مايو 28, 2024آخر تحديث: مايو 28, 2024

المستقلة/-شيع الآلاف من أهالي قرية العجميين، التابعة لمركز أبشواي بمحافظة الفيوم المصرية، الثلاثاء، جثمان المجند عبد الله رمضان (22 عاما)، الذي قتل في منطقة الشريط الحدودي في رفح، وسط حالة من الحزن والصدمة الشديدين بين المشيعين.

وتجري السلطات المصرية تحقيقا في الحادث، وفقا لما أعلن المتحدث العسكري، للوقوف على تفاصيله وتحديد المسؤوليات، فيما حذر مصدر أمني مصري من المساس بأمن وسلامة عناصر التأمين المصرية المنتشرة بطول الحدود المصرية.

ووفقا للرواية المصرية، فإن :إطلاق النار بدأ بين القوات الإسرائيلية وعناصر من المقاومة الفلسطينية في اتجاهات عدة، مما أدى لقيام عنصر التأمين المصري بالتعامل مع مصدر النيران وفقا لإجراءات الحماية المتبعة”.

وحث المصدر المجتمع الدولي على “تحمل مسؤولياته من خطورة تفجر الأوضاع على الحدود المصرية مع غزة”، مشيرا إلى أن “محور فيلادلفيا ليس أمنيا فقط، لكن لمسارات تدفق المساعدات الإنسانية” المتجهة إلى القطاع.

وتتواجد القوات الإسرائيلية في المنطقة الحدودية في قطاع غزة منذ أن بدأت عمليتها العسكرية في رفح، قبل أكثر من 3 أسابيع.

مرتبط

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

إقرأ أيضاً:

كيف يقتل جنود جيش الاحتلال بدمٍ بارد؟

قضى جندي الاحتياط الإسرائيلي مزراحي، البالغ من العُمر 40 عامًا، 186 يومًا في قطاع غزة، كُلف خلالها بقيادة جرافة إسرائيلية من طراز "دي-9" (D-9). قام مزراحي بواجبه الذي طلبه منه رؤساؤه في الجيش على أتمّ وجه، لكن بعدما عاد من الحرب، لم يعد مزراحي كما كان.

كان مزاجه يتراوح بين نوبات الغضب ونوبات القلق، ساءت حالته النفسية إلى درجة فشل المعالجون في التعامل معها، وانتهى الأمر بإقدامه على الانتحار. عندما أوردت شبكة "سي إن إن" خبر انتحاره، عزت سوء حالته النفسية إلى "الفظائع" التي شاهدها في القطاع.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف أخفقت روسيا في دعم بقاء الأسد؟list 2 of 2ماذا يعني أن يصبح المحتل نازحًا.. تداعي المجتمع الإسرائيلي بعد الطوفانend of list

المثير للاهتمام حقًّا كان ما أورده التقرير عن ماهية هذه "الفظائع"، التي لم يرها مزراحي فحسب، بل تسبب فيها بنفسه. تضمنت هذه الفظائع دهس أجساد الفلسطينيين بجرافته أحياءً وأمواتًا. وقد علق أحد أصدقاء مزراحي ومساعده في قيادة الجرافة، قائلًا: "المشاهد المروعة التي كان شاهدًا عليها (من جرافته) جعلته غير قادر على أكل اللحوم"، إذ يذكره ذلك بالدماء ولحوم البشر التي دهست؛ مما أفقده شهيته للطعام.

أما الملاحظ من شهادة زميل مزراحي، هو تحاشيه ذكر أي ألفاظ توحي بارتكاب الجندي للجرم المشهود، فقد قام بذكر الفظائع وكأن جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي كانوا مجرد شاهدين عليها وليسوا مرتكبيها.

