خرجتُ إلى هذه الحياة من است ناقة. نعم ليس في هذا الأمر ما يُخجل، فكلّنا خرجنا إلى هذا العالم بطريقةٍ مقرفةٍ مقزّزة، وإن حاولنا تجاهل ذلك أو تناسيناه. قُذفنا إلى هذا العالم دون رغبةٍ منّا أو اختيار أو حتى مشورة، ثم وجدنا أنفسنا في مواجهة عالمٍ كبيرٍ شاسع بلا حول لنا ولا قوة. سقوطي إلى هذا العالم لم يكن صعبا كما تخيّلته.
رأيتُ صويحباتي متناثرات حولي مثل شامات أو كَلَفٍ في وجه فتاة عذراء. ضياء ساطع يغمر الأرض ويغمرنا. مرّت أيام تُشبه بعضها، ونحن خائفات مرتجفات ليلا مثل حشرات اجتمعْنَ على ضوء نار خافتة. وفي النهار يكوينا الحرّ، ويذيبنا الصهد. بعد بضعة أيامٍ مرّت حشرة جُعَل طارت حولنا، ثم حطّت على مقربة منا، حرَّكتنا قليلا، وتلمَّستنا بقوائمها واحدةً واحدة. قالت بعض صويحباتي: «ها قد جاء دور إحداكنَّ لترحل عن هذا المكان القاحل». سألتُ: «ومَنْ سعيدة الحظّ التي ستنفذ بروثها؟!»، رددن بخبث: «أكثرنا رطوبة ولزوجة»، وما هي إلا هنيهة حتى أتى جواب سؤالي حين أمسكني الجُعَل بمخالبه الأمامية. حرَّكني قليلا، ثم انتزعني من مكاني، وأخذ يدحرجني بقوائمه الخلفية كأنني كرة مطَّاطية. صرختُ في صويحباتي: «إلى أين يأخذني هذا الجُعَل؟» قالت كبيرتهن -وكان جسدها قد ابيضَّ-: «لا ندري...لعلَّك تكونين في مكانٍ ألطف من هذا». ثم أردفت قائلة: «لعلَّها رحلة طويلة شاقة، لكنها تظلّ مغامرة تستحقّ أن تجربيها بدل أن تقضي عمرك كلّه هنا تحت سياط هذه الرمضاء، وهذا الأوار الذي سيفجر جسدك لا محالة».
دارت بي الأرض كما تدور الرحى، رأيتُ كلَّ شيء مقلوبا رأسا على عقب. علتني حبيبات الرمل، واسَّاقطت مني كما يسّاقط دقيق القمح. صعدتُ ربىً رملية عالية، وهبطت وهادًا ضيقة، وظننتُ أن نهايتي قد حانت. لعنتُ الحظَّ العاثر الذي أودى بي بين فكَّي هذا الجُعَل النتن! وتمنّيت أن لم أكن أنا من وقع عليها اختياره، بل دار في خلدي أن الموت في مكاني وسط الصحراء، أشرف من هذه الرحلة المجنونة المُذلّة التي لا أعرف كيف ستكون نهايتها؟ وأين؟
فجأةً تعثّر الجُعَل بأغصان نبتةٍ صحراويةٍ جافة ومتيبّسة، فأفلتُّ من بين قوائمه التي كادت أن تخترق جسدي، وإذ أنا أمام منحدر لتلّةٍ رملية شاهقة. سقطت في هاوية شديدة الانحدار، وتدحرجت مثل علبةٍ معدنية صغيرة ألقاها طفل عابث. لم أكن قد استوعبت ما حدث حتى اصطدمت بكثيب رملٍ هلالي الشكل ارتفعت معه في الهواء مثل ريشة، ثم هويت مثل حجر. وجدت نفسي وسط سيقان زاحفة بأوراق خضراء تشبه ريش طير أخضر اللون، تحيط بها كرات ضخمة خضراء وأخرى صفراء مثل كواكب كونية.
