فاغنر ومثيلاتها.. هل تكون الشركات الأمنية الخاصة بديلا للجيوش؟
تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT
ضمن تجليات آثار العولمة والثورة المعلوماتية في العالم الجديد، حدث تحول كبير في المفاهيم التقليدية لحدود الدول والمساحات التي تتحرك فيها، فتجاوزت الحكومات مبدأ احتكار القوة العسكرية والهيمنة على إنتاج السلاح واستخدامه إلى الاستعانة بالجيوش الخاصة لمساعدتها في الحروب الداخلية والخارجية وتأمين مشاريع البنية التحتية.
وفي ظل ارتباط الاقتصاد والسياسية بالحروب والتسليح، عادت ظاهرة الارتزاق العسكري عبر الشركات الأمنية المتعددة الجنسيات التي تعمل في مقاولات الحروب وتجني أرباحا تفوق فوائدها ما تحققه الجيوش النظامية.
ظهور بعد اختفاءويرجع ازدهار ظاهرة الارتزاق السياسي إلى العصور الوسطى، حين كانت المجتمعات مجزأة والحكومات ضعيفة ولم يكن بمقدورها الاعتماد على ذاتها.
وعام 1648 تم توقيع "صلح وستفاليا" ( معاهدتا سلام أنهتا حرب 30 عاما بين الدول الأوروبية) الذي كان من نتائجه حظر الارتزاق العسكري، واعتبار الحروب شأنا يخص الدول والحكومات ولا دور للأطراف الخاصة في هذا الشأن.
وقد جاء صلح وستفاليا مؤسسا لمفهوم الدولة المطلقة، ومرسيا بذلك قواعد حاكمة للنظام الدولي الحديث تتمتع بمقتضاه الدول بالسيادة الحصرية على أراضيها.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الدول وحكوماتها -سواء كانت ديمقراطية أو استبدادية، ملكية أو جمهورية- تحتكر استخدام القوة مما شجعها على إنشاء جيوش نظامية محترفة ودائمة، ومنهية بذلك تاريخا طويلا من الاعتماد على قوات المرتزقة.
ورغم استمرار مفهوم الدولة المحتكرة للقوة العسكرية، فإن ضعف السيادة الوطنية وظهور فراغ سياسي في كثير من الدول جعل جنود المرتزقة المحترفين -يشار إليهم الآن بالمقاولين- يعاودون الظهور بكثافة من جديد.
وتوظف شركات متعددة الجنسيات هؤلاء المرتزقة ليكونوا قوات دعم للجيوش التقليدية في مهام محددة وتنتهي خدماتهم بانتهائها.
ومن بين هذه الخدمات القيام على الأمن الخارجي والداخلي، والعمليات القتالية وتأمين القيادات المحلية والبنية التحتية الحيوية مثل آبار النفط والمناجم، وتدريب القوات العسكرية المحلية، وهم في ذلك يُعدون امتدادا للقوات المسلحة التي تستأجر خدماتهم.
ومنذ بداية القرن الـ20، تزايد حضور المتعاقدين من القطاع الخاص في ميادين الحروب التي شاركت فيها الولايات المتحدة بنسب كبيرة.
ففي الحرب العالمية الأولي شارك مليونا عسكري نظامي، في حين شارك معهم 58 ألفا من المتعاقدين (جيوش خاصة) بنسبة متعاقد واحد مقابل كل 24 جنديا نظاميا.
وفي الحرب العالمية الثانية، شارك 5.4 ملايين عسكري نظامي، بينما شارك 743 ألفا من المتعاقدين بنسبة متعاقد مقابل كل 7 جنود نظاميين.
وقد ارتفعت نسبة مشاركة الجيوش الخاصة في الحربين الفيتنامية والكورية، إذ خاض الحرب الكورية 359 ألف عسكري نظامي، مقابل 156 ألف شخص من غير النظاميين، وهو ما يشكل نسبة متعاقد مقابل كل 3 جنود رسميين، أما في الحرب الفيتنامية فقد كان عدد الجنود النظاميين يصل إلى 359 ألف عسكري، في حين شارك 70 ألفا من المتعاقدين، بنسبة متعاقد مقابل كل 5 جنود نظاميين.
وقاتل في حرب الخليج الأولى 541 ألف عسكري نظامي، في حين شارك 5200 من الجنود غير الرسميين، وهو ما يشكل نسبة متعاقد لكل 100 عسكري نظامي.
وفي حربي البلقان والعراق، شارك 20 ألفا من العسكريين النظاميين، في حين شارك العدد نفسه 20 ألفا من المتعاقدين، بنسبة متعاقد مقابل كل عسكري نظامي.
أما في حرب أفغانستان، فقد شارك 79 ألفا و100 من العسكريين النظاميين، في حين شارك 112 ألفا و100 من المتعاقدين، حيث فاق عدد المتعاقدين على العسكريين النظاميين لأول مرة في حروب الولايات المتحدة.
والنظرة العامة هي أنه في معظم فترات القرن العشرين كانت الشركات الأمنية الخاصة تمثل نسبة صغيرة من المشاركة في الحروب، وذلك قبل أن تبدأ أعدادهم في التزايد بشكل حاد في القرن الـ21.
شركات ومليشياتوتعد الولايات المتحدة الأميركية واحدة من الدول الرائدة في انتشار الشركات الأمنية الخاصة، ومن أبرز شركاتها "بلاك ووتر" التي لاحقتها جرائم وفضائح في أثناء مشاركتها في الحرب على العراق، وهو الأمر الذي جعلها تضطر لتغيير اسمها إلى "أكاديمي".
ومن ضمن الشركات الأمريكية العاملة في مجال الحروب والخدمات الأمنية والعسكرية العابرة للحدود، شركة تريبل كانوبي، وتيتان كوربوريشن، وداينكورب.
وفي روسيا توجد عديد من الشركات العسكرية مثل مجموعة فاغنر، ومجموعة أوريل لمكافحة الإرهاب، وروسكورب، ومجموعة موران الأمنية، والفيلق السلافي.
ولم تكن هذه الشركات تعمل في روسيا فحسب، بل امتد نشاطها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا.
وخلال السنوات الأخيرة، اجتذبت مجموعة فاغنر الروسية -بقيادة يفغيني بريغوجين حتى وفاته في أغسطس/آب 2023- الاهتمام العالمي حولها.
وقد شاركت فاغنر في عمليات عسكرية غير تقليدية في سوريا إلى جانب القوات المسلحة الروسية، بالإضافة إلى عديد من المهمات في جميع أنحاء أفريقيا، خاصة في ليبيا ومنطقة الساحل، بالإضافة لحضورها القوي في الحرب على أوكرانيا.
وقد لحقت بالشركات العسكرية الخصوصية كثير من الخسائر البشرية، ففي الفترة الممتدة بين أكتوبر/تشرين الأول 2001 وأغسطس/آب 2021، قتل 2402 جندي أميركي في أفغانستان مقارنة بما لا يقل عن 3500 من المتعاقدين لشركات أمنية أميركية خاصة، ولم تحظ هذه الخسائر البشرية بالاهتمام من قبل الرأي العام.
لكن مشهد الحضور والمشاركة لا يقتصر على الشركات الخاصة ذات الوزن الكبير، وإنما يشمل المقاتلين الذين ينتمون إلى تنظيمات مسلحة ومليشيات في دول فقدت فيها الدولة القدرة على احتكار القوة.
ففي هذه الدول، تظهر جهات فاعلة جديدة -كما كانت الحال في العصور الوسطى- تسيطر بالقوة والعنف على ما تخلت عنه الدولة، ولتصبح قوة سياسية مستقلة.
وتتجلى هذه الظاهرة في بلدان مثل الصومال وليبيا ولبنان واليمن، حيث الحكومات ضعيفة والمليشيات تعمل من دون رادع، وفي بعض الأحيان، كما في حالة حزب الله في لبنان تقوم هذه الجماعات بمهام متنوعة، حتى توفير الخدمات الأساسية للمواطنين.
في حماية الأنظمةويلاحَظ من تزايد المليشيات والشركات الأمنية الخاصة المحلية والأجنبية أن الدافع من وراء ذلك هو السعي إلى الربح الذي تعمل الحكومات على ضمانه وتوفيره.
وعام 2007 في أثناء الحرب على العراق كان دخل رقيب الجيش ما بين 140 إلى 190 دولارا يوميا، بينما كان الفرد المقاتل من شركة بلاك ووتر أو داين كورب يتقاضى أكثر من 1200 دولار يوميا.
وحصلت بلاك ووتر عام 2004 على عقود بمئات الملايين من وزارة الخارجية الأميركية مقابل خدماتها في العراق وأفغانستان.
وتبدو العلاقة بين الحكومة والسلطات السياسة أكثر وضوحا إذا تم النظر في مستوى العلاقة والتقارب بين مسؤولي الشركات وأعضاء الحكومات، حيث تبين أن إريك برنس مؤسس شركة بلاك ووتر هو شقيق بيتسى ديفوس وزيرة التعليم في إدارة الرئيس ترامب وإحدى المقربات له.
وعندما حان موعد مغادرة الرئيس دونالد ترمب للبيت الأبيض عام 2020 وقّع قرارا بعفو رئاسي عن جميع المدانين من شركة بلاك ووتر بجرائم مذبحة النسور في بغداد 2007، الذين حكم عليهم القضاء الأميركي سنة 2015 بعقوبات تصل إلى 25 عاما.
ولا يختلف وضع الشركات الأميركية عن نظيراتها في روسيا، حيث ارتبط اسم الرئيس السابق لمجموعة فاغنر بعلاقات خاصة ووطيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مما أتاح للشركة تحقيق كثير من الأرباح، خاصة عبر تدخلاتها في أفريقيا ومنطقة الساحل.
التوسع وغياب القوانينورغم الجهود المبذولة لتنظيم الشركات الأمنية الخاصة بوضع ضوابط وقوانين تنظمها، فإن تلك النصوص لا تزال قُطرية ولا ترقى إلى مستوى القوانين والمعاهدات الدولية، إذ تنص المادة 357 من القانون الروسي الصادر 1996 على أنه يحظر على المدنيين قبول المكافآت مقابل القتال في الخارج، وهو الأمر الذي يحظر قانونيا أنشطة المرتزقة العسكريين.
وفي السياق نفسه، يقيد القانون الموحد للقضاء العسكري في الولايات المتحدة أنشطة المواطنين المتعاقدين في الخارج.
لكن هذه القوانين ليست سوى حبر على ورق، ففي روسيا توجد عديد من الشركات العاملة في مجال الارتزاق العسكري، كما للولايات المتحدة شركات تلاحقها جرائم حرب يعاقب عليها القانون العسكري الأميركي.
ومن المتوقع أن تستمر الشركات الأمنية الخاصة في التوسع في عالم يتسم بلمزيد من الصراعات والتحول نحو التعددية القطبية، خاصة أن الحروب المعاصرة تطورت من حروب تقليدية بين الجيوش النظامية إلى صراعات هجينة معقدة يصعب تصنيفها والتعامل معها بشكل تقليدي، ويتجلى ذلك في استخدام الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الناشئة في الحروب المادية والسيبرانية.
ويشير هذا السيناريو إلى مستقبل يتسم بالفوضى والافتقار إلى مرجعية دولية موحدة. باختصار، لن تستطيع قوة منفردة أن تملى بمفردها قواعد السياسة الدولية، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى مشهد عالمي أكثر تفككا وصعوبة في التنبؤ.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة بلاک ووتر فی روسیا فی الحرب خاصة فی
إقرأ أيضاً:
أن تكون نازحا!
مما يزيد في صدق كتابة الإنسان وجعل ما يكتبه يلامس قلوب القراء، معايشته تفاصيل القضية التي يكتب عنها، سواء فرحا أو حزنا، وإلا سيقل تأثير الكاتب بالقرّاء، وسيفتقدون دسم الدهشة في كلماته.
حاولتُ مرارا الكتابة عن تجربة النزوح والنازحين، لم يكن الأمر سهلا، ولم تسعفني الكلمات؛ لأني لم أكن أحد أعضائها بالمعنى الدقيق للكلمة بعد، صحيح أنني كنتُ مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، لكن لم أعش بخيمة، على اعتبار أن محافظتي لم يصلها إشعار بالإخلاء بعد، وهنا يمكن الاستعانة بالمثل الشعبي القائل "الشوف مش زي الخراف" يعني "من يرى ليس كمن يسمع".
أما منذ شهر أيار/ مايو 2024 إلى الآن -وإلى أجلٍ غير مسمى- فقد دخلتُ نادي النازحين بما فيه من ألمٍ ومعاناة، فالآن أكتبُ ودمعُ العينِ ينسكبُ عن تجربةِ النزوح.
