براءات الاختراع الغذائية موجودةٌ لتبقى
تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT
في عام 1983م، تقدمت شركة نستله (Nestlé) العالمية بطلب الحصول على براءة اختراع لعملية إنتاج عصير الخضار من خلال التخمير، وذلك على غرار العملية المستخدمة لصنع مخللات الملفوف أو ما يسمى الكيمتشي في المائدة الكورية، شمل طلب نستله (15) دولة بما في ذلك كوريا التي تعتبر مصدر المعرفة المرتبطة بتقنية الإنتاج، تم رفض الطلب في كوريا لأن المنتج الغذائي كان مشابهًا للكيمتشي الكوري التقليدي، ومع ذلك، تمت الموافقة على طلبات براءات الاختراع لهذه العملية التصنيعية في الأربع عشرة دولة الأخرى، وتم استغلال العملية تجاريًا في هذه الدول، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، تم إنتاج عصير الخضراوات ذي النكهات وذلك باستخدام عملية التخمير مع إضافة البروتين المتحلل مائيًا، ويعود السبب وراء حصول نستله على براءات الاختراع لهذه العملية في الدول الـ 14 الأخرى هو أنه في عام 1983، لم تكن هناك مرجعيات قانونية ورسمية متاحة لمنع نستله من الحصول على براءة اختراع لعملية صنع عصير الخضار من خلال عملية التخمير التي هي في الأساس جزء لا يتجزأ من المعارف التقليدية الكورية، وليست مجرد وصفة غذائية يمكن تطويرها وتحديثها ثم حفظها عن طريق براءة الاختراع، وهذه القصة تطرح موضوعًا بالغ الأهمية وهو مدى الإلمام بأهمية ونطاق الأصول الاستراتيجية غير الملموسة للمعرفة التقليدية المرتبطة بالغذاء، ومدى توفر الأطر الداعمة لحفظها وحمايتها لقيمتها المعنوية، وكذلك القيمة الاقتصادية.
ويعود أصل هذا التحدي في كون أنه عندما يأتي ذكر براءة الاختراع أو براءة المنفعة يتبادر للذهن الابتكارات التكنولوجية المعقدة، والتي تنتج من التجارب المختبرية الدقيقة، وبالمثل إذا تحدثنا عن قانون الطبع والنشر فإن الصورة النمطية التي تتشكل لدينا سوف تتمحور حول الكتابات الإبداعية؛ الشعرية منها والنثرية والروائية، ولكن في الواقع هناك جوانب غير ملموسة في ثقافة ومعارف الغذاء غائبة عن الصورة، حيث تسعى القطاعات المختصة بتطوير اقتصاد الغذاء إلى إحداث تحول جذري في أدوار الغذاء من كونها متطلبًا إنسانيًا للبقاء إلى استثمار علمي واجتماعي مدفوع بالابتكار، مما يعني أن الابتكار في الغذاء يمتد من تجارب مهندسي التصنيع الغذائي، وعلماء التخصصات العلمية في الغذاء، ومطوري فروع التغذية، إلى صانعي الأطباق والوجبات المبتكرة من الطهاة، ومدوني الغذاء وموضوعاته، والمختصين بتاريخ الغذاء والمعرفة التقليدية، والكتاب والمؤلفين والفنانين، فالمعارف التي تصاحب الغذاء هي في الأصل كنوز رافقت حياة الإنسان ووجوده على هذا الكوكب، ومع هذا الكم الواسع من الأنشطة ذات النتاجات الإبداعية في الغذاء إلا أن قوانين الملكية الفكرية لا تغطي منها سوى المعارف التقليدية، والمؤشرات الجغرافية، والأسرار التجارية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أصبح لزامًا على العلماء والباحثين ومتخذي القرار والقطاع الصناعي إعادة النظر في جميع المخرجات الإبداعية في الغذاء باعتبارها أعمالًا ابتكاريةً أصليةً وقابلةً للصون والحماية؟.
