أزعم أنني لست بليد الإحساس لكيلا أشعر بالوجع الذي يجتاح المرء لما يجري في غزة، من جرائم صهيونية فاقت كل التصور المتوحش عن المستوطنين الأوروبيين، الذين استوطنوا القارة الأمريكية، وأبادوا أهلها الأصليين.
ومع ذلك، أتجرأ على القول والإعلان أنه "لو لم تكن غزة لكان يجب أن نخترعها" لأنها في آلامها اجترحت ما يشبه المعجزات.
غزة جاءت بكل هذا المشروع الاستعماري بأفكاره وسياساته وعقيدته إلى قفص الاتهام أمام أعلى محكمة عدل دولية
غزة هي التي جاءت بكل هذا المشروع الاستعماري، بأفكاره وسياساته وعقيدته، إلى قفص الاتهام أمام أعلى محكمة عدل دولية، وتحاكمه بتهمة ارتكابه جريمة الإبادة، وهي، كما يعرّفها رجال القانون، بأنها جريمة الجرائم أو أم الجرائم.
الشكر العظيم يزجي إلى دولة جنوب افريقيا، التي تقود المعركة ضد هذا المشروع الصهيوني، مدعومة بكل ما تحمله من وزن أخلاقي في نضالها المرير ضد الأبارتهايد والاستعمار. تحمل جنوب افريقيا ملف هذه الدعوى أمام محكمة العدل الدولية، بثبات وإرادة، رغم ما تتعرض له من ضغوط إمبريالية تنطوي على وقاحة وفجور.
غزة هي التي جاءت بكل رموز الانحطاط الصهيوني والعجرفة الاستعمارية إلى قفص الاتهام أمام المحكمة الجنائية الدولية (حتى إن جاء قرار المدعي العام منقوصاً) وأصبح رئيس العصابة فيها، نتنياهو هارباً من وجه العدالة وأصبح القاتل الأول فيها، يوآف غالانت، مطلوبا للعدالة الدولية، وهو الذي وصف أهالي غزة النجباء بأنهم "حيوانات بشرية".
إن غالانت يترأس عصابة من الأشرار القتلة ويقود جيشاً أصبح عنواناً للانحطاط الأخلاقي.
غزة هي التي نزعت غطاء الشرف والشهامة عن معظم رموز النظام العربي التليد
غزة هي التي نزعت غطاء الشرف والشهامة عن معظم رموز النظام العربي التليد، الذي لا يتذكر السيادة إلا في مواجهة مواطنيه، ولكنه يطاطئ الرأس حين يكون في مواجهة أصحاب المشروع الصهيوني.
إن الثروات العربية أصبحت عبئاً على النضال الوطني، وتضاءلت إلى أن أصبح الياسين 105 أهم من كل الأرصدة والثروات النفطية وغيرها من الثروات.
والشكر أولا وآخرا إلى غزة العزة، التي أماطت اللثام عن أكذوبة، أن الدول العربية دول مستقلة وذات سيادة، فإذا بها، أو معظمها على الأقل، ليست إلا جمهوريات موز يحكمها ضابط أمريكي برتبة متواضعة، كما كان الحال في أمريكا الجنوبية حين كانت شركة الفواكه المتحدة هي السيد الذي له حق تغيير الحكم واتجاهه وسياسته، ويستبدلهم كما يستبدل الشخص ملابسه..
وأولا وأخيرا غزة هي التي كبحت جماح التطبيع المذل، رغم عصا "السيد" التي تسوق بعضهم كالإبل. وإمعاناً في الإذلال علينا أن نقرأ بيان القمة العربية الأخيرة الذي لم يستطع ان يقدم عبوة ماء ـ مجرد عبوة – إلى أهلنا في غزة… ولو من وراء المعبر.
غزة خلقت انتفاضة عالمية تحمل بذور ثورة تنويرية عميقة الأبعاد وبعيدة الترددات
إن غزة هي التي خلقت انتفاضة عالمية تحمل بذور ثورة تنويرية عميقة الأبعاد وبعيدة الترددات.