ها هي الأقدار توصلني إلى مكان آخر لم يكن ضمن خطّتها السابقة. تساءلت مع نفسي: «هل يُغيّر القدر خططه أحيانا؟ أم أنَّ كل ذلك حدث صدفة؟ أم أن هنالك حسابات أخرى لا ندرك كنهها». عرفتُ لاحقا من صديقاتي الجدد أنني كنت على وشك الفناء. صحيح أنني كنت سأحظى بمكان رطب، وتربة غنيّة، ولعلّي أكون في حفرة مظلمة وباردة بعيدا عن سهام الشمس الصاعقة، إلا أن مصيري كان محكوما بالعدم حيث سأكون لقمةً سائغةً ليرقات الجُعَل التي ستنهش جسدي، وتُحوّله إلى فتات لأحلَّ في بطونها الصغيرة؛ ولتصبح هي حشرات مكتملة النمو على حساب حياتي الروثية المجيدة!
حين أبصرتُ ذلك المكان الذي سقطتُ فيه لأوّل مرّة رأيتُ فلاةً شاسعة، لم تكن تشبه تماما المكان الذي انحدرتُ منه. كانت أرضا حصباء تمتلئ بالتراب والحصيات الصغيرة، لكنها أيضا أرضٌ عامرة بنباتات صحراوية شتّى، تُبصر فيها أشجار الأشخر بأزهارها البنفسجية المخمَّسة، وأشجار المرخ بأزهارها الصفراء النجمية. وهناك على الضفة الأخرى أشجار سمرٍ عتيقة، بعضها كبير مثل طواحين عملاقة، وبعضها مازال صغيرا في طور النمو. قالت لي إحدى تلك الكرات الخضراء اللاتي بجواري: «هذا هو الوادي العظيم». لم أفهم ما تقصده بالضبط، فأنا جديدة على ذلك المكان، لكنني سأعرف الكثير مما حولي لاحقا حين أتعرّف على إحدى تلك الكرات. آه... يا إلهي لقد نسيت، لقد كنَّ يغضبْنَ حين كنت أدعوهنَّ بالكرات. هُنَّ في الحقيقة ثمار نبتة الحنظل، قُلنَ لي: إنهن شديدات المرارة؛ ولذلك استطعن مجابهة مرارة الحياة مثل ما يفعله بُنُّ القهوة بالضبط. هذا الأمر جنَّبهنَّ اعتداءات البشر بالقطف -كما يفعلون مع ثمار النباتات الأخرى- إلا من حالات قليلة في صنع بعض الأدوية.
إحدى ثمرات نبتة الحنظل بدت الأقرب إليَّ منهنَّ جميعا، في منتصف عمرها تقريبا، لا هي خضراء كالبطيخة، ولا صفراء كالليمونة، بين هذا وذاك. شعرتُ بالدفء قربها خاصة في الليالي الظلماء الموحشة، حيث لا صوتَ يسري إلا صرير حشرات الليل، أو ثغاء أغنام، أو نباح كلابٍ بعيدة.
كان الوادي العظيم بعيدا عن قرى البشر وأضوائهم الصناعية المزعجة، ولذا ظلّت السماء المنسوجة بالسواد ليلا ترسل لنا تحياتها المغمورة بضوء النجوم. في تلك الليالي الصافية إلا من ارتعاشات النسمات الباردة يحلو لي أن أتحدَّث إلى صديقتي الحنظلة حول كل ما يدور في خلدي. أخبرتها عن حياتي السابقة في الصحراء، ورحلتي التي ألقت بي عندها، وأخبرتني هي بدورها عن مصيري المشؤوم فيما لو حملني الجُعَل إلى حفرته. سألتُ صديقتي عن هذا الكون المترامي الأطراف: كيف جئنا إليه؟ ولماذا نعيش فيه؟ وأي مصير ينتظرنا؟ نظرت إليَّ بشفقة ورحمة، وحاولت أن تقدَّم لي أجوبة من خبراتها التي اكتسبتها طوال سنين وهي في هذا المكان، أحيانا تعطي تلميحات غامضة لا أكاد أستوعبها أو أفهم مراميها، وأحيانا أخرى تعجز عن الإجابة فتلوذ بالصمت مثل رجلٍ متشكك حَارَ في قضية غيبية، ولم يَجِد لها جوابا مقنعا.
