في الزمن السياسي للأزمة اليمنية، هناك متوالية أيام، كان يمكن أن يكون أي منها هو “اليوم التالي”، ويُفترض أن يكون هذا “اليوم التالي” ما بعد التوافق على عملية سياسية شاملة في البلاد؛ وهو ما كان ممكناً في أكثر من مرة منذ طرح مبادرة السلم والشراكة قبيل الانقلاب الحوثي على الشرعية في سبتمبر 2014، ومفاوضات الكويت عام 2016، والتي انسحب منها الحوثيون عند مرحلة التوقيع على الاتفاق، ثم اتفاق ستوكهولم عام 2019.

لكن أكثر الفرص الضائعة لليوم التالي في اليمن كانت في إبريل 2022، عندما تم التوصل إلى اتفاق هدنة برعاية أممية، ثم جاء يوم تالٍ آخر بحسب المبعوث الأممي إلى اليمن، هانز غروندبيرغ، من خلال مسودة “خارطة طريق” في سبتمبر 2023، إلا أن أحداث ما بعد 7 أكتوبر 2023 والحرب على غزة ربما قطعت الطريق على هذا المسار في ضوء دور الجماعة الحوثية فيها.

تقاطعات “اليوم التالي”:

تقاطع “اليوم التالي” في اليمن مع “اليوم التالي” في حرب غزة، عندما انخرطت الجماعة الحوثية في معركة بحرية في جنوب البحر الأحمر بدعوى إسناد الفلسطينيين في غزة، وربطها بتوقف الحرب في القطاع. لكن “اليوم التالي” في غزة هو يوم إشكالي في ظل احتمالات تحول المعركة بين إسرائيل وحزب الله اللبناني إلى حرب واسعة، وبالتبعية قد يكون للحوثيين دور فيها. وبشكل عام، تعهد الحوثيون بدعم إيران في أية مواجهة إقليمية، وهو ما أكدته الجماعة أكثر من مرة. ففي أعقاب تلويح قائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، في 7 مايو 2024، بنقل التهديد إلى شرق المتوسط، أعلن الحوثيون إمكانية تطوير هجماتهم لاستهداف السفن في البحر المتوسط.

وسبق أن دعت الجماعة الحوثية، في مارس الماضي، السعودية إلى استئناف “عملية السلام” في اليمن، وهو ما يبدو معه ظاهرياً أن الجماعة تراجعت خطوة إلى الوراء أو أنها بصدد فصل الملفات، لكن عملياً كانت هناك دوافع لذلك، منها أن تلك الدعوة جاءت عقب دخول التصنيف الأمريكي للحوثيين “ككيان إرهابي عالمي مصنف بشكل خاص”، حيز التنفيذ، وزيادة العقوبات والقيود الاقتصادية على الجماعة. وأعقب ذلك متغير الموقف الإيراني كمحرك رئيسي للسلوك الحوثي في ظل إجراء واشنطن وطهران جولة تفاوض جديدة في مايو الجاري في سلطنة عُمان، ومن المتوقع انعكاس تأثيرها في الملفات الإقليمية، ومنها الهجمات الحوثية على الملاحة في جنوب البحر الأحمر.

صفقات فصل الساحات:

خلال الحرب في غزة، كانت “وحدة الساحات” مظلة لأدوار الوكلاء الإقليميين لإيران، ومع ذلك فإن التطورات اللاحقة تشير إلى فصل الأدوار عن الأهداف الفعلية لكل ساحة من الساحات؛ إذ يتم التفاوض في كل ساحة على قضايا مختلفة للتوصل إلى صفقات بالقطعة ليس لها علاقة بالحرب في غزة. وبشكل عام، توظف إيران كل هذه الصفقات لإبرام صفقة أكبر، فقد اتجهت طهران بعد استهداف إسرائيل لأصفهان في 19 إبريل الماضي، إلى إعادة ترتيب أوراقها، والاهتمام بقدراتها النووية. وفي هذا الإطار، كشفت تقارير أمريكية عن أن السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، بدأ مساعي المفاوضات مع واشنطن، ثم تحولت المحادثات بين البلدين إلى عُمان.

