مُتلازِمَةُ الوحدةِ والانفصال: (والضِّدُّ يُظْهِرُ حُسنَهُ الضِّدُّ)
تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT
كتب الأستاذ / كريم الحنكي
أربعة وثلاثون عاماً ينطوي بها جيلٌ، ويبتدئ بها جيل آخرُ، من عمر وحدة الدولة الأخيرة في اليمن، التي كان من أصدق ما قيل عن قيامها في مايو 1990 تعبير الأستاذ الأديب والمناضل الوحدوي الكبير عمر الجاوي:
نظامان انفصاليان أنجزا مشروع دولة الوحدة!
ومع بلاغة العبارة إيجازاً ومفارقةً، فإنها بالغةُ الدلالة والدقة في توصيف حقيقة اللؤم السياسي الذي انطلق منهُ كلا النظامين والقائدين اللذين قُدِّر لهما أن ينجزا مشروعاً تاريخياً للوحدة طال ما كان مطلباً وطنياً وشعبياً في اليمن عموماً وفي جنوبه بوجهٍ خاص.
فإلى جانب الارتجال والشراكة الهشة، كان ذلك الأساس الملغوم بالانفصال لتحقيق الوحدة سلمياً هو ما انحرف بها نحو الحرب خلال سنواتها الأولى بعد أن احتاجت عبثاً إلى وثيقة عهد واتفاق وطني لإصلاحها الذي تعارض مع نوايا النظامين، فجعلا من تلك الوثيقة التاريخية غطاءً لمقاصدهما وجسراً لحرب مايو 1994 التي كان من الطبيعي منطقياً أن يعمد الأضعف من طرفيها إلى إعلان انفصاليته، بينما يكتمها ويتبرأ منها الآخر الذي لو حدث أن كان هو الأضعف لما تردد في إعلانها على الأرجح.
بيد أن اللافت حقاً هو أن نتيجة الحرب نفسها لم تؤدِّ إلى خلق نزعة انفصالية مؤثرة في الجنوب؛ بل العكس ربما. فقد أنعشت الآمال العامة في أن يلمس الناس مردود الوحدة الإيجابي المنتظر بعد انتهاء ما أعاقه من حالة الصراع الطويل بين طرفيِّ شراكتها بإقصاء أحدهما الآخر.
وللدلالة على ذلك نقف قليلاً عند أغنية الشاعر القطب حسين المحضار التي تقول:
عاد الفرح والنصر والوحدةْ
بعـد التعـب والقهر والشــدّةْ
صبرت، عـقـب الصـبــر جــاك الخيرْ
طوّف على صنعا وعرّج عدن يا طيرْ
إلى آخر كلماتها التي ظهرت بعد الحرب، منحازةً للوحدة رافضةً الرِّدَّةَ عنها ومعربةً عن حالةٍ عامة من الآمال المستبشرة بخيرها الوشيك. فالحرب ذاتها وكسرها الشريك الانفصالي المنهزم لم تخيِّبْ آمال الناس في الجنوب أو تخلق حاضنة شعبية للانفصال.
لكنها ممارسات الشريك الانفصالي المنتصر الذي احتكر الوحدة، وأبطل شراكتها بتمثيل شكلي، هي التي سحقت بفسادها الآمال وأدى استمرارها صعوداً خلال السنوات اللاحقة إلى خلق نزعة الانفصال شعبياً في الجنوب ثم تأجيجها حتى بلغت من التطرف حداً تجاوز وحدة الدولة إلى المساس أحياناً بالانتماء اليمني ووحدة الوجدان والهوية التي لا تتجزأ ولم يحدث أن طالها اشتباه قط على مر التاريخ.
إن ضدية هذه الثنائية تستدعي إلى الخاطر شطراً شعرياً من يتيمة المنبجي الشهيرة: (والضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضدُّ)، لكن مع اختلاف في التوجيه. فحين تفسد الوحدة في الجنوب خصوصاً يبرز الانفصال خياراً جاذباً وعلى نحوٍ فاعلٍ ومؤثر. والعكس كذلك بالطبع، فحين يفسد الانفصال تبرز الوحدة خياراً جاذباً بذات الفاعلية والتأثير.