في يوم من الأيام أخبرتني عن سيل عظيم يمرُّ في ذلك الوادي، حدَّثتني عن اتساع مجراه، وعِظَم سيره، وعن علوّ هديره وصخبه كأنما هو قطيع من الجواميس البرية تعبر نهرا بخوارها وركضها وقوة اندفاعها. قالت: «إنه أقوى من الريح، وأشدّ من انهمار المطر في ليلةٍ عاصفة، وأعتى من جيشٍ جرّار. لا شيء يقف في طريقه إلا اقتلعه، يستطيع سحق الأشجار ذات الجذور العريقة، كما يستطيع هدم البيوت التي يصل إليها فيغرقها، ولا يُبقي عليها. إنه مثل آلةٍ جبَّارة لا أحد يستطيع أن يجابهه إلا هزمه وقضى عليه». سألتها: «وإلى أين يتَّجه؟» فلم تحر جوابا، لكنها استدركت قائلة: «لعلّه يتجه إلى النور الأزرق العظيم، أو إلى الأبدية كما أخبرني بذلك جذع نخلة كان يتدرج فوق مياهه المندفعة، وهو يعبر بالقرب منّا»، سألتها مجدّدا: «ولكن ماذا يقصد الجذع بقوله هذا؟» فلاذت بالصمت كأنَّ ما يعتمل في نفسها لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عنه أو تختزل معناه، لكنها ردّت قائلة: «إن أخواتي لشدَّ ما يتمنينَ ركوبه، لقد شعرنَ بقشعريرةٍ سرت في أجسادهنَّ الكروية حين سمعنَ جواب الجذع، رجونَ أن يقترب السيل من الضفة التي يرتمينَ بالقرب منها، ويأخذهنَّ معه. مرّ السيل في ذلك العام ثلاث مرات لكنه كان بعيدا عنَّا في كل مرة. لم يطل الوقت حتى جاء في المرّة الرابعة صاخبا وهادرا وعاتيا، واقتلع ثلاث أخوات لي من سيقانهنَّ وارتحلنَ معه بعد أن ودّعناهنَّ نحن البعيدات عنهنَّ ببضعة أمتار قليلة فقط».
أكملت صديقتي حديثها: «إني أرجو أن يأتي مرّة أخرى كما جاء آخر مرّة. لقد سئمت البقاء هنا كل هذه المدّة. قد كنت من قبل خضراء يافعة، والآن اصفرّ جسمي وتهاوى جسدي، وأخشى أن أنفصل عن ساقي، وينقطع آخر أسبابي بالحياة قبل أن أرى النور الأزرق العظيم الذي حدَّثنا عنه الجذع». ثم تابعت حديثها بنبرة تنمّ عن تأمل وحكمة: «آه يا صديقتي...إن الغربة والارتحال مع خطورة المسار أكرم من البقاء هنا بصحبة الأمن والانتظار. وإنَّ حياة بليدة عاطلة تنتهي بالجفاف واليباس، لهي حياة بائسة. أما الخير والبقاء ففي العبور والرحيل. لعلَّ الأقدار تسوق لك حياة أخرى، كما فعلت من قبل؛ لذلك يا صديقتي إذا ما واتتك الفرصة للاقتراب من الوادي فافعلي، أو انتظري الريح تدحرجك حتى تكوني في أقرب نقطة من عبور السيل؛ ليأخذك بين أحضان مياهه الباردة».