إعلان

عن ذلك يقول أحد مسعفي جيش الاحتلال في نفس التقرير، إن هناك موقفًا جماعيًّا قويًّا بين الجنود بعدم الثقة بالمدنيين في قطاع غزة، بدعوى أنهم أشرار، يدعمون ويساندون حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

تضمنت الفظائع التي ارتكبها جنود الاحتلال الإسرائيلي دهس أجساد الفلسطينيين أحياءً وأمواتًا (غيتي)

هذا التوجه الذي يردد خطابًا عنصريًّا معاديًا للفلسطينيين، ليس جديدا. فمنذ شهور نشرت الحسابات الرسمية للحكومة الإسرائيلية على منصة "إكس" مقطعًا مصورًا يزعم "عدم وجود مدنيين أبرياء في غزة"، وقد حُذف الفيديو من المنصة بعدما شوهد ملايين المرات.

في الوقت ذاته، تفاخر جنود جيش الاحتلال بانتهاكاتهم في قطاع غزة، فاحتفلوا عبر مقاطع عدة بإهانة المدنيين وتسوية المدن بالأرض، وفجروا المنازل حتى لا يبقى شيءٌ لأهلها كي يعودوا إليه، كما ارتدوا ملابس النساء اللواتي نزحن إبان الحرب تاركات وراءهن مقتنياتهن، ونشروا كل هذا بالصوت والصورة على منصات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي جعل من حرب غزة، بحسب سفير فلسطين لدى الأمم المتحدة رياض منصور، "الإبادة الجماعية الأكثر توثيقًا في التاريخ".

لكن قبل أن نتساءل عن ماهية السلطة والقوى الاجتماعية التي تشجع على ارتكاب مثل هذه الجرائم الشنيعة، أو نسعى لدراسة وتحليل البنية النفسية المعقدة والأبعاد الاجتماعية التي أفرزت هذه الفظائع، علينا أن نطرح سؤالًا أهم هو: هل يعتقد المنخرطون في الإبادة الجماعية أن ما يقومون به هو أعمال إجرامية شريرة؟ أم أنهم مقتنعون فعلا بأن ما يقومون به واجب أخلاقي؟

مرتكبو الإبادة الجماعية

في عام 1971، قام فريق من الباحثين تحت إشراف أستاذ علم نفس الاجتماع فيليب زيمباردو من جامعة ستانفورد، بإجراء دراسة مدتها أسبوعان عن حياة السجن. وفي غضون ذلك، قام المؤلف الرئيسي للدراسة بتحويل قبو قسم علم النفس بجامعة ستانفورد إلى "سجن وهمي"، هُيِّئت له الظروف ليصبح إلى حد كبير أشبه بسجنٍ حقيقي.

ووقع الاختيار على 24 طالبًا متطوعًا من المشاركين الذكور عرف عنهم الثبات الانفعالي والصحة البدنية والنفسية، والقصد من وراء ذلك كان اختيار أشخاص عاديين وأسوياء، وفيما بعد جرى تقسيمهم عشوائيًّا إلى مجموعتين، ستؤدي إحداهما دور "السجين"، في حين تؤدي الأخرى دور "السجان".

إعلان

نُشرت تجربة محاكاة السجن تحت اسم "تجربة سجن ستانفورد"، وتعد من أكثر التجارب المثيرة للجدل. ففي بداية التجربة أبدى المشاركون انسجامهم وتعاون بعضهم مع بعض، وكان الهدف من هذه التجربة إلقاء الضوء على الأدوار الاجتماعية المنسوبة إلى الأفراد من قبل سلطة المجتمع والقوة المؤسسية ودورها في التأثير في السلوك البشري.

جرى اعتقال المتطوعين الذين وقع الاختيار عليهم عشوائيًّا لأداء دور السجناء، وبعد تغطية أعينهم وُضعوا في سجن القبو، ووزعت عليهم ملابس السجن وعلق كل سجين على ثوبه رقمه التعريفي.