في البدء تعالوا نتعرف إلى الاتجاهات الراهنة في صناعة الأغذية على مستوى العالم، نجد أن التركيز الأكبر يقع على المساهمة في تحسين جودة الحياة، وتنمية الاقتصاد الوطني من خلال تطوير التصنيع الغذائي وفق التطورات التكنولوجية والمعرفية، وتعزيز الارتباط التكاملي بين صناعة الأغذية والصناعات الإنتاجية الأولية مثل الزراعة والرعي وصيد الأسماك وأنشطة المناحل، وذلك من أجل ضمان استدامة الإمداد الغذائي، وتحقيق التوازن بين الصناعات الغذائية المتقدمة من جهة، ومن جهة أخرى المحافظة على الأغذية التقليدية واستثمارها على نحو يعزز القدرة التنافسية لصناعات الغذاء المحمية بحقوق الملكية الفكرية، ومن هنا يمكن تعريف مصطلح «الغذاء التقليدي» على أنه الطعام الذي يتم إنتاجه ومعالجته وطهيه وفقًا للوصفات الموروثة من الأجيال السابقة، وباستخدام المنتجات المحلية التي تتوفر في الحيز الجغرافي كمدخلات أو مكونات رئيسية لهذه الأغذية، وبالمثل يشير مصطلح «طرق الغذاء التقليدية» إلى الوصفات الموروثة منذ العصور السالفة والتي يتم تطويعها تبعًا لتطور الحياة ومعالمها وإمكاناتها، وهي تمثل العمليات الأساسية في تصنيع الغذاء التقليدي، وطرق الغذاء هي أكثر أجزاء منظومة الغذاء التقليدي حساسية لكونها الحلقة الأضعف من حيث قابليتها للتغيير المستمر بحكم اختلاف المكونات أو تغيير البيئة المحيطة، ويطلق عليها علماء الأنثروبولوجيا مصطلح «المعرفة القديمة»؛ لأنها تتطور مع تقدم حياة الإنسان، وتكتسب أبعادًا أخرى، والتحدي الحقيقي يكمن في القدرة على حفظ المعرفة القديمة، فهي تقع ضمن الموروثات الثقافية غير المادية، والمعارف المجتمعية الضمنية المعرضة لخطر الاندثار إذا لم يتوفر التأطير الملائم لصونها.
وإذا تأملنا التجارب الناجحة في توظيف أصول الملكية الفكرية في الغذاء نجد أن معظم دول شرق آسيا قد تفوقت في هذا المجال، والأمثلة كثيرة عن الوجبات الأسيوية الحائزة على براءات الاختراع وبراءات المنفعة والتي عبرت الحدود الإقليمية لتصل على جميع دول العالم محققةً أرباحًا خيالية في قطاعات اقتصاد الغذاء، وهذا يقودنا إلى مصطلح «المؤشر الجغرافي» الذي يشير إلى المنتجات الزراعية أو السمكية والمنتجات المصنعة منها، والتي تتمتع بسمعتها وجودتها وسماتها المميزة الأخرى، التي اكتسبتها بشكل أساسي من الخصائص الجغرافية والمناخية للمنطقة التي ظهرت فيها، وكذلك تمت عملية تصنيعها ومعالجتها وفقًا للمعارف السائدة في تلك البقعة الجغرافية، وينظر خبراء الغذاء إلى طرق الغذاء بكثير من التركيز والأهمية باعتبارها تشبه بطاقة البيانات الفنية التي تعكس طريقة التصنيع أو الإنتاج وهي أساس المعلومات والمعارف ذات التطبيقات التجارية وذات القيمة الاقتصادية.
