أزعم أنني لست بليد الإحساس لكيلا أشعر بالوجع الذي يجتاح المرء لما يجري في غزة، من جرائم صهيونية فاقت كل التصور المتوحش عن المستوطنين الأوروبيين، الذين استوطنوا القارة الأمريكية، وأبادوا أهلها الأصليين.
ومع ذلك، أتجرأ على القول والإعلان أنه "لو لم تكن غزة لكان يجب أن نخترعها" لأنها في آلامها اجترحت ما يشبه المعجزات.
غزة جاءت بكل هذا المشروع الاستعماري بأفكاره وسياساته وعقيدته إلى قفص الاتهام أمام أعلى محكمة عدل دولية
غزة هي التي جاءت بكل هذا المشروع الاستعماري، بأفكاره وسياساته وعقيدته، إلى قفص الاتهام أمام أعلى محكمة عدل دولية، وتحاكمه بتهمة ارتكابه جريمة الإبادة، وهي، كما يعرّفها رجال القانون، بأنها جريمة الجرائم أو أم الجرائم.
الشكر العظيم يزجي إلى دولة جنوب افريقيا، التي تقود المعركة ضد هذا المشروع الصهيوني، مدعومة بكل ما تحمله من وزن أخلاقي في نضالها المرير ضد الأبارتهايد والاستعمار. تحمل جنوب افريقيا ملف هذه الدعوى أمام محكمة العدل الدولية، بثبات وإرادة، رغم ما تتعرض له من ضغوط إمبريالية تنطوي على وقاحة وفجور.
غزة هي التي جاءت بكل رموز الانحطاط الصهيوني والعجرفة الاستعمارية إلى قفص الاتهام أمام المحكمة الجنائية الدولية (حتى إن جاء قرار المدعي العام منقوصاً) وأصبح رئيس العصابة فيها، نتنياهو هارباً من وجه العدالة وأصبح القاتل الأول فيها، يوآف غالانت، مطلوبا للعدالة الدولية، وهو الذي وصف أهالي غزة النجباء بأنهم "حيوانات بشرية".
إن غالانت يترأس عصابة من الأشرار القتلة ويقود جيشاً أصبح عنواناً للانحطاط الأخلاقي.
غزة هي التي نزعت غطاء الشرف والشهامة عن معظم رموز النظام العربي التليد
غزة هي التي نزعت غطاء الشرف والشهامة عن معظم رموز النظام العربي التليد، الذي لا يتذكر السيادة إلا في مواجهة مواطنيه، ولكنه يطاطئ الرأس حين يكون في مواجهة أصحاب المشروع الصهيوني.
إن الثروات العربية أصبحت عبئاً على النضال الوطني، وتضاءلت إلى أن أصبح الياسين 105 أهم من كل الأرصدة والثروات النفطية وغيرها من الثروات.
والشكر أولا وآخرا إلى غزة العزة، التي أماطت اللثام عن أكذوبة، أن الدول العربية دول مستقلة وذات سيادة، فإذا بها، أو معظمها على الأقل، ليست إلا جمهوريات موز يحكمها ضابط أمريكي برتبة متواضعة، كما كان الحال في أمريكا الجنوبية حين كانت شركة الفواكه المتحدة هي السيد الذي له حق تغيير الحكم واتجاهه وسياسته، ويستبدلهم كما يستبدل الشخص ملابسه..
وأولا وأخيرا غزة هي التي كبحت جماح التطبيع المذل، رغم عصا "السيد" التي تسوق بعضهم كالإبل. وإمعاناً في الإذلال علينا أن نقرأ بيان القمة العربية الأخيرة الذي لم يستطع ان يقدم عبوة ماء ـ مجرد عبوة – إلى أهلنا في غزة… ولو من وراء المعبر.
غزة خلقت انتفاضة عالمية تحمل بذور ثورة تنويرية عميقة الأبعاد وبعيدة الترددات
إن غزة هي التي خلقت انتفاضة عالمية تحمل بذور ثورة تنويرية عميقة الأبعاد وبعيدة الترددات.
إن جيلاً من الشباب والصبايا ممن تزدان بهم جامعات العالم تنتصر لغزة وتهتك أستار الصهيونية، من دون وجل من اتهامها بالعداء للسامية، وتفضح المؤسسة العنصرية والعدوانية للحركة الصهيونية، وتفتح نوافذ وأبواباً كانت الصهيونية تعتبر أنها من الأحراز التي لا يقترب منها أحد.
