لجريدة عمان:
2025-02-23@21:45:11 GMT

نهاية الليبرالية الجديدة

تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT

وسط موسم انتخابي آخر من الطبيعي أن تناقش الديمقراطية الأمريكية من منظور سياسي. لكن سيفيدنا على نحو أفضل النظر في سؤال آخر وثيق الصلة وهو: أي نظام اقتصادي يفيد معظم الناس؟

على أحد طرفي الجدل الاقتصادي هنالك الذين يؤمنون بالأسواق غير المقيدة، والتي يُسمح فيها للشركات بتوطيد نفوذ السوق أو تلويث الهواء أو الاستغلال.

هؤلاء يعتقدون أن على الشركات تعظيم ثروة المساهمين بوضع يدها على كل ما تستطيع أن تحصل عليه لأن زيادة الأرباح تخدم الصالح العام.

ميلتون فريدمان وفريدريك هايك هما أشهر مناصري هذا الاقتصاد الذي يتمركز حول حَمَلَة الأسهم وتنحسر فيه الإجراءات التنظيمية وتتدنى الضرائب وكثيرا ما يشار إليه بمصطلح الليبرالية الجديدة. (في سياق السياسة الاقتصادية تشير الليبرالية الجديدة إلى نسخة جديدة أو مُحدَّثة من الليبرالية التقليدية. ظهرت هذه النسخة في منتصف القرن العشرين وتنادي بالحد من التدخل الحكومي في الاقتصاد خلافا لما دعا إليه الاقتصادي البريطاني جون كينز في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي - المترجم).

انتقل هذان الاقتصاديان الحاصلان على جائزة نوبل بالفكرة إلى أبعد من الاقتصاد، فقد زعما أن هذا النوع من الأنظمة الاقتصادية ضروري لتحقيق الحرية السياسية.

لقد شعرا بالقلق من تعاظم الدور الاقتصادي للحكومة في أعقاب الركود العظيم (خلال سنوات الثلاثينيات) عندما كانت الدولة تحت تأثير جون مينارد كينز تتولى مسؤوليات جديدة لتثبيت الاقتصاد.

في كتابه «الرأسمالية والحرية» حاجج فريدمان بأن «الأسواق المتحررة من القيود» لا غنى عنها لضمان الحرية السياسية. وبعبارة هايك، سيقودنا تمدُّد الحكومة إلى «طريق القنانة».

لدينا الآن أربعة عقود «لتجربة» الليبرالية الجديدة بداية من عهد رونالد ريجان ومارجريت تاتشر، والنتائج واضحة. لقد وسّعت الليبرالية الجديدة من حرية الشركات (وأيضا أصحاب البلايين) لكي تفعل ما يحلو لها وتكدِّس ثروات ضخمة. لكنها أيضا فرضت ثمنا باهظا هو رفاهية وحرية باقي المجتمع.

كان التحليل السياسي لليبراليين الجدد أسوأ حتى من تحليلهم الاقتصادي وربما أيضا بعواقب أشد وخامة.

فشل فريدمان وأتباعه في فهم ملمح جوهري للحرية وهو وجود نوعين منها إيجابي وسلبي هما حرية الفعل والتحرر من الضرر. «الأسواق المتحررة» بمفردها تفشل في تقديم الاستقرار الاقتصادي أو الأمان من الأهواء الاقتصادية التي تتسبب فيها. هذا إذا لم نتحدث عن تمكين أقسام كبيرة من السكان من تفجير طاقاتها. الحكومة ضرورية لكليهما. وهي في قيامها بذلك توسع من الحرية بطرائق عديدة.

الطريق إلى الاستبداد لا يُمهَّد بإفراط الحكومة ولكن بتفريطها في التدخل الاقتصادي. هنالك عدة أسباب وراء تصاعد الشعبوية وخصوصا نوعها القومي القبيح. ومن المبالغة في التبسيط أن ننسبه فقط إلى الاقتصاد. مع ذلك ليس مصادفة أن القومية الشعبوية مُهَدِّد أشد خطورة في بلدان مثل إسرائيل والفلبين والولايات المتحدة منها في السويد والنرويج والدنمارك. ففي هذه البلدان الأخيرة حرر التعليم العام الرفيع المستوى والمجاني وفوائد البطالة السخية والرعاية الصحية الممتازة مواطنيها من مخاوف الأمريكيين المعهودة حول كيفية الإنفاق على تكاليف تعليم أطفالهم أو سداد فواتير علاجهم.