وبنظرةٍ على ماضي اليمن، نجده تاريخاً متعاقباً من الوحدة والانفصال على مستوى الدولة. كما أن نظرة سريعة على الأعوام الأربعة والثلاثين الأخيرة فقط في الجنوب تحديداً تبيِّنُ لنا تعاقُبَ الوحدةِ والانفصال في النزوع الشعبي بناءً على مستوى فساد النموذج الذي يقدِّمُهُ ممثلو كُلٍّ منهما.
تمثيلاً لذلك، أستحضر أيضاً شطرَ البيت الشهير لأحد كبار شعراء الحراك السلمي الجنوبي من قصيدة شعبية ذائعة له في 2006، يقول فيها علي حسين البجيري:
أنا انفصالي، رغم أني الوحدوي!
ترد كلمة انفصالي نكرةً، أما الوحدوي فمعرفة. وليس اعتباطاً. فالوحدوية هي الأصل هنا، بينما الانفصالية لا تزيد عن كونها رَدَّ فعلٍ عارض، لكن لا بد منه حين تتحقق أسبابه ودوافعه الحقيقية والمُحرِّكة.
وقد كنت أحد الذين يعبر هذا الشطر عن موقفهم خلال الأعوام الأولى للحراك إلى أن دفعتني انحرافاته اللاحقة إلى الضد، قبل حتى أن أستندَ إليه مناقضاً:
أنا الانفصالي، عدت والله وحدوي.
تغير موقفي. كما تغير موقف الشاعر نفسه، وكثيرين جداً من أبناء الجنوب؛ فمروا بهذا التحول من الوحدة إلى الانفصال، ثم العودة عملياً إلى الوحدة. وما كان ذلك إلا لأسباب متصلةٍ بممارسات أدعياء كلا الموقفين.
خلاصة ما أقول وأعيد غالباً أنه: لا الوحدة بحد ذاتها غاية؛ ولا الانفصال كذلك. فكلاهما وسيلة غايتها الصالح العام الذي يرجوه الناس منها ويأملون في تحققه بها. أما المُحدِّدُ الفارقُ في ترجيح كفة أيٍّ منهما فهو سلوك من يمثله وممارسته العملية الملموسة واقعا.
وبما أن حاضرنا الراهن والمستقبل القريب المتعلق به هو ما يهمنا فيما يتصل بهذه الثنائية من الوحدة القائمة اليوم شكلياً فقط، والانفصال الجاري تكريسه نفسياً في الجنوب بمختلف أشكال التفكك المؤسفة، أجدني مدفوعاً على القول في ختام هذه الورقة:
إن مسلك ممثلي الانفصال في جنوبنا المحتل وممارساتهم العملية لا تزال تنفِّر الناس هناك منه وتدفعهم فعلاً إلى نقيضه، فهي لا تخدم شيئاً كما تخدم الوحدةَ وممثليها، الذين يهدرون في شمالنا هذه السانحةَ الثمينة ولا يحسنون استغلالها وتوظيفها. فمسلكهم هم أيضاً، وواقع تعاطيهم حتى مع أبناء الجنوب المناهضين للعدوان والاحتلال هنا، إنما يخدم الانفصالَ وتعزيزَه جنوبا.
فكأن أولي الأمر الواقع من الوحدويين في صنعاء والانفصاليين في عدن ماضون دون قصدٍ في خدمة بعضهما إلى أن يسبق أحدهما الآخر انتباهاً لأهميةِ تصويب مساره وأدائه بحيث يتمكن من خلق النموذج الأجدر والجاذب سلوكاً وممارسةً عمليةً في إدارة الشأن العام على امتداد ما تحت يده من الأرض اليمنية.
ولا أجدر بذلك ممن كسر العدوان وحربه الشرسة بثباته المذهل في نطاق سيطرته ونفوذه حتى الآن. ولو صدقت نواياه وعزمه المعلن بشأن الوحدة وتحرير الأرض اليمنية كاملةً، فحريٌّ به المراجعة والالتفات الجاد إلى أبناء الجنوب المتطلعين إلى ذلك بوصفهم شريكاً حقيقياً، لا شكلياً أو تابعا.
وإلى أن يتحقق المنشودُ أو يتبيَّن الرشدُ من الغيّ، لا يسعنا -مهما اتسعت الذِّمم- إلا أن نظل نرجِّع مع الأستاذ الفضول والنشيد الوطني وهذه الذكرى:
وحدتي.. أنتِ عهدٌ عالقٌ في كلِّ ذِمَّة.
