لجريدة عمان:
2025-04-10@11:03:51 GMT

بومة غسّان

تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT

بومة غسّان

استيقظتُ في منتصف ليلة حالكة. كنتُ أتهاوى مترنّحا وعطشانا في الممر المُعتم تملأ رأسي الأصوات الصارخة من المذبحة القديمة الجديدة، وفجأة رأيتها أمامي. وقف شعر رأسي وأنا أرى بومة غسّان واقفة أمامي تحدق فيّ بعينيها الواسعتين الغاضبتين. منذ ستين عاما وهي تحدّق بكل هذا الغضب الواسع.

شيء ما أصابني في تلك اللحظة ببومة غسان كنفاني!

كما قال غسان: «شعرت فجأة بأنني أعرف هذا الوجه تماما، وبأنني ارتبط معه بذكرى يجب ألا تُمحى».

ذاكرتي اشتعلت فجأة بملامح البومة ولم يكن شيء أمامي سواها. كل الأحداث الأليمة في الأيام الماضية كانت تقودني إليها بدون أن أنتبه. رأيتها كما رآها غسان في القصة. كانت لا تعني شيئا بذاتها، إنها تختصر شيئا ما، تختصر الرّمز إلى حدّ فيضان المعنى.

القصة القصيرة التي عنوانها «البومة في غرفة بعيدة» كان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني قد نشرها في مجموعته القصصية «موت سرير رقم 12» في ستينيات القرن الماضي.

كانت قصة غسان القصيرة أكبر من ذاتها، ومن ضمن أشياء كثيرة تقولها كانت تصفُ تلاحم المقاومين مع العدو في مناطق القتال بالبنادق والفؤوس. القصة تصف المشاهد الحية كما لو أننا نشاهدها الآن في شاشاتنا اللامعة ونغضب كثيرا ثم نصمت خجلا.

إن الأمر كما قال غسان في القصة: «كنا نشهد، دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت تتساقط فلسطين شِبرا شِبرا؟ وكيف كنّا نتراجع شبرا شبرا؟».

المركز السّردي والنفسي للقصة هو الطفل الذي حمل الصّندوق المليء بالقنابل الذي تركه «المرحوم»، والمرحوم هنا هو مناضل فلسطيني تترك لنا القصة تخيّل من هو؟ وكيف يبدو؟ ولكنه ترك صندوق المقاومة هذا ليوم قادم وكُلِّف بطلنا الصبيّ في القصة بأن يخبّئه تحت شجرة تين عملاقة في الغابة لمعركة قادمة!

طوال الأشهر الماضية ونحن نرى الفلسطيني شهيدا بالبندقية وشهيدا تحت الركام. ما زالت تدوي في رأسي عبارة قالتها أم فلسطينية تختصر أهوال غزة. قالت في لحظة بكاء وهي تشمّ شيئا ما وسط الخراب الذي حولها بينما تنظر إلى الكاميرا- إلينا، قالت وهي تبكي: «هذه رائحة الشهداء». لقد أصابني الموضوع بصدمة شديدة حين رأيت أن الفلسطيني ليس له شقيق. لقد تركناهم بلا بنادق ولا طائرات. كدت أكفر بالإنسانية حتى شاهدت بومة غسان في تلك اللحظة!

كانت لنكهة الحرب الحالية على غزة نكهة اكتشافي الأول لغسان كنفاني. كان كاتبا فلسطينيا ليس بأسماء الأماكن أو الشخصيات في قصصه ولكن بروحها الخارجة من المذبحة وتفاصيلها كما لو أنها تحدث الآن. صرخة الألم وصرخة الغضب تختلطان. ترى من خلاله الفلسطيني فلسطينيا وهو يمشي في الشارع وهو يشرب الشاي وهو يبيع الكعك في الرصيف وهو يكتب مقالا. تغرق في شخوص وأحداث قصص غسّان كما لو أنك فلسطيني أيضا. كان يستطيع أن يقول شيئا كثيرا بلا كلمات كثيرة، تماما مثل «رائحة الشّهداء».

إن العدو لا يريدنا أن نرى شيئا سوى الألم الذي يصنعه فينا أمّا نحن، فريثما نُعدّ البندقية، نبدأ في استخدام عيني البومة الغاضبتين الصّابرتين، الرّمز!

لا أنكر أنني في البداية كنت غاضبا وأنا أرى الرّمز يُتداول بكثافة عبر اللغة وعبر الصورة رغم القتل والتدمير، وكأنه لا شيء لنا سوى القتال بالرّمز. ثم ذكّرتني بومة غسّان بالصندوق الذي خبّأه الطفل في القصة. خبّأ صندوق القنابل تحت شجرة التين العملاقة ثم التفت ورأى البومة.