وفي المُجمل، تتمثل أبرز التطورات في كل ساحة من الساحات الإقليمية في الآتي:

1- العراق: تراجع تصعيد المليشيات العراقية ضد القوات الأمريكية، في ضوء رد الفعل الأمريكي على الهجوم على قاعدة “البرج 22″، والتفاوض بين بغداد وواشنطن حول مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق.

2- سوريا: تراجع مستوى التصعيد على الساحة السورية في المرحلة التي تلت الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل في إبريل الماضي، وتقريباً لم تُسجل هجمات من المليشيات على القواعد الأمريكية في سوريا.

3- لبنان: على الرغم من تأكيد حزب الله اللبناني على ربط التصعيد ضد إسرائيل بدعم غزة، فإنه من الواضح أن معادلة الصراع مع إسرائيل تتعلق حالياً بالتفاوض حول “منطقة عازلة” ستحدد مستقبل تحولات الصراع وقواعد الاشتباك بين الطرفين.

4- اليمن: تكشف دورة التصعيد الحوثي في جنوب البحر الأحمر والممتدة على مدار نحو ستة أشهر، عن أهداف مختلفة؛ يأتي في مقدمتها الضغط الإيراني على القوى الغربية، مع ملاحظة أن هذه القوى التي تشارك بمهام عسكرية سواء مع الولايات المتحدة أم بشكل مستقل كانت أطرافاً في الاتفاق النووي الإيراني الموقع عام 2015.

وعلى الجانب الآخر، لدى إيران طموحات جيوسياسية في الوجود في البحر الأحمر كنقطة انطلاق إلى أعالي البحار، ودلالة ذلك تحرك السفينة “مهدوي” التابعة للحرس الثوري في رحلة بحرية هي الأولى من نوعها في المحيط الهندي جنوب خط الاستواء انطلاقاً من خليج عدن.

ومع ذلك من المتصور أن السياسة الإيرانية نفسها قد تكون على أعتاب يوم تالٍ في أعقاب حادث سقوط طائرة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية أمير حسين عبداللهيان ورفاقهما يوم 19 مايو الجاري، والإعلان عن وفاتهم. وعلى الأقل، فإن التحركات التي كان يقوم بها وزير الخارجية الإيراني الجديد، علي باقري كني، في ملف المفاوضات مع واشنطن قد تتأجل بعض الوقت لحين تجاوز طهران هذه الأزمة. وبالتبعية ستكون أولوية السياسة الإيرانية هي الملف الداخلي الذي سيحظى بالاهتمام الرئيسي على الأقل في الأشهر الثلاثة المقبلة لحين ترتيب البيت الداخلي وإعادة تشكيل السلطة التنفيذية بعد وفاة رئيسي.

نتائج كاشفة:

في إحاطته الأخيرة حول اليمن في مجلس الأمن يوم 13 مايو الجاري، أدلى نائب السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، روبرت وود، بشهادة لافتة تُلخص نتائج المواجهة مع الحوثيين في البحر الأحمر. فقد كشف وود عن أن عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية إلى اليمن متواصلة بشكل غير مسبوق، مع أن أحد أهداف تحالف “حارس الازدهار” في البحر الأحمر هو وقف عمليات تهريب السلاح.

وفي الواقع كانت السفن الإيرانية تتحرك من بندر عباس إلى الصومال ثم الساحل الغربي في اليمن من دون قيود، بزعم أن العديد منها يحمل مواد بناء، وهي حمولات لا تخضع للتفتيش لعدة اعتبارات؛ منها أن اتفاق التهدئة يتضمن تخفيف القيود على ميناء الحديدة الذي تسيطر عليه الجماعة الحوثية، ولا تخضع مواد البناء للعقوبات الأمريكية. فضلاً عن الحذر الأمريكي من استهداف سفن إيرانية؛ إذ لا تريد واشنطن التصعيد مع طهران.

وتتماشى شهادة وود مع محصلة البيانات الحوثية حول الهجمات في البحر الأحمر منذ نوفمبر 2023 عندما احتجز الحوثيون السفينة “غلاكسي ليدر”، وحتى منتصف مايو الجاري عندما استهدفت الجماعة المدمرةَ الأمريكية “ميسون” والسفينة “ديستني”، وذلك بإجمالي أكثر من 100 هجوم حوثي اُستخدم فيها أكثر من 300 صاروخ ومسيرات جوية وبحرية.