وإذا أسقطنا جميع هذه الأبعاد على واقع منظومات الابتكار الوطنية في الاقتصادات الناشئة نجد أن الجوانب ذات الصلة ببراءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية لم تحصل على التركيز الاستراتيجي الواسع، على الرغم من الغنى والوفرة الكبيرة في البيانات الفنية المرتبطة بالغذاء التقليدي إلا أن الوعي المجتمعي يعد من أبرز المعيقات نحو اكتساب القيمة التجارية والاقتصادية لهذه الأصول، وما يثير الاهتمام حقًا أن هناك ممارسات يمكنها أن تحقق ارتفاعًا إيجابيًا في العديد من مؤشرات الملكية الفكرية على المستوى القطاعي، مثل حماية وصفات الطعام التقليدية التي تمتلكها عائلة معينة باعتبارها سرًا تجاريًا، أو تطوير المعارف التقليدية لدعم الصناعات الغذائية ذات البعد المعاصر والأصالة معًا، وحمايتها أيضًا باعتبارها أسرارًا تجارية، إذ أن حماية حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالصناعات الزراعية والرعوية، والمعارف الزراعة التقليدية يمكن أن تتخذ صورًا متعددة لتغذية مؤشرات العلامات التجارية، ومؤشرات المناطق الجغرافية، وأصناف النباتات، مع تضمين طرق أخرى قيمة لحماية الأغذية التقليدية وطرق الغذاء في ظل أنظمة غير متعلقة بالملكية الفكرية، مثل البحث عن قوانين حماية أخرى لكي تشمل هذه الأصول الاستراتيجية المهمة؛ إذ يمكن أن قوانين حماية التراث الثقافي، واتفاقيات حفظ التنوع البيولوجي في الحفاظ على الأغذية وطرق الغذاء التقليدية واستخدامها، وهذا يضع عبئًا على منظومات الابتكار الوطنية الناشئة في البحث عن أطر تشريعية يمكن تطويعها لتشمل هذا المحور المهم.
إن الثراء الكبير في المعارف المرتبطة بالغذاء وطرق إعداده يشكّل قيمة التراث الثقافي غير المادي بنموذجه الأصلي، وسماته الجوهرية، مما يفرض على مجتمع الملكية الفكرية ضرورة التعمق في الجوانب الموضوعية لحماية هذه الأصول بكافة أطيافها وأبعادها، وتأسيس حقوق مجتمعية دائمة في صون واستثمار هذه المعارف والمكونات التي لا تقف عند حدود المؤشرات الجغرافية، ولكن يمكنها أن تكون رافدًا للتطبيقات التجارية والصناعية للمنتجين الإقليميين والعالميين، وذلك من مبدأ الحفاظ على المعارف والابتكارات والممارسات التي تجسّد أنماط الحياة التقليدية ذات الصلة بحفظ التنوع البيولوجي، واستخدامه المستدام، مع تعزيز تطبيقها على نطاق أوسع بمشاركة تكاملية من جميع الشركاء، وتشجيع التقاسم المشترك للمنافع الناشئة عن استخدام هذه المعرفة والممارسات والابتكارات القائمة عليها، وتعزيز هذه المسارات بتشجيع الابتكارات الغذائية التي يمكنها تطويرها كبراءات الاختراع، وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية توظيف التقنيات الحديثة في التوثيق العميق لهذه المعارف، مثل إنشاء المستودعات الرقمية، والبوابات الإلكترونية التي تتيح التوعية المتكاملة بالمقدرات الوطنية بشأن الأغذية التقليدية وطرق إعداد الغذاء المحلي، مع رسم مسارات الفرص الاستراتيجية لأقطاب هذه المسألة وهما الباحثان والمبتكران من جهة، والقطاعات الصناعية والإنتاجية في الجهة المقابلة، وذلك عبر اتباع النهج المفتوح للابتكار، واستغلال المعارف المتاحة في شق مسارات الوصول إلى السوق، واكتساب القيمة التجارية من المزج بين الأصالة والابتكار والإبداع، ومع استمرار الطلب على الابتكار في دعم إتاحة الوصول للغذاء لإطعام سكان العالم، فإن براءات الاختراع الغذائية يمكنها أن تكون مفتاح حل هذا التحدي، لأنه ومن الناحية العملية فإن الحصول على براءة اختراع غذائية واحدة يمكنها أن تساهم في تحسين فرص الإنتاج والتسويق لعدة خطوط في إنتاج وتصنيع الغذاء، وتطوير منتجات جديدة من خلال البحث والتطوير التكنولوجي والابتكار لتعظيم العائد من الاستثمار.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الملکیة الفکریة براءات الاختراع فی الغذاء یمکنها أن من خلال