إنها تهتف بجرأة ومن دون تردد: من النهر إلى البحر ستكون فلسطين حرة. البعض يشوّه الشعار بأنه دعوة للإبادة، ولكنه في الحقيقة دعوة إلى المساواة الحقيقية، وإقامة نظام بعيد عن أوساخ، وأدران الصهيونية وأكاذيبها وأساطيرها.
هذا الحراك الواسع، وإن كان في بداياته، إلا أنه هشّم هذا النمر الاستعماري الذي كشف أنه مجرد نمر من ورق.
غزة هي التي انتقلت بالقضية الوطنية من قضية حدود وحكم ذاتي، وسلطة محسوبية إلى قضية وطن يتحرر من الاستعمار والاستيطان، وشعب يثور لإنجاز حق تقرير المصير والسيطرة على ثرواته وبناء مستقبله.
ويجب أن لا يغيب عن بالنا أنه مضى على فلسطين زمن اختصر جاريد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس دونالد ترامب، قضية فلسطين إلى أنها «قضية عقارية» ويمكن حلّها بتوسيع الاستثمار العقاري فيها، كما يفكر في شاطئ غزة قبل أسابيع قليلة. جاءت غزة بإبداعها، ولقنته وأسياده، درساً في "إكمال واجبه المدرسي" قبل أن يفتح فمه.
إن غزة هي التي استولدت جيلاً من الشباب والصبايا اليهود، يعلنون أن ما ترتكبه إسرائيل ليس منا وليس فينا وليس عنا.
إنهم يحطمون أسطورة أن خلق إسرائيل هي لضمان سلامة اليهودي، وينكرون ذلك بصراحة وشجاعة، وينكرون أن المجازر التي ترتكب في غزة لم تكن بتفويض منهم، وليست دفاعاً عنهم.
إنهم أكثر وفاءً لمبادئ دينهم وثقافتهم. إنهم ينبذون الصهيونية كما نبذها آباؤهم من أيام هيرتزل الذي لم يستطع أن يتجوّل بين اليهود، خشية من ردة فعلهم، فهو أستاذ الهرطقة الأول الذي لم يكن يؤمن بالدين، وكان ملحداً إلاّ أنه لم يتورع ـ ببذاءة- أن يعلن عن أن فلسطين قد وعدها الرب إلى اليهود.
غزة هي التي أماطت الغلالة الرقيقة التي كانت تحول دون رؤية الحقيقة الصلبة من أن إسرائيل هي مشروع استعماري أمريكي بامتياز، وأن الالتزام الأمريكي بحماية هذا المشروع هو التزام عضوي.
بُعيد السابع من أكتوبر شاهدنا "الفزعة" الأمريكية التي وصلت على جناح السرعة، وتمثلت في وصول حاملتي طائرات إلى شرق المتوسط وفتحت مخازن الأسلحة والذخائر الأمريكية أمام قوات الاحتلال الإسرائيلية، وبدأ المسؤولون الأمريكيون، ابتداءً بالرئيس جو بايدن، مروراً بوزيري الخارجية والدفاع، بالمشاركة في جلسات مجلس الحرب الإسرائيلي وكأنهم من "أهل الدار" للمشاركة في اتخاذ القرار، ثم قدمت الولايات المتحدة الحماية لإسرائيل في مجلس الأمن الدولي واستخدمت الفيتو ثلاث مرات.
وهددت المحكمة الجنائية الدولية وباشرت حملة شعواء ضد طلب المحكمة، الذي سماه الرئيس بايدن "الفضيحة" باعتقال بعض مجرمي الحرب الإسرائيليين، وهو هجوم يفضح هشاشة أخلاق الإدارة الأمريكية التي تتطاول على مؤسسة قانونية دولية، أي أن الولايات المتحدة تشارك على نحو واضح وحقيقي، وعلى مختلف الجهات والمستويات في إدارة حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني. وعلى ذوي الشأن ان يأخذوا ملاحظة بذلك.
إن عبقرية غزة هي التي ألقمت حجراً ذاك الذي لام المقاومة على أنها قامت بهجوم السابع من أكتوبر من دون استشارة أحد.
