اكتسب مصطلح “حرب الاستنزاف” في السنوات الأخيرة مكانة بارزة في السياسة العالمية؛ مما يعكس عودة الصراع الدولي بين القوى الكبرى بعد ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. وهكذا أصبحت العناوين والمقالات التي تناقش المنافسة بين القوى الكبرى منتشرة بشكل متزايد، بل وباتت السمة المميزة لعصرنا الحالي، هي كيف تعمل القوى العالمية التقليدية والصاعدة على إلحاق الضرر ببعضها بعضاً دون مواجهات مباشرة فيما بينها.

وفقاً للموسوعة الدولية للحرب العالمية الأولى، تعرّف حرب الاستنزاف بأنها: “العملية المستمرة لإرهاق العدو لإجباره على الانهيار الجسدي من خلال الخسائر المستمرة في الأفراد والمعدات والإمدادات، أو إنهاكه إلى النقطة التي يصبح فيها عرضة للانهيار والقضاء على إرادته في القتال”. وغالباً ما تكون المناقشات حول “حروب الاستنزاف” مصحوبة بإشارات إلى “الحروب بالوكالة”؛ إذ تستخدم الدول الأقوى عسكرياً واقتصادياً أنظمة سياسية ومليشيات مسلحة للعمل نيابة عنها؛ بهدف تعظيم استنزاف القوى الأخرى.

دفعت الحرب الأوكرانية الخطاب المحيط بالحروب بالوكالة وحروب الاستنزاف نحو مستوى جديد؛ نتيجة للمواجهة غير المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. وجاءت الحرب الإسرائيلية على غزة؛ لتعزز فكرة اتجاه العالم نحو حرب باردة جديدة. وفي هذا السيناريو، يتم استغلال الصراعات الإقليمية؛ إما لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، أو لإضعاف قوة مهيمنة على الساحة الدولية.

لقد وصف الرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور الحروب بالوكالة بأنها “أرخص تأمين في العالم”. ووفقاً للرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق، فإن هذه الحروب ضرورية ومرغوبة للإبقاء على “القدر يغلي”. فمن هذه الزاوية يرى المتأمل للأمور أن الحروب بالوكالة تمثل بديلاً منطقياً للدول؛ لتعزيز أهدافها الاستراتيجية دون مشاركة مباشرة ومكلفة ودموية.

وخلصت دراسة أجرتها مؤسسة “راند” عام 2023، باستخدام الأساليب الكمية والنوعية، إلى أن الحروب بالوكالة محتمل تصاعدها في المستقبل القريب لعدة أسباب ترتبط بالمنافسة المحتدمة بين القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة والصين. وعلى الرغم من توصيات هذه الدراسة لواشنطن بتجنب الدخول في حروب جديدة بالوكالة قدر الإمكان لمنع سيناريوهات الحرب الباردة، فإن كل المؤشرات تشير إلى أن الولايات المتحدة تتجه نحو زيادة التورط في الحروب بالوكالة وحروب الاستنزاف. ويتجلى هذا التحول بشكل خاص في نهج الصراعات التي طال أمدها في أوكرانيا وغزة؛ إذ تحظى كل من أوكرانيا وإسرائيل بأهمية كبيرة بالنسبة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية.

يناقش الصحفي ديفيد سانجر، في كتابه “الحروب الباردة الجديدة” التحول في التوقعات بشأن اندماج روسيا والصين في الغرب. فقد جاء في كتابه: “كنا مقتنعين أنه على الرغم من كل الصدمات والصدامات والفوضى التي شهدها العالم في القرن الحادي والعشرين، فإنه سيعيد ترتيب نفسه بالصورة التي كنا نتمناها منذ زمن. وكان الطريق المؤدي إلى تحقيق هذه الصورة المنتظرة هو الافتراض السائد عالمياً بأن روسيا كقوة آخذة في الاضمحلال والصين كقوة مستمرة بالتصاعد ستندمجان مع الغرب كل بطريقته الخاصة”. فكان يقال: إن كلاً من روسيا والصين لديه مصلحة وطنية كبيرة في الحفاظ على تدفق منتجاته وأرباحه واستثماراته المالية حتى ولو تم هذا مع خصومه الجيوسياسيين، فالاقتصاد سيتفوق في النهاية على القومية والطموح الإقليمي. إلا أن الأحداث الأخيرة جاءت مناقضة لهذه التوقعات؛ إذ تصاعدت حدة التوتر بين الصين وروسيا من جهة، وبين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى. وترجع هذه التوترات إلى الطموحات الاقتصادية وتلاشي الإيمان بقدرة العولمة على احتواء الصراعات الدولية.