إقرأ أيضاً:
وزير الكهرباء: خطة عاجلة لتقليل الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
اكد الدكتور محمود عصمت وزير الكهرباء والطاقة المتجددة على مواصلة العمل لبناء شراكات وجذب وتشجيع القطاع الخاص للمساهمة في مشروعات الطاقة فى ظل اتاحة العديد من الفرص الاقتصادية والاستثمارية في هذا المجال ، مشيرا إلى تهيئة بيئة استثمارية جاذبة ؛ وتذليل كافة العقبات امام شركاء التنمية من القطاع الخاص ، جاء ذلك فى كلمته التى ألقاها فى الجلسة الافتتاحية لمؤتمر أخبار اليوم الاقتصادي ، موضحا العديد من الاجراءات التى تم اتخاذها ، مثل إصلاح البنية التشريعية وإصدار قانون الكهرباء الذى يمهد للتحرير الكامل لسوق الكهرباء، وكذا تخصيص الأراضى لتنفيذ مشاريع الطاقة المتجددة والعمل على توطين التكنولوجيا والتوسع فى صناعة المهمات الكهربائية وإقامة صناعات جديدة لمهمات الطاقة المتجددة اعتمادًا على توافر مستلزمات الصناعة والمواد الخام والعمالة الماهرة ، مشيرا إلى الدور الكبير للطاقة المتجددة في مجابهة تغير المناخ وخفض انبعاثات الكربون للوصول إلى صفر انبعاثات وخفض استخدامات الوقود التقليدي.
اضاف الدكتور محمود عصمت ان قطاع الكهرباء يعمل من خلال خطة عاجلة تستهدف تقليل الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة والحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري من خلال اضافة قدرات تصل إلى ٢٢٨١٥ ميجاوات من طاقتى (شمسي - رياح حتى عام 2030. والاعتماد على بطاريات تخزين الطاقة لأول مره،
موضحا العمل من خلال خطة متكاملة لرفع كفاءة الشبكة الكهربائية لتكون قادرة على استيعاب القدرات الجديدة من الطاقات المتجددة بأعلى كفاءة وأقل فقد، والتحول التدريجى للشبكة الحالية من شبكة نمطية إلى شبكة ذكية ، والعمل بأحدث التقنيات فى إطار استراتيجية الطاقة التى تم اعتمادها مؤخراً والتى تعد محور رئيسى فى رؤية مصر لعام ٢٠٣٠ والأهداف الأممية ال ١٧ للتنمية المستدامة ونجح القطاع فى قطع شوطا واسعا للوصول بمساهمة نسبة الطاقات المتجددة فى مزيج الطاقة لتصل فى عام 2030 إلى 42% وصولا إلى 65% عام 2040 وذلك بفضل الدعم الدائم والمتابعة المستمرة من فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
قال الدكتور محمود عصمت ان أزمة الطاقة التي يشهدها العالم حاليًا تؤكد صحة رؤية مصر واستراتيجيتها بشأن الطاقة وتنويع مصادرها، وأن وزارة الكهرباء لديها القدرة على استقراء مستقبل الطاقة في العالم ، موضحا أن رؤية مصر ٢٠٣٠ تسعى إلى الحفاظ على التنمية والبيئة معاً وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة وتبني أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة ، مضيفا العمل بقوة في اتجاه تعزيز مشروعات الربط الكهربائي والذي يلعب دوراً هاماً في تعزيز أمن الطاقة وزيادة استخدام الطاقة المتجددة على المدى المتوسط والطويل وإدراكاً منها للأهمية الكبيرة لمشروعات الربط الكهربائي بين الدول لخلق أجواء التعاون والحوار ووجود مصالح اقتصادية مشتركة