على حافة الغابة البدائية: الحلقة (8)
تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT
الفصل الثالث
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (8)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري – السودان
*ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الإنساني في علاقتهم بالإنسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للإنسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest)
يوليو، 1913 - يناير، 1914
لامبارين، فبراير، 1914
أول رحلة طويلة في قارب الكانو
تحتل محطة بعثة لامبارين مجموعة تلال. فعلى قمة التل البعيد توجد مباني مدرسة الأولاد، وعلى الجانب الذي ينحدر نحو النهر يقع المستودع وأكبر بيت بالمحطة. وعلى التل المتوسط البيت الصغير الذي يقيم فيه الطبيب، وهناك على التل الآخر مدرسة البنات والبيت الآخر للمحطة. وعلى بعد حوالي عشرين ياردة بعيدًا عن المنازل تقع حافة الغابة. إذن، نحن نعيش بين النهر والغابة العذراء، على ثلاثة تلال، يتعين تأمينها من جديد كل عام ضد غزو الطبيعة البرية التي تسعى دائماً لاستعادة ما كان لها.
كانت هناك في جميع أنحاء هذه المنازل؛ أشجار البن والكاكاو والليمون والبرتقال والمندرين والنخيل، وأشجار الباباي. كان السود يطلقون علي هذه الشجرة اسم "أندندي." نحن مدينون بصورة كبيرة للمبشرين الأوائل الذين بذلوا الكثير من الجهد لزراعة هذه الأشجار الكبيرة.
يبلغ طول المحطة تقريباً حوالي 650 ياردة وعرضها من 110 إلى 120 ياردة. نقوم بقياس هذه المسافة مرة بعد مرة في كل اتجاه في جولاتنا المسائية وأيام الأحد، ولا نقوم بهذه الرحلة الا نادراً على الممرات التي تؤدي إلى أقرب القرى. فالحرارة هناك لا تُطاق على هذه الطرق، لأن على جانبي هذه الممرات الضيقة ترتفع الغابة كالجدار الذي لا يمكن اختراقه اذ يبلغ ارتفاعه ما يقارب ال 100 قدم ، وبين هذه الجدران يحتبس الهواء. ويكون الوضع من عدم وجود تيار أو حركة الهواء مشابهاً لما يحدث في لامبارين، حيث يبدو وكأننا نعيش في زنازين السجن. فلو أننا استطعنا تنظيف قطعة صغيرة فقط من الغابة التي تحيط بالطرف السفلي للمحطة، لكنا قد حصلنا على قليل من النسيم الذي سيهب علينا عليلاً من وادي النهر؛ ولكن ليس لدينا من المال أو الرجال لعمل هجوم من هذا القبيل على الأشجار. ونتنفس الصعداء فقط في فصل الجفاف حين تكون الكثبان الرملية للنهر مكشوفة، إذ يمكننا حينها أخذ تماريننا على الهواء والاستمتاع بالنسيم الذي يهب علينا من الاتجاه المعاكس لمجرى النهر.
كان من المقرر في الأصل وضع مباني المستشفى على حافة التضاريس العالية التي تقع فيها مدرسة الأولاد، لكن نظراً لأن الموقع كان بعيدًا جدًا وصغيراً جدًا، فقد رتبت مع الطاقم المتواجد في المحطة أن يمنحونا مكاناً عند قدم التل الذي أعيش في نواحيه، على الجانب المقابل للنهر. وكان يتعين عليّ تأكيد هذا القرار من قبل مؤتمر المبشرين الذي كان من المقرر عقده في سامكيتا في نهاية شهر يوليو. لذا ذهبت هناك مع السيد إلنبرغر والسيد كريستول لطرح قضيتي، وكانت هذه أول رحلة طويلة لي في قارب الكانو المنحوت من جذع شجرة.
**********************************
بدأنا الرحلة في صباحٍ ضبابي قبل منتصف الليل بساعتين، كاان المسافرون الثلاثة - المبشرون وأنا – جالسين، أحدهم خلف الآخر في كراسي طويلة قابلة للطي في المقدمة. كان منتصف القارب ممتلئة بصناديقنا القصديرية، وأسرّتنا المطوية، والفرش، وبالموز الذي كان يشكل مقدار ما يتم توزيعه كحصص للسكان المحليين. وكان هناك وراء هذه الأشياء، الصف الذي يضم عشرين مجدّفاً في ستة أزواج متتالية؛ كانوا يغنون عن الوجهة التي كنا نتوجه إليها وعن الذين كانوا على متن القارب، ويمزجون التعليقات الحزينة حول بدء العمل في وقت مبكر جدًا مع اليوم الشاق الذي كان ينتظرهم!
