جالست العديد ممّن تجرّأوا فكتبوا سيرَهم الذاتية في مراحل متقدمة من حياتهم الاستثنائية، وقد سألتهم وقتذاك عن سبب إقدامهم على كتابة سيرهم الذاتية بأيديهم؟ وعن توقيت كتابتها؟ والحقيقة أن هذه الأسئلة المِلحاحَ بطبيعتها تتطلب أجوبة لا يمكن رصدها بدقة، فهي قابعة بين الذاتي الخالص والمسؤولية الاجتماعية التي يشعر بها صاحب السيرة، فحتى تحديد وقت الكتابة إشكالية من إشكاليات هذا النوع من السرد الذاتي، إذ الحاجة لها تبدأ برغبة جامحة بترجمة الذات للآخرين وبمطاردة عسيرة لشريط الحياة التي يحاول فيها صاحبها إرجاء إعلان النهاية، وفي ذات الوقت هي محاولة للقبض على كل التفاصيل والملفات وللتخلص من ظلال الرقيب وحارس اللسان.

 
كَشفُ الذات دفعة واحدة للآخرين مسألة عسيرة، ذلك أن كاتبها سيقف في العراء أمام ثلاث مرايا هي: مرآة الذّات الكاتبة ومرآة الذات الرّاوية ومرآة الذّات الشخصية الورقية، كما أن القول بمتعة كتابة الذات طرحٌ غير دقيق برأيي؛ ذلك لأن المتعة ستكون حصراً للقرّاء الشغوفين والفضوليين حين يشاهدون أتون الصراع الذي وقعت به شخصيتهم المفضّلة، فيتتبعونها بعين وأذن طفل يسرد له قصة إنسان؛ طريقة عيشه ونضاله الحياتي التي لم تكن بتلك السهولة واليسر، فهم أمام مشاهد متصاعدة من الطفولة وحتى الكهولة، ومن اليأس إلى الفرح، ومن الفشل إلى النجاح، كل ذلك يرافقه الكثير من القلاقل والاعترافات المتأخرة، إنها في الحقيقة استجواب ذاتي لا يمكن وصفه نقدياً بأنه وثيقة تاريخانية لفرد، كما أنها نبش في الذاكرة وفي ملفات الحضور والغياب، وبحث عن هيئة الذات وفي تلابيب الذاكرة حيث  ملفات أخرى حفظت له الكثير من الخطيئة والاعتدال والندم، فكتابة السيرة الذاتية لا تعني أن كاتبها يخشى النسيان؛ فقد تعني أحياناً أنه يصرّ على ما قاله أو على ما فعله متحدياً بذاك عجلة الزمان التي نقلته من دون احتساب إلى أماكن لم يتوقعها أو يُحبها. 
السيرة الذاتية في المدرسة الفرنسية هي الصمود أثناء الوقوف على صخرة الاعتراف حين تحفها ريحٌ عاتية، بيد أن جل من يكتبون سيرهم اليوم إنما يصدون الخوف عنهم، أو يريدون جرد الحساب من خلال تأمل البيادر والطريق خلفهم، ولو قارنّا هنا كتابة الشعر والرواية بكتابة السيرة لوجدنا أن الأدب إبداعٌ مجازي، وقد يكون حالة تشويهية قام بها الأديب بغية مجاراة الواقع واستعادته والقبض على إحدى لحظاته الخاصة وصوغه من جديد وبلغة مجازية مفعمة، في حين أن لغة السيرة الذاتية اختلفت من حيث إنها استعمال شخصي ومكلف للغة! 
لا يخفى على أحد  أن كثيرين ممن كتبوا سيرهم الذاتية قرّبوا بعدساتهم القلمية لحظات ماضية بعينها كما أنهم أغفلوا أخرى، وكأنهم قُمِعوا لحظة الحدث ذاك أو أُسكتوا أو سَكتوا، فقد قرأت في سير ذاتية عديدة وهي في الحقيقة لأكاديميين ومبدعين ومفكرين، وهؤلاء قبعوا في الظل طويلاً، حين عانى الكثير منهم التهميش والعزلة والإقصاء في بعض الأحايين، لذا فإن مسألة التبرير لديهم غير واردة كثيراً بقدر ما هي رغبة في مسح الضبابية عن زوايا معتمة كثيرة، وهنا يقول امبرتو ايكو إننا عندما نتقدم بالسن نصبح قادرين على تذكر أشياء من الطفولة بشكل واضح، فقد تفتح السيرة الذاتية المكتوبة أبواب الماضي على مصراعيه وتتجلى حينها الحقائق من جديد وتصبح الفرجة الجديدة فرصة جديدة لمزيد من الندم والابتسام والاختباء.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