على الجانب الآخر ارتدى المتطوعون الذين اختيروا لأداء دور حراس السجن زيًّا عسكريًّا، ووضعوا نظارات لمنع التواصل بالأعين مع السجناء، وحملوا معهم الهراوات والصفارات والكلبشات. وبعد فترة وجيزة، بدأ الحراس يتصرفون بعدوانية، وقد بدا عليهم أنهم يستمتعون بالسلطة الجديدة الممنوحة لهم وبالسيطرة شبه الكاملة التي يمارسونها على السجناء.

وعلى الرغم من أن التجربة كان من المخطط لها أن تستمر مدة أسبوعين، فقد أُنهِيت بعد ستة أيام للظروف المرضية للسجناء الذين أجبروا على تحمل المعاملة القاسية من قبل أقرانهم. وقد خلصت الدراسة إلى استنتاج رئيسي، وهو أن الأشخاص الأسوياء والطبيعيين بإمكانهم القيام بأفعال شريرة وفظيعة تتناسب مع الأدوار الاجتماعية التي يؤدّونها.

وهي النتائج التي جاءت متناقضة مع الرأي الشائع القائل بأن مرتكبي الإبادة الجماعية لا يمكن أن يكونوا أشخاصًا أسوياء وطبيعيين، بل من المؤكد أنهم مرضى عقليون يعانون من اضطرابات نفسية جسيمة.

وفي هذا السياق يشير يوآف ليتفين الطبيب النفسي وعالم الأعصاب الإسرائيلي الأمريكي، في مقاله "تشريح الإبادة الجماعية الصهيونية"، إلى أن سلوك الإبادة الجماعية الذي تمارسه إسرائيل في غزة وأماكن أخرى من فلسطين التاريخية يمكن مقاربته مع أنماط العنف التي شوهدت في تجربة سجن ستانفورد و"أبحاث ميلغرام" عن الطاعة والانصياع للسلطة.

"أفظع الجرائم ضد الإنسانية ترتكب باسم الطاعة".

كتاب علم نفس الرضوخ

شيراز محمد خضر

 

في تجربة سجن ستانفورد، ساهمت السلطة التي مُنحت للحراس من خلال دورهم الاجتماعي في تحويلهم إلى أشخاص قادرين على إيذاء الآخرين. أما أبحاث عالم النفس الأمريكي الشهير ستانلي ميلغرام عام 1960 فقد ركزت على اختبار الضمير الشخصي للأفراد عند تعريضهم لضغوط خارجية من قبل سلطة عليا، متسائلًا عما إذا كانوا ينصاعون للأوامر العليا أم ينتصرون للأخلاق؟

إعلان

شارك في التجربة 40 شخصا جرى تقسيمهم إلى مجموعتين، فأدّى بعضهم دور "المُعلم" وأدّى الآخرون دور "الطالب"، وقد أُعطِيَ المشاركون الذين أدّوا أدوار المعلمين أجهزة صعق كهربائي وأُمروا باستخدامها في عقاب الطلاب على أخطائهم، وقد وصلت قوة الصدمة القصوى إلى 450 فولتًا.

وعلى الرغم من أن توقعات الباحثين كانت تنحصر في أن نسبة الخضوع لهذه الأوامر التي تتضمن إيذاء الآخرين لن تتعدى 3%، فقد جاءت التجربة بنتائج مرعبة، بعدما وافق نحو ثلثي المشاركين 65%، على معاقبة زملائهم الذين يؤدّون "دور الطلاب" بالصدمة الكهربائية القصوى، وذلك بالرغم من علمهم أنها صدمة مميتة.

لم يكن "جهاز ميلغرام" للصعق الكهربائي حقيقيًّا، ومن أدّوا دور الطلاب كانوا ممثلين، لكن المشاركين الآخرين لم يعرفوا ذلك إبان التجربة، فقد أطاعوا أوامر رمز السلطة حتى وهم غير راضين عن الأفعال التي يقومون بها. وهو ما جعل ميلغرام يخلص إلى أن هتلر ما كان يستطيع تنفيذ خططه الشريرة في ألمانيا النازية لو لم يجد تعاونًا بالآلاف من أفراد مجتمعه، الذين كانوا على استعداد لإطاعة الأوامر.

