وسط موسم انتخابي آخر من الطبيعي أن تناقش الديمقراطية الأمريكية من منظور سياسي. لكن سيفيدنا على نحو أفضل النظر في سؤال آخر وثيق الصلة وهو: أي نظام اقتصادي يفيد معظم الناس؟
على أحد طرفي الجدل الاقتصادي هنالك الذين يؤمنون بالأسواق غير المقيدة، والتي يُسمح فيها للشركات بتوطيد نفوذ السوق أو تلويث الهواء أو الاستغلال.
ميلتون فريدمان وفريدريك هايك هما أشهر مناصري هذا الاقتصاد الذي يتمركز حول حَمَلَة الأسهم وتنحسر فيه الإجراءات التنظيمية وتتدنى الضرائب وكثيرا ما يشار إليه بمصطلح الليبرالية الجديدة. (في سياق السياسة الاقتصادية تشير الليبرالية الجديدة إلى نسخة جديدة أو مُحدَّثة من الليبرالية التقليدية. ظهرت هذه النسخة في منتصف القرن العشرين وتنادي بالحد من التدخل الحكومي في الاقتصاد خلافا لما دعا إليه الاقتصادي البريطاني جون كينز في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي - المترجم).
انتقل هذان الاقتصاديان الحاصلان على جائزة نوبل بالفكرة إلى أبعد من الاقتصاد، فقد زعما أن هذا النوع من الأنظمة الاقتصادية ضروري لتحقيق الحرية السياسية.
لقد شعرا بالقلق من تعاظم الدور الاقتصادي للحكومة في أعقاب الركود العظيم (خلال سنوات الثلاثينيات) عندما كانت الدولة تحت تأثير جون مينارد كينز تتولى مسؤوليات جديدة لتثبيت الاقتصاد.
في كتابه «الرأسمالية والحرية» حاجج فريدمان بأن «الأسواق المتحررة من القيود» لا غنى عنها لضمان الحرية السياسية. وبعبارة هايك، سيقودنا تمدُّد الحكومة إلى «طريق القنانة».
لدينا الآن أربعة عقود «لتجربة» الليبرالية الجديدة بداية من عهد رونالد ريجان ومارجريت تاتشر، والنتائج واضحة. لقد وسّعت الليبرالية الجديدة من حرية الشركات (وأيضا أصحاب البلايين) لكي تفعل ما يحلو لها وتكدِّس ثروات ضخمة. لكنها أيضا فرضت ثمنا باهظا هو رفاهية وحرية باقي المجتمع.
كان التحليل السياسي لليبراليين الجدد أسوأ حتى من تحليلهم الاقتصادي وربما أيضا بعواقب أشد وخامة.
فشل فريدمان وأتباعه في فهم ملمح جوهري للحرية وهو وجود نوعين منها إيجابي وسلبي هما حرية الفعل والتحرر من الضرر. «الأسواق المتحررة» بمفردها تفشل في تقديم الاستقرار الاقتصادي أو الأمان من الأهواء الاقتصادية التي تتسبب فيها. هذا إذا لم نتحدث عن تمكين أقسام كبيرة من السكان من تفجير طاقاتها. الحكومة ضرورية لكليهما. وهي في قيامها بذلك توسع من الحرية بطرائق عديدة.
الطريق إلى الاستبداد لا يُمهَّد بإفراط الحكومة ولكن بتفريطها في التدخل الاقتصادي. هنالك عدة أسباب وراء تصاعد الشعبوية وخصوصا نوعها القومي القبيح. ومن المبالغة في التبسيط أن ننسبه فقط إلى الاقتصاد. مع ذلك ليس مصادفة أن القومية الشعبوية مُهَدِّد أشد خطورة في بلدان مثل إسرائيل والفلبين والولايات المتحدة منها في السويد والنرويج والدنمارك. ففي هذه البلدان الأخيرة حرر التعليم العام الرفيع المستوى والمجاني وفوائد البطالة السخية والرعاية الصحية الممتازة مواطنيها من مخاوف الأمريكيين المعهودة حول كيفية الإنفاق على تكاليف تعليم أطفالهم أو سداد فواتير علاجهم.