في المقابل، يعكس مؤشر أداء المهام البحرية الدولية في البحر الأحمر تراجعاً في العمليات الهجومية والاستباقية، بل يمكن القول إن تحالف “حارس الازدهار” تحول إلى عملية روتينية تقتصر على الدفاع. والتطور اللافت في هذا الصدد هو ما أشار إليه “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية” (IISS) في إبريل الماضي؛ إذ كشف من خلال تحليل صور الأقمار الاصطناعية عن قيام الحوثيين بعمليات حفر وتوسيع أنفاق وكهوف في الجبال؛ بهدف تأمين مخازن للأسلحة. وخلال العمليات الهجومية الأمريكية والبريطانية لاستهداف المنظومات العسكرية الحوثية، كان بإمكان القوات المشاركة في “حارس الازدهار” استهدافها على قمم وسفوح الجبال، لكن وجود هذه المخازن يسمح للحوثيين بالمناورة السريعة وإعادة الأسلحة مرة أخرى إلى المخازن. وبطبيعة الحال، سيكون لهذه المخازن أهميتها في تأمين الأسلحة الحوثية في مواقع مختلفة من اليمن حالياً ومستقبلاً.

وكدرس مستفاد من هذه التطورات، من المُتصور أن إخضاع البنية الأمنية والعسكرية في المنطقة لصفقات سياسية دون إظهار القدرة على الردع النشط ضد العدائيات التي تهدد المنطقة البحرية؛ يشكل فجوة في الأهداف الفعلية للانتشار الأمريكي في الإقليم، وربما تتعين إعادة تقييم هيكل هذه البنية في مقابل التهديدات والمخاطر في ضوء ما يجري منذ اندلاع حرب غزة.

استحقاقات التسوية:

تشير الجماعة الحوثية إلى “عملية سلام” وليس “خارطة طريق” في اليمن، وهنا ثمة فارق بين الحالتين، فالأولى قد تتعلق بالمفاوضات الحوثية على المستوى الثنائي مع الرياض، بينما تشير الثانية إلى عملية تسوية سياسية شاملة مع مختلف القوى اليمنية؛ وهي نقطة لا تزال بعيدة نسبياً في المرحلة الحالية، وفقاً لإحاطة المبعوث الأممي غروندبيرغ في مجلس الأمن يوم 13 مايو الجاري.

وعلى الأرجح، لا تريد الجماعة الحوثية الالتزام بترتيبات داخلية في المرحلة الحالية، ومؤخراً شنت هجمات على العديد من الجبهات في اليمن (مأرب وشبوه والجوف)؛ وبالتالي قد تعود إلى تحويل فائض استخدام القوة من البحر الأحمر إلى الداخل لإعادة صياغة موازين القوى قبل الانخراط في عملية تسوية سياسية يكون لها استحقاقات مختلفة.

وتتطلب استحقاقات التسوية الشاملة وجود سلطة موحدة، وهو تحدٍّ كبير في ظل أزمة الهوية مع تكريس المشروع الأيديولوجي الحوثي؛ وهذا أمر ضروري من الناحية الإجرائية بالنظر إلى أن وحدة السلطة تعني احتكار الدولة لأدوات القوة؛ ومن ثم القرار السيادي، فلا يمكن استمرار الحوثيين في الانفراد بقرار الحرب. ومن هنا تأتي إشكالية رئيسية أخرى تتعلق بالتعامل مع السلاح الحوثي، ويصعب من الناحية العملية أن تشاركه الجماعة مع باقي الأطراف.

وعندما كان التفاوض جارياً على أساس التوصل إلى “خارطة طريق”، قبل اندلاع حرب غزة، أقامت الجماعة الحوثية عرضاً عسكرياً هو الأكبر من نوعه منذ استيلائها على السلطة، وكان الهدف من ذلك واضحاً؛ وهو أن الجماعة لن تفاوض على سلاحها، بل توظفه كورقة في عملية التفاوض ووفق رغباتها المستقبلية دون إخضاعه لمؤسسات الدولة الشرعية، وقد يعني ذلك أن من حق باقي القوى والتيارات الأخرى الاحتكام إلى سلاحها.