صعود الوكلاء المسلحين

لقد بات الخبراء اليوم يشعرون بالقلق إزاء التغيرات الكبيرة في المنافسة الدولية واستخدام الحروب بالوكالة لتسوية النزاعات مع الخصوم. وهذا يذكرنا بأحداث سابقة مثل: دعم الولايات المتحدة للمجاهدين الأفغان خلال الحرب الباردة في السبعينيات، أو استخدام الاتحاد السوفيتي لوكلاء كوبيين في أنغولا عام 1974. ويكمن الخطر الحالي في وجود مجموعات مسلحة مدربة تدريباً عالياً ومنتشرة في عدد من الدول، وخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب شرق آسيا. ويمكن استخدام هذه المجموعات بطرق مختلفة، بما في ذلك إنشاء ولاءات عبر الحدود على نطاق أوسع وأعمق مما كان عليه في الماضي. وبهذه الطريقة أصبح من الممكن الآن تجنيد جهات فاعلة غير حكومية للمشاركة بطرق غير مسبوقة في الصراعات المطلوبة.

في الماضي، لم تكن الجيوش الخاصة خياراً موجوداً على أرض الواقع؛ إذ كان استخدام القوة يقتصر في المقام الأول على الدول أو القوات الحكومية. ثم بعد ذلك أحدثت الحرب الباردة تحولاً في هذه الديناميكية. وبحلول نهاية عام 1991، كانت هناك وفرة من الأفراد ذوي الخبرة العسكرية الاستثنائية؛ مما أدى إلى ظهور الجيوش الخاصة وشركات الأمن العسكري. وقد أصبحت هذه الكيانات اليوم منتشرة في العديد من المناطق حول العالم؛ إذ شاركت أكثر من 150 شركة أمن عسكري في أنشطة بلغت قيمتها 223 مليار دولار في عام 2022، ووصلت سوق الجند المرتزقة إلى 100 مليار دولار. وتشير التوقعات إلى أن سوق شركات الأمن العسكري سوف تتضاعف بحلول عام 2030.

بعد الصحوة من أوهام العالم الأحادي القطب، حولت المؤسسات العسكرية الأمريكية اهتمامها نحو دراسة طبيعة الحروب المستقبلية بين قوتين كبيرتين: الولايات المتحدة والصين. ويشير الباحثون إلى أن هذه الحروب ليست في العادة قصيرة وحادة، بل هي معارك استنزاف طويلة ومرهقة تميل إلى التوسع جغرافياً؛ مما يؤدي إلى جر مناطق أخرى إلى الصراع. وبالرغم من أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان كان قصيراً وقابلاً للاحتواء، فإنه يشكل استثناءً، فمن غير الممكن تعميم هذا السيناريو استناداً إلى سابقة تاريخية واحدة.

يعيش العالم حالياً مرحلة جديدة من الصراع بين القوى الكبرى، التي تتنافس على الهيمنة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والعلمية، والتكنولوجية، وتراكم الثروات. ورغم أن قواعد اللعبة لم تشهد تغييرات كبيرة، فإن الوسيلة الأساسية لاستنزاف القدرات لا تزال تتمثل في المواجهات العسكرية غير المباشرة واستغلال الصراعات الإقليمية والحروب الصغيرة لإضعاف الخصوم. وتشير كل الدلائل إلى أن هذا الصراع سيزداد حدة في العقود المقبلة.


المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

فيلم “٣٠٠ميل”… رصد لمحطات في الثورة السورية من درعا إلى حلب

دمشق-سانا

من بين الأفلام الوثائقية العديدة التي وثقت للثورة السورية بعدسات مخرجين سوريين وأجانب، يتميز فيلم “300 ميل” للمخرج عروة المقداد برصده جبهات القتال المشتعلة بين الثوار وجيش النظام البائد في مختلف المناطق السورية.

الفيلم الذي عرض في دمشق للمرة الأولى خلال تظاهرة “بداية” المقامة حالياً في بيت فارحي، يمتد على 36 دقيقة، ويبدأ من مشهد إنساني مؤثر يجمع بين المخرج المقداد وابنة شقيقه نور، التي تسأل عمها ببراءة: “من أين أبدأ الحكاية؟”.

ينتقل الفيلم من درعا، حيث تولى التصوير فراس ونور المقداد، إلى حلب شمالاً التي صور مشاهدها المخرج نفسه، ليكون عنوان الفيلم مستوحى من المسافة بين حلب في الشمال وحوران في الجنوب “300 ميل”، حيث كان من المستحيل على المدنيين قطعها، ولكنها بالوقت نفسه هي مسافة مكونة من خطوط الجبهات والحواجز والمعارك.

وتظهر الطفلة نور بعدة مشاهد لتحدثه عن الأهل وأحوال حوران، ولتصف له تغيرات الأماكن وقطع الشجرة المحببة لها، بينما تسمع أصوات الانفجارات والقنابل.

لقد تغيرت اهتمامات الطفولة البريئة لدى نور كسائر أطفال سوريا، فلم تعد تعنيها أرجوحتها القديمة، بل تتساءل عن معاني ومصطلحات الحرب، فما هي “التصفية؟ ..الهدنة؟ قصف؟ الطيران؟…”، وكأنها تحاسب الضمير الإنساني عن سكوته أمام معاناة السوريين.