 

أخبار ذات صلة محمد خليفة المبارك يكتب: المنطقة الثقافية في السعديات.. إرثٌ حيٌ لزايد المؤسس الصورة الفوتوغرافية كتابة ضوئيّة للعالم

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الثقافة السيرة الذاتية السیرة الذاتیة

إقرأ أيضاً:

حكم كتابة الأذكار على كفن الميت.. الإفتاء توضح

كشفت دار الإفتاء المصرية، عن حكم كتابة الأذكار على كفن الميت على الكفن، مشيرة إلى أن الشرع حث على تكفين الميت في الثياب الحسنة، والفقهاء اتفقوا على أن تكفين الإنسان وستره عند موته فرضُ كفاية، إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين. 

وأضافت دار الإفتاء، في فتوى عبر موقعها الإلكتروني، أن الكفن حق واجب على الأحياء؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك، ولأن حُرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًّا، والسُّترة واجبة في الحياة، فكذلك بعد الموت.

حكم كتابة القرآن والذكر على الكفن

وشددت الإفتاء على أن كتابةُ بعض آيات القرآن الكريم أو غيرها مما يشتمل على صيغ الذكر وأسماء الله تعالى على الكفن حرامٌ شرعًا، ولا يجوز الإقدام عليها؛ موضحة أن ذلك فيه من تعريض الآيات والذكر للامتهان والتنجيس بمُلاقاة الصديد الخارج من بدن الميت والدم ونحو ذلك.

وأوضحت دار الإفتاء، أن كتابة آيات القرآن والأسماء المعظَّمة على الكفن، فيه غاية الامتهان، وذلك لملاقاتها للنجاسة الخارجة من الميت كالصديد والدم ونحو ذلك، ومعلومٌ أنه لا إهانة كالإهانة بالتَّنجِيس؛ لأن النجاسة ناتجة عمَّا هو مُستقذر من الصديد والدماء والأعيان النجسة، التي يأنَفُ الإنسان منها ويحترز عنها، ولأن النجاسة غاية الامتهان، إذ جعلها اللهُ عذابًا للكافرين، قال الله تعالى: ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ۝ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ [إبراهيم: 16-17]، وقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ [الجاثية: 11].

هل تعليق صورة المتوفى على الحائط حرام؟.. الإفتاء يجيبحكم الاستعانة بقراءة الفاتحة على نجاح الأمور.. الإفتاء توضحكيف يقف القائم بجوار الجالس على الكرسي في الصلاة؟.. دار الإفتاء تجيبهل يكفي قول دعاء الاستخارة بدون صلاة ركعتين؟.. الإفتاء: يجوز بشروط

أقوال الفقهاء في كتابة الأسماء المعظَّمة والأذكار على الكفن

قد نصَّ جمهورُ الفقهاء على عدم جواز كتابة شيء من آيات القرآن الكريم وغيره مما يشتمل على لفظ الجلالة من الأذكار والأسماء المعظَّمة على الكفن؛ لأن ذلك يُعَرِّضه إلى الامتهان قطعًا، من جهة ملاقاته للنجاسة كالصديد الناتج عن تحلُّل بدن الميت -كما قررنا سابقًا- ومن جهة أخرى أنه مُعرَّضٌ لملامسة الأرض مباشرةً بلا حائل، ولا يخفى ما في هذا من عدم احترام للنَّصِّ الشريف.