قلت لها: «لكن هل أنت متأكّدة مما ينتظرني هناك؟» ردّت قائلة: «لا أحد عبر الوادي العظيم، ورجع ليخبرنا ما شاهد؟ وماذا وجد؟ كلّ الذين ذهبوا لم يعودوا. لست متأكّدة من شيء في نهاية ذلك المسير الطويل، لكن يخامرني شعور أنَّ ما يوجد هناك شيء أكبر وأعظم من كل ما مرَّ بي في حياتي. وأعتقد أن ما يوجد في البعيد لا يخطر على بالنا لكنه شيء تشعر به أرواحنا الشفيفة، وتحسُّ به أجسامنا الضعيفة، إنه عظيمٌ كالسماء، وبعيدٌ كالنجوم، وساطعٌ مضيءٌ كالقمر، وهادرٌ كالسيل، وملتهبٌ كالصحراء وإن لم أدرك هيئته، ولم أصل إلى حقيقته».
في تلك الليلة تلبّدت السماء بالغيوم، ومزَّقت البروق أردية السحب، وأرعدت السماء وأزبدت، وهطل مطرٌ غزيرٌ كما لم يهطل من قبل. لم تتوقف السماء عن الارتعاش والانتفاض والانسكاب حتى ظننا أن الطوفان الأسطوري قد عاد مرة أخرى. وفي الصباح الباكر رأيته لأول مرّة في حياتي، مثل جيش عرمرم يحتشد بالخيول والفرسان. بدا مهولا ومهيبا مثلما رأيته وهو يملأ الوادي بمياهه المدرية اللون كأنَّما اندلق مرجل عظيم من شاي حليبي من أعالي الفردوس. أقبل صاخبا عنيفا فاقتلع الأحراش البرية، وهدَّد أشجار الغاف العملاقة، وسحب جذوع نخل وأشجار سمرٍ كانت تقع قريبة منه أو في مجراه، لم أرَ في حياتي قطّ مثل هذا المشهد. اقترب قليلا من ضفتنا البعيدة عن مجرى الوادي الرئيس. كانت الأمطار والرياح العاصفة قد زحزحتني من مكاني، وقرَّبتني من مجرى عبور السيل، وأثناء اقترابه المتسارع، عرفتُ لا محالة أنه سيأخذني معه في رحلته هذه. نظرتُ إلى صديقتي، بدت بعيدة شيئا ما عن ضفة الوادي. ظلّت تبتسم لي ومسحة من حزن شفيف يلوح عليها. وددتُ لو رافقتني في رحلة العبور هذه، لكنها كانت بعيدة إلى حدٍ ما عني، ولا قدرة لديَّ لسحبها معي. رجوت أن يزداد منسوب السيل ليقترب من الضفة، ويأخذها أيضا كما كانت تتمنّى. تلك كانت لحظة الوداع الأخيرة، سحبني بعدها الزبد الأبيض الشبيه بِعَرَقِ أحصنة عائدة من السباق بين رغوته الفقاعية، ثم تقاذفني الماء ورحت أتقلَّب فيه. ازدادت كمية المياه البنية اللون، وطفقت تدفعني أمامها مثل ورقة جافة مُلقاة في مجرى شلالٍ جبلي.
***
السماء صافية الآن، انقشعتْ السحب المتراكمة، وتوقّف المطر عن الهطول، وأشرقت شمس النهار، وها أنا الآن وسط هذا الحشد الهائل من المياه البنية. أرى من حولي كلّ شيء يتبعثر ويتدحرج. أرى في البعيد ثمار الحنظل يتشقلبن مع المياه. لست أدري إن كانت صديقتي بينهن أم لا. هناك روث لأغنام يتصل نسبي به -لولا أنني من روث الإبل- يسبح هو الآخر عابرا إلى مصيره. وهناك أيضا شجيرات ثَرْمَد وعِشْرِق تتقلب في مجرى الوادي. تبدو لي أشجار الأشخر منكسة على رؤوسها فيما جذورها ترتفع إلى الأعلى مثل مكانس سعفية بالية. أرى في محيط السيل بقايا جلود حيوانات ميتة، وعلب بلاستيكية، وأكياس متمزقة، وحبال نايلون متحللة، وجواني خيش متقطعة. جرف السيل في طريقه بقايا طعام ومخلفات وأوراق لنباتات متعددة بعضها رطب والآخر يابس. جميعها جرفها هذا السيل الكبير، وأنا وسط هذا المجموع كله. لا أدري أين سيأخذني هذا السيل الجارف؟ وإلى أين سينتهي به المطاف؟ هل تتحقق نبوءة صديقتي الحنظلة، وألاقي النور الأزرق العظيم؟ أم أن ذلك رجما بالغيب ومجرَّد ترهات؟ هل كان قرارا صائبا أن أقترب من السيل ليأخذني معه؟ أليس من الأمن وطمأنينة النفس أن لو كنت برفقة صديقاتي من ثمار الحنظل أتأمل الحياة والوجود قبالة مجرى الوادي العظيم حتى يحين أجلي؟ متى تنتهي هذه الرحلة الطويلة؛ لأستريح أخيرا من كلّ هذا العناء؟