إن جيلاً من الشباب والصبايا ممن تزدان بهم جامعات العالم تنتصر لغزة وتهتك أستار الصهيونية، من دون وجل من اتهامها بالعداء للسامية، وتفضح المؤسسة العنصرية والعدوانية للحركة الصهيونية، وتفتح نوافذ وأبواباً كانت الصهيونية تعتبر أنها من الأحراز التي لا يقترب منها أحد.
إنها تهتف بجرأة ومن دون تردد: من النهر إلى البحر ستكون فلسطين حرة. البعض يشوّه الشعار بأنه دعوة للإبادة، ولكنه في الحقيقة دعوة إلى المساواة الحقيقية، وإقامة نظام بعيد عن أوساخ، وأدران الصهيونية وأكاذيبها وأساطيرها.
هذا الحراك الواسع، وإن كان في بداياته، إلا أنه هشّم هذا النمر الاستعماري الذي كشف أنه مجرد نمر من ورق.
غزة هي التي انتقلت بالقضية الوطنية من قضية حدود وحكم ذاتي، وسلطة محسوبية إلى قضية وطن يتحرر من الاستعمار والاستيطان، وشعب يثور لإنجاز حق تقرير المصير والسيطرة على ثرواته وبناء مستقبله.
ويجب أن لا يغيب عن بالنا أنه مضى على فلسطين زمن اختصر جاريد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس دونالد ترامب، قضية فلسطين إلى أنها «قضية عقارية» ويمكن حلّها بتوسيع الاستثمار العقاري فيها، كما يفكر في شاطئ غزة قبل أسابيع قليلة. جاءت غزة بإبداعها، ولقنته وأسياده، درساً في "إكمال واجبه المدرسي" قبل أن يفتح فمه.
إن غزة هي التي استولدت جيلاً من الشباب والصبايا اليهود، يعلنون أن ما ترتكبه إسرائيل ليس منا وليس فينا وليس عنا.
إنهم يحطمون أسطورة أن خلق إسرائيل هي لضمان سلامة اليهودي، وينكرون ذلك بصراحة وشجاعة، وينكرون أن المجازر التي ترتكب في غزة لم تكن بتفويض منهم، وليست دفاعاً عنهم.
إنهم أكثر وفاءً لمبادئ دينهم وثقافتهم. إنهم ينبذون الصهيونية كما نبذها آباؤهم من أيام هيرتزل الذي لم يستطع أن يتجوّل بين اليهود، خشية من ردة فعلهم، فهو أستاذ الهرطقة الأول الذي لم يكن يؤمن بالدين، وكان ملحداً إلاّ أنه لم يتورع ـ ببذاءة- أن يعلن عن أن فلسطين قد وعدها الرب إلى اليهود.
غزة هي التي أماطت الغلالة الرقيقة التي كانت تحول دون رؤية الحقيقة الصلبة من أن إسرائيل هي مشروع استعماري أمريكي بامتياز، وأن الالتزام الأمريكي بحماية هذا المشروع هو التزام عضوي.
بُعيد السابع من أكتوبر شاهدنا "الفزعة" الأمريكية التي وصلت على جناح السرعة، وتمثلت في وصول حاملتي طائرات إلى شرق المتوسط وفتحت مخازن الأسلحة والذخائر الأمريكية أمام قوات الاحتلال الإسرائيلية، وبدأ المسؤولون الأمريكيون، ابتداءً بالرئيس جو بايدن، مروراً بوزيري الخارجية والدفاع، بالمشاركة في جلسات مجلس الحرب الإسرائيلي وكأنهم من "أهل الدار" للمشاركة في اتخاذ القرار، ثم قدمت الولايات المتحدة الحماية لإسرائيل في مجلس الأمن الدولي واستخدمت الفيتو ثلاث مرات.
