استيقظتُ في منتصف ليلة حالكة. كنتُ أتهاوى مترنّحا وعطشانا في الممر المُعتم تملأ رأسي الأصوات الصارخة من المذبحة القديمة الجديدة، وفجأة رأيتها أمامي. وقف شعر رأسي وأنا أرى بومة غسّان واقفة أمامي تحدق فيّ بعينيها الواسعتين الغاضبتين. منذ ستين عاما وهي تحدّق بكل هذا الغضب الواسع.
شيء ما أصابني في تلك اللحظة ببومة غسان كنفاني!
كما قال غسان: «شعرت فجأة بأنني أعرف هذا الوجه تماما، وبأنني ارتبط معه بذكرى يجب ألا تُمحى».
ذاكرتي اشتعلت فجأة بملامح البومة ولم يكن شيء أمامي سواها. كل الأحداث الأليمة في الأيام الماضية كانت تقودني إليها بدون أن أنتبه. رأيتها كما رآها غسان في القصة. كانت لا تعني شيئا بذاتها، إنها تختصر شيئا ما، تختصر الرّمز إلى حدّ فيضان المعنى.
القصة القصيرة التي عنوانها «البومة في غرفة بعيدة» كان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني قد نشرها في مجموعته القصصية «موت سرير رقم 12» في ستينيات القرن الماضي.
كانت قصة غسان القصيرة أكبر من ذاتها، ومن ضمن أشياء كثيرة تقولها كانت تصفُ تلاحم المقاومين مع العدو في مناطق القتال بالبنادق والفؤوس. القصة تصف المشاهد الحية كما لو أننا نشاهدها الآن في شاشاتنا اللامعة ونغضب كثيرا ثم نصمت خجلا.
إن الأمر كما قال غسان في القصة: «كنا نشهد، دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت تتساقط فلسطين شِبرا شِبرا؟ وكيف كنّا نتراجع شبرا شبرا؟».
المركز السّردي والنفسي للقصة هو الطفل الذي حمل الصّندوق المليء بالقنابل الذي تركه «المرحوم»، والمرحوم هنا هو مناضل فلسطيني تترك لنا القصة تخيّل من هو؟ وكيف يبدو؟ ولكنه ترك صندوق المقاومة هذا ليوم قادم وكُلِّف بطلنا الصبيّ في القصة بأن يخبّئه تحت شجرة تين عملاقة في الغابة لمعركة قادمة!
طوال الأشهر الماضية ونحن نرى الفلسطيني شهيدا بالبندقية وشهيدا تحت الركام. ما زالت تدوي في رأسي عبارة قالتها أم فلسطينية تختصر أهوال غزة. قالت في لحظة بكاء وهي تشمّ شيئا ما وسط الخراب الذي حولها بينما تنظر إلى الكاميرا- إلينا، قالت وهي تبكي: «هذه رائحة الشهداء». لقد أصابني الموضوع بصدمة شديدة حين رأيت أن الفلسطيني ليس له شقيق. لقد تركناهم بلا بنادق ولا طائرات. كدت أكفر بالإنسانية حتى شاهدت بومة غسان في تلك اللحظة!
كانت لنكهة الحرب الحالية على غزة نكهة اكتشافي الأول لغسان كنفاني. كان كاتبا فلسطينيا ليس بأسماء الأماكن أو الشخصيات في قصصه ولكن بروحها الخارجة من المذبحة وتفاصيلها كما لو أنها تحدث الآن. صرخة الألم وصرخة الغضب تختلطان. ترى من خلاله الفلسطيني فلسطينيا وهو يمشي في الشارع وهو يشرب الشاي وهو يبيع الكعك في الرصيف وهو يكتب مقالا. تغرق في شخوص وأحداث قصص غسّان كما لو أنك فلسطيني أيضا. كان يستطيع أن يقول شيئا كثيرا بلا كلمات كثيرة، تماما مثل «رائحة الشّهداء».
إن العدو لا يريدنا أن نرى شيئا سوى الألم الذي يصنعه فينا أمّا نحن، فريثما نُعدّ البندقية، نبدأ في استخدام عيني البومة الغاضبتين الصّابرتين، الرّمز!
