ثمة كتب تحتاج جُهدًا كبيرًا من القارئ، إذ أنها تتطلب أحيانا محاولات عدّة قبل أن تفتح أبوابها له (وربما لا تفعل ذلك، بل تبقى مقفلة أمامه). وثمة كتُب أخرى، تبدو أسهل من دون أدنى شك، إلا أننا نعرف، ما أن نقرأ السطور الأولى منها، بأنها ستأخذنا وتحملنا بين جناحيها، لدرجة أننا لن نُقفلها إلا بعد أن نكون قد أنهينا قراءتها كاملة.
على الرغم من «سوادها» أو «سوداويتها»، فيما لو جاز القول، بالمُحصّلة العامة، إلا أن رواية «لا شيء أسود بالكامل» الأولى (منشورات نوفل، بيروت) للكاتبة اللبنانية عزة طويل (المقيمة في كندا) تأخذنا في مُتعة السرد، منذ لحظات البداية، وكأنها تُشركنا في رحلتها على «دراجتها الهوائية» هذه، على الرغم من أننا لم نزُر معها، طيلة الرحلة، سوى المقابر والموت والحروب المتنقلة، ما بين بيروت وسوريا، والمخيمات الفلسطينية، وبالتالي، لم نرَ سوى انهيار كائنات واقفة على حدّ فاصل بين ضفتين: من جهة هناك الحياة التي لا تُعاش، لأسبابها الكثيرة والمتنوعة، ومن الجانب الآخر، هناك الموت الذي يُنهي كلّ هذه الحياة الفيزيائية، حتى وإن لم يُقدّم حلا لها؛ لأنها -أي الحياة هذه- تستمر عند الآخرين، في الذكريات والذكرى التي نتركها عندهم، وكأنهم يجدون أنفسهم مجبرين، على «تفكيك الألغام» التي تركناها لهم بعد رحيلنا.
هكذا تبدو شخصيات الكتاب، النسائية تحديدا، التي لم تعرف فعلا كيف تواجه مرورها على الأرض، ولا حتى كيف تستقبل الموت الذي نراها تذهب إليه. لذا يبدو الموت في هذه الرواية (أو بالأحرى «النوفيلا»)، أكثر من شرط حياتي، بمعنى أنه ليس خاتمة الرحلة الطويلة المنطقية، بل يبدو في أحيان كثيرة وكأنه يدخل في لعبة مرايا، أو لنقل في لعبة تبادل أدوار: الموت هو الذي نعيشه على الأرض في كلّ لحظة، في كلّ تفصيل، وفي كلّ تنهيدة، بينما الحياة ليست سوى فكرة «ميتافيزيقية» لا يمكن الولوج فعلا إلى معناها أو إلى أعماقها. بمعنى أنه ربما يمكن تفسير الموت، لكن السؤال الأساس: من يفسر لنا معنى الحياة؟
«بطلات» -أو الأصح- «لا بطلات»، يقفن أمام سياق شرطهن التاريخي والاجتماعي، حيث لا يستطعن، بالعمق، الهروب منه. نحن أمام ثلاث نساء: الراوية التي تحاول أن تلملم نُتف هذه الذاكرة، التي تصلها عبر «أخبار وقصص» الآخرين، لتحاول أن تؤلف منها حياة ما، لتستقيم معنى حياتها هي. إذ لا تكتمل هذه «اللعبة» إلا في إيجاد امتداد لها عند المرأتين الأخريين. وكأن ثمة «حيوات صغيرة»، أشبه بلعبة «البازل»، ينبغي أن نضع قطعها الكرتونية، جنبا إلى جنب، كي يكتمل المشهد. هناك أيضا صديقتها، التي تحاول إجهاض الجنين الذي أتى من ثمرة علاقتها مع صديقها، والتي تدخل لاحقا في دورة الحياة العادية، أي تلك المطحنة التي تُغيّب حسّها الإنساني في الواقع. بينما المرأة الثالثة، فليست سوى حماة الراوية (أم زوجها) التي نكتشف كارثة حياتها الزوجية، التي استمرت لعشرين سنة من دون أي علاقة جسدية مع زوجها، بسبب الخلافات بينهما، ولكنها ارتضت في النهاية أن تبقى في المنزل العائلي، بسبب أولادها.
