الشىء بالشىء يذكر، أيام حكم الرئيس جمال عبدالناصر،على مراوغة أمريكا له بقطع المعونة، قال فى أحد خطاباته ردا بأن الشعب المصرى على استعداد لئلا يشرب «كوب الشاى» من أجل توفير ثمن المعونة! فى أعقاب الملكية بعد ثـورة ١٩٥٢ كانت مصر تمر من عنق زجاجة نحو الجمهورية الأولى، وكانت تعانى من ظروف اقتصادية حالكة لم يخفها عبدالناصر عن المصريين، وكان على الشعب المصرى أن يضحى ببعض الترف لتجاوز لزاماالفترات الصعبة.
فقد خـاض الشعب المصرى العديد من المعارك الاقتصادية، أو ما يعرف باقتصاد التقشف، بدأت خلال ثورة عام ١٩١٩ ضد المحتل الإنجليزى، عانى الشعب خـلال تلك الفترة من اضطهاد شعبى واقتصادى من جانب عليه أن يضحى ببعض الترف ويتقبل المحتل، وكـان لـزامـا عقوبات وتعسفات الإنجليز فى سبيل نجاح ثورته وإيصال صوته للعالم.
واعتبرت ثورة ،١٩١٩ النموذج الحقيقى للثورات لأنها أحدثت فى روح الشعب المصرى.
تآلفا فترة حـرب أكتوبر كانت الفترة الأعظم فى تاريخ مصرالحديث على الرغم من سوء الحالة الاقتصادية، لكن تضافرالشعب مع قواته المسلحة، والتحول إلى اقتصاد المعركة كان فى نصر أكتوبر، حيث تحملت الفئات المصرية رئيسيا عاملا فـى السلع، فرضتها حرب اقتصادية صعبة وشـحـا ظـروفـا الاستنزاف، لكن الشعب المصرى لم يتأفف من هذه الأوضاع فى النصر الكبيروشريكا الخانقة فى المعيشة، وكان بطلا الذى حققته القوات المسلحة المصرية وحررت الأرض ومحت عار عزيمة «٦٧»، وظل نصر أكتوبر حتى الآن يدرس فى أكبرعلى شجاعة الجندى الأكاديميات العسكرية العالمية، وشاهدا على المصرى وعبقرية القادة العسكريين المصريين، وتأكيدا ثقة المصريين فـى الرئيس الـسـادات الــذى طالبهم بـ«شد الحزام» لتجاوز تلك الفترة.
لاقتصاد المعركة، أعلن الدكتور عزيز صدقى، رئيس وتأكيدا الوزراء أمام مجلس الشعب، ما أسماه بـ«ميزانية المعركة» التى ترتب عليها التعبئة الاقتصادية التى تم تطبيقها استعدادا لحرب أكتوبر، وتم تحويل الموازنة العامة إلى موازنة المعركة
لتوفير جميع متطلبات القوات المسلحة حتى تحقق النصر الذى من شد الحزام ومن ثم كبيرا تحمل فيه الشعب المصرى جانبا الأعباء الاقتصادية.
نحن فى حاجة إلى اقتصاد المعركة لتجنب آثار الأزمة حاليا الاقتصادية العالمية التى تقع فى قلبها وترتب عليها ارتفاع شديد فى أسعار كل شىء، وتأثر قطاع كبير من المصريين بهذه الأزمة التى صارت حديث كل بيت مصرى. مواجهة هذه الأزمة إلى جانب الحلول التى قدمتها الحكومة لتخفيف الأعباء على محدودى الدخل تحتاج من الجميع إلى أن يدرك أننا فى أزمة، والأزمات تتطلب إجراءات صارمة للخروج منها فى أسرع وقت ممكن، حيث العمل والاتحاد وتعزيز مفهوم «اقتصاد الحرب»وتشمل فى هذه الفترة الحرجة التى تمر بها مصر اقتصاديا الالتفاف حول القيادة السياسية، وزيادة العمل والإنتاج.
