أشرتُ في بعضٍ من مقالاتي السابقة إلى وجوب تخصيص بعض الإشارات إلى حركة الترجمة وأثرها في الواقع العربي، وهو أمرٌ أخطّط له منذ زمن، ولكن قبل أن أفتح هذا الباب صادفتني منذ زمن ليس بالبعيد ترجمةٌ للأستاذ القدير ذي اللسانيين الشعريين محمّد قوبعة الذي طالما انبهرتُ بدروسه في المرحلة الثالثة في التسعينيات من القرن الماضي في الترجمة جيئةً وذهابا، أي نقلا وتعريبا.
فسألته ولمَ هذه المُراجعة، والمترجم أقدر وأعرف، والمُراجع ظاهرة صوتيّة لا صلة له باللّغة الفرنسيّة إلاّ شكلا لا يبلغ درجة الأكل، فأجابني بأنّ مؤسّسة البابطين مشكورة قد انتبهت إلى أنّ كتابا مهمّا أنجزه لامارتين عن رسولنا الكريم، ولم يلتفت إليه العرب نقلا، فاختارت المترجم والمُراجع على حسن تدبيرٍ، والسؤال هل من العلميّ أن ننتقي من الترجمة ما نراه صائبًا وأن نُسقِط ما لا يتوافق مع معتقداتنا؟ لقد احتوى كتاب لامارتين «حياة محمّد» موقفًا أصليًّا وإيجابيًّا من شخصيّة الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعله من أهمّ الشخصيّات الكونيّة، غير أنّ هذا الموقف الرئيس لم يمنع الرجل، وله تمام الحريّة في ذلك من استعمال بعض المعلومات التاريخيّة المغلوطة في شأن الحديث عن حياة محمّد الإنسان والسياسيّ وصاحب الدعوة. وقد قدّم الأستاذ محمّد الهادي الطرابلسي في هذا الشأن دراسةً قيّمة حول الترجمة أوّلا في تحقّقها على الوجه الأسلم، وحول ترجمة كتاب لامارتين وما أفسده المُراجع وخرّبه بإعمال آلة الحذف. من ضمن المحذوف من الترجمة الأصليّة نقلا عن الكتاب المصادر بعض الأخبار التي يُمكن أن تُسيء إلى الرسول الكريم، وهي أخبارٌ مأخوذة من مراجع ضعيفة واهنة لم يُفصح عنها لامارتين، فكان الأحرى والأجدر تثبيت هذه الأقوال والتعامل مع التعريب بشكل أمين علميّ، ومناقشة هذه المعلومات التي يُمكن أن تسقط علميّا بيسر وبساطة، متى نتعلّم أنّ الحذف والمنع والإغضاء والحظر ليست هي الحلول في مواجهة المشاكل، وإنّما التصدّي والمواجهة وقرع الحجّة بالحجّة وإسقاطُ الرأي بالرأي هي الحلول الحقيقيّة. ففي النهاية ما هي الصُورة التي يُمكن أن يُخرَج عليها العربيّ، غير رافض الحوار، منكِر الأفكار، لا يريد إلاّ الصُورة التي رسمها عن نفسه. إنّ صورة النبيّ محمّد لن تهتزّ ولن تتأثّر في إيراد هذه الأخبار، بل العكس تماما، وعيُنا وثقتنا في أنفسنا في عرْضها دون خجل ومناقشتها دون وجل.
ويستنكر محمد الهادي الطرابلسي في دراسته هذا الحذف ويردّ إلى عامل مذهبي ساذج وعامل ذاتي جاهل، فهنالك محذوفات علّة حذفها ما احتوته من أخطاء، وهو لعمري أمرٌ يرغب فيه كلّ دارسٍ أو مترجمٍ أن يجد أخطاء تاريخيّة بيّنة، قابلة للمجادلة والمُطارحة والتفنيد أيضا، من ذلك ما ذهب إليه لامارتين من ردّ أصل القرآن إلى الإنجيل عند ملاقاة رسولنا الكريم لجرجس الراهب وحديثه معه، الأمر الذي جعل لامارتين يتحدّث عن إحياء برة الإنجيل، في قوله: «يتّفق جميع المؤرّخين العرب في رواية هذا اللقاء الأوّل، و في خبر لقاءات أخرى حدثت بعد ذلك بين الفتى العربيّ وراهب الدير النصرانيّ بالشام. وهذا هو منطلق أفكار الذي سيكون نبيّ جزيرة العرب، ومنطلق بعثته. وما من شكّ في أنّ القرآن قد كان « في فكره» إنباتًا لتلك البذرة، بذرة الإنجيل، وقد ألقتها ريح الصحراء -عند هبوبها- في روحه».