استثمر غسّان البومة كرمز لذاكرة تقاوم ولا تستسلم وحَبَك ذلك مع مشهد القنابل التي خُبّأت ليوم سيأتي. القنبلة والرمز اشتركا في المقاومة: «كان يومض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوف غريب، وكانت تحدّقُ إليّ عبر الظُّلمة، تحديقا متواصلا لا يرتعش».

أرى الآن البومة بعينين جديدتين. بعد كل هذه العقود من الزّمن صارت عينا بومة غسّان أكثر بلاغة.

«بدت لي أنها مصرّةٌ على وقوفها المتحدي وأنها سوف تبقى رغم كل الرصاص والموت».

المعادل الرّمزي الأقرب لطائر البوم هو العزلة والاكتفاء بالذات. تبدأ قصة غسان من عزلة الكاتب في غرفته وتمرّ بعزلته أمام البومة في الغابة، وتعود إلى عزلته في غرفته بعد استعادة الذاكرة الشخصية: ذاكرة البومة.

البومة هي التقاء الشخصي بالعام، هي التقاء الخصوصية الفلسطينية بالعمومية الإنسانية.

أعتقد أن المُقاومة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، ولكنها تتحوّل من شكل إلى آخر. إن قدرة الرمز على التكاثر والتوالد مع الزمن هي إحدى القدرات العجيبة للأدب على الوقوف أمام الآلة العسكرية. ونكاد نلمس هذا الأثر في الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية التي انطلقت مؤخرا من داعمين للقضية الفلسطينية بروحٍ ملؤها الإنسانية والتضامن مع الحق. إن استعادة فلسطين لقيمتها الإنسانية في السّياق العالمي هي نتيجة لكل الجهود البشرية ومن ضمنها الجهود الأدبية. استمرارية الرّمز عبر الزمن وخصوصا إن كان مُكثّفا هي معادل لصمود واستمرارية القضايا العادلة.

ما زال القتال على الأرض جاريا إلى هذا اليوم وقد نكون خسرنا مساحاتٍ كثيرة، ولكننا صامدون في معركة الذاكرة. القتال على الذّاكرة لم يُحسم بعد ونحن مستمّرون في القتال معك يا غسّان.

أرى عينيكما في كل مكان الآن، عينا البومة الغاضبتين، وعيناك الجريئتان المقاومتان إلى الأبد يا غسّان.

عبدالله خليفة عبدالله قاص عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی القصة

إقرأ أيضاً:

حادثة وفاة مهندس في السجن تهز العراق فما القصة؟

تصدر اسم المهندس العراقي بشير خالد لطيف منصات التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة، بعد انتشار مقطع فيديو يُظهر تعرضه للاعتداء داخل مركز شرطة حطين ببغداد، ومن ثم تحويله إلى السجن المركزي التابع لوزارة الداخلية.

الحادثة أثارت ضجة كبيرة بين العراقيين، الذين طالبوا بالكشف عن ملابساتها، خصوصاً بعد وفاة المهندس نتيجة تعذيب قاسٍ.

تفاصيل الحادثة بحسب بيان وزارة الداخلية العراقية، يوم 30 مارس/آذار الماضي، تلقت شرطة النجدة بلاغاً عن وجود مشاجرة في مجمع الأيادي السكني بمنطقة العامرية في بغداد.

وأشار البيان إلى أن المهندس بشير خالد تسلل عبر السياج إلى شقة مدير الرواتب والأمور المالية التابع لقيادة الشرطة الاتحادية، حيث وقعت المشاجرة.

بعدها تم توقيفه ونقله إلى السجن، حيث تعرض للاعتداء أثناء مشاجرة مع بعض الموقوفين، مما أدى إلى تدهور حالته الصحية ودخوله المستشفى.

وأصدرت وزارة الداخلية فيديو قالت إنه يُظهر لأول مرة تفاصيل المشاجرة، مؤكدة أن بشير تعرض للضرب المبرح داخل المعتقل.

إلا أن الفيديو أثار شكوكاً واسعة بين العراقيين، حيث طالبوا بتوضيح هوية الأشخاص الذين ظهروا في المقطع وهم يعذبون المهندس بشير خالد.

تسريب من داخل السجن قبل تعذيب المهندس
المغدور #بشير_خالد ..كان يغلق الباب بقدمهِ
ويقول (اخي انت مو شرطي) ..تُرى من هذا
المو شرطي وداخل يريد يعذبه ؟!!!!

مسلخ مو مركز شرطة وتابع للدلة ! pic.twitter.com/AwX2rFmXG6

— سيف الدين المهنا (@Saif_almuhana) April 6, 2025

إعلان

ردود الفعل من جانبها، أصدرت نقابة المهندسين العراقية بياناً عبر منصة "إكس" أدانت فيه الحادثة بشدة، ووصفتها بأنها "اعتداء صارخ على كرامة الإنسان العراقي وانتهاك فاضح للقيم الإنسانية". وطالبت النقابة بتحقيق شامل ومحاسبة المسؤولين.