والنموفى الناتج المحلى الإجمالى لمصر، إلى جانب ترشيد الاستيراد من الخارج، وتشجيع شراء المنتج المحلى، وتخفيض الإنفاق الاستثمارى وضغط الإنفاق فى كل شىء، والتوقف عن سياسة الجلد، ونعتبر نفسنا فى معركة لابد من عبورها، خاصة فى ظل السياسات الإعلامية الموجهة من الخارج خاصة الغربية والمأجورة التى تحاول الانتقاص من دور مصر فى مؤازرة الشعب الفلسطينى والـدفـاع عن وجــوده ومساعدته فى إقامة دولته المستقلة عن طريق اتباع الحلول السلمية التى تلتف حولها قوات الاحتلال، بهدف إحراج مصر، والتفاف المصريين فى هذا الوقت حول القيادة السياسية محتاج لجرعة زيادة مع إيقاف الشكوى من الأعباء الاقتصادية، وتحمل شد الحبل شوية على الوسط، لأننا فى أزمات كثيرة، وخرجنا منها منتصرين.
فعلناها كثيرا
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: حكاية وطن أحد خطاباته عبدالناصر الشعب المصرى
إقرأ أيضاً:
ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (6-6)
مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، “ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الإنجاز والكبوات (قراءة أولية)”، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، *خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر*، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
عبد الله الفكي البشير
الكبوة الأخلاقية: الفشل في حقن الدماء وتحقيق التسوية الوطنيةوضعت ثورة أكتوبر الأحزاب التقليدية أمام تحد أخلاقي. فالمطلوب حسن التصرف في الحرية في اتجاه مبادئ الثورة حيث حقن الدماء في الجنوب، وتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، حفاظا على وحدة السودان. فخروج الجماهير في ثورتهم بسبب قضية الجنوب، التي وفرت شرارة الانفجار للغضب الشعبي، كان تعبيرا عن الورع الأخلاقي عبر رفض الحسم العسكري للقضية، وبحثا عن سبل تحقيق التسوية الوطنية الشاملة وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة للجنوب، والذي عقد في مناخ ثورة أكتوبر وكان من ثمارها، وهو أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام، فرصة عظيمة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة. إلا أن فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الإثني عشر التي خرجت منه، كان تعبيرا قويا عن عجز الأحزاب السودانية في تحقيق التسوية الوطنية، ومن ثم المفارقة لأشواق الجماهير و”تجميد الأوضاع”. ففي الحفل الذي أقامته لجنة الاثني عشر في مساء يوم 26 سبتمبر 1966 لتقديم تقريرها رسميا إلى الحكومة، جاء في خطاب التقديم “لقد أجمعت الأحزاب السودانية في مؤتمر المائدة المستديرة على أن الوضع الحالي للحكم- الحكومة الموحدة الممركزة- لم يعد يخدم المصلحة القومية، إذ ثبت عجزه عن مواجهة التحديات التي تواجه البلاد الناشئة كبلادنا، التي يسبق فيها الاستقلال السياسي بناء القومية، وحيث تتعدد عناصر الأمة، وتنشأ بالضرورة نوازع الفرقة بينها، نسبة للعوامل الجغرافية والثقافية والتاريخية. وعلى جيلنا هذا، إما أن يقابل هذا التحدي، أو أن يخلد إلى اليأس، وتبديد الطاقة في تجميد الأوضاع”. غاب الورع الأخلاقي في التعاطي مع القضايا وحيكت المؤامرات، ففشل قادة الأحزاب التقليدية في تحقيق التسوية الوطنية، وجمدوا الأوضاع وبددوا الطاقات. ويضيف يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثني عشر، قائلا “ولم يقدر لتلك التجربة أن تؤتي ثمارها للأسف. فقد نكست رايات أكتوبر بعد حين، وعادت النظم الاستبدادية –برلمانية وعسكرية- تتناوب على التسلط والقهر”. ما من ثورة جماهيرية غاب عنها مبدأ الأخلاق لدى قادة الجماهير، كما كان حال ثورة أكتوبر، إلا ونكست راياتها. فغياب مبدأ الأخلاق عند خدمة الجماعة يعني بالضرورة غياب القانون وهو قاعدة الأخلاق، ويعني بالضرورة أيضا، خيانة الجماعة وخيانة مبادئ الثورة. فالأخلاق تعطي الناس الفرصة ليكونوا أحرارا وشجعانا في سعيهم لخدمة الجماعة والفكر والثقافة وأنسنة الحياة، فغياب الأخلاق يعني موت المعاني الإنسانية.