نشر الباحث ستيفن لي لوب دراسة في علم النفس الاجتماعي عام 1995، ناقشت تجربة ميلغرام في ضوء ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، قسم فيها مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية إلى نوعين، الأول هم رجال السلطة الذين يرسمون الخطط ويرتبون تفاصيل الإبادة الجماعية الممنهجة، والنوع الثاني هم الجنود الذين يمكن اعتبارهم أذرعة السلطة للقتل، وكل مجموعة منهم تختلف دوافعها في ارتكاب مثل هذه الجرائم.

فالجنود العاديون على سبيل المثال تبدو دوافعهم -وفقًا للوب- عادية لدى مثلهم، فهم يطيعون السلطة رغبةً في الترقية ولتأمين وظائفهم، بل ويعتبرون اتباع أوامر الإبادة تلبية لمتطلبات أدوارهم المسندة إليهم، وبالتالي هم يعتبرون أنفسهم وكلاء للسلطة وغير مسؤولين عن أفعالهم.

إعلان

وعلى الرغم من النتائج المثيرة لتجارب ميلغرام التي كان لها بالغ الأثر في علم النفس الاجتماعي، حذر بعض علماء النفس البارزين أمثال إرفين ستوب من الاعتماد على تجربة ميلغرام وحدها، التي تعد الطاعة العمياء للسلطة هي الركن الأساسي في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية.

فالطاعة وفقًا لستوب ليست القوة الدافعة الوحيدة لارتكاب الإبادة وعمليات القتل الجماعي، بل غالبًا ما نجد أولئك الذين يطيعون أوامر السلطة بطريقة عمياء، يشاركون السلطة في وجهات النظر الأيديولوجية، بل ويعتقدون أنهم يقفون على الجانب الصحيح من التاريخ ويخدمون هدفًا ساميًا وعظيمًا.

عن ذلك يقول عالم النفس الأمريكي هربرت كيلمان: "هناك وسيلتان يمكن من خلالهما أن تجبر السلطة الآخرين على الخضوع للأوامر، الأولى هي المطالبة بالولاء والطاعة، والثانية تحفيز الرعية من خلال أيديولوجية تستدعي القيام بمهمة سامية".

نتائج هذه التجارب التي تتلخص في إطلاق اليد لاستخدام العنف وإطاعة أوامر السلطة تلقي الضوء على حرب الإبادة المتواصلة في قطاع غزة منذ أكثر من عام. على سبيل المثال، نشرت "سي إن إن" تقريرًا في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي يكشف عن استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين دروعًا بشرية لاستكشاف المناطق الخطرة في غزة. تلك الممارسة التي تبين فيما بعد أنها شائعة الحدوث على نطاق واسع بين وحدات الجيش الإسرائيلي، حتى إنهم أصبحوا يطلقون عليها اسمًا، وهو "بروتوكول البعوض" (mosquito protocol).

فبحسب شهادة جندي إسرائيلي وخمسة من مدنيين فلسطينيين جرى استخدامهم دروعًا بشرية، أمر قادة الوحدات باتباع هذا البروتوكول قبل الدخول إلى المباني التي يُشَكّ في أنها مفخخة، بدعوى أنه من الأفضل أن يموت الفلسطينيون بدل أن يموت الجنود الإسرائيليون، وعندما اعترض بعض الجنود على القيام بهذه الممارسة ضد المدنيين، أمرهم القائد بعدم "التفكير في القانون الدولي".