***
عبرَتْ البعرة في مجرى الوادي العظيم، وأمواج من المياه الطينية تتقاذفها يمنة ويسرة. شاهدَتْ في تلك الرحلة ما لم تشاهده قطّ في حياتها السابقة، عَبَرَ بها السيل الكبير بالقرب من تلالٍ رمليةٍ هائلة سحل منها أطرافها التي على السفح، كما عَبَرَ بها صوب جبالٍ بيضاء شاهقة تراها لأول مرّة، ونزل بها في وديان سحيقة مسمّرة بالأحجار الضخمة والحصى الكبير. رأتْ في رحلتها -وهي في موكب السيل الكبير- الغزلان الجميلة وهي تقترب من الضفة لتشرب من ماء الغدير، وفتيات صغيرات يدسن الطين بأقدامهنَّ العارية رفقة ذويهنَّ، ثم عبر بها أنفاقا وجسورا من صنع البشر، سار السيل متجها صوب الشرق، ولامس أشجار المرخ الصحراوية، واقتلع بعضها. دحرج إطارات سيارات منسية، وعلبا ملقاة بالية، وفضلات حيوانات مرمية. ظلَّت البعرة سعيدة وخائفة. كانت المناظر الطبيعية تُشعرها بالجمال الكوني اللامحدود. شعرت بالغبطة؛ لأنها جرَّبت شيئا جديدا مختلفا لم تجرّبه سابقا، بَيْدَ أنها كانت قلقةً أيضا مما ينتظرها. خشيَتْ أن يُلقي بها السيل في مكان ناءٍ لتموت وحدها حَتْفَ أنفها، وسرى في أوصالها شعور بالوحدة. خافت أن تكون خاتمة حياتها قد اقتربت، وارتعبت من فكرة أن لا شيء ينتظرها هناك في نهاية الرحلة. ظلَّت مشاعرها غامضة وغريبة ومختلطة؛ فلا تدري إن كان قرارها صائبا بركوب المخاطر وعبور الماء أم لا. عاودها الشعور السابق بالحيرة تجاه المصائر التي يخطّها القدر، فأَلفَت نفسها ضعيفة عاجزة.
تبع السيلُ أثره القديم، سار في مجراه السبخي المتعرج طوال ساعات إلى ما بعد منتصف الليل، وهنا أدركت الغربةُ والوحشة البعرةَ العائمةَ فوقه. بدأ يتهاوى جسدها الغضّ بعدما تشبَّع بمياه السيل. شعرت بتفكّك نواة روثها من الداخل. تقلَّبت وتضعضعت كثيرا، ولم يعد بإمكانها المقاومة. أحسَّت أن النهاية باتت وشيكة، وشارفت على الوداع لولا أن الفجر المحمَّل بالنور أعلن عن دخوله وكبحه لسلطة الظلام الطاغية. تمزَّقت ستائر الظلمة بأضواء بعيدة ساطعة، وكشفَتْ للبعرة عن منظر خلّاب أسر عقلها وقلبها. تناهى إلى سمعها الضعيف صوت اعتلاج عظيم، ثم اخترق سمعها مجددا صوت تلاطم وتماوج أحسّت معه بالانعتاق والرهبة. نظرت أمامها فرأت منظرا بديعا مهيبا غزت فيه أشعه الشمس صفحتي السماء والأرض الزرقاوين. لم يكن ذلك المنظر يشبه شيئا مما تخيّلته، لكنَّها لم تشكّ أبدا أنها وصلت أخيرا إلى النور الأزرق الذي حدّثتها عنه صديقتها الحنظلة. ارتعشت ثم تماسكت، وظنّت أنها ستعيش أخيرا في حِمَى هذا الكائن الأزرق الذي لا يتوقف هديره ولا ضرباته المتصاعدة على الشاطئ. تأمَّلتْ أن تتَّحد مع الأبدية الموعودة، وفكَّرت أنها لا شكّ ستعيش حياة جديدة خالدة.