السخط يختمر في أماكن تواجه ضغوطات اقتصادية لا تتم معالجتها ويشعر الناس فيها أنهم يفقدون السيطرة على مصائرهم ولم يُفعل فيها شيء يذكر لحل مشاكل البطالة وعدم الأمان الاقتصادي واللامساواة.

هذا الوضع يشكل حقلا خصبا للمهرجين الشعبويين والموجودين بكثرة في كل مكان. في الولايات المتحدة منحنا دونالد ترامب.

نحن نهتم بالتحرر من الجوع والبطالة والفقر وأيضا، كما أكد فرانكلين روزفلت، التحرر من الخوف. فالناس الذين لديهم ما يكفي فقط للبقاء على قيد الحياة ليسوا أحرارا. إنهم يفعلون فقط ما يلزمهم لذلك. (فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي الثاني والثلاثين أكد على التحرر من الخوف في خطاب عن الحريات الأربع ألقاه عام 1941- المترجم).

نحن بحاجة إلى التركيز على منح المزيد من الناس الحرية الضرورية لتفجير طاقاتهم ولكي يزدهروا ويبدعوا.

الأجندة التي تزيد عدد الأطفال الذين ينشأون في الفقر أو الآباء الذين يعيشون في قلق من كيفية سداد تكاليف الرعاية الصحية (الضرورية لحرية البقاء على قيد الحياة وهي أهم الحريات الأساسية) ليست أجندة تحرر.

إلى ذلك، دعاة الليبرالية الجديدة كثيرا ما يفشلون في إدراك أن حرية أحدهم هي «لا حرية» شخص آخر أو، كما عبر عن ذلك ايزايا برلين، حرية الذئاب كثيرا ما تعني موت الضأن. (إيزايا برلين 1909-1997. مفكر سياسي اشتهر بتمييزه بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية - المترجم). كذلك حرية حمل السلاح قد تعني موت من يُطلق عليهم الرصاص في أحداث القتل الجماعي التي صارت يومية تقريبا في الولايات المتحدة. وحرية عدم تناول اللقاح أو الامتناع عن ارتداء الكمامة قد تعني أن يفقد آخرون حرية البقاء على قيد الحياة.

هنالك مقايضات. والمقايضات هي خبز وزبدة (جوهر) علم الاقتصاد. تكشف أزمة المناخ أننا لم نذهب بعيدا بما يكفي في ضبط التلوث، بمعنى أن منح الشركات المزيد من الحرية لتلويث الهواء يقلص حرية معظمنا في أن نعيش حياة صحية، وفي حالة أولئك الذين يعانون من الربو حتى من حرية الحياة.

تحرير مسؤولي البنوك مما زعموا أنها إجراءات مغالية في التشدد عرَّضنا لمخاطر تدهور اقتصادي كان من المحتمل أن يكون بمثل سوء الركود العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي عندما انهار النظام المصرفي في عام 2008.

أجبر ذلك الانهيار المجتمع على تزويد البنوك بمئات البلايين من الدولارات في أكبر حزمة إنقاذ على الإطلاق. وواجه باقي المجتمع تقليصا لحرياته بطرائق عديدة بما في ذلك حرية الأمان من فقدان المسكن والوظيفة ومعها التأمين الصحي.

أحيانا تكون كيفية القيام بهذه المقايضات واضحة. علينا تقليص حرية الشركات في استغلال العاملين والمستهلكين والمجتمعات المحلية. وأحيانا تكون أكثر تعقيدا. فكيفية تقييمها أكثر صعوبة. لكن صعوبتها ليست سببا لتجنب مواجهتها والتظاهر بأنها غير موجودة.

بعض حالات «اللا حرية» يمكن أن تفيد المجتمع ككل وتوسع من حرية الجميع أو على الأقل حرية معظم المواطنين. إشارات المرور الحمراء التي تحد من حريتي في عبور تقاطع الطريق تقدم مثالا جيدا، إذ بدونها سيكون هنالك انسداد مروري، وتدخلها في حريتي يعزز حريتنا كلنا بما في ذلك وعلى نحو جذري حريتي أنا.