إعلان

هذه الشهادات المرعبة الواردة من ساحة الحرب، دفعت المستشار الأمني الإسرائيلي السابق عيران عتصيون إلى حث الجنود على عدم الامتثال للأوامر العسكرية غير القانونية، التي قد ينتج عنها ارتكاب أفعال تُصنَّف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

وصية "لا تقتل" المُعطلة في غزة

في ورقة بحثية كتبها الطبيب النفسي والفيلسوف الأوكراني تاديوس بيليكيفيتش عن علم نفس الإبادة، أشار إلى أن هناك حالات تصبح فيها وصية "لا تقتل" -التي تخضع الأفراد لمجموعة من المعايير الأخلاقية المحددة- معطلة.

وكانت الحرب من ضمن هذه الحالات؛ فالجندي الذي يحارب في ساحة المعركة لا يشعر بتأنيب ضمير، سواء قتل العشرات أو الملايين. وذلك لأن القتل في هذه الحالة يعد فعلًا قانونيًّا، بل وقد يعاقب الجندي الذي لا يمتثل أوامر القتل، ولذلك فإن وصية "لا تقتل" في هذه الحالة، تتحول إلى نقيضها بضمير مرتاح "عليك أن تقتل".

وهذه السلطة القانونية التي تسعى للسيطرة على "أنا الفرد" بأطر اجتماعية معينة، ترغب في الوقت ذاته في أن تنتصر لـ"الأنا الجماعية" التي تمثل الدولة والمجتمع. وهو إطار أوسع نطاقًا ولا يمكن السيطرة عليه أو ضبطه بسهولة. لكن ماذا لو كانت هذه الأنا الجماعية غير الخاضعة للسيطرة تمهد لارتكاب الإبادة وجرائم الحرب؟

أفرد دايفد باتريك هوتون في كتابه "علم النفس السياسي" فصلًا كاملًا للصراع الإثني والإبادة الجماعية، وفيه تناول أبشع قضايا القتل الجماعي في القرن العشرين، مثل الإبادة الجماعية في رواندا ويوغوسلافيا، وقد استخدم هوتون مجموعة من النظريات لتفسير مفهوم الهوية وأسباب الصراع بين الجماعات، كان من بينها نظرية الهوية الاجتماعية "Social identity theory"، ونظرية الصراع الواقعي بين الجماعات "Realistic Group Conflict Theory"، التي ترى أن الصراعات بين الجماعات تنشأ نتيجة للتمييز بين الجماعات الداخلية والجماعات الخارجية والتفكير بطريقة "نحن" و"هم".

إعلان

إلا أن عالمة النفس السياسي كريستين مونرو، ترى أن هذه التفسيرات قاصرة عن تحليل الدوافع النفسية والأبعاد الاجتماعية التي تقف وراء الإبادة الجماعية، وتقول إن اللامساواة المزمنة والفروق الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها، تفسح المجال أمام حدوث الإبادة الجماعية، خاصةً في حالة وجود صراع تاريخي بين الجماعات.

وبحسب مونرو، هناك سلسلة من الخطوات تسبق حدوث الإبادة، مثل الاتجاه نحو شيطنة الأقلية المستهدفة (Demonization)، وظهور نوع من الأيديولوجية يعمل على شرعنة القتل وتبريره، وفي هذه الحالة يجري تصوير هذه الإبادة في صورة الحرب المقدسة التي تسعى لتخليص "كيان الجماعة المسيطرة" من الأنسجة المريضة داخله، مثل ظهور شعور بالتفوق العنصري أو التفوق الديني على الجماعة المستهدفة. وفي كثير من الأحيان، وفقًا لمونرو، لا يشعر مرتكبو الإبادة الجماعية بالندم، بل يرون أنفسهم أشخاصًا أخلاقيين وتصرفاتهم نابعة من وازع أخلاقي.

هذا الأمر أشار إليه المؤرخ عمر بارتوف هو الآخر في مقاله سابق الذكر الذي نُشر بصحيفة "الغادريان"، حيث تناول حادثة الطلاب الإسرائيليين الذين احتجوا على إحدى محاضراته التي كان من المقرر أن يلقيها بجامعة "بن غوريون" في إسرائيل يونيو/حزيران الفائت، وقد تبين فيما بعد أن أغلب هؤلاء المحتجين هم نشطاء في جماعات يمينية متطرفة، وقد خدموا في جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب الدائرة في قطاع غزة.

وبعد حديث مطول استمر مدة ساعتين، اكتشف بارتوف عوار المعايير الأخلاقية لدى هؤلاء النشطاء، فيقول إن أغلبهم يعتقدون بأنهم يقومون بعملٍ أخلاقي وحرب سامية يضحون فيها بأنفسهم من أجل مصلحة البلاد ومستقبلها، وقد دافعوا عن أنفسهم ضد نعتهم بالقتلة وأنكروا التجويع الذي استُخدم سلاحًا في القطاع، بل كانوا يرون في أنفسهم أشخاصًا إنسانيين ورحماء.

إعلان

رغم ذلك لم يرَ هؤلاء في قصف المدارس والمستشفيات ومنازل المدنيين في غزة أمرًا مستهجنًا، فأهالي غزة بالنسبة إليهم أقل من البشر ولا يستحقون حقوقهم، وهو ما جعل بارتوف في تقريره يقارن بين نظرة هؤلاء النشطاء لأنفسهم وبين الجنود الألمان إبان الحرب العالمية الثانية، حيث كانوا يظنون خطأ أنهم يخوضون حربًا أخلاقية متحضرة ضد البرابرة من سكان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، الذين كانوا في نظرهم كتلة سكانية تستحق الإبادة لتنعم ألمانيا بمساحة آمنة للمعيشة.

في المقابل، يشير بيليكيفيتش في ورقته البحثية إلى أن "الخطاب الدعائي" (البروباغندا)، يعد من أقوى الأدوات المستخدمة في التمهيد للإبادة الجماعية، إذ إن له -على حدِّ تعبيره- فعل السحر فيما يخص التأثير في الأمم والشعوب؛ مما يجعلهم أكثر قابلية لتصديق الأكاذيب وعدم تصديق الحقائق.

ويبرز الطبيب النفسي يوآف ليتفين في مقاله دور الخطاب الدعائي في التأثير وحشد الدعم الشعبي للإبادة الجماعية، وذلك بالنظر إلى حالة غزة، قائلًا إن الدعاية الحربية التي أطلقها جهاز العلاقات العامة الإسرائيلي في أعقاب معركة طوفان الأقصى، ساهمت بشكلٍ كبير في التمهيد للإبادة الجماعية، وتشكيل الرأي العام، وحشد الدعم السياسي والعسكري غير المشروط لحملة برية واسعة النطاق على قطاع غزة.

إذ عمدت الحملة إلى نشر معلومات مضللة وأكاذيب أثارت الخوف والغضب في نفوس المجتمع الإسرائيلي، تضمنت مزاعم عن قطع رؤوس الأطفال بشكلٍ جماعي، وحرقهم، وتعليقهم في صف واحد على أحبال الغسيل بحمالات صدور أمهاتهم، وهي الفظائع التي تبين أنها لم تحدث مطلقًا بحسب تقارير الأمم المتحدة والتحقيقات الصحفية المطولة والمتعددة، ومنها تقييم صحيفة ليبراسيون الفرنسية.

 

ساهمت هذه الحملة -بحسب ليتفين- في شرعنة القتل الجماعي للفلسطينيين باسم "الدفاع عن النفس"، حتى أصبح جزءًا روتينيًّا من الحياة، وهو ما اعتبرته شيراز محمد خضر في كتابها "علم نفس الرضوخ" يمثل المرحلة الثانية من الإبادة الجماعية، وهي التنميط و"الروتنة" التي تعني جعل القتل فعلًا روتينيًّا وعملية آلية مبرمجة على حد تعبيرها، وهي العملية التي دائمًا ما تسبقها مرحلة نزع صفة الإنسانية عن الضحايا، التي تعتبر إحدى المراحل الأساسية العشر للإبادة الجماعية كما أوردتها منظمة مراقبة الإبادة الجماعية (Genocide Watch).