كانت طيور النورس تُحلّق في أعالي السماء، فظنّتْ البعرة أنها وصلت إلى الحياة السرمدية أخيرا. اقترب السيل أخيرا من الشاطئ، كانت لحظةً مفصليةً فارقة. ماء يصطدم بماء، وهدير يخرسه هدير أعظم منه. سيل بني اللون يعانق بحرا أزرق، ويلتحمان معا ويتداخل جسداهما المائيان. وصلتْ البعرة أخيرا محاولة أن يلامس جسدها الضعيف البحر الهائل القوي ويتَّصل به، غير أنَّ موجةً عنيفة قوية ضربتها وهي محمولة على كتف السيل فتضعضع جسدها. تراجعت إلى الوراء قليلا، ثم لامست أخيرا البحر الأزرق العظيم، واتَّحدت معه واتَّصلت بروحه لولا أن موجةً أخرى أقوى وأعنف من سابقتها ضربتها بقوة؛ فَتَشَظَّت إلى قطعٍ وتناثرت أجزاؤها. رآها طائر نورس كان يتربَّص بها فَالتَهَمَ قِطعا منها، واحتشدت سمكات صغيرات وأحطنَ بها، والتقمنَ الأجزاء المتبقية الأخرى.
القصة الفائزة بمسابقة النص الإبداعي بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس للعام الأكاديمي 2023/2024
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مجرى الوادی ت قائلة الج ع ل لم یکن
إقرأ أيضاً:
«الأبيض» يتعثر أمام «الأزرق» وينتظر «جولة الحسم»
الكويت (الاتحاد)
أخبار ذات صلة مباشر.. لحظة بلحظة تابع مباراة منتخب الإمارات مع الكويت في كأس الخليج «العُماني» يهزم «القطري» بهدفي «الصبحي» خليجي 26 تابع التغطية كاملةخسر منتخبنا الوطني 1-2 أمام المنتخب الكويتي في المباراة التي جمعتهما ضمن الجولة الثانية من «خليجي 26» المقامة حالياً بالكويت.
ارتكب المدافع خليفة الحمادي خطأين أسفرا عن هدفي «الأزرق» صاحب الأرض والجمهور بعدما تقدم «الأبيض» بهدف، كما تلقى كوامي بطاقة حمراء قبل نهاية الشوط الثاني، ما صعب من مهمة المنتخب.
سجل أهداف المباراة كايو كانيدو لمنتخبنا في الدقيقة 5، وللكويت محمد دحام بالدقيقة 16 ومعاذ الأصيمع بالدقيقة 89، وبهذه النتيجة حل منتخبنا في المركز الثالث للمجموعة الأولى بنقطة وحيدة، بينما تقاسم الأزرق الصدارة مع المنتخب العُماني برصيد 4 نقاط لكل منهما، وينتظر منتخبنا الجولة الثالثة والأخيرة لتحديد موقفه في البطولة.
بدأ منتخبنا المباراة بهجوم ضاغط على مرمى الكويت، حيث لم تستمر فترة جس النبض طويلاً، وانطلق حارب عبدالله من الجبهة اليمنى وراوغ دفاعات أصحاب الأرض ليتوغل إلى داخل منطقة الـ18، ومن هجمة جيدة، حول الكرة عرضية باتجاه المرمى لينبري ليها كايو كانيدو ويودعها بالرأس معلناً تقدم المنتخب الوطني في الدقيقة الخامسة من زمن المباراة.