فالنزوحُ أيها السادة ليست كلمة تُقال، أو فعلا يمارسه الإنسان وهو في كامل الفرح والسرور، بل يمارسه وهو في كامل القهر والحرمان، وهو أن يخرج من بيته بعد وصول إخطار له من طائرات الاحتلال، أو وصول صواريخ الاحتلال لتجبره دونما تفكير على إخلاء بيته أو منطقة سكناه ليصبح هائما على وجهه يبحث عن مأوى له ولعائلته، وهنا يُصاب الإنسان بالخوفِ والقهر حين يشعر بأن عليه إخلاء بيته الذي بناه على مدار سنوات، وله في كل ركنٍ درايةٌ ورواية.
لقد كنت مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، والذي يحتوي على 100 خيمة بعدد أفراد يصل إلى 800 شخص، ولكل فرد احتياجات حسب سنه وجنسه.
كنت أتابع أمورهم باهتمام وتلبية ما يمكن من احتياجاتهم من خلال التواصل مع المؤسسات المانحة والداعمة، كما كنا ننفذ أنشطة ترفيهية خاصة بالأطفال وندوات توعوية للنساء، وفتحنا مركزا لتحفيظ القرآن كان مقره في الطابق الثاني من بيتي حتى نشعرهم بالأمان.
كنت أرى في أعينهم الأسى وأستمع لقصصهم فلكل إنسان قصة، منهم من كان يتجهز للسكن في شقته الجديدة الجاهزة لكن الحرب لم تمهله، ومنهم من لم يمر على سكنه في شقته سوى أيام أو أشهر قليلة، ومنهم من لم ينته من تجهيز بيته، ومنهم من لم يسدد أقساط بيته الجديد بعد، ولكل نازح رواية لا تكفي لسردها ألف ليلة وليلة.
وبالعودة لعنوان المقال، فـ"أن تكون نازحا!"، يعني:
- أن تبدأ رحلة البحث عن مقومات الحياة من مأكل ومشرب وملبس منذ طلوع الشمس حتى بعد غروبها، وأبسط مثال قد تمشي مسافة نصف كيلومتر حتى توفر عبوة ماء.
- أن تقضي وقتا طويلا في البحث عن الحطب والكرتون لمعاونة زوجتك في صناعة الخبز لأطفالك في ظل انعدام الغاز.
- أن تبقى لمدة أسبوعين وأكثر دون استحمام، وملابسك دون تبديل؛ لأنك لم تتمكن من إحضار ملابسك كاملة حين غادرت منزلك..
- أن قضاء حاجتك يسبب لك حرجا، فكل مخيم فيه حمام عام، ودخولك أنت أو أحد أفراد أسرتك للحمام يشعركم بالحرج خاصة النساء، وحتى الحمامات التي تكون داخل الخيمة تخضع لقانون الدور والترتيب.
- إن معاناتك تتفاقم بوجود أطفال ومرضى وكبار السن، فجميعهم يحتاجون لطعام خاص ورعاية خاصة وهدوء وراحة، وهذه الأمور يتعذر توفرها دوما.
- ألا تشعر بالأيام وهي تمر سريعا، فما أن يبدأ الأسبوع حتى ينتهي، وربما هي نعمة.
- أن تهتم بمتابعة الأخبار لتعرف أين وصلت الأمور، ثم تصاب بخيبة أمل حين لا تأتي الأخبار بما يسر القلب.
- أن تصبح خبيرا بكل أنواع الطقوس المجتمعية التي كانت في بلدك وأنت لا تعرفها.
- أن تفرق بين المهم والأهم، والضروري العاجل والضروري غير العاجل.
- أن تدرك أن قيمة المرء فيما يحسنه.
- أن تتأكد بأنك قد تصبح الشهيد التالي.
لكن رغم المصائب في غزة، وخاصة في مخيمات النزوح، رأينا الأمل والعزة والفخر في نفوس الناس فمنهم من تزوج في الخيمة، ومن ناقش رسالة الماجستير في الخيمة، ومن وضعت مولودها في الخيمة، وحفظ القرآن في الخيمة، ومنهن من تَكوّن في رحمها جنينٌ وهي في الخيمة، ومنهم من أكمل فصله الأخير في الجامعة للحصول على بكالوريوس تربية إسلامية وهو في خيمة مثل كاتب هذا المقال.
إجمالا، ما سبق هو غيض من فيض مما نعانيه في مخيمات النزوح، لكن يبقى أملنا بالله قويا ليرزقنا نصرا مؤزرا قريبا عاجلا إن شاء الله، رغم عواصف الشتاء.
وللحديث بقية مع الجرح الثالث من جروح النزوح.