فكان جديرًا بالمراجع أو المترجم أن يُسْقِط هذه الفكرة دون إسقاط الفقرة وحذفها. وهنالك محذوفات صنّفها صاحبُ الدراسة على أنّها تمّت لحرج ديني في إيرادها -في اعتقاد المُراجع طبعا- لأنّا إن أخذنا على سبيل المثال بعض المناسك التي حافظ عليها الإسلام، فذلك ليس راجعا إلى مهادنة الأقوام الحالّة ولا إلى مسايرة الموجود، بل هو راجع في الأساس إلى أنّ الرسالة المحمّديّة قد جاءت تتمّة للرسائل السماويّة التي سبقتها، وليست قطيعةً معها، وعلى ذلك فلا حرج من القول أنّ الإسلام بَقّى بعض العادات أو المناسك القديمة، وقد عقد ابن حبيب في كتاب «المحبّر» منذ القرن الثالث للهجرة فصلا عنونه بالمآثر التي بقّى عليها الإسلام من الجاهليّة، وعرض إلى بعض مناسك الحجّ وغيرها، فهل عندما يقول لامارتين، وهو معجبٌ برسولنا هذا الكلام نحذفه؟ فقد تعرّض بعد حديثه عن تأسيس الكعبة، فقال متعرّضا إلى مناسك الحجّ: «وهي شعائر سوف يجد محمد نفسه مدفوعا إلى الحفاظ عليها مع تعديل روحها بما يناسب ما جاء به من إصلاح». لكن -وفقا لدراسة الطرابلسي- هنالك ما أغفل عنه المراجع الحاذف وهو يُشكّل خطرا في كلام لامارتين، ولم يُحذَف!، والأهمّ من كلّ ذلك -باعتباري ضدّ الحذف والقصّ- لم يُناقَش، ولم يعرض فيه لا المترجم ولا المراجع فِكَرا للتوضيح والبيان. خلاصة الأمر، جاء الشاعر والكاتب والروائي والمؤرّخ الفرنسي الأشهر (1790- 1869) وعمل على كتابة كتاب حول سيرة نبيّنا الكريم وفد هذا الكتاب عام 1854، وقد وسم هذا التأليف -حسب عبارته بأنّه تأليف في سيرة أعظم خلق اللّه، وهو في خُطّته مقدّمة لموسوعة عن تركيا التي أُعجب بها ذاك الزمان، وهي آنذاك الإمبراطوريّة الإسلاميّة، وقد بلغ من موسوعته ثمانية أجزاء تأليفا، وكان كتاب «حياة محمّد» أوّل أجزائها، فهل بعد ذلك يحقُّ لنا نحنُ العرب المسلمين أن نجتثّ ممّا كتبه ما نريد، تلك والله قسمة ضيزى! يبقى الترجمان دوما خائنًا خوّانًا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عملة تذكارية من الفضة احتفالًا بمرور 45 عامًا على تأسيس اتحاد كتاب مصر
كتب- محمد شاكر:
أعلن الدكتور علاء عبد الهادي، الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ونقيب كتاب مصر، صدور عملة تذكارية من الفضة فئة خمسة جنيهات، تخليدًا للذكرى الخامسة والأربعين لتأسيس النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر.
وأوضح "عبد الهادي" أن إصدار العملة جاء بعد موافقة مجلس الوزراء على الطلب المقدم من النقابة، حيث صدر القرار رسميًا ونُشر في الجريدة الرسمية، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة تمثل تقديرًا رمزيًا كبيرًا من الدولة لدور النقابة في الحياة الثقافية المصرية.
وقال نقيب كتاب مصر إن إصدار هذه العملة التذكارية يأتي تكريمًا لعطاء النقابة على مدى أكثر من أربعة عقود، واعترافًا بقيمة أعضائها من الأدباء والمفكرين والشعراء والروائيين والمترجمين والنقاد، الذين يمثلون أحد أهم روافد القوة الناعمة المصرية.
وأضاف أن هذه اللفتة تُمثل رسالة رمزية تعزز مكانة الثقافة المصرية في وجدان الدولة والمجتمع، وتؤكد على أهمية دعم المؤسسات الثقافية ودورها في تشكيل الوعي الوطني.
اقرأ أيضًا:
أجواء شديدة الحرارة ورطوبة مرتفعة.. الأرصاد تعلن طقس الـ6 أيام المقبلة
الصحة: الجذام مرض غير مُعدٍ.. ويتوفر له علاج فعال منذ 1982
اليوم.. القائمة الوطنية تجتمع لاستكمال الاستعدادات لانتخابات الشيوخ
على طريقة غادة والي.. فنانة دانماركية تتهم مها الصغير بسرقة لوحاتها
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
اتحاد كتاب مصر علاء عبد الهادي مجلس الوزراءتابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقةإعلان
الثانوية العامة
المزيدأخبار رياضية
المزيدإعلان
عملة تذكارية من الفضة احتفالًا بمرور 45 عامًا على تأسيس اتحاد كتاب مصر
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
41 24 الرطوبة: 22% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب الثانوية العامة فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك