الكتاتيب القرآنية في سورية موروث ديني واجتماعي وحضاري
تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT
الكتاتيب مفردها كُتّاب، وهي لفظة مشتقة من التَّكتب وتعلم الكتابة، وذكرها ابن منظور في لسان العرب بأنها “موضع الكتابة”، وفي معناها السائد مجالس تعليم القرآن الكريم واللغة العربية. وانتشرت ظاهرة الكتاتيب في العصور الإسلامية، وكان هدفها الأول تعليم الصغار مبادئ الخط والإملاء والحساب والكتابة، والثاني تعليم القرآن والحديث النبوي ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف.
وزادت أعدادها مع اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية، وكان للفاتحين دور مهم في إيجاد الكتاتيب في البلاد المفتوحة، فكثرت الكتايب في دمشق وحلب والقدس وحمص والبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان وغزة والنوبة واليمن وبلاد أخرى، وقد عدَّ أبو القاسم بن حوقل في كتابه “المسالك والممالك” أكثر من ثلائمائة مُعلمٍ كتّاب في مدينة بلرمو بصقلية، وذكر ياقوتُ الحمويِّ بأنّ كتّابَ أبي القاسمِ البَلْخيِّ كان يضمُّ ثلاثةَ آلافِ طفلِ حتى أنَّ البَلْخيَّ كان يحتاج إلى ركوبِ حِمار حتى يتمكن من المرورِ على جميعِ التَّلاميذِ والإشرافِ عليهم، ومن جهة أُخرى اهتمَّ الخلفاء في العهدِ العباسيِّ والسلاطين الأيوبيين والعثمانيين بأمرِ الكتاتيب، وذلك لدعم الجهاز الإداري للدولة، وهنالك عدد من الوقفيات التي تبين مدى عناية الخلفاء وأفراد الأسر الحاكمة بتشييد الكتاتيب والإنفاق عليها.
ما هو نظام ومنهج التعليم في الكتاتيب؟كان التعلُّم في الكُتاب يأخذ معظم نهار الطالب من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر أو العصر عدا يومَ الجمعةِ غالبًا، ويختلفُ منهج التعليم من كُتاب إلى آخر حسب المعلم، ومستوى ثقافته، حيث يجلس المعلّم على الأرض مواجهًا طلّابه، ويتجمّع التلاميذ المبتدئون على مسافةٍ قريبةٍ من الشيخ المعلِّمِ، ويقوم مساعدٌ له من الطلبة المتميّزين بإرشادهم، وغالبًا ما يعتمد التحفيظ على وسائل معروفة من ألواح خشبيّةٍ وأقلام.
أوّل ما يبدأ به الطالب في الكتاب هو تعلم الحروف والكتابة والقراءة عن طريق الشيخ أو عن طريق مساعديه، ثم يلقّنُهُ الشيخُ القرآنَ الكريم إلى أن يتعلّم، ويصبحَ ماهرًا يكتُبُ لوحَهُ بيدِهِ، ويُلزِمُهُمُ الشيخ باستظهار القديم قبلَ الجديدِ من المحفوظ، ولا يسمحُ بالخطأ فيه، فإن أخطأ يكلّفُه بإعادته مرّات ومرّات حتى يستظهرَه، وقد يعاقبُهُ إن أخطأ.
وإذا أتم الطفل أو المتعلم مدة الدراسة في الكُتّاب، وحفظ القرآن أو رواه؛ امتحنه المعلم لمعرفة ذلك، والتأكد منه، فإذا اجتاز الامتحان احتفل ﺑ «الختمة»، ثم يدخل معركة الحياة العملية، أو يبدأ دراسته المتعمقة في المساجد إذا ما أراد ذلك.
كانت تلك مجمل الطريقة المتبعة في الكتاتيب في مختلف أرجاء العالم الإسلامي قديماً وحتى حديثاً مع اختلافات طفيفة هنا وهناك، وربما استهجنها بعض المعاصرين لبساطتها، واعتمادها على الحفظ والتلقين، إلا أنه إذا نظرنا بتجرد وحيدة إلى مخرجات العملية التعليمية لوجدنا ما يفيد كفايتها ومتانتها؛ فالنتائج التي حصل عليها التلاميذ كانت جيدة للغاية، فقد حفظ قتادة القرآن في سبعة أشهر، وأتم سهل بن عبد الله التستري القرآن، وله ست أو سبع سنوات، ويروي ابن العديم أنه ذهب إلى المكتب، وعمره سبع، وختم القرآن، وله تسع سنوات، وقرأ بالقراءات العشر، وله عشر سنين.
الكتاتيب ونظام التعليم المدرسيتطورات الكتاتيب الإسلامية في العصور اللحقة، وفي عام 345ه، شيّد الإمام أبو حاتمٍ البُستيِّ المحدِّثِ المشهور مدرسةً (داراً) في بلدةِ بست، وفي عام 349ه، أقام الإمامُ النينسابوريُّ من الشافعيَّة مدرسةً له بنيسابور. ولقد ظهرت في منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، مدارس التعليم الإسلامي بجهود الوزير السلجوقي نظام الملك “المدارس النظامية”. ولقد تميزت المدرسة عنِ المسجدِ ببعضِ الميِّزات، ولعلّ أهمَّها الإيوانُ أو قاعةُ المحاضراتِ والمساكنُ المعّدَةُ لسكن الطلبةِ والمدرِّسين، وكانتْ مجهَّزة بالأثاث والأدوات الضرورية للمعيشة كالأواني والموائد والمصابيحِ وغيرِها.
وبرزت في بلاد الشام نماذج متعددة، ففي دمشقَ وحلبَ العديدُ من الأمثلةِ عن تلك المدارسِ، ففي دمشق اشتهرت المدرسةِ الظاهريَّةِ، والعادليَّةِ، وفي حلب مدرسةِ الفِردَوس، والمدرسة الظاهريَّةِ البرّية، والكماليَّةَ، والشاذبخيتيَّةِ.. وغيرِها.
الكتاتيب الحديثة في سوريةعرفت المدن الشامية كغيرها من الحواضر العربية والإسلامية بأنها مؤئل للعلم والدين الإسلامي، وانتشرت المدارس الإسلامية والكتاتيب، واستمرت على نسق واحد في فترة الخلافة العثمانية وحتى ما بعد ذلك سواء في فترة الاحتلال الفرنسي أو الحكومات اللاحقة. ورغم ما شهدته من تضييق ورقابة حكومية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن دور العلماء وتماسك المجتمع ساهم في استمرار عمل الكتاتيب ومدارس القرآن واللغة العربية، وبقيت تلك الكتاتيب منارات فكرية وتوعوية للناس. وبعد الأحداث في سورية، وفي ظل الانقطاع عن التعليم، وإغلاق المدارس بفعل انعدام الأمن وأسس التعليم المدرسي، حيث أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف»، في تقرير أصدرته في 2015، إن أكثر من مليوني طفل في سورية تركوا الدراسة، وأن هناك 5 آلاف مدرسة لا يمكن استخدامها لأنها تعرضت للدمار والضرر أو انها أصبحت تؤي النازحين أو تستخدم لأغراض عسكرية، لافتة إلى أن 20% من الهيئات التدريسية والمربين الاجتماعيين في البلاد تركوا حقل التدريس، والتفتوا للبحث عن الأمان في أماكن أخرى. ولذلك أدت جمعيات ومؤسسات أهلية دوراً في احتواء الأطفال واليافعين المؤهلين للتعليم، وتعليمهم وفق نظام الكتاتيب في مراكز الإيواء والمخيمات، وفي مساجد ودور التعليم القائمة في الأحياء المدينية في دمشق وحلب وحمص وإدلب، وشمل التعليم تحفيظ القرآن الكريم واللغة العربية. فأسهم ذلك بشكلٍ كبيرٍ في محاربة الجهل، وتنوير العقول، وتكسير الركون العلميّ الذي سبّبته الحرب.
لا تزال الكتاتيب القرآنية مراكز إشعاع ثقافي وحضاري مهم في المجتمع السوري، تجمع ولا تفرق، وأدت وظيفتها في تعليم اللغة العربية، والقرآن الكريم، وأسس التربية الإيمانية المعتدلة، ومحاربة الجهل والسطحية، وبدأت تؤسس لجيل قرآني على مبدأ إيماني راسخ، بأنه من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: الکتاتیب فی فی سوریة فی دمشق
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية يهنئ الشيخ الدكتور صالح الفوزان بتعيينه مفتيًا عامًا للمملكة العربية السعودية
تقدَّم الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، بخالص التهنئة إلى سماحة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان؛ بمناسبة تعيين سماحته مفتيًا عامًا للمملكة العربية السعودية ورئيسًا لهيئة كبار العلماء، سائلاً الله تعالى له التوفيق والسداد والعون في حمل هذه الأمانة الثقيلة، وأن ينفع بعلمه وجهده، ويجعل عمله خالصًا لوجهه الكريم.
وعلى صعيد اخر، شارك الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، في مراسم رؤية هلال شهر جمادى الأولى، بولاية لابوان الفيدرالية الماليزية، بحضور المفتي الفيدرالي لدولة ماليزيا، الشيخ أحمد فواز بن علي فاضل، وعدد من أعضاء لجنة الفلك ورؤية الأهلة، ولفيف من كبار الشخصيات الدينية والعلمية بالولاية، وذلك على هامش زيارة فضيلته الرسمية للبلاد التي تستغرق عدة أيام.
هذا، وقد ألقى مفتي الجمهورية محاضرة علمية بجامعة صباح الماليزية، فرع لابوان، حول «علم الفلك ودوره في الحضارة الإسلامية»، حيث أكد فضيلته أن علم الفلك يُعَدُّ من العلوم ذات الأهمية الكبرى في جميع الحضارات والثقافات، مشيرًا إلى أنه يحظى بمكانة خاصة في الحضارة الإسلامية لارتباطه الوثيق بكثير من العبادات والمواقيت الشرعية التي أمر الله تعالى بها عباده.
وأوضح المفتي، أن النصوص الشرعية أكدت هذا الارتباط، مستشهدًا بقوله تعالى، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وقوله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}، وكذلك بحديث النبي ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُبِّيَ علَيْكُم فأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ»، مبينًا أن هذه النصوص تدل على أن علم الفلك ليس علمًا ثانويًا في الحضارة الإسلامية، بل هو علم أصيل يرتبط به أداء العبادات على وجهها الصحيح.
وأشار المفتي إلى أنه رغم أهمية هذا العلم ومكانته، إلا أن بعض المنحرفين قد أساءوا استخدامه وظنوا أنه وسيلة لمعرفة الغيب أو التنبؤ بالمستقبل، مؤكدًا أن هذا فهم باطل يخالف النصوص الشرعية التي جاءت لتقرر أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ومذكرًا بقول النبي ﷺ: «كذب المنجمون ولو صدقوا»، مضيفًا أن المؤسسات الدينية والإفتائية أولت علم الفلك عنايةً كبيرة لما له من أثر في تحديد المواقيت الشرعية، موضحًا أن الحلال والحرام، والصحيح والفاسد، أمور تتصل اتصالًا وثيقًا بمسائل الفتوى، ومن ثم فإن تحقيق العبادة على وجهها الأكمل يتطلب معرفة ضوابطها وشروطها، مثل تحديد طرفي النهار في الصيام، ودخول الوقت في الصلاة، وهما أمران لا يتحققان إلا بمعرفة دقيقة بالحسابات والرؤية الشرعية معًا.
وبيَّن المفتي أن دار الإفتاء المصرية تُولي اهتمامًا خاصًّا بعلوم الفلك والحساب الفلكي، وتتعامل معها بمنهج علمي رصين يجمع بين الجانب الشرعي والعملي، إدراكًا منها لعِظَم المسؤولية وأمانة البيان في توضيح الأحكام الشرعية، مشيرًا إلى أن دار الإفتاء المصرية عند استطلاعها للأهلة ومعرفة بدايات الشهور الهجرية تتبع منهجًا دقيقًا ومنظمًا يعتمد على الرؤية البصرية المدعومة بالحساب الفلكي، وليس على الحساب وحده، تحقيقًا لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وذكر أن دار الإفتاء المصرية تستطلع الأهلة لجميع الشهور الهجرية، وليس لشهور العبادات فقط، وذلك حرصًا منها على تحديد أوائل الشهور بدقة، مشيرًا إلى أن للدار لجانًا منتشرة في مختلف أنحاء الجمهورية في مواقع محددة، وتضم نخبة من علماء الشريعة والفلك والمساحة وغيرهم من المتخصصين، مؤكدًا أن الرؤية البصرية تُعتمد إلى جانب الحساب الفلكي؛ إذ يحدد الحساب مواقع القمر وأوقات غروب الشمس، مما يُعين على تحقيق الدقة في تحديد بدايات الشهور، بما يعكس المنهج المتوازن الذي تنتهجه المؤسسات الإفتائية في الجمع بين المعرفة العلمية الحديثة والضوابط الشرعية الراسخة؛ حرصًا على سلامة العبادات وصحتها، وفي ختام المحاضرة، أجاب فضيلة المفتي عن عددٍ من الأسئلة المتعلقة بموضوع الأهلة، وتبادل مع الحاضرين النقاش حول سبل تعزيز التعاون العلمي في مجال الفلك بين المؤسسات الدينية والبحثية في العالم الإسلامي.
وتأتي زيارة مفتي الجمهورية إلى دولة ماليزيا في إطار تعزيز التعاون العلمي والديني بين دار الإفتاء المصرية والمؤسسات الدينية والبحثية الماليزية، وذلك تلبيةً لدعوةٍ كريمةٍ من فضيلة المفتي الفيدرالي لدولة ماليزيا الشيخ أحمد فواز بن علي فاضل، والتي تستغرق عدة أيام يلتقي خلالها دولة رئيس الوزراء الماليزي، وعدد من العلماء والقيادات الدينية بالبلاد.