إعلان

وتشمل هذه المراحل خطاب الكراهية، وإبراز الاختلافات بين الجماعات البشرية، والتجريد من الإنسانية، وتبدأ غالبًا بأفعال أو أقوال بسيطة تبدو ظاهريًّا غير ضارة، مثل تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت عندما وصف سكان غزة في بداية الحرب بأنهم "حيوانات بشرية"، وذلك لتبرير محاصرتهم وقطع الماء والكهرباء والطعام عنهم. ومثل تشبيه الفلسطينيين بالعماليق على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهي رواية توراتية من الكتاب المقدس تذكر شعبا حاربه بنو إسرائيل وأبادوه عن بكرة أبيه بأمر إلهي حثهم على قتل أي كائن يتحرك حتى الماشية والبهائم. وهو ما يعد استغلالًا واضحًا للمشاعر الدينية في الحشد للحرب.

هذه التوليفة بحسب ليتفين ساهمت في صياغة هوية قومية جديدة في المجتمع الصهيوني، تربط الأمان اليهودي بوجود وطن حصري لليهود، قائم على التهجير القسري وترحيل السكان الأصليين، الذين تم تصويرهم في الذهنية الصهيونية على أنهم ليسوا بشرًا بل برابرة وحيوانات بشرية لا تستحق الأرض أو الحياة، وبالتالي منحوا حق قتلهم دون الشعور بأي هواجس أخلاقية.

يقول عن ذلك المفكر الأمريكي بيري ساندرز في كتابه "اختفاء الكائن البشري": إن ضحية الأمس نجح في التحول إلى جلاد اليوم، فكما نظر النازيون إلى اليهود باعتبارهم حشرات متطفلة بحاجة ماسة إلى الفناء الجماعي، عرّض اليهود قرًى ومدنًا فلسطينية كاملة لعمليات القتل الجماعي والتهجير من أجل احتلال الأرض.

جذور العنف في "العقلية الصهيونية" تعود إلى ما قبل إنشاء الدولة

في فبراير/شباط الماضي، صرح كرمي غيلون الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) بأن ما حدث في السابع من أكتوبر لن يتكرر مرةً أخرى، في إشارة إلى عملية "طوفان الأقصى" والهجوم المباغت الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) على بعض المواقع والمستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، مُشيرًا إلى أن الضربة القوية التي تلقتها حماس في هذه الحرب الانتقامية -على حد تعبيره- ستجعلها غير قادرة على شن هجوم مماثل.

إعلان

لكن بالنسبة إلى الصحفي والكاتب الفلسطيني رمزي بارود، كانت تصريحات غيلون تحمل بعدًا آخر نفسيًّا، وهو أن هذه الحرب الانتقامية كان هدفها في حقيقة الأمر استئصال فكرة المقاومة و"الوقوف في وجه إسرائيل" من جذورها في الوعي الجمعي للفلسطينيين، من خلال إعادة زرع الخوف في قلوبهم والقضاء على أي أمل يوحي بأن العدالة ممكنة في فلسطين، وبحسب بارود يعد هذا الخوف ضروريًّا لبقاء دولة إسرائيل.

أشار بارود في مقاله  إلى العلاقة الوثيقة بين وجود إسرائيل وقوة جيشها، التي تعود إلى الخطاب المبكر للمفكرين الصهاينة الأوائل، أمثال زئيف جابوتنسكي صاحب نظرية "الجدار الحديدي" التي نشرت في أحد مقالاته عام 1923، وفيها يتناول أثر القوة العسكرية الطاحنة ودورها في تشكيل حصن منيع من العنف والقهر يعجز الفلسطينيون عن هدمه، وقد عدّ تلك القوة ركيزة أساسية من أجل بقاء دولة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية وطرد السكان الفلسطينيين وإحلال الإسرائيليين محلهم. وهو "الجدار الحديدي" الحقيقي الذي اخترقته بنجاح منقطع النظير حركة المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر.

