوزع في أجواء الرواية في أكثر من مستوى، فإلى جانب التعبير بضمير المتكلم، التي تظهر الشخصية وكأنها تكلم نفسها وتعبر عن أمور سرية في حياتها، نجد الحوار الثنائي الذي يتوجب نبرة أعلى وحضور شخص مجادل في الجهة المقابلة، لذلك نلاحظ أن الرواية بها انبساط وتفعيل للحوار الثنائي بين أكثر من شخصية، يتسم هذا الحوار كذلك بمحليته وباستثمار بلاغة اللهجة العمانية المليئة بخبرة الحياة، في ما يلي حوار عن حرب العراق بين صالح ووداد دار في القاهرة:
- بس الأمريكان واضح أنهم يريدوا عراق أخرى غير التي في خيالنا.
- طبعا أتفق، هم يريدون جعلنا بيادق شطرنج مجردة من الفعل، يريدون إنسانًا مسخًا لا حول له ولا قوة، لكن في المقابل فإن المسخ هو من صناعتنا نحن. نحن من أنتج المسخ.
- هذا الكلام ما صحيح. ما حد كان يريد الحرب، أمريكا والغرب فقط هم إلى أرادوا تدمير العراق. هم إلى دمروها عشان البترول. عشان كانوا محتاجين للطاقة وبترول العراق يكفيهم. واليوم سيطروا عليه.
رواية «لعبة مصائر» مغامرة خاضها هلال البادي في سياق تنوعه الكتابي، أشبه بتصفية حساب مع الذاكرة واستحضارها ممتزجة بعطاءات المخيلة، يتداخل فيها تجريب أكثر من مستوى خطابي وتعدد مفتوح للشخصيات، وكأنما نزهة محسوبة أرادها البادي لخوض غمار نوع أدبي ظل بعيدًا عن مزاولته، واقفًا على عتباته وأبوابه وقد شاء أخيرًا أن يطرقها، كما يوحي بذلك عنوان أحد مجاميعه القصصية «لا يجب أن تبدو كرواية» .
محمود الرحبي روائي وقاص عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
"أبو شقة" يدعو لتحديث كل القوانين والتشريعات التي تتناغم مع الجمهورية الجديدة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أعلن المستشار بهاء أبو شقة، وكيل أول مجلس الشيوخ، موافقته على تقرير لجنة الإسكان والإدارة المحلية والنقل، ومكتب لجنة الشئون الدستورية والتشريعية عن مشروع قانون مقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام القانون رقم 84 لسنة 1949 بشأن تسجيل السفن التجارية.
وقال أبو شقة خلال الجلسة العامة برئاسة المستشار عبدالوهاب عبدالرازق: نحن بصدد مناقشة مشروع قانون مهم لا سيما وأن هذا القانون صدر منذ 1949 ومضى عليه ما يزيد عن 75 عام، والقانون في مفهومه ينظم حركة المجتمع سواء كان تنظيم عام أو في جزئية معينة، وهذا الأمر يقود إلى إننا لابد أن نكون أمام ثورة تشريعية حقيقية لنكون أمام مشروعات قوانين حديثة تتماشى وتتناغم مع الجمهورية الجديدة، وبالتالي نحن في حاجة اليوم إلى إستراتيجية وطنية بحرية.
واستكمل أبو شقة كلمته: علينا أن نكون أمام منطق القانون، واليم نحن أمام قوانين باتت بالية وعقيمة وسط مستحدثات تحدث بالعالم يوميًا، وذلك ليس في هذا القانون فحسب، بل أن هناك قوانين مضى عليها 70 و80 عام والتي تخلق بيروقراطية أمام المستثمرين، علاوة على أن "الغرامات" المقررة بالقانون الصادر في 1949 أصبحت لا تتماشى مع واقع الحال.
ودعا وكيل المجلس إلى ضرورة أن نكون أمام نظم تواكب النظم العالمية، وأن نكون أمام نصوص تشريعية تتوافق مع كل ما هو مستحدث، ووضع التسهيلات أمام المستثمر التي تحقق له مزايا وضمانات في هذا الشأن، لا أن نكون أمام نصوص عقيمة، معتبرًا أن تعديل القانون بمثابة خطوة ومقدمة على الطريق لنكون أمام خطوات جادة وراسخة لتحديث كافة القوانين التي تتوافق وتساير كل ما هو مستحدث مع الجمهورية الجديدة.