في الأخير، يبدو أن التحدي الفعلي في الأزمة اليمنية يتمثل في إجراء عملية تسوية سياسية شاملة، ولكن في ظل الوضع الحالي لا يزال وجود مشروع وطني جامع للقوى السياسية غائباً، وحتى لو تم الاتفاق على إطار سياسي برعاية الأمم المتحدة وفي سياق الحل الإقليمي، فإن فرص تنفيذه على أرض الواقع ستظل غير ممكنة على الأقل في المدى المتوسط.


المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

الأمن الأردني بمواجهة التحديات.. قراءة في عملية تفكيك شبكات العنف الاخواني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

لم تكن التفاصيل التي كشفت عنها الحكومة الأردنية مؤخرًا، بشأن إحباط سلسلة من المخططات التخريبية، مجرد أخبار أمنية عابرة. بل جاءت كجرس إنذار ثقيل يوقظ مخاوف دفينة عن عودة "الخلايا النائمة"، ويعيد طرح تساؤلات قديمة-جديدة حول حدود المشروع الإسلامي السياسي، وما إذا كانت تياراته –حتى تلك التي تدّعي السلمية– قد تخلّت فعلًا عن نزعتها الانقلابية.

البيانات الرسمية الأردنية، سواء من دائرة المخابرات العامة أو الناطق باسم الحكومة محمد المومني، كشفت عن خلية معقدة التركيب، متعددة القضايا، تمتد جذورها منذ 2021، وتورّط فيها 16 شخصًا على الأقل. أخطر ما كُشف هو العمل على تصنيع صواريخ قصيرة المدى (3-5 كم)، وتجهيز طائرات مسيّرة، وتجميع مواد شديدة الانفجار، وتجنيد أفراد لخوض تدريبات أمنية خارجية، بعضها جرى على الأراضي اللبنانية بدعم خارجي. ورغم نفي جماعة الإخوان المسلمين الأردنية –التي حُلّت قضائيًا في 2020– لأي صلة بهذه الأعمال، فإن الاعترافات والتقارير الأمنية تشير إلى انتماءات فكرية وتنظيمية واضحة لبعض المتهمين للجماعة أو "أُسرها" التنظيمية.

 

الخطر الأمني لا ينبت من فراغ

لا يمكن التعامل مع محاولة تسليح مجموعات غير نظامية داخل دولة مستقرة مثل الأردن بوصفها حوادث فردية أو مغامرات منفلتة. فهذه المحاولات، بطبيعتها وتوقيتها، تمثل تهديدًا مباشرًا للبنية الأمنية والسياسية في المملكة، وتهدد بتحويل المشهد الداخلي إلى حالة شبيهة بالسيناريو اللبناني، حيث تتعايش الدولة مع كيانات مسلّحة خارجة عن سلطتها. التوازن الحساس الذي يميز الداخل الأردني –والقائم على مركزية القرار الأمني والسياسي– لا يحتمل دخول لاعبين جدد يمتلكون السلاح، مهما كانت شعاراتهم.

الخطورة تكمن كذلك في نوعية المواد التي جرى ضبطها بحوزة الخلايا، والتي شملت مواد شديدة الانفجار مثل TNT وC4 وSemtex-H. هذه ليست أدوات بدائية يمكن الحصول عليها من السوق السوداء المحلية، بل تحتاج إلى خبرات فنية عالية وشبكات تهريب منظمة تتجاوز الحدود الأردنية. كما أن عمليات تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة تدل على أن الهدف لم يكن مجرد تخزين للأسلحة، بل إقامة بنية تحتية مستقلة للتصنيع، وهذا مؤشر على مشروع عسكري مبيت وليس مجرد عمل تخريبي معزول.

 

شخصيات تنظيمية 

ما يضاعف القلق هو ورود معلومات مؤكدة عن تلقي بعض العناصر تدريبات في لبنان، وقيامهم بزيارات للتواصل مع شخصيات تنظيمية هناك. هذا المعطى يفتح باب الشبهات حول وجود روابط لوجستية أو تنظيمية مع "حزب الله"، الذي يملك تاريخًا في دعم حركات مسلحة خارج الحدود، وهو ما يعزز المخاوف الأردنية من تسلل النفوذ الإيراني إلى الداخل عبر قنوات غير تقليدية. كما أن هذه التطورات تأتي بعد سلسلة من الحوادث التي أعلن الأردن فيها إحباط تهريب أسلحة ومخدرات عبر الحدود السورية، ما يرسم مشهدًا إقليميًا ملبدًا بالاختراقات الأمنية.