واصل «الأبيض» الضغط على مرمى المنتخب الكويتي، الذي عاد لاعبوه للدفاع والاعتماد على المرتدات، وكاد حارب عبد الله أن يصنع الهدف الثاني من كرة عرضية أرسلها إلى كايو كانيدو، الذي حاول أن يراوغ داخل المنطقة، ولكن تدخل الدفاع «الأزرق» لإنقاذ الموقف.
استمر الأداء من طرف واحد عبر سيطرة منتخبنا على مجريات اللعب، مقابل تقهقر أصحاب الأرض للبحث عن فرصة بهجمة مرتدة حتى الدقيقة 16، والتي ارتكب فيها خليفة الحمادي خطأ فردياً بتحويل الكرة إلى الخلف لينقض عليها محمد دحام مهاجم الأزرق الكويتي، الذي انطلق إلى داخل المنطقة، وانفرد بمرمى خالد عيسى، وأودع الكرة في شباك منتخبنا يسجل هدف التعادل.
عاد «الأزرق» مجدداً للدفاع من وسط ملعبه، مقابل تقدم منتخبنا للأمام بحثاً عن هدف ثانٍ، وحاول حارب عبدالله التوغل في أكثر من كرة بالجبهة اليمنى، ويحيى الغساني عبر الجبهة اليسرى، بالإضافة لتناقل الكرة من العمق عن طريق ماكنزي هانت، الذي تقدم للأمام لتشكيل الضغط اللازم على أصحاب الأرض، ولكن عابه البطء في تحويل الهجمات، فيما كاد أن يسجل حارب عبدالله عبر تسديدة مباغتة أطلقها من أمام المنطقة، مرت بجوار القائم في أخطر فرص الشوط الأول لمنتخبنا.
وحاول فابيو ليما أن يسدد أيضاً من أمام منطقة الـ18، ولكن الكرة ارتدت من أقدام الدفاع، ثم حول تمريرة سحرية ليحيى الغساني في أواخر الشوط الأول، لينفرد ويسدد بقوة، لكن الكرة ارتطمت بالقائم، لترتد إلى داخل الملعب، لينتهي الشوط بالتعادل الإيجابي.
في الشوط الثاني، حاول المنتخب الكويتي التقدم للأمام ومبادلة منتخبنا الهجوم، ولكن دفاع «الأبيض» تصدى لأكثر من محاولة هجومية لم تسفر عن خطورة حقيقية على مرمى خالد عيسى.
ومع مرور الوقت، أجرى باولو بينتو مدرب منتخبنا تبديلاً ودفع ببرونو أوليفيرا في الهجوم على حساب زايد سلطان المدافع الأيمن، وذلك لزيادة الضغط الهجومي للأبيض في ظل لجوء الأزرق للدفاع واللعب على المرتدات مقابل عدم استغلال مهاجمي منتخبنا للفرص والتحولات الهجومية من الوسط، كما دفع بيحيى نادر بدلاً من عبد الله حمد، ولاحقاً دفع بطحنون الزعابي بديلاً لفابيو ليما المرهق، ولكن لم تسفر التبديلات عن تشكيل الخطورة اللازمة على مرمى المنتخب الكويتي.
وتلقى كوامي بطاقة حمراء للإنذار الثاني بعد كرة مشتركة مع مهاجم المنتخب الكويتي، ليكمل «الأبيض» الدقائق الأخيرة بـ10 لاعبين، ليدفع بينتو بمحمد العطاس لتأمين الدفاع مجدداً على حساب كايو.
وفي الدقيقة 89، ارتكب خليفة الحمادي خطأً فردياً مجدداً بإعادة الكرة لمرمى خالد عيسى لينقض عليها معاذ الأصيمع ويودعها الشباك معلناً تقدم «الأزرق»، وارتبك أداء المنتخب وكاد المنتخب الكويتي أن يعزز بهدف ثالث، ولكن انتهى اللقاء عند ثنائية أصحاب الأرض على حساب منتخبنا.