كان من المعتاد أن يستغرق الوقت من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة لقطع مسافة ثلاثين إلى خمسة وثلاثين ميلاً صاعدين إلى سامكيتا، لكن كان علينا أن نسمح بوقت أطول بسبب حمولات القارب الثقيلة. وبينما كنا نتأرجح خارج القناة الجانبية إلى النهر، انبعث الفجر، وتيسر لنا رؤية خطوط داكنة تتحرك في الماء على بعد حوالي 350 ياردة على طول الحاجز الرملي الضخم. توقف غناء المجدفين فجأةً،كمن يتلقى أمر بالسكوت. كانت الخطوط الداكنة في الواقع ظهور أفراس النهر، التي كانت تستمع بحمامهما الصباحي بعد قضاء وقتها المعتاد في الرعي على اليابسة. ويخاف السكان المحليون كثيراً من هذه الحيوانات، ويتركون دائماً مسافة واسعة بينها وبينهم، لأن طباعها غير مستقرة أبداً، فقد هاجمت ودمرت العديد من القوارب.
يحافظ السكان المحليون دائمًا على الاقتراب من الضفة، في المجرى الرئيسي للنهر، حيث لا يكون التيار قوياً جداً ، وحيث تكون هناك مقاطع من النهر يمكن العثور فيها على مجرى معاكس يتدفق صعودًا. وبالتالي كنا ننتقل ببطء، بقدر المستطاع في ظل الأشجار المتدلية.
هذا القارب ليس له دفة، لكن المجدف الأقرب إلى الخلف يوجهه بالانصياع للإشارات تأتيه من أحد المجدفين من الأمام، والذي يظل يراقب بحذر شديد الأماكن الضحلة والصخور وجذوع الأشجار العائمة. وكانت أكثر الأشياء غير المرغوب فيها في هذه الرحلات هي الطريقة التي ينعكس فيها الضوء والحرارة من الماء، فقد يشعر المرء كما لو كان يتم اختراق جسمه بسهام من نار من تلك المرآة المتلألئة. وكنا نروي عطشنا ببعض الأناناسات الرائعة، ثلاثة لكل منا.
جلب لنا شروق الشمس ذبابة التسي تسي، التي تنشط فقط أثناء النهار، وتُعتبر بالمقارنة مخلوقاً ضاراً أسوأ نسبياً من البعوض .حجمها أكبر من نصف الذبابة العادية التي نجدها في المنزل، والتي تشبهها في المظهر، إلا أن أجنحتها، عندما تكون مغلقة، لا تكون متوازية مع بعضها البعض بل تتداخل مثل شفرات المقص.
يمكن لذبابة التسي تسي أن تخترق حتى الجسم السميك للحصول على الدم، لكنها حذرة للغاية وماكرة، وتتجنب بذكاء جميع اللكمات باليدين. وفي اللحظة التي تشعر فيها بأن الجسم الذي استقرت عليه يقوم بأدنى حركة، تطير وتختبئ على جانب القارب، ولا يمكن بالطبع سماع طيرانها. وتعتبر المروحة الصغيرة في اليد هي الوسيلة الوحيدة للحماية منها إلى حد ما، فعاداتها الحذرة تجعلها تتجنب الاستقرارعلى أي شيء ذو لون فاتح، حيث يمكن اكتشافها بسهولة: لذا فالملابس البيضاء هي أفضل حماية ضد تلك الذبابة. وقد تحققت من صحة هذه المعلومات بصورة أكيدة خلال هذه الرحلة، حيث كنا أثنين نرتدي ملابس بيضاء، وشخص واحد يرتدي ملابس صفراء. فلم تحط تقريباً ذبابة واحدة على أحدٍ منا، بينما كان يتعين على رفيقنا تحمل الإزعاج المستمر، وكان السود هم لأسوأ حظاً.
• الجلوسينا بالباليس، هي الذبابة التي تنقل جرثومة مرض النوم، وتنتمي، كما هو معروف جيدًا، إلى عائلة التسي تسي.