السخط يختمر في أماكن تواجه ضغوطات اقتصادية لا تتم معالجتها ويشعر الناس فيها أنهم يفقدون السيطرة على مصائرهم ولم يُفعل فيها شيء يذكر لحل مشاكل البطالة وعدم الأمان الاقتصادي واللامساواة.
هذا الوضع يشكل حقلا خصبا للمهرجين الشعبويين والموجودين بكثرة في كل مكان. في الولايات المتحدة منحنا دونالد ترامب.
نحن نهتم بالتحرر من الجوع والبطالة والفقر وأيضا، كما أكد فرانكلين روزفلت، التحرر من الخوف. فالناس الذين لديهم ما يكفي فقط للبقاء على قيد الحياة ليسوا أحرارا. إنهم يفعلون فقط ما يلزمهم لذلك. (فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي الثاني والثلاثين أكد على التحرر من الخوف في خطاب عن الحريات الأربع ألقاه عام 1941- المترجم).
نحن بحاجة إلى التركيز على منح المزيد من الناس الحرية الضرورية لتفجير طاقاتهم ولكي يزدهروا ويبدعوا.
الأجندة التي تزيد عدد الأطفال الذين ينشأون في الفقر أو الآباء الذين يعيشون في قلق من كيفية سداد تكاليف الرعاية الصحية (الضرورية لحرية البقاء على قيد الحياة وهي أهم الحريات الأساسية) ليست أجندة تحرر.
إلى ذلك، دعاة الليبرالية الجديدة كثيرا ما يفشلون في إدراك أن حرية أحدهم هي «لا حرية» شخص آخر أو، كما عبر عن ذلك ايزايا برلين، حرية الذئاب كثيرا ما تعني موت الضأن. (إيزايا برلين 1909-1997. مفكر سياسي اشتهر بتمييزه بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية - المترجم). كذلك حرية حمل السلاح قد تعني موت من يُطلق عليهم الرصاص في أحداث القتل الجماعي التي صارت يومية تقريبا في الولايات المتحدة. وحرية عدم تناول اللقاح أو الامتناع عن ارتداء الكمامة قد تعني أن يفقد آخرون حرية البقاء على قيد الحياة.
هنالك مقايضات. والمقايضات هي خبز وزبدة (جوهر) علم الاقتصاد. تكشف أزمة المناخ أننا لم نذهب بعيدا بما يكفي في ضبط التلوث، بمعنى أن منح الشركات المزيد من الحرية لتلويث الهواء يقلص حرية معظمنا في أن نعيش حياة صحية، وفي حالة أولئك الذين يعانون من الربو حتى من حرية الحياة.
تحرير مسؤولي البنوك مما زعموا أنها إجراءات مغالية في التشدد عرَّضنا لمخاطر تدهور اقتصادي كان من المحتمل أن يكون بمثل سوء الركود العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي عندما انهار النظام المصرفي في عام 2008.
أجبر ذلك الانهيار المجتمع على تزويد البنوك بمئات البلايين من الدولارات في أكبر حزمة إنقاذ على الإطلاق. وواجه باقي المجتمع تقليصا لحرياته بطرائق عديدة بما في ذلك حرية الأمان من فقدان المسكن والوظيفة ومعها التأمين الصحي.
أحيانا تكون كيفية القيام بهذه المقايضات واضحة. علينا تقليص حرية الشركات في استغلال العاملين والمستهلكين والمجتمعات المحلية. وأحيانا تكون أكثر تعقيدا. فكيفية تقييمها أكثر صعوبة. لكن صعوبتها ليست سببا لتجنب مواجهتها والتظاهر بأنها غير موجودة.
بعض حالات «اللا حرية» يمكن أن تفيد المجتمع ككل وتوسع من حرية الجميع أو على الأقل حرية معظم المواطنين. إشارات المرور الحمراء التي تحد من حريتي في عبور تقاطع الطريق تقدم مثالا جيدا، إذ بدونها سيكون هنالك انسداد مروري، وتدخلها في حريتي يعزز حريتنا كلنا بما في ذلك وعلى نحو جذري حريتي أنا.
هذا المنطق صحيح بشكل عام. لقد ذكَّرنا اجتياح روسيا لأوكرانيا بأننا لكي نكون أحرارا من خشية أن يأتينا الأذى من الخارج سنحتاج إلى دفاعٍ يجب أن ننفق عليه.