لا أنكر أنني في البداية كنت غاضبا وأنا أرى الرّمز يُتداول بكثافة عبر اللغة وعبر الصورة رغم القتل والتدمير، وكأنه لا شيء لنا سوى القتال بالرّمز. ثم ذكّرتني بومة غسّان بالصندوق الذي خبّأه الطفل في القصة. خبّأ صندوق القنابل تحت شجرة التين العملاقة ثم التفت ورأى البومة.
استثمر غسّان البومة كرمز لذاكرة تقاوم ولا تستسلم وحَبَك ذلك مع مشهد القنابل التي خُبّأت ليوم سيأتي. القنبلة والرمز اشتركا في المقاومة: «كان يومض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوف غريب، وكانت تحدّقُ إليّ عبر الظُّلمة، تحديقا متواصلا لا يرتعش».
أرى الآن البومة بعينين جديدتين. بعد كل هذه العقود من الزّمن صارت عينا بومة غسّان أكثر بلاغة.
«بدت لي أنها مصرّةٌ على وقوفها المتحدي وأنها سوف تبقى رغم كل الرصاص والموت».
المعادل الرّمزي الأقرب لطائر البوم هو العزلة والاكتفاء بالذات. تبدأ قصة غسان من عزلة الكاتب في غرفته وتمرّ بعزلته أمام البومة في الغابة، وتعود إلى عزلته في غرفته بعد استعادة الذاكرة الشخصية: ذاكرة البومة.
البومة هي التقاء الشخصي بالعام، هي التقاء الخصوصية الفلسطينية بالعمومية الإنسانية.
أعتقد أن المُقاومة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، ولكنها تتحوّل من شكل إلى آخر. إن قدرة الرمز على التكاثر والتوالد مع الزمن هي إحدى القدرات العجيبة للأدب على الوقوف أمام الآلة العسكرية. ونكاد نلمس هذا الأثر في الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية التي انطلقت مؤخرا من داعمين للقضية الفلسطينية بروحٍ ملؤها الإنسانية والتضامن مع الحق. إن استعادة فلسطين لقيمتها الإنسانية في السّياق العالمي هي نتيجة لكل الجهود البشرية ومن ضمنها الجهود الأدبية. استمرارية الرّمز عبر الزمن وخصوصا إن كان مُكثّفا هي معادل لصمود واستمرارية القضايا العادلة.
ما زال القتال على الأرض جاريا إلى هذا اليوم وقد نكون خسرنا مساحاتٍ كثيرة، ولكننا صامدون في معركة الذاكرة. القتال على الذّاكرة لم يُحسم بعد ونحن مستمّرون في القتال معك يا غسّان.
أرى عينيكما في كل مكان الآن، عينا البومة الغاضبتين، وعيناك الجريئتان المقاومتان إلى الأبد يا غسّان.
عبدالله خليفة عبدالله قاص عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی القصة
إقرأ أيضاً:
«البث الإسرائيلية»: حماس كانت مستعدة للإفراج عن محتجزين دون وقف إطلاق النار بغزة
أكدت هيئة البث الإسرائيلية، أن حركة حماس كانت مستعدة للإفراج عن محتجزين دون ربط ذلك بشرط وقف إطلاق النار في غزة، حسبما جاء في نبأ عاجل لـ«القاهرة الإخبارية».
عقبة أمام وقف إطلاق الناروأوضحت هيئة البث الإسرائيلية، أن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول محوري فيلادلفيا ونتساريم لعقبة أمام وقف إطلاق النار في غزة، بسبب وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش ووزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير.
وكانت جامعة الدول العربية استنكرت استخدام الولايات المٌتحدة حق النقض الفيتو في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار وهو القرار الذي جرى تأييده من قبل 14 دولة مع إدخال المساعدات بشكل عاجل إليه.
ضوء أخضر لإسرائيل لمواصلة إبادة المدنيين في غزةواعتبر أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، في بيان، أن الموقف الأمريكي المعزول دوليًا والمدان سياسيًا وأخلاقيًا، هو بمثابة ضوء أخضر لإسرائيل للاستمرار في الحملة الدموية على المدنيين الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك استمرار سلاح التجويع والتهجير القسري داخل القطاع بهدف إفراغ الشمال من سكانه.