تبع فشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، وهو بمثابة الإعلان عن عجز الساسة في تحقيق التسوية الوطنية الشاملة، أن اتبعت الدولة السودانية، بمختلف أنظمتها السياسية المتعاقبة، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات في أقاليم أخرى، منهج الترقيع والترميم عبر الاتفاقيات الثنائية والجزئية والمؤقتة، في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار والوحدة. فمنذ ثورة أكتوبر، وحتى تاريخ اليوم، لم تتوفر فرصة لتحقيق التسوية الوطنية الشاملة، مثل تلك التي توفرت مع مؤتمر المائدة المستديرة. وأصبحت المعالجات جزئية وثنائية ومؤقتة وفوقية. فمنذ توقيع اتفاقية السلام بأديس أبابا عام 1972، تفشت في السودان ثقافة عقد الاتفاقيات، فقد تم توقيع عشرات الاتفاقيات، ولا يزال توقيع الاتفاقيات مستمرا وبكثافة حتى تاريخ اليوم. وبرغم التوقيع المستمر للاتفاقيات ظلت الصراعات تتجدد وتتوسع والانقسامات تتالى وتتمدد. فالاتفاقيات – برغم حقنها المؤقت للدماء وهو أمر مطلوب وواجب وطني وإنساني- لا تمثل سوى حل جزئي ومرحلي للصراع مهما قيل عنها وطال سريانها، في حين أن المطلوب هو الحل الكلي والشامل والدائم. كما أن الاتفاقيات الثنائية والحلول الجزئية والمؤقتة، في بلدان التعدد الثقافي، كحال السودان، ما هي إلا ترميم لبناء متهالك، وتعبير فصيح عن العجز والفشل في تحقيق التسوية الوطنية، أقصى مراتب مصيرها الانهيار وأدناه الانفصال.
إن تفشي ثقافة الاتفاقيات الثنائية والجزئية، هو نتيجة طبيعية لفشل مؤتمر المائدة المستديرة، وعجز الأحزاب التقليدية عن تحقيق التسوية الوطنية الشاملة. والمفارقة العجيبة أن نفس تلك الأحزاب عندما وقع انقلاب 25 مايو 1969، عادت إلى مربع النضال من أجل استعادة الديمقراطية، وظلت تناضل حتى عادت بالمصالحة الوطنية عام 1977. وما لبثت أن غطت سماء الخرطوم مرة ثانية بالدعوات للدستور الإسلامي، الأمر الذي تحقق لها في عام 1983. فدخلت البلاد في الحرب الأهلية مرة ثانية، وتحكم مناخ الانفصال والتشظي حتى تاريخ اليوم. ولا مخرج إلا بالثورة الكبرى، ثورة العقول.
خاتمة: نحو الثورة الكبرى ثورة العقولعلى الرغم أن ثورة أكتوبر الشعبية السلمية العزلاء، إلا من قوة إجماع الجماهير على إرادة التغيير، استطاعت أن تغير الحكم العسكري، بيد أنها لم تحقق المكاسب المرجوة حيث التغيير الجذري والشامل في اتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية ووحدة البلاد، والمنطلق من مكونات السودان وتكويناته المتنوعة وانتمائه الأفريقي، والمتصل بالمشهد العالمي حيث انتصار حركة الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي. لقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضى إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي.
وعلى الرغم الخسائر الضخمة الناتجة من اختطاف ثورة أكتوبر، وعدم تحقيقها للمكاسب المرجوة، إلا أن ثورة أكتوبر، لم تكتمل مراحلها بعد. فقد تركت إرثاً ثورياً ضخماً وعميقاً، سيعين في اكتمالها يوم اشتعال الثورة الكبرى من جديد، ثورة في عقول الجماهير، بقيادة المثقفين الأحرار. وعندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب، فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية من ثورة أكتوبر.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى، وواجب إشعالها يقع على أفراد الشعب عامة، وعلى المثقفين بصفة خاصة عبر تنوير الجماهير وتحريرهم من التبعية والطائفية والقوى التقليدية والدينية ورجال الدين والأوصياء على العقول.
إن المد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، في حالة توسع وتجدد واستمرار. كما أن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار “الثورة الكبرى”. وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو إشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقبلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته، وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة.
(بالطبع تتضمن الورقة قائمة بالمصادر والمراجع، وهي منشورة ضمن: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014).
abdallaelbashir@gmail.com
الوسومعبد الله الفكي البشير