زئيف جابوتنسكي صاحب نظرية "الجدار الحديدي" التي نشرت في أحد مقالاته عام 1923. (الجزيرة)

بحسب بارود، تدل تلك الكتابات على أن لغة الإبادة الجماعية في إسرائيل أقدم من الدولة نفسها، وهي الرؤية التي يتفق معه فيها المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري.

ففي كتابه "نهاية التاريخ: دراسة في بنية الفكر الصهيوني"، أفرد المسيري فصلًا كاملًا يناقش "العنف" في كتابات رواد الصهاينة الأوائل، وفيه أشار إلى أن الفكر الصهيوني كان يمثل "حركة تمرد" على سلبية التراث اليهودي الذي ينتظر وصول "المسيح المخلص". وقد جاء هذا التمرد في شكل أيديولوجية جديدة تجعل من العنف والسيف محركًا لأحداث التاريخ.

إعلان

يرى المسيري أن الصهاينة قد عمدوا إلى إعادة كتابة التاريخ اليهودي، بما يتوافق مع تخيلاتهم عن الشخصية اليهودية المفترضة، بتصوير اليهود وكأنهم مجموعة من المحاربين الرعاة، وقد أدّت هذه الرؤية دورًا بارزًا في شرعنة السلب والنهب والعنف ضد الفلسطينيين؛ إذ لم يكن بالإمكان الاستيلاء على "أرض الميعاد" وفقًا للمفكرين الأوائل للحركة الصهيونية، إلا باستخدام السيف والعنف والقوة العسكرية الجامحة.

ويقول عن ذلك القائد الإسرائيلي البارز مناحيم بيغن في كتابه "الثورة"، إن الدم والنار والدموع والرماد ستخرج للعالم نموذجًا جديدًا من الرجال لم يكن معروفًا البتة طوال الـ1800 عام الماضية، وهو المحارب اليهودي.

وهو ما دفع الراحل عبد الوهاب المسيري إلى القول بأن الحرب مع العرب وممارسة العنف ضدهم، لا يستخدمان فقط وسيلةً للاستيلاء على الأرض وطرد الفلسطينيين، بل ينظر إليهما الصهاينة باعتبارهما الطريقة الوحيدة لتأسيس الحضارة الإسرائيلية على حد السيف، فوفقًا لقائد الجيش الإسرائيلي موشي ديان، فإن إسرائيل دولة قائمة على السيف، وإن سقط من قبضتها، انتهى وجودها.

لهذا السبب يسيطر العنف بحسب المسيري على "العقلية الإسرائيلية"، باعتباره اللغة الوحيدة التي يمكن بها التحدث مع الفلسطينيين والعرب، وهي اللغة التي يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة المتواصلة في قطاع غزة بلا هوادة حتى هذه اللحظة.

مقالات مشابهة

  • تشييع جثمان عضو مجلس النواب عبدالله مهدي في الحديدة
  • الوداع الأخير.. تشييع جثمان طفلة عثر عليها مدفونة في رمال بقنا بعد تغيبها.. صور
  • تعرف على موعد تشييع جثمان الراحل نبيل الحلفاوي
  • مصدر شرطوي:نقل (150) شرطيا من محافظة صلاح الدين إلى الحدود العراقية السورية
  • هتوحشينى يا غالية .. انهيار عصام الحضرى خلال تشييع جثمان والدته
  • محمد الشافعي: الصحفي مثل الجندي الذي يقف على حدود البلاد
  • واشنطن تبدأ إجلاء جنودها من جزيرة أوكيناوا اليابانية
  • زيلينسكي يدعو إلى رد عالمي على مشاركة جنود من كوريا الشمالية في معارك كورسك
  • كيف يقتل جنود جيش الاحتلال بدمٍ بارد؟
  • توافد أعداد كبيرة على معبر المصنع الحدودي بين سوريا ولبنان