آملين ألا تأخذنا هذه الثنائية بتعاقب ركنيها الضدين وخيباتهما إلى حيث نتعلَّل مُحبَطين بالمثل الشعبي اليمني: يا ساعية جُرِّي السنبوق.
المصدر: موقع حيروت الإخباري
كلمات دلالية: فی الجنوب
إقرأ أيضاً:
الأمين الذي فدى الأمة ..إنا على العهد
“اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة وعلى باب كل حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب لن نتخلى عن فلسطين” بهذه العبارة؛ من بين الركام خرج جثمانه، ومن بين ملايين المحبين شُيّع جسده، ومن بين أصوات الملبيين هُتف باسمه “إنا على العهد”. لن تبكيه لبنان وحدها ولا محور المقاومة فقط بل سيبكيه جميع أحرار العالم الإسلامي والعربي، فقد كان السد المنيع، وحجر عثرة أمام مخططات العدو الإسرائيلي والأمريكي التي تحاك ضد هذه الأمة ومقاومتها. نصر الله شهيدنا الأقدس ذاك الأمين للأمة من وقف وحده حيث سقط المدّعون، ونطق بالحق يوم ابتلعت الألسن مهانة الذل، وأعلن العِداء لأعداء الله ودينه حيث سارع المطبعون، وأشهر سيف المقاومة حين اختفى صوت الجهاد من على منابر الحق بـ حيّ على خير العمل، ورفع راية شرف الأمة وعزتها وكرامتها يوم سقطت المواقف، مد يد الدفاع والهجوم عن مستضعفيّ الأمة يوم تكالبت بقية الأمم عليها، أُثخنت جروحه وابيضت لحيته، وقل ناصروه، وزاد أعداؤه وبقي هو وماتوا هم. غادر جسده، وبقي حبه وذكره في قلوب الأحرار نبضاً لا يغادرهم، وفي دماء الثوار غضباً لا يبرد، وفي أرواح المجاهدين ثبات لا يهدأ، وفي أعين العاشقين والمحبين دمعة شوق وحب لا تتوقف ولا تمحى، غادر بجسده، ولكن بقي دوي صداه رعباً وخوفاً في نفوس أعدائه أمد الدهر والسنين، بقي وسيبقى ذاك الشخص المهدد المرعب الذي يزلزل أركان العدو الإسرائيلي حتى بعد ما قتلوه، بقي السيف الشاهر المصلت في وجه الكفر والظلم، وسبابة حق ترفع وترعد أمام وجه الباطل، بقي وسيبقى عهداً وفياً صادقاً لا يزول. أشرق بنوره في ظلمات التيه، فزَكت نفوس الولاء وتبنت مواقف الحق والشجاعة تابعة له، بثلة من المؤمنين المجاهدين تحت راية حزبه، مصدقة له، محبة وفية مخلصة لدربه وعهده وطريقه، مستمرون في ما عاهدوه عليه، مقسمين بأن حياته ثورة لا تهدأ، ورحيله نار لا تنطفئ، وفي كل نبضة منه قيامة لا تبقي ولا تذر، وفي كل غياب ولادة جديدة للمقـاومة. ومن بين زحام الحشد والتشييع، نسطر لك يا حبيب قلوب اليمنيين وأمينهم أوفى آيات الوفاء، وأصدق مواقف الحق والنصرة، وأسمى مواثيق العهد والمضي على نهجك وطريقك، طالما كنت لهم السند الذي لم يتخل، والموقف الذي لم يساوم، وصوتاً صادعاً بالحق لم يخفت، اسمك نُقِش في ذاكرة كل يمني حر محب ومناصر لك بحروف الوفاء لك ولتضحياتك، وحبك غُرِس في قلوب عشاقك منذ المهد، واستشهادك شرارة غضب تُشعل معاقر قاتليك موتاً وثأراً، وستبقى حرارة فراقك جرحاً مُلتهباً في أكباد ناصريك. ستبقى مواقفك شاهدة على معنى الرجولة في زمن الخذلان، ومعنى الإيمان في زمن النفاق، فالسلام عليك، السلام على سادة شهداء الإسلام وصدق عز من قال: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَـمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}*
#اتحاد_كاتبات_اليمن