بيان صادر عن نقابة المهندسين العراقية حول وفاة المهندس بشير خالد

إن حادثة وفاة المهندس بشير خالد نتيجة التعذيب ليست مجرد حادثة عابرة، بل هي اعتداء صارخ على كرامة الإنسان العراقي وانتهاك فاضح للقيم الإنسانية التي تتأسس عليها المجتمعات المتحضرة، ويجب ان تُحدث زلزال تصحيحي لكل… pic.twitter.com/cccjai4IQg

— نقابة المهندسين العراقية (@ieu1959) April 7, 2025

كما نشر مجلس النواب العراقي صوراً لزيارة لجنة حقوق الإنسان للمهندس بشير خالد في مستشفى الكرخ قبل وفاته، حيث أظهرت الصور آثار التعذيب على جسده، بما في ذلك الكدمات على قدميه وبطنه.

الأمر الأكثر إثارة للغضب كان الفيديو المُسرب من داخل المعتقل، حيث ظهر بشير وهو مكبل اليدين ويقول "أخي، أنت مو شرطي"، مما دفع الكثيرين للتساؤل حول هوية المعتدين، وعن السبب الذي جعل مدنيين يشاركون في الاعتداء عليه داخل منشآت أمنية.

أعلنت حسابات عراقية وفاة المهندس بشير خالد في الساعة الخامسة والنصف صباح يوم الاثنين نتيجة التعذيب الذي تعرض له، والذي تسبب في فشل كلوي. بحسب ذويه، رغم محاولات الإسعاف المكثفة، إلا أن وضعه الصحي تدهور بسرعة حتى وفاته.

وانطلقت موجة غضب شعبية على منصات التواصل الاجتماعي، حيث وصف مدونون الحادثة بأنها جريمة بشعة تُمثل واقع السجون المرعب في العراق.

مناشدة اهل الضحية إلى معالي وزير الداخلية
مشاجرة بين المهندس بشير خالد واللواء عباس علي التميمي مدير رواتب الشرطه الاتحاديه. تم مسكه مع المفرزه النجده وتم ضربه وتعذيبه ونقله الى مركز شرطه حطين في بغداد ، ثم نقل بعدها الى مستشفى اليرموك بسس النزيف الحاد في منطقه الرأس اثر تعرضه… pic.twitter.com/wnk68dGk0y

— د. قصي شفيق (@qusay19658073) March 31, 2025

إعلان

كما طالبوا بالكشف عن جميع المتورطين، سواء كانوا من الشرطة أو المدنيين، ومحاسبتهم علناً.

وبعد الضجة التي أثيرت حول وفاة المهندس بشير خالد، أصدر رئيس الوزراء محمد السوداني توجيهاً بتشكيل لجنة تحقيقية عليا للكشف عن ملابسات الحادثة وإعلان نتائج التحقيق أمام الرأي العام.

كما بدأت لجنة الأمر النيابي الخاصة بتقصي الحقائق في البرلمان أعمالها رسمياً، في محاولة لتقديم إجابات حول الظروف والتفاصيل التي أدت إلى وفاة المهندس.

رئيس الوزراء يوجه بتشكيل لجنة تحقيقية عليا بشأن وفاة بشير خالد لطيف وإعلان نتائجها أمام الرأي العام pic.twitter.com/NGzPmjFRop

— واع (@INA__NEWS) April 7, 2025

شدد العراقيون على ضرورة محاسبة جميع المسؤولين عن هذه الجريمة، مطالبين بوقف انتهاكات حقوق الإنسان في السجون العراقية، وحماية المواطنين بدلًا من تعريضهم لهذه الانتهاكات الشنيعة.

وقالوا: "إن لم يتم تحقيق العدالة في قضية المهندس بشير خالد، فإن هذه الجريمة ستبقى وصمة عار في تاريخ المؤسسات الأمنية العراقية، وستكون البداية لقضايا مشابهة تهدد حياة الأبرياء".

مقالات مشابهة

  • المخاطرُ الأليفة في كتابة القصة القصيرة
  • وزير الدفاع الأمريكي: إيران هي التي تقرر إن كانت القاذفات B-2 رسالة موجهة لها
  • نجوى كرم: أمي كانت حريصة على إسعاد والدي وأنا مثلها.. فيديو
  • غضب في دمشق 1925.. بلفور محاصر في فندق فيكتوريا ما القصة؟
  • حيل لن تكلفك شيئا.. اجعل هاتف آيفون القديم أسرع كالحديث
  • فيديو خبر وفاة يُثير فزع أسرة شريف مدكور.. ما القصة؟
  • تعميم صورة مطلوب... هل تعرفون عنه شيئاً؟
  • حادثة وفاة مهندس في السجن تهز العراق فما القصة؟
  • ديسمبر كلها كانت “جنجويدية”
  • لماذا كانت زيارة نتنياهو إلى واشنطن "مخيبة للآمال"؟