في ضوء هذه المعطيات، فإن الأردن لا يواجه فقط مجموعة مسلحة، بل يواجه مشروعًا عابرًا للحدود، يحمل أبعادًا أيديولوجية وتنظيمية، وربما طموحات تتجاوز الداخل الأردني. ومن هنا، فإن التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون ليس فقط أمنيًا وقضائيًا، بل سياسيًا واستراتيجيًا، من خلال تحصين الجبهة الداخلية ومراقبة أذرع التأثير الإقليمي، وقطع الطريق على محاولات تحويل المملكة إلى ساحة مواجهة بالوكالة في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.

الإخوان المسلمون: المعضلة المستمرة

في كل مرة تقع فيها حادثة أمنية ترتبط بأشخاص لهم صلة بجماعة الإخوان المسلمين، تعود الجماعة إلى واجهة المشهد السياسي والأمني، مُعلنة تمسكها بـ"الخط الوطني" و"النهج السلمي"، ومتبرئة من أي علاقة بالعنف أو التخطيط له. لكن هذه المواقف المعلنة، على الرغم من تكرارها، لم تنجح في تبديد الشكوك العميقة التي تُراكمت عبر السنوات في الوعي الجمعي الأردني. فمنذ تفجيرات فنادق عمان عام 2005، مرورًا بقضية الكرك عام 2016، وصولًا إلى أحدث القضايا التي أعلنت عنها المخابرات العامة، لا تزال الجماعة محاطة بشبهات عدم القدرة –أو عدم الرغبة– في الفصل الحاسم بين الدعوي والسياسي من جهة، وبين العسكري والتنظيمي من جهة أخرى.

 

المرونة الأيديولوجية

إن ما يزيد الموقف تعقيدًا هو ما يصفه مراقبون بـ"المرونة الأيديولوجية" لدى الجماعة الأم، وهي مرونة تجعل من تنظيم الإخوان مظلة واسعة قادرة على احتواء مشاريع متطرفة ضمن خطاب "المقاومة" و"نصرة الأمة". في هذا السياق، يصبح التبرؤ من الأفعال العنيفة التي يرتكبها أفراد محسوبون على الجماعة أو نشأوا في بيئتها التنظيمية، غير كافٍ. فالسؤال المشروع هنا لا يتعلق فقط بمسؤولية الجماعة عن الأفعال، بل أيضًا بدورها في إنتاج الذهنية التي تحتمل التحول لاحقًا نحو التسلح والعنف.

ومن هذا المنطلق، فإن بيان الجماعة الأخير، الذي تحدث عن "أعمال فردية لا علاقة لها بالتنظيم"، لا يعفيها من المسؤولية البنيوية عن تغذية بعض هذه المسارات. فإذا لم تكن هذه العمليات قد صدرت بقرار مركزي، فهل تملك القيادة فعلًا السيطرة على الأطر التنظيمية الداخلية، كالأسر والدوائر التربوية؟ وإذا لم تكن تعلم بنشاطات بعض المجموعات، فهل كانت تُغض الطرف عن تجاوزاتها؟ هذه الأسئلة تمس صميم الإشكال الهيكلي المزمن في التنظيم، الذي يعاني من تباين دائم بين الخطاب العلني السياسي، والخطاب الداخلي العقائدي الذي قد يُفرز توجهات أكثر تشددًا.

 

معضلة قديمة جديدة

في نهاية المطاف، تتكرر مع الإخوان معضلة قديمة جديدة: خطاب مزدوج يُظهر في العلن التزامًا بالديمقراطية والسلم، لكنه يُبقي على بنية مغلقة وتنظيم هرمي قابل للاختراق والتطرف من الداخل. وهذا التناقض، الذي لم يُعالَج تاريخيًا، يُبقي الجماعة في منطقة رمادية، تارة متهمة بالضلوع في عمليات مسلحة، وتارة ضحية لـ"أعمال فردية"، لكنها في كل الأحوال، لا تستطيع إقناع الدولة والمجتمع بأنها قد طوت صفحة العنف تمامًا، أو أنها باتت جزءًا طبيعيًا من النسيج السياسي الوطني.

ولا يمكن فهم مسارات الإخوان في الأردن نحو العنف، دون العودة إلى السياق الأوسع الذي تمثله الجماعة الأم في مصر، والتي تشكّل المرجعية الأيديولوجية والتنظيمية لمعظم فروع الإخوان في المنطقة. فالتاريخ القريب شهد تصعيدًا واضحًا في خطاب الجماعة الأم بعد الإطاحة بحكمها في مصر عام 2013، حيث عاد الخطاب إلى نغمة "التمكين بالقوة" و"الشرعية المغتصبة"، مع رواج مفاهيم مثل "القصاص" و"الرد على الظلم" و"استرداد الحكم"، وهي مفاهيم وفّرت أرضية خصبة لميلاد تنظيمات أكثر تشددًا خرجت من عباءة الإخوان، مثل "حسم" و"لواء الثورة" في مصر، والتي تبنّت عمليات اغتيال وتفجير ضد رجال أمن وسياسة.

 

التجربة المصرية

هذه التجربة المصرية ألقت بظلالها على فروع الجماعة في المنطقة، ومنها الأردن، حيث لم تكن البيئة التنظيمية الإخوانية بمنأى عن التأثر. فالتواصل بين كوادر الفروع، والمشاركة في المؤتمرات والمنتديات التربوية المشتركة، والعلاقات العابرة للحدود بين القيادات، كلها عوامل ساهمت في نقل المزاج المتوتر والمشحون بعد 2013 إلى قواعد الجماعة في الخارج. ومع تزايد التضييق السياسي على التنظيم، وتآكل شعبيته المجتمعية، ظهرت بوادر انقسام داخلي بين من يرى ضرورة مراجعة فكرية، وبين من يتجه نحو التصلب العقائدي أو حتى تبني العنف بوصفه "خيار الضرورة"، وهو ما يفسر وجود خلايا منفلتة أو شبكات تنشط في الظل، تستند إلى خلفية تنظيمية إخوانية ولكنها تتجاوز الخطاب العلني للجماعة.

 

مشروع بلا بوصلة

تواجه الجماعات الإسلامية، لا سيما بعد صدمة ما بعد "الربيع العربي"، مأزقًا وجوديًا يتمثل في غياب المشروع السياسي الناضج والقابل للتطبيق ضمن أطر الدولة الوطنية الحديثة. فبعد أن فشلت بعض هذه الجماعات في اختبار الحكم أو عجزت عن التكيف مع آليات العمل الديمقراطي، وجدت نفسها أمام خيارين: إما التحلل والانكفاء، أو البحث عن بدائل أكثر صدامية. وفي كثير من الحالات، فضّل بعض المنتسبين اللجوء إلى خيار "التعبئة الصامتة"، التي قد لا تتجسد فورًا في العنف، لكنها تمهد له نفسيًا وتنظيميًا.

هذا السياق يجعل من التسلح –حتى وإن لم يُستخدم ميدانيًا– فعلًا سياسيًا رمزيًا، يُعبر عن الرفض والاحتجاج على الواقع القائم، ويُخزّن كأداة جاهزة "للرد" إذا ما سمحت الظروف. وفي الحالة الأردنية، يبدو أن بعض الموقوفين تورطوا في تأسيس بنية تحتية أولية لمشروع عنفي، رغم غياب الأهداف المباشرة أو المؤشرات الواضحة على نية تنفيذ هجوم قريب. هذه المراوحة بين الجاهزية والانكفاء تكشف عن أزمة بوصلة: فالفعل التحضيري قائم، لكن الوجهة غائبة.

 

تصور سياسيً أو عقائدي 

اللافت في تفاصيل القضية أن المتهمين، رغم القدرات التنظيمية والتقنية الظاهرة في تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة، لم يكونوا يملكون تصورًا سياسيًا أو عقائديًا ناضجًا يبرر هذا النشاط. لم تظهر في اعترافاتهم إشارات إلى أهداف استراتيجية، أو تصورات حول "اليوم التالي" لتفعيل هذا السلاح. الأمر بدا أقرب إلى تمرين في التمكين التنظيمي والبنية التحتية، وليس إلى عملية مدروسة بأبعاد سياسية أو أيديولوجية مكتملة.