نحن نحتاج أيضا إلى المال لتمويل الاستثمارات الاجتماعية الضرورية لاقتصاد القرن الحادي والعشرين في الأبحاث الأساسية والتقنية والبنية التحتية والتعليم والصحة (معظم نجاح بلدنا يقوم على الأبحاث الأولية في جامعاتنا والتي كلها إما تدعمها الدولة أو غير ربحية)، كل هذا يتطلب إيرادات ضريبية، والضريبة كما نعلم يجب استقطاعها بالإكراه لمنع البعض من الاستفادة المجانية من مساهمات الآخرين.
هكذا فشلت الليبرالية الجديدة وفقا لشروطها الاقتصادية، فهي لم تحقق النمو دعوا عنكم الازدهار المشترك، كما فشلت أيضا في وعدها بوضعنا على طريق آمن يقودنا إلى الديمقراطية والحرية. بل بدلا من ذلك وضعتنا في مسار شعبوي يطرح احتمال ظهور نظام حكم فاشي في القرن الحادي والعشرين.
هؤلاء الشعبويون الاستبداديون المحتملون يقلصون حريتنا وفي ذات الوقت يفشلون في الوفاء بوعودهم على نحو ما يتضح في نمط رأسمالية المحاسيب الذي يعرضه علينا ترامب.
القضاء على برنامج أوباما للرعاية الصحية أو خفض الضرائب لأصحاب البلايين والشركات التي تُموَّل جزئيا برفع الضرائب على بقيَّتنا سيقلل أمان ورفاهية وحرية غمار الأمريكيين. وفترة ترامب الرئاسية الأولى تعطي لمحة لما يمكن أن تبدو عليه فترته الثانية (إذا فاز في الانتخابات).
هنالك بديل، اقتصاد القرن الحادي والعشرين يمكن إدارته لا مركزيا فقط، وذلك يستوجب وجود مجموعة من المؤسسات تشمل شركات تحقق أرباحا وتعاونيات واتحادات ومجتمعا مدنيا فاعلا ومؤسسات غير ربحية.
أنا أُسمِّي هذه الحزمة الجديدة من الترتيبات الاقتصادية «الرأسمالية التقدمية». وتلعب الإجراءات التنظيمية للحكومة والاستثمارات العامة الممولة بواسطة الضرائب دورا مركزيا فيها. الرأسمالية التقدمية نظام اقتصادي لن يقود فقط إلى قدر أكبر من الإنتاجية والازدهار والمساواة ولكنها أيضا تضعنا كلنا في طريق يقودنا إلى حريات أعظم شأنا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللیبرالیة الجدیدة
إقرأ أيضاً:
رئيس حزب الاتحاد: مساحة الحرية في مصر يجب استغلالها بالشكل الأمثل
نظم المنتدى الاستراتيجي للفكر والحوار «بيت الفكر» بالتعاون مع حزب الاتحاد، ندوة سياسية بعنوان: «مستقبل الشرق الأوسط بعد سقوط سوريا وتأثيراته على الأمن القومي المصري».
يأتي ذلك بمشاركة الكاتب الصحفي محمد صلاح الزهار والكاتب والسيناريست الدكتور باهر دويدار، والمستشار رضا صقر رئيس حزب الاتحاد، يدير الندوة الكاتب الصحفي محمد مصطفي أبو شامة.
وقال المستشار رضا صقر رئيس حزب الاتحاد، إن هذه الندوة تأتي في إطار مبادرة الحزب الخاصة بمشروع الوعي، والتي نظم الحزب في ضوءها أكثر من 10 ندوات.
وأضاف رئيس حزب الاتحاد، أن الحزب يفتح مساحة جديدة للتعامل مع مؤسسات العمل المدني ومنها المنتدى الاستراتيجي للفكر والحوار، مشيرًا إلى أن هناك مساحة للحرية في كل شيئ داخل الدولة المصرية وبالتالي يجب استغلالها بالشكل الأمثل من النخبة والمثقفين خاصة في ظل التحديات الداخلية والخارجية.
وأشار إلى أن الدولة المصرية مستهدفة والخطط قائمة وتجدد، والصهاينة لا تتوانى عن استغلال الفرصة، خاصة وأن مصر بمثابة الجائزة الكبرى بالنسبة لها.