وقد غاب عنه أن يقول لنا حين ذهب إلى أوسلو ووقع أوسلو وسمسر لتطبيق أوسلو كيف ومن استشار، ولم يعلم أنه وقع على وثيقة استسلام كاملة المواصفات. أين الحقوق التي أتى بها إلى شعبه؟ وأين الدولة التي وعد الرب بها؟ وأن ما يردده يحتاج إلى جواب، ولم أجد أفضل من القول: شكراً غزة…
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الاحتلال الولايات المتحدة المقاومة الولايات المتحدة غزة الاحتلال المقاومة صمود مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا المشروع غزة هی التی
إقرأ أيضاً:
دفع الله الحاج.. او الرجل الذي يبحث عنه البرهان ..!!
لم تكن المذيعة المرموقة تتوقع خشونة من ضيفها الدبلوماسي السوداني والذي سالته حول التسوية مع قوات الدعم السريع ..أصر دفع الله ان تقرن المذيعة صفة قوات الدعم السريع المتمردة قبل الإجابة على اي سؤال.
اليوم تم تعيين السفير دفع الله الحاج علي قائما بأعمال رئيس الوزراء او في رواية اخرى رئيس وزراء مكلف..من هنا تبدّأ العقدة.. لكن دعونا ننظر لماذا اختيار دفع الله في هذا التوقيت.
١-ابو الدفاع كما يحلو لانداده مناداته ولج إلى السلك الدبلوماسي قبل ميلاد الإنقاذ بنحو عقد من الزمان فبالتالي ليس مشتبها في ان يكون اسلاميا بالميلاد وفي ذات الوقت خدم نحو ثلاثة عقود في عهد الإنقاذ بالتالي يحقق الوزنة التي يبحث عنها الجنرال البرهان وهى التعامل مع الإسلاميين دون تحمل التكلفة السياسية خاصة مع الأشقاء والأصدقاء غربا.
٢- السفير دفع الله نجح وساعدته الظروف في العبور بالعلاقة بين الخرطوم والرياض من التردد إلى التفهم ثم إلى تطابق وجهات النظر وقد اتضح ذلك مؤخرا في مؤتمر لندن حول الأزمة السودانية..وهذا يعني ان الحكومة السودانية لن تتجه شرقا كما توقع البعض بل ستظل في ذات المحطة تلوح بالانعطاف شمالا دون ان تغادر المسار الحالي.
٣- السفير دفع الله عرف بين اقرانه بقوة الشخصية والإبانة في المواقف السياسية وحينما تردد وزير الخارجية السابق على الصادق في تأييد إجراءات اكتوبر ٢٠٢١ ومن بينها تكليفه بمنصب وزير الخارجية كان الحاج اكثر وضوحا وهو يعمل وكيلا لوزارة الخارجية ثم مبعوثا للبرهان عقب اندلاع الحرب في منتصف أبريل ٢٠٢٣ فهذا يعني انه خيار مجرب يتمتع بقوة الشخصية في الحد المعقول والذي لا يحدث صراع بين العسكريين والقائم بأعمال رئيس الوزراء.
٤- تمثل خطوة تكليف دفع الله بالمنصب الكبير جس نبض في تمدين السلطة التنفيذية ان مضى الأمر بسلاسة ربما تصبح الخطوة القادمة في تعيين الرجل او غيره في منصب رئيس وزراء بكامل الصلاحيات وان تعثرت الخطوة يتم استخدام الكوابح والتي من بينها انه مجرد قائم بالأعمال.
٥- تعيين دفع الله يمثل القسط الأول في سياسية الحفر بالإبرة في كل الاتجاهات ..لان تعيين رئيس وزراء جديد تترك له مهمة اختيار وزرائه بالكامل غير مطروحة الان عند البرهان ورفاقه بمنطق لا صوت يعلو على صوت المعركة.
٦- اختيار السفير دفع الله هو امتداد لسياسة ( الرجل الذي نعرف خير من الذي لا نعرف)حيث من الصعب استيعاب لاعب جديد في الساحة وفي ذات الوقت يعتبر امتدادا لحكومة كبار الموظفين حيث لا يفضل البرهان الذي يتميز بالغموض التعامل مع الغرباء .
٧- وفقا للذين يعرفون السفير دفع الله فهو يتميز بالهدوء والوضوح وقوة الشخصية و فوق ذلك له خبرة أربعين سنة في الدبلوماسية..حينما تخلط كل ذلك تجد الرجل الذي يبحث عنه البرهان.
-عبدالباقي الظافر