وهددت المحكمة الجنائية الدولية وباشرت حملة شعواء ضد طلب المحكمة، الذي سماه الرئيس بايدن "الفضيحة" باعتقال بعض مجرمي الحرب الإسرائيليين، وهو هجوم يفضح هشاشة أخلاق الإدارة الأمريكية التي تتطاول على مؤسسة قانونية دولية، أي أن الولايات المتحدة تشارك على نحو واضح وحقيقي، وعلى مختلف الجهات والمستويات في إدارة حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني. وعلى ذوي الشأن ان يأخذوا ملاحظة بذلك.
إن عبقرية غزة هي التي ألقمت حجراً ذاك الذي لام المقاومة على أنها قامت بهجوم السابع من أكتوبر من دون استشارة أحد.
وقد غاب عنه أن يقول لنا حين ذهب إلى أوسلو ووقع أوسلو وسمسر لتطبيق أوسلو كيف ومن استشار، ولم يعلم أنه وقع على وثيقة استسلام كاملة المواصفات. أين الحقوق التي أتى بها إلى شعبه؟ وأين الدولة التي وعد الرب بها؟ وأن ما يردده يحتاج إلى جواب، ولم أجد أفضل من القول: شكراً غزة…
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الاحتلال الولايات المتحدة المقاومة الولايات المتحدة غزة الاحتلال المقاومة صمود مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا المشروع غزة هی التی
إقرأ أيضاً:
موسم الحج إلى دمشق.. ما الذي يبحث عنه الموفدون؟
دشّن الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، بدء موسم حج، عربي ودولي إلى دمشق: وفود من مختلف العواصم القريبة والبعيدة، وعلى مختلف المستويات، اتصالات هاتفية، زيارات أمنية معلنة وسرّية، دعوات للقيادة السورية الجديدة لزيارة هذه الدولة أو تلك، وسباق على من سيظفر بـ"قصب السبق"، ويقطف الزيارة الأولى، ومبالغات في تحميل الأمر، أكثر مما يحتمل من معانٍ ودلالات، وسيظل الحال على هذا المنوال، حتى إشعار آخر، كما تشي دلائل ومؤشرات عدة.
أوراق مختلفة، تتكدس في جَعبة الموفدين، تعكس أولوياتٍ مختلفة للدول والمعسكرات المختلفة، مع ضجيج هائل يغطي هذه الأولويات والمصالح، أو يسعى لتغطيتها.
ولعل حكاية "حقوق الإنسان والأقليات" و"الانتقال الشامل والجامع"، و"أمن سوريا واستقرارها"، تكاد تكون السمة الأبرز، للقنابل الدخانية التي تظلل أجواء الزيارات، وما يعقبها من بيانات ومؤتمرات صحفية، وتغريدات على منصة "X"، ومواقف وتقديرات، تنسب دائمًا لمسؤول رفيع، يفضّل عادةً عدم الكشف عن هُويته.
سوريا دولة محورية بلا شك، وهي تحتل موقع القلب في المشرق العربي و"هلاله الخصيب"، الذي كفّ عن أن يكون "هلالًا شيعيًا" منذ ذاك اليوم. استقرارها مهم للاستقرار الإقليمي، ومن يَفُز بنفوذ فيها، يؤسس لنفسه نفوذًا إقليميًا وازنًا، من يَبنِ منزلًا في سوريا، يبنِ لنفسه منازل كثيرة في جوارها، هكذا كان الحال في العقود الثمانية الماضية، بل وقبلها بكثير، وهذا يفسر بدرجة كبيرة، سرّ الحج إلى دمشق ودوافعه.
إعلانلكن الإقرار بهذه الحقيقة، لا يُغني عن البحث في الدوافع الخفيّة وراء هذا الزحف السياسي والدبلوماسي صوب دمشق، وتفكيك مصفوفة "الأفكار" و"الوصايا" و"النصائح"، حتى لا نقول "الضغوط" و"الشروط المسبقة" التي يحملها الزوار في حلّهم وترحالهم.
عن أي ضمانات وطمأنات يتحدثون؟يمكننا رصد خمسة ضمانات (أو طمأنات)، تبحث عنها الوفود الزائرة وتتصدر أجندة الحراك السياسي والدبلوماسي الكثيف في سوريا وما يحيط بها:
أولًا: نزع "الطابع الإسلامي" عن الحكم الجديد، أو "تخفيفه" إلى أدنى مستوى، بإذابته في بحر "البكائيات على صدر الأقليات" في سوريا، والدعوات "الإجماعية" لانتقال سياسي، جامع وشامل في سوريا.. إذ على الرغم من "كلام الحق" الذي يحيط بقضية المكونات السورية المختلفة، والحاجة لحمايتها وصون حقوقها وضمان مشاركتها المتناسبة، فإننا ننظر بعين الشك والريبة للأهداف المبطنة التي تخفيها الجهات الداعية والمتباكية، وسنبدأ بمواقف الغرب المحمّلة بأبشع صور النفاق والمعايير المزدوجة.لن نذهب بعيدًا في "التاريخ الحديث" للشرق الأوسط، ومسؤولية الغرب الاستعماري عن تفتيت خرائطه، وزرعها بالأفخاخ والألغام، ومنح من "لا يملك أرض شعب بأكمله لمن لا يستحق"، وسنكتفي بآخر فصل من فصول الإنكار لحقوق شعب فلسطين، والشراكة في حرب التطويق والتطهير والإبادة التي ما زال يتعرض لها للشهر الخامس عشر على التوالي، أقول: بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يعد أحد بحاجة لبذل جهد كبير للتعرف على حقيقة أن منظومة حقوق الانسان، بما تستبطن من حقوق للأقليات وقيم للحرية والعدالة، لم تكن في مضمونها سوى سلاح مضّاء، تستخدمه هذه الأطراف، ضد خصومها ومناوئيها، أما أعوانها وحلفاؤها وخدمها، فلكل واحدٍ منه، سبب يجعل "ذنبه مغفورًا".
السيدة الألمانية التي حرصت على استفزاز مضيفيها في دمشق، وبطريقة مبتذلة، وأشهرت في وجوههم سلاح حقوق الأقليات، هي ذاتها الوزيرة التي أباحت للإسرائيليين قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية المدنية في غزة، بشكل وقح، ومن دون تورية أو مواربة، وبالصوت والصورة.
إعلانوتصبح حكاية "الأقليات وحقوقها ومشاركتها" في "عملية سياسية شاملة وجامعة"، "نكتة سوداء سمجة"، عندما تصدر عن بعض العواصم والمسؤولين العرب.. كثرة منهم لا تعرف دولهم عمليات سياسية، لا جامعة ولا مجتزأة، لا شاملة ولا منقوصة.
كثرة منهم، لا تحتفظ دولهم بسجل محترم في مراعاة حقوق الإنسان والأقليات، ويخشون "سوريا الديمقراطية"، قدر خشيتهم من "سوريا الإسلامية"، وربما أكثر، وموقفهم زمن "الربيع العربي" وثوراته، ما زال طازجًا في أذهان الشعوب التي انتفضت ذات يوم.
بعضهم على الأقل، بات منخرطًا منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، في ثورة مضادة إعلامية، ليس مستبعدًا أن تكون "أول غيث" انخراطاتٍ لاحقة فيما هو أبعد من ذلك وأخطر، في تكرار لسيناريو تجلت فصوله في "دول الربيع".
الخلاصة هنا، أن "نزع الطابع الإسلامي" عن الحكم الجديد، وتذويبه تدريجيًا على طريق محوه وإزالته، هي "المحطة الأولى" على خريطة طريق لسوريا، يتعين ألّا يكون خط نهايتها: سوريا ديمقراطية.. البدء باستهداف "إسلامية" الحكم، على طريق منع الانتقال الديمقراطي لسوريا، الذي قد يحمل في طياته، بذور انتقالات ديمقراطية، عملًا بمبدأ الدومينو، المجرّب في العالم العربي.
وأرجو ألا يفهم من هذا التوصيف للمواقف العربية والغربية، أن "الديمقراطية" تسير حكمًا في ركاب الحركات الإسلامية، وأن انتصار هذه الحركات، هي المقدمة الضرورية لنجاح الانتقال الديمقراطي، فالتجربة العربية والإسلامية، أشد تعقيدًا من ذلك بكثير، لكنها مسألة أولويات بالنسبة لهذه العواصم، ومراحل متعاقبة، على طريق سبق لهم أن قطعوه في دول عدّة.
ثانيًا: وتلكم أيضًا موضع إجماع، أو شبه إجماع، بين الأطراف المنخرطة في الحراك السياسي والدبلوماسي في سوريا وحولها، وهي ضمان منع إيران من العودة إلى سوريا، والحيلولة دون عودة الأخيرة، لممارسة دور "محطة الترانزيت" في توصيل السلاح إلى حزب الله في لبنان، والتأكد من ألّا تكون دمشق، حاضنة لفصائل العمل الفلسطيني المقاوم، كما حصل في مراحل سابقة. إعلانتلكم أولى الضمانات والطمأنات، التي يسعى الموفدون لانتزاعها من دمشق، أصالةً عن أنفسهم ومصالحهم، ونيابة عن مصلحة إسرائيلية عليا.. ذلكم شرط ومقدمة لانطلاقة جديدة للمسارات الأبراهامية، وهي في الوقت ذاته، متطلب إلزامي، في صراعات المحاور والمعسكرات المتقابلة، وأحسب أن الوفود الغربية، الأميركية بخاصة، هي الأكثر حماسة لانتزاع هذه التأكيدات من الحكم الجديد، مع أنه بحكم ماضيه وبنيته السياسية والفكرية، لا يحتاج لمن يذكّره، بضرورة إبقاء إيران خارج دوائر النفوذ والوجود، في سوريا.
ثالثًا: وهي ليست موضع إجماع، ولا تحظى بالقدر ذاته من الأهمية لدى الأطراف المختلفة، وأعني بها، مسألة الوجود الروسي في سوريا، هنا وهنا بالذات، نرى حماسة أوروبية ظاهرة، ألمانية، بريطانية وفرنسية، بشكل خاص، لـ"تنظيف" سوريا من أي أثر للوجود الروسي، حتى إن إغلاق قاعدتي حميميم وطرطوس، وضع كشرط مسبق، لعودة المياه إلى مجاريها بين دمشق، وكل من بروكسل ولندن وبقية عواصم دول الاتحاد، وإن بقدر من التفاوت من الاهتمام.ألمانيا التي كانت الأكثر صراحة (أو قل وقاحة) في رفضها توجيه الدعم لأي مؤسسة أو جهة سورية، تحمل صبغة إسلامية، كانت الأكثر حماسة لتصفية النفوذ والوجود الروسيين من الشام. أما العرب والأتراك، وهم وإن كانوا لا يبالون كثيرًا بمسألة الدور الروسي في سوريا، فإنهم لن يذرفوا دموعًا على انهيار نفوذ الكرملين، وإن كان بعضهم تعامل مع التدخل الروسي في سوريا 2015، بوصفه عامل استقرار مقابل النفوذ الإيراني "المزعزع للاستقرار" في حينه، إلا أن المشهد تغير اليوم، ولم يعد يُنظَر للعامل الروسي في الأزمة السورية، بذات المنظار.
رابعًا: الدور التركي، بعض العرب، يقول تصريحًا عبر منصّاته الإعلامية، وتلميحًا عبر بياناته الرسمية، إنه لا يريد لسوريا أن تنفك من قبضة "الهلال الشيعي" لتقع بين فكّي "هلال العثمانية الجديدة". إعلانلا يريدون لأنقرة أن تبني لنفسها "منازل عديدة" في سوريا، بعد أن فرغت منازل طهران من ساكنيها، ولا يشفع لأنقرة في هذا السياق، جملة الاستدارات التي استحدثتها خلال السنوات الماضية، صوب القاهرة وعواصم الخليج، بعد سنوات من "حروب الوكالة" على ساحات وميادين عربية عديدة.