نماذج قد نصادفها في أي مجتمع، هذا صحيح، لكن ما يبدو الأهم في هذا النص، أن الكاتبة تقترب من موضوعها بعيدا عن أي أيديولوجيا مسبقة، بعيدا عن أي أفكار قد تثقل نصها، لذا تترك عملية السرد متفلتة من هذه القيود، لتذهب إلى أقصى فكرتها التي تتبدى من طيّات الكتابة، هذه الكتابة التي تعتمد بالدرجة الأولى، على التقطيع السينمائي المتداخل، وأقصد أن السرد لا يعتمد على خط أفقي من البداية إلى النهاية، بل تتداخل الأزمنة في بعضها البعض، لتكون في النهاية هذه المشهدية التي تشكل اللوحة العامة، بعد أن تكتمل الصور الراهنة. وحين أقول الراهنة، فالمقصود: تلك الأحداث اليومية، تلك التفاصيل التي نسميها اصطلاحا الحياة؛ لأن كل شيء يجري على خلفية قاتمة، هي خلفية هذه الحروب المتنقلة في «أوطاننا السعيدة»، وبالتالي على خلفية إضافية لهذا الأسود: هذا الموت.
قلت قبل قليل، إن ثمة لعبة مرايا بين الحياة والموت، وتبادل أدوار، ربما لأنهما يشكلان قطبي كل كتابة. فالأدب، في غالبية الأحيان، ليس سوى لعبة مرايا بسيطة، تتأمل من خلالها الشخصيات بعضها بعضا، كما يجاوب بعضها بعضا عبر أثير الصدى لتغض الطرف عن الحدود واللغات والزمن الذي يمضي. لذلك، لا تبدو المصادفات أمورا طارئة أبدا، بل تشكل جزءا من سلسلة طويلة، تتشابك حلقاتها أحيانا بشكل مدهش، لتتناسل منها صلات، يبدو سبب وجودها، للوهلة الأولى، غامضا بشكل كبير. من بلد إلى آخر، ومن كتاب إلى آخر، ثمة لُحمة تخلق نفسها بنفسها، لُحمة غير محسوسة أغلب الأحيان، إلا أنها تحيلنا إلى حلم ما في نهاية الأمر: حلم كل كاتب، بل هو حلم الأدب في كليته، أي الوصول إلى العمل الواحد. من هنا، لا بدّ أن ننتظر الكتاب الثاني من عزة طويل، ليتأكد هذا الإحساس بأن كاتبة لبنانية قد ولدت لتوها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أردوغان يُنذر "الانفصاليين" في سوريا: إلقاء الأسلحة أو الموت
وسط أعمال عدائية بين مقاتلين سوريين مدعومين من تركيا، والمسلحين الأكراد، منذ سقوط بشار الأسد هذا الشهر، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اليوم الأربعاء، إنه يجب على المسلحين الأكراد في سوريا إلقاء أسلحتهم، وإلا "سيُدفنون" في الأراضي السورية.
وقال أردوغان، اليوم الأربعاء، لنواب حزب العدالة والتنمية الحاكم في البرلمان: إن "هدفنا الوحيد هو ضمان السلام والرفاه والاستقرار بأقوى الأشكال في كل شبر من أراضي منطقتنا بدءاً بسوريا، وإما أن يلقي الجناة الانفصاليون في سوريا أسلحتهم، أو يدفنوا هناك معها".
Turkish President Erdogan:
The separatist killers will either lay down their arms or be buried with them in Syrian soil.
Whatever plans the terror group and its supporters have, we have our own. pic.twitter.com/CKzji25DGh
وأضاف أنه "منذ 3 أسابيع وحلفاء الأسد في حداد، وبدأت تتكشف نواياهم في صب جام غضبهم جراء فقدانه على المظلومين".
وأكد الرئيس التركي أن "تنظيم داعش ليس تهديداً للغرب فقط، بل لنا ولسوريا والمنطقة أيضاً، وسنساعد من يريد العودة من السوريين إلى وطنهم، ولكن لن نرغم أحداً على المغادرة".
LIVE: Türkiye’s President Recep Tayyip Erdogan speaks at AK Party Group Meeting in Ankara https://t.co/6WgunFUDRK
— TRT World (@trtworld) December 25, 2024وأضاف أن "تركيا ستفتح قنصليتها في حلب قريباً"، مردفاً أن "تركيا تتوقع زيادة في حركة المرور على حدودها في صيف العام المقبل مع بدء عودة بعض الملايين من المهاجرين السوريين الذين تستضيفهم".