توقفنا عند الظهيرة في قرية للسكان المحليين، وبينما كنا نتناول الطعام الذي جلبناه معنا، كان طاقمنا يحمّص الموز. تمنيت لو كان بإمكانهم الحصول على غذاء أكثر فائدة بعد هذا العمل الشاق. كان الوقت مساء متأخر جداً عندما وصلنا إلى وجهتنا.
انطبعت أحداث المؤتمر الذي استمر لأسبوع كامل، بقوة في ذاكرتي. شعرت بأن الأمر مشجع أن أعمل مع رجال مارسوا التضحية لسنوات وتفانوا في خدمة السكان المحليين، واستمتعت بصورة كاملة بالجو المنعش من المحبة والإحسان. لقد حظيت مقترحاتي بترحيب حار: إذ تم الاتفاق على أن يتم بناء المبنى الحديدي والمباني الأخرى للمستشفى في المكان الذي كنت أريده، وقدرت المهمة بمبلغ 80 جنيهاً إسترلينياً (4،000 فرنك) هي جملة تكاليف البناء.
عبرنا النهر مرتين في رحلة العودة، من أجل تجنب مجموعات من أفراس النهر، أحدها كان قد اقترب منا بحوالي خمسين ياردة فقط. كان الظلام قد حل بالفعل، عندما وصلنا إلى جانب القناة الخاصة بنا. كان علينا أن نجتاز ولمدة ساعة كاملة طريقنا في الحاجز الرملي، حيث كان يتعين على الطاقم القفز الى الماء بين الحين والآخر وسحب أو دفع القارب سيراً على الأقدام. وأخيراً وصلنا إلى المياه العميقة، حيث بدأ الطاقم يغنى بصوتٍ عال، وسرعان ما رأينا أضواءاً تتحرك، تتقدم في خطوط متعرجة إلى مستوى قريب منا وتوقفت معاً هناك. كانت تلك هن سيدات لامبارين والنساء السود اللواتي جئن لاستقبال المسافرين العائدين عند الرصيف.
يقطع القارب الماء بطيش، ومع زخة أخيرة يتم رفعه عالياً على الشاطئ. يصدح المجدفون بصيحات النصر، بينما تمتد الأيدي السوداء بلا عدد لالتقاط الصناديق والأسرة والحقائب والخضروات التي جلبناها من سامكيتا.
"هذا للسيد كريستول."،
"هذا للسيد إيلنبرغر"،
"هذا للدكتور."،
"اثنان منكم إلى هنا؛ إنها ثقيلة جدًا لشخص واحد!"،
"لا تسقطها!"
"كن حذراً مع البنادق!"
"انتظر: ليس هنا؛ ضعه هناك!"
وهكذا...،
وفي النهاية، تم توزيع البضائع بالكامل في أماكنها الصحيحة، وصعدنا بفرح إلى الهضبة.
aahmedgumaa@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: کان من
إقرأ أيضاً:
بينهم نساء وأطفال.. غرق قارب يحمل مهاجرين سوريين قبالة سواحل ليبيا
غرق قارب يحمل نحو 25 مهاجرًا قبالة سواحل ليبيا بعد نحو ساعتين من انطلاقه من منطقة طرابلس، حسب فيديو نشرته مصادر دولية مهتمة بشؤون الهجرة.
وبحسب المعلومات الأولية فإن القارب كان يحمل نساء وأطفالاً، وتمكن الصيادون بعد نحو 4 ساعات من إنقاذ عدة أشخاص، فيما لا يزال الباقون في عداد المفقودين.
وأشارت المصادر إلى أن جميع الركاب من الجنسية السورية؛ موضحة أنه بعد ساعتين من الإبحار بدأت المياه تتسرب إلى القارب، حيث فقد التوازن ورمى سائق القارب نفسه في البحر قبل غرقه بقليل وهو من الجنسية السودانية.
وأشارت المصادر إلى أن القارب يبلغ طوله نحو 7 أمتار فايبر ويحمل محركين اثنين، خرجوا بدون أجهزة التواصل منها الثريا والبوصلة.
من جهته، قال موقع ميغرانت رسكيو ووتش، إن خفر السواحل الليبي تمكن بالتعاون مع الصيادين، من إنقاذ عشرة وانتشال جثتين من هؤلاء المهاجرين حتى أمس الخميس.
المصدر: مصادر دولية + قناة ليبيا لأحرار
مهاجرين Total 0 مشاركة Share 0 Tweet 0 Pin it 0