هذا المنطق صحيح بشكل عام. لقد ذكَّرنا اجتياح روسيا لأوكرانيا بأننا لكي نكون أحرارا من خشية أن يأتينا الأذى من الخارج سنحتاج إلى دفاعٍ يجب أن ننفق عليه.

نحن نحتاج أيضا إلى المال لتمويل الاستثمارات الاجتماعية الضرورية لاقتصاد القرن الحادي والعشرين في الأبحاث الأساسية والتقنية والبنية التحتية والتعليم والصحة (معظم نجاح بلدنا يقوم على الأبحاث الأولية في جامعاتنا والتي كلها إما تدعمها الدولة أو غير ربحية)، كل هذا يتطلب إيرادات ضريبية، والضريبة كما نعلم يجب استقطاعها بالإكراه لمنع البعض من الاستفادة المجانية من مساهمات الآخرين.

هكذا فشلت الليبرالية الجديدة وفقا لشروطها الاقتصادية، فهي لم تحقق النمو دعوا عنكم الازدهار المشترك، كما فشلت أيضا في وعدها بوضعنا على طريق آمن يقودنا إلى الديمقراطية والحرية. بل بدلا من ذلك وضعتنا في مسار شعبوي يطرح احتمال ظهور نظام حكم فاشي في القرن الحادي والعشرين.

هؤلاء الشعبويون الاستبداديون المحتملون يقلصون حريتنا وفي ذات الوقت يفشلون في الوفاء بوعودهم على نحو ما يتضح في نمط رأسمالية المحاسيب الذي يعرضه علينا ترامب.

القضاء على برنامج أوباما للرعاية الصحية أو خفض الضرائب لأصحاب البلايين والشركات التي تُموَّل جزئيا برفع الضرائب على بقيَّتنا سيقلل أمان ورفاهية وحرية غمار الأمريكيين. وفترة ترامب الرئاسية الأولى تعطي لمحة لما يمكن أن تبدو عليه فترته الثانية (إذا فاز في الانتخابات).

هنالك بديل، اقتصاد القرن الحادي والعشرين يمكن إدارته لا مركزيا فقط، وذلك يستوجب وجود مجموعة من المؤسسات تشمل شركات تحقق أرباحا وتعاونيات واتحادات ومجتمعا مدنيا فاعلا ومؤسسات غير ربحية.

أنا أُسمِّي هذه الحزمة الجديدة من الترتيبات الاقتصادية «الرأسمالية التقدمية». وتلعب الإجراءات التنظيمية للحكومة والاستثمارات العامة الممولة بواسطة الضرائب دورا مركزيا فيها. الرأسمالية التقدمية نظام اقتصادي لن يقود فقط إلى قدر أكبر من الإنتاجية والازدهار والمساواة ولكنها أيضا تضعنا كلنا في طريق يقودنا إلى حريات أعظم شأنا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللیبرالیة الجدیدة

إقرأ أيضاً:

نحو تصحيح المسار الاقتصادي للشركات

 

محمد بن عيسى البلوشي **

يتَّفق المختصون في مجال الاقتصاد والاستثمار أن بورصة مسقط تمضي قدمًا نحو ترسيخ مرحلة جديدة من عملها، والناظر إلى جهودها في الأعوام الأخيرة والتي شهدت فيها البورصة ولأول مرة اكتتابات مليونية في عده قطاعات اقتصادية حيوية، يجد الأمر متحققا، ولهذا بات موضوع إعادة هيكلة بعض شركات المساهمة العامة المدرجة في البورصة أمرا ملحا وضروريا حتى يستقيم السير نحو الهدف المنشود ووفق :رؤية عُمان 2040".

والتخلص من عباءة المديونيات المستمرة التي لا زالت تلاحق بعضًا من الشركات، وأيضا استمرار عدم تحقيق الأرباح لسنوات عدة، بات أمرًا مُقلقًا ليس لجمهور المستثمرين فحسب؛ بل لهاجس قدرة تلك الشركات على الاستمرار واستدامتها ونمو مثل هذه الاستثمارات الاقتصادية التي تتطلع منها الحكومة الى أن تؤدي دورًا محوريًا خلال الفترة المقبلة في ظل التنافس المحموم الذي تشهده القطاعات الاقتصادية.

ينظر المستثمر إلى الإجراءات الرسمية التي من الواجب على هيئة الخدمات المالية وجهاز الاستثمار العُماني المضي بها وتبنيها خلال المرحلة المقبلة، على أنها تعزز الثقة في السوق العُمانية من خلال تخصيص استراتيجية التحول في الشركات المتعثرة واعادة هيكلتها، وسوف نجد أثرة ولو بعد حين ظاهرًا بشكل إيجابي على بورصة مسقط.

فكرة أن تظل الشركات على ما هي عليه من دعم حكومي مباشر أو غير مباشر أصبحت لا تتناسب مع وضع الاقتصادات الطموحة والفاعلة، وأيضا لا تنسجم مع رؤيتنا الوطنية نحو "عُمان 2040"، فلا بُد أن نرسخ مبدأ بناء شركات حكومية أو مساهمة عامة قوية وقادرة على المساهمة بفاعلية في الاقتصاد وتحقق تطلعات المستثمرين، وعلينا المضي قدما إلى هذا الجانب بشكل واضح وفق أهدافنا الوطنية.

والتجربة التي خاضتها الحكومة في إعادة هيكلة بعض الشركات -وعلى سبيل المثال الطيران العُماني- هي محل دراسة وتقدير للتوجه المحمود الذي يجب على الحكومة المضي فيها؛ فسنوات الصرف المباشر دون تحقيق أي نتائج إيجابية بات أمرًا غير مقبول، لأنها تختلف عن المؤسسات الحكومية (الوزارات) الملتزمة بتقديم الخدمات الرئيسية كالتعليم والصحة والأمن؛ حيث إن الشركات مهما كانت مسمياتها هي مؤسسات اقتصادية واستثمارية ويتم التعامل معها على هذا الأساس.

وهنا أدعو الجهات المعنية: مجلس الوزراء ومجلس الشورى ومجلس الدولة وجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة وهيئة الخدمات المالية وجهاز الاستثمار العُماني، وغيرها من المؤسسات، إلى رسم استراتيجية واضحة نحو مسألة إعادة النظر في الشركات كافةً (حكومية/ مساهمة عامة)، خلال المرحلة المقبلة، بحيث يتم تقييم أداء تلك الشركات؛ بما يتفق مع التوجهات الاقتصادية و"رؤية عُمان 2040"، وهذه مسؤولية كبيرة وأمانة عظيمة تقع على عاتق الجميع.

وعلى النُخَب في جميع المجالات تفهم حساسية هذه المرحلة من عُمر اقتصادنا الوطني، وغرس المعلومة الصحيحة لبناء فكر اقتصادي مُستنير من أجل أن يُسهم الجميع من مواطن/ مؤسسات في إنجاح هذا الدور الوطني المُهم.

** مستشار إعلامي في الشأن الاقتصادي

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • الرئيس اللبناني: حرية البلاد واستقلالها ووحدة أراضيها هي أمورغير قابلة للتجزئة
  • تظاهرة غاضبة في تعز منددة بالوضع الاقتصادي
  • الوضع الاقتصادي يتصدر اهتمامات الناخبين في ألمانيا
  • نادي الأسير: تأخير إطلاق الأسرى إرهاب منظم ومحاولات لقتل فرحة الحرية
  • فهمى: ليس أمام الفلسطينيين حرية للتفكير يجب اختيار طرف لإدارة إعمار غزة
  • نحو تصحيح المسار الاقتصادي للشركات
  • نائل البرغوثي…صاحب أطول مجموع مدة اعتقال بسجون الاحتلال يتنسم الحرية اليوم
  • هوغو بال والدادية: فن الفوضى أم فلسفة الحرية
  • الحرية المصري: الرؤية الفلسطينية بالقمة العربية المقبلة تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته
  • أسرى الدفعة السابعة على موعد مع الحرية خلال ساعات.. هؤلاء أبرزهم