هذه الحالة تفتح الباب أمام احتمال خطير: أن يكون المشروع الحقيقي لا يزال في طور الإعداد، أو أنه مرتهن لإشارة خارجية أو تغير إقليمي كبير. فغياب الأهداف لا يعني غياب النية، بل ربما يشير إلى انتظار الفرصة المناسبة. وهنا تكمن خطورة هذا النوع من "العنف المؤجل" الذي لا يندرج تحت إطار الإرهاب التقليدي، بل يتخفى وراء شبكة علاقات تنظيمية محلية وخارجية، بانتظار اللحظة التي يُعاد فيها تشغيله لخدمة مشروع أكبر، لا يتحكم به الفاعلون المحليون وحدهم.

 

دلالات العملية الأمنية الأخيرة في الأردن وأهميتها:

أولًا، تكشف العملية عن مستوى عالٍ من اليقظة الاستخبارية الأردنية، خاصة أن المتابعة بدأت منذ عام 2021، ما يدل على تراكم معلوماتي ورصد طويل الأمد لتحركات الخلايا ومخططاتها. هذا لا يعبّر فقط عن كفاءة تقنية، بل عن إدراك استراتيجي لخطورة "العمل البطيء تحت الأرض" الذي تتبناه بعض الجماعات، حيث لا يعتمدون على الهجوم المباشر بل على بناء البنية التحتية والتغلغل التدريجي. وهنا، تكمن أهمية التوقيت في كشف الشبكات قبل أن تنتقل من مرحلة التجهيز إلى التنفيذ.

ثانيًا، تفتح العملية الباب واسعًا أمام مراجعة العلاقة بين بعض الخطابات الإسلامية التقليدية، وبين تحولات بعض العناصر نحو العنف. فبينما تنفي القيادات المركزية –كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين– أي صلة بالمخططات، إلا أن تكرار انخراط أفراد "متأثرين" أو "منتمين سابقًا" يطرح علامات استفهام حول فعالية الرقابة الداخلية للجماعة، ومدى قدرتها على احتواء أو عزل الأجنحة الأكثر تشددًا. وهو ما يعيد الجدل القديم الجديد حول التماهي أو التحول التدريجي من الفكر إلى الفعل العنفي.

ثالثًا، تشير هذه العملية إلى وجود بعد إقليمي في التهديدات التي يواجهها الأردن، خاصة مع ورود إشارات إلى تدريب في لبنان، ونقل أموال ومعدات عبر الحدود. هذه المعطيات تؤكد أن الأردن ليس فقط ساحة مستهدفة، بل هو أيضًا في قلب معادلات التنافس الإقليمي، خصوصًا بين قوى تصدّر خطاب "المقاومة" وتبحث عن موطئ قدم في الجوار. وبذلك، فإن أمنه الداخلي أصبح مرتبطًا بتوازنات معقدة تتجاوز حدوده الجغرافية.

وأخيرًا، فإن هذه القضية تضع الدولة الأردنية أمام تحدٍ مزدوج: أمني وتنظيمي. فهي مطالبة من جهة بتعزيز سيطرتها على الفضاء الداخلي وضبط أي مساحات رخوة يمكن أن تنشأ فيها مثل هذه الخلايا، ومن جهة أخرى بالانفتاح على نقاش وطني حول طبيعة بعض الجماعات الأيديولوجية التي ما تزال تنشط تحت شعارات سلمية لكنها تحوي في طياتها بذور التشدد. وهذا يتطلب استراتيجيات لا تكتفي بالمعالجة الأمنية، بل تتجه نحو تفكيك البُنى الثقافية والتنظيمية التي تسمح بمثل هذا التسلل الخطر.