نسمع في الفيلم أحاديث الثوار وتساؤلاتهم الدائمة بلا أجوبة: “أين العدل؟…إلى متى؟…ماذا سيحدث إذا خرج كل العالم مظاهرات داعمة لنا؟…هل مكتوب على الإنسان أن يموت كي يكون حراً؟.

شخصية القائد الثوري الشريف كانت عبر “أبو يعرب” الأربعيني الذي يصف المحاربين الأوفياء للمبادئ التي قامت عليها الثورة، وهو الذي يلخص البطولة والشجاعة والإقدام: “جيش عرمرم مدجج بأعنف الأسلحة، ويقف بوجهه بارودة عمرها ٥٠ سنة بيد شاب ٢٠ سنة، أليس ذلك إنجاز أسطوري؟”… “سأحارب الجميع قدر الإمكان.. الثورة غربلت كل شيء”، ثم أخيراً يختفي وسط الضباب.

ونرى أحلام الشباب عبر “عدنان” الطالب الجامعي الذي ترك دراسته والتحق بالثورة وبأهدافها السامية، مع أصدقائه الشبان وهم يهتفون للحرية، مع تعليقات ساخرة كئيبة تعبر عن الواقع الأليم في ظل تفشي إجرام النظام بحق المدنيين.

نسافر في الفيلم ما بين واقع مدينة حلب التي يطالها قصف النظام وواقع حوران، ما يؤكد التمازج بين أوجه الثورة المتعددة، كما نعيش جبهات القتال ويوميات الثوار، وظروفهم الصعبة، وحركة الكاميرا المهتزة التي ترافقهم في حركاتهم بين الركام، مؤكدين أنهم مصممون على تخليص سوريا من براثن الظلم.

هدوء الفيلم رغم تصويره من جبهات القتال كان لافتاً، ومن الأصوات غناء جدّة المخرج ذات الأصول الفلسطينية من الفلكلور الحوراني بصوت مليء بالحزن والأسى، على بلد يحترق بنيران القصف وشباب يرحل.

وفي المشاهد الأخيرة .. صمتٌ غداة القصف، لتخترقه أصوات سيارات الإسعاف التي تهرع لنجدة الناس، ودمار وخراب، ثم سنابل القمح الصفراء تعلن النهاية الممزوجة بالأمل.

وفي رسالة أرسلها المخرج لتظاهرة بداية ولسوريا كلها، وبحضور والدته، أكد فيها أن ١٤ عاماً خسرنا فيها الكثير، أحبة وأحلاماً وذكريات، لكننا مازلنا هنا وإن حال النظام البائد بيننا وبين أحلامنا وأحبتنا، ووجدنا طرقاً كثيرة لنلتقي ومنها السينما التي نختصر فيها ما قد يستحيل قوله.

ولفت المقداد إلى أنه أنتج الفيلم وهو مختبئ في بيت، ممنوع من المغادرة، ثم دار الفيلم العالم ولم يستطع أن يكون معه، لكن هذا التوقيت هو الأحب للقلب لأنه “يسبقني لدمشق، ربما لأن الفن في جوهره قادر أن يكون أكثر حرية من صانعه”.

يُشار إلى أن الفيلم عرض في العديد من المهرجانات العالمية المهمّة مثل مهرجان “لوكارنو- سويسرا”، وحائز عدة جوائز، منها جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان “دوك ليزبوا – البرتغال”.

تابعوا أخبار سانا على 

مقالات مشابهة

  • فيلم “٣٠٠ميل”… رصد لمحطات في الثورة السورية من درعا إلى حلب
  • “علاج ثوري”.. عالم عراقي يسجل براءة اختراع في الولايات المتحدة لمرض التوحد
  • بكين: الولايات المتحدة هي أكبر مخل بالنظام الدولي لضبط التسلح ومنع الانتشار النووي
  • أمريكا وصناعة الحروب
  • الرئيس الصيني يعلن عن خطة للاقتصاد الصيني لمواجهة تأثير الحرب التجارية مع الولايات المتحدة
  • الصين: الولايات المتحدة أكبر مخل بالنظام الدولي لضبط التسلح ومنع الانتشار النووي
  • السودان والإمارات.. هل تغير “دولة ممزقة” تاريخ الحروب؟
  • أخبار التوك شو| مصطفى بكري: الرئيس السيسي مستهدف من القوى المعادية لوقوفه ضد مخطط التهجير.. مساعد وزير الدفاع الأسبق: حرب الاستنزاف كانت الممهد الحقيقي لنصر أكتوبر
  • هشام الحلبي: الحرب على غزة تؤثر على اقتصاد الولايات المتحدة
  • خيبة أمل إسرائيلية: بقاء “حماس” على حدودنا يُكذّب مزاعم الانتصار