قال الإمام كمال الدين بن الهُمَام الحنفي في "فتح القدير" (1/ 169، ط. دار الفكر): [تُكره كتابةُ القرآنِ وأسماءِ الله تعالى على الدراهم والمحاريب والجدران وما يُفرَش] اهـ. فأفاد أن ما يُكتَب على كفن الميت من نحو بعض آيات القرآن الكريم والذكر وما هو معظَّم في الشرع الشريف ممنوعٌ مِن باب أَوْلَى ولا يجوز؛ لأنه يكون عُرضَةً للنجاسة من صديد الميت ونحوه، كما في "رد المحتار" للإمام ابن عَابِدِين (2/ 246-247، ط. دار الفكر)، مستشهدًا بما نص عليه الإمام الحافظ تقي الدين بن الصَّلَاح في "فتاويه" (ص: 262).

ومن المقرر في مذهب السادة الحنفية أنهم إذا أطلقوا الكراهة ولم يقيِّدوها بـ"التنزيهية" فالمراد منها كراهة التحريم، كما في "رد المحتار" للإمام ابن عَابِدِين (1/ 224)، و"البحر الرائق" للإمام زين الدين بن نُجَيْم (1/ 137، ط. دار الكتاب الإسلامي)، ومِن ثَمَّ فيَحرُم عندهم كتابة شيءٍ من القرآن أو الذكر على كفن الميت.

وقال الإمام أبو البركات الدَّرْدِير المالكي في "الشرح الكبير" (1/ 425، ط. دار الفكر): [وظاهره أن النقش مكروه ولو قرآنًا، وينبغي الحرمة؛ لأنه يؤدي إلى امتهانه، كذا ذكروا، ومثله نقش القرآن وأسماء الله في الجدران] اهـ.

قال الإمام الدُّسُوقِي مُحَشِّيًا عليه: [(قوله: وينبغي الحرمة.. إلخ) أي: وأما كتابة ورقة ذكرًا ودعاءً وتعليقها في عنق الميت فحرام، ويجب إخراجها إن لم يطل الأمر، وأما المصحف فيجب إخراجه مطلقًا] اهـ.

وقال الإمام البُجَيْرِمِي الشافعي في "تحفة الحبيب" (2/ 275، ط. دار الفكر): [يَحرُم كتابة شيء من القرآن على الكفن، صيانة له عن صديد الموتى، ومثله كل اسم معظم] اهـ.

وقال الإمام الرُّحَيْبَانِي الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (1/ 874، ط. المكتب الإسلامي): [وقواعدنا معشر الحنابلة تقتضيه، أي: تحريم الكتابة على الكفن لما يترتب عليه من التنجيس المؤدي لامتهان القرآن] اهـ.

مقالات مشابهة

  • أمين عام البحوث الإسلامية: النبي قدّم نموذجا واقعيا لتطوير الذات
  • «نار نار».. أول تعليق من سما المصري على ظهورها مع نزار الفارس
  • أهمية وتأثير الأسماء في تشكيل الهوية
  • حكم كتابة الأذكار على كفن الميت.. الإفتاء توضح
  • هكذا كان رد فعل المجلس الانتقالي من إعلان الإدارة الذاتية في حضرموت
  • محافظ المنوفية: تنمية الموارد الذاتية والتفكير خارج الصندوق لتحسين جودة الخدمات
  • ما حكم كتابة بعض الآيات والأذكار على الكفن ؟ .. الإفتاء تجيب
  • بالمصرى .. الألقاب المدفوع فيها شعور زائف بالعظمة وانتفاخ الذات الوهمي
  • وزارة المالية تُطلق برنامج الرقابة الذاتية
  • لتمكين الممارسين الماليين وتعزيز مهاراتهم.. وزارة المالية تُطلق برنامج الرقابة الذاتية