 

خاتمة: درس أردني للمنطقة

في نهاية المطاف، يظل الأردن مثالًا حيًا على أهمية وجود منظومة استخباراتية قوية قادرة على متابعة التهديدات الأمنية قبل أن تتحول إلى عمليات مؤذية. إن النجاح في تفكيك هذه الشبكات قبل تنفيذ مخططاتها ليس فقط دليلاً على احترافية الأجهزة الأمنية، بل يعكس أيضًا أن الأردن يمتلك رؤية استشرافية للتحديات التي قد تطرأ في المستقبل. ومع ذلك، تبقى هذه العملية مجرد خطوة في مسار طويل يتطلب تكاملًا بين العمل الأمني والجهود السياسية والاجتماعية المستدامة. فالاكتفاء فقط بالتركيز على الجوانب الأمنية دون معالجة جذور التهديدات قد يؤدي إلى عودة هذا النوع من المخططات في شكل آخر، وقد يعزز من حالة الاستقطاب والتطرف.

المطلوب من الدولة الأردنية، وأيضًا من الدول المجاورة، أن تدرس بعناية الدلالات التي تحملها هذه القضية، لأن المخاطر التي تهدد الأمن الوطني لا تتعلق فقط بالأعمال العدائية المباشرة، بل بما يمكن أن يترسخ في المجتمع من شعور بالحرمان والاغتراب. إذا كانت هناك شبكة خارجية تمد الجماعات بالأموال والتدريبات، فإن هذا يشير إلى أن هناك خللاً ما في مناهج التنمية والتوجيه الداخلي. وهذا يتطلب، بشكل عاجل، مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تستهدف فئة الشباب، الذين قد يُستغلون بسهولة من قبل هذه الجماعات.

ورغم أن الجماعات الإسلامية قد ترفض الربط بينها وبين هذه القضايا، فإنها تتحمل مسؤولية كبيرة في فحص خطابها التنظيمي والمراجعة الجذرية لآليات عملها. يجب أن تكون هناك وقفة جادة من داخل هذه الجماعات لإعادة تقييم مواقفها من العنف والتسلح، لا سيما في ظل محاولات البعض لاستغلال الفراغات السياسية والاجتماعية لتحقيق أهداف قد تكون بعيدة عن المشروع السلمي. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتطلب تطهير خطاب الجماعات من أي تبريرات للعنف أو التحريض على التطرف، والاعتراف بأن التغيير الفعلي لا يتحقق عبر العنف، بل عبر العمل السياسي الشرعي والناضج.

أخيرًا، إن ما تحتاجه المنطقة، وخاصة الأردن، هو نوع من النضج السياسي الذي يتجاوز الشعارات والتكتيك المؤقت. المشروع السياسي الذي يفتقر إلى شفافية المسؤولية والالتزام بالمواطنة المتساوية لا يمكنه أن يستمر في العيش على أطراف الأنظمة السياسية. كما أن ممارسة السياسة تحتاج إلى التزام جاد بالقيم الوطنية، والتي لا يمكن أن تتوافق مع أي استثمار في الجهل أو في الألعاب السياسية المزدوجة. ولذلك، فإن المراجعة الجادة من داخل هذه الجماعات تعد خطوة أساسية نحو بناء مشروع سياسي بديل قائم على المبادئ الوطنية والسلمية، والذي يراعي مصلحة المجتمع بأسره.

مقالات مشابهة

  • مدبولي: نعاني اليوم من أزمة أمنية غير مسبوقة في منطقة البحر الأحمر
  • “إغاثي الملك سلمان” يُجري 40 عملية لزراعة القوقعة للأطفال الفلسطينيين بالأردن 
  • الأمن الأردني بمواجهة التحديات.. قراءة في عملية تفكيك شبكات العنف الاخواني
  • البحر الأحمر الدولية تكشف عن “لاحق”.. أول جزيرة سكنية خاصة للعيش برفاهية في المملكة
  • تعرف على جدول أعمال "مواصلات النواب".. اليوم
  • الحوثي: غارات أميركية تستهدف مناطق في وسط وغرب اليمن
  • تركيا تعلن عن اكبر عملية ترميم في تاريخ “آيا صوفيا”
  • فينسون” في البحر العربي.. كيف ستستقبلها “قوات صنعاء” ..!
  • لا تأثير للحملة الامريكية على “قوات صنعاء”.. بيان عن عملية جديدة في اقل من ساعة
  • اليمن يواصل تغيير قواعد اللعبة