معظم، إن لم نقل جميع، الدول العربية، تقيم علاقات "طبيعية" مع تركيا، بعضها يقيم علاقات "دافئة" معها، وبعضها الآخر "أقل من طبيعية".. لكن ثمة "نقزة" عند عدد من هذه الدول، من "البعد العثماني" في السياسة التركية، ومن "الرابط الإسلامي – الإخواني" في علاقات تركيا مع العالم العربي.
وثمة "نقزة" ثانية، ذات طبيعة جيو- سياسية، وجيو- اقتصادية، من مغبة تنامي الدور التركي في الإقليم، على حساب أدوار أخرى، أو "أوهام أدوار" لدول أخرى. مثل هذه "النقزات" لا شك، تُعدّ واحدة من محركات البحث عن دور في سوريا الجديدة.
هنا، ومن باب القراءة الموضوعية، يُسَجل للدبلوماسية العربية، أنها تعلمت من درس إدارة الظهر للعراق بعد سقوط بغداد وصدّامها في العام 2003، وترك بلاد الرافدين نهبًا لفراغ ملأته أطرافٌ ثلاثة: واشنطن وطهران وأنقرة (بدرجة أقل).
المسارعة العربية لتوحيد الموقف في اجتماعات العقبة، وما تلاها من حج عربي صوب دمشق، وعودة الروح للسفارات والبعثات الدبلوماسية العربية في دمشق، وسلسلة الدعوات للقيادة الجديدة لإنجاز زيارات رفيعة المستوى للعواصم العربية، وجسور الإغاثة الإنسانية، تشكل في مجملها، تعاملًا عربيًا مع دمشق، يختلف عن التعامل مع بغداد بعد حرب الخليج الثالثة.
لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن العرب الرسميين، باتوا يلتقون اليوم على قلب رجل واحدٍ. تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.. فبينهم، من هو في موقع الداعم والراعي للتحول الجديد في سوريا، وبينهم من يجهد – دون جدوى – في كبح مشاعر العداء للعهد الجديد، وثمة أطراف أخرى ما زالت تعيد النظر في مواقفها وحساباتها، قلقها يطغى على كياستها الدبلوماسية. لكن مع ذلك، يتعين الانتباه إلى اختلاف دور "العامل العربي" في سوريا 2024 عن العراق قبل عقدين من الزمان، بل وعن دول الأزمات المفتوحة الأخرى: اليمن، السودان، ليبيا ولبنان.
أطراف عديدة، أوسع عددًا ونطاقًا، تخشى عودة تنظيم الدولة والإرهاب الذي ضرب المنطقة بقسوة منقطعة النظير خلال العشرية الماضية. تركيا لديها حساب لم يغلق مع "البي كا كا" و"قسد" و"وحدات الحماية". حتى أوكرانيا لديها حساب مفتوح مع روسيا، وسوريا واحدة من ساحات تسوية هذا الحساب، قبل سقوط نظام الأسد، وبالأخص بعده.
كوريا الجنوبية – في أقصى الأرض- لديها حساب مع شقيقتها الشمالية، وآن أوان تسويته في سوريا كذلك، ولا ندري بعد، ما الذي ستسعى تايوان لتحقيقه، وربما يأتينا بالأخبار، من لم نزودِ.
إزاء كل هذه الطبقات المتراكمة والمتراكبة، من المصالح المتشابكة والمعقدة، الملتقية والمختلفة، في سوريا وحولها، تبدو شعارات من نوع: "حقوق الإنسان والنساء"، "حماية الأقليات ومشاركتها"، "الأمن والاستقرار"، "حياد سوريا"، كلامًا فيه الكثير من الحق، الذي يخفي كثيرًا من الباطل، ويخفي في طياته هذا التنوع والتلاقي والتضارب في الحسابات والمصالح، ويجعل الانتقال السياسي في سوريا، محفوفًا بأخطار تصارع المصالح والتدخلات الخارجية الضارة، بما يملي على القيادة الجديدة، إجادة فن السير على الحبال المشدودة فوق حقلٍ واسعٍ من الألغام، يكون فيه خطؤُها الأولُ، هو خطأَها الأخيرَ، كما يردد، خبراء المتفجرات في درسهم الأول لتلاميذهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية