24 فبراير 2022م.. انطلقت الحرب الروسية - الأوكرانية، وما زالت مشتعلة الأوار، وقد كُتِبَ عن التحولات المستقبلية والتغيرات الاستراتيجية التي قد تحدثها هذه الحرب، ويدور كثير مما كتب حول محاولة فهم الخارطة التي يعاد رسمها في ظل صعود القوى العالمية المنافسة لأمريكا. وهذه الحرب تعتبر من أهم المحركات للتحولات العالمية، لكن التأثير الأكبر هو ما يحدثه طوفان الأقصى، والذي يظهر عبر احتجاجات شعوب العالم والتفاعل الدولي.

كتبتُ أيضًا حول التحولات على مسار الحرب الروسية والأوكرانية والحرب على غزة، ولرصد هذه التحولات.. أنطلق هنا مما كتبته عن الحرب الأولى بعد شهر من قيامها، في مقال «الحرب الروسية الأوكرانية.. وتحولات الذهنية العالمية» [جريدة عمان، 21/ 3/ 2022م]، رابطًا التحولات بما يحدث من تأثير طوفان الأقصى والإدراك العماني لها.(أول التحولات التي بدأنا نقرأها هي تعددية الأقطاب السياسية. يَرُوج الآن؛ بأن أمريكا لن تكون القطب الأوحد في ملعب الكرة الأرضية)، وهذا الرأي أصبح سائداً بين المحللين السياسيين، والأحداث عمومًا تنبئ بأن الصين وروسيا يتقدمان في مسار الخارطة الجيوسياسية العالمية، فجاء طوفان الأقصى غير بعيد عن صالحهما، ولذلك؛ اتخذتا مواقف مغايرة للسياسة الغربية. لقد دخلت الصين وروسيا من جهة، وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى، فيما أسميه بـ«حرب المسارات المتعاكسة»، فالصين وروسيا.. تتحركان في مسار السخط العالمي على الغرب في دعمه لإسرائيل مع ما تقوم به من إبادة جماعية، وأمريكا وأوروبا.. تتحركان في مسار رفضهما لحرب روسيا على أوكرانيا ولموقف الصين من تايوان.

إن التحول العالمي.. (يؤدي إلى تغيّر في خارطة المنطقة بشأن الوجود الإسرائيلي في فلسطين، ولا يمكن تقدير العنف الذي سيقع من هذا التغيّر)، وهذا ما وقع فعلاً؛ ولا تزال القوات الصهيونية تحرق بآلتها النازية كل مَن تطاله من الفلسطينيين؛ لا تميّز بين شيخ ورضيع ورجل وامرأة، واتبعت في ذلك «سياسة القتل لذات القتل».

من التحولات المتوقعة أن يحصل «صراع مذهبي» في الغرب (وهذا يعد تحولًا مذهلًا، حيث يُظَن بأن العلمانية قد قضت على التعصب المذهبي في الغرب)، يبدو أن الساحة تحبل بجنينه، فقد رأينا ما يحصل بين الصهاينة الذين يصفون من يرفض مشروعهم الاستيطاني «الدولة الإسرائيلية» بـ«أعداء السامية»، وبين اليهود وحاخاماتهم الذين وقفوا ضد الحرب.. بل ضد المشروع الصهيوني برمته.

و(احتمال انفجار التعصب بين الهندوس والمسلمين في الهند).. وهذا غير مستبعد، بسبب المواقف المنحازة للحكومة الهندية إلى الجانب الإسرائيلي، مما قد يوغر النفوس بين الهندوس والمسلمين المحتقنين دينيًا منذ استقلال الهند عام 1947م؛ ووقوع موجات من العنف بينهما بين الحين والآخر شاهد على ذلك.

(وفي حمأة التعصب الملتهب؛ لا يُستبعد أن يحصل تطهير عرقي وديني).. وهذا ما يحصل في غزة، فقد أودى حتى الآن بحياة حوالي 36 ألف مدني و80 ألف مصاب، فضلًا عن التدمير الشامل لقطاع غزة. بيد أن هذا أيضًا أدى إلى إحداث تحول (بشأن القضية الفلسطينية على مستوى العالم، فهناك تزايد مستمر يدين الكيان الإسرائيلي، ولا يُستبعَد وجود قوة وراءه، لأجل التمهيد لتعددية الأقطاب التي ستنتج بعد الحرب الروسية-الأوكرانية) والحرب على غزة.

هذه التحولات؛ تكشف عن الأثر الذي يحدثه طوفان الأقصى في إعادة رسم الخارطة العالمية على مستوى القيادة العليا، وها نحن نرى الهبّة العالمية المنددة بالكيان الإسرائيلي، وأن أمريكا دخلت في مضيق قد يسلكها مسلك التراجع العالمي، مما يفسح المجال لصعود روسيا والصين، فالخارطة العالمية لا تؤمن بالجمود.

كما أن الطوفان كشف عن التردي الأخلاقي في المدنية الغربية، التي دعّمت دولها أو صمتت عن حرب الإبادة التي يقوم به الكيان الصهيوني، ومعنى هذا.. أنه لا بد من إعادة بناء النظام الدولي وفقاً لمنظومة أخلاقية تقف على قوائم العدل والرحمة والمساواة، ولأن الغرب وصل إلى انسداد منظومته الأخلاقية؛ فعلى العالم أن يتآزر لإيجاد منظومة أخلاقية جديدة. وقد ندد الكثيرون بالخلل الحاصل من قِبَل الأنظمة التي تتحكم بخارطة العالم السياسية والاقتصادية، ودعوا إلى إصلاحه إصلاحًا حقيقيًا في أنظمة الأمم المتحدة وقوانينها العليا.

سلطنة عمان.. أدركت التحولات العالمية، فأدانت المؤسسات التي تعاني من (المعايير المزدوجة القائمة على إرادة أحادية)، ودعت إلى (ضرورة البحث عن بدائل أخرى). فصاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم بن طارق وزير الثقافة والرياضة والشباب المُدرِك للتحولات التي تحصل في العالم، خاصةً بعد انكشاف الأوضاع أمام البشرية من خلال ما يحدث في غزة، بيّن عدم الثقة في النظام الاقتصادي الغربي وازدواجية معاييره، في كلمته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -وروسيا أحد الأقطاب الصاعدة عالميًا- أثناء زيارته لموسكو بتاريخ: 7/ 12/ 2023م لحضور منتدى «روسيا تنادي»، قال سموه: (أحب أن أضيف بأننا استمعنا إلى خطابكم الرائع في افتتاحية المؤتمر، ويسعدني التأكيد لفخامتكم اتفاقنا مع جميع النقاط الواردة في هذا الخطاب، وخصوصاً؛ فيما يتعلق بعدم الثقة في النظام الاقتصادي والمالي الغربي وازدواجية معاييره، وضرورة البحث عن بدائل أخرى. إن ما يمر به العالم الآن من متغيّرات متسارعة يستدعي التركيز على تطوير آليات التبادل التجاري والمالي غير المقيدة بالأيديولوجيات المختلفة، والتحكم بفرض المعايير المزدوجة القائمة على إرادة أحادية، وفي ظل ذلك؛ فإن خلق مراكز اقتصاد ومال جديد لهو أمر ملح يدفع الثقل السكاني والمقومات والثروات التي تتمتع بها القارة الآسيوية والإفريقية).

إن من أهم ما ينبغي أن تَنْصَبَّ عليه الجهود العالمية هو إصلاح النظام الدولي المتمثل في الأمم المتحدة. هذه المؤسسة التي عملت على خفض منسوب العنف، بعدما فشلت «عصبة الأمم» -التي قامت عام 1919م على أعقاب الحرب العالمية الأولى التي أدخلت العالم في رعب من المآل الذي ينتظره- بقيام الحرب العالمية الثانية، التي كانت أشد فتكًا بالبشر وأكثر تدميرًا للمجتمعات من الحرب الأولى، وعقبها ألقت أمريكا قنابلها الذرية على هيروشيما ونكازاكي باليابان، فراح ضحيتها أكثر من مائة ألف إنسان، مع الآثار الخطيرة التي تركتها على الإنسان والبيئة، والتي تعاني منها اليابان حتى اليوم. لقد أوقفت الأمم المتحدة الحروب الكبرى، لكنها لم تستطع أن تتحرر من إسار الحقبة التي نشأت فيها، ولا من تطويق القوى التي أنشأتها، والتي جعلت لها حق النقض «الفيتو»، وما هو بحق.. إن هو إلا ظلمٌ فاحش، فقد أنشأ نظام عبودية جديدًا على مستوى أممي، بعدما جرّمت مواثيق الأمم المتحدة نظام الاسترقاق القديم.

أدركت حكومة سلطنة عمان الخلل البيّن الذي أوجده «الفيتو»، والذي ظهر جليًا في تعطيل أمريكا للقرارات الدولية بشأن غزة وإقامة الدولة الفلسطينية؛ فدعت إلى إلغائه وإصلاح المؤسسات الدولية، ففي محاضرة ألقاها وزير خارجيتها معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي بمدينة أكسفورد البريطانية، بعنوان «التحدث مع الجميع من أجل مصلحة الجميع: الدبلوماسية في عالم متعدد الأقطاب»، اقترح (أهمية إلغاء حق النقض «الفيتو» من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لأن التصويت في الوقت الحالي يكون وفقًا للحسابات السياسية من خمسة أطراف لديهم سلطة منع القرار حتى لو كان بالإجماع. مضيفًا بأهمية إصلاح المؤسسات الدولية القائمة على إدارة العلاقات الدولية بحيث تكون تلك المؤسسات مناسبة لأحداث اليوم، بدلًا من التركيز على إيجاد حلول لمشاكل الأمس) [الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية العمانية].

ختامًا.. إن من النتائج المباشرة لطوفان الأقصى هو ما يلمسه المتابع من تحرك خارطة السياسة العالمية باتجاه التعددية القطبية، والمناداة بإلغاء الفيتو، والتصويت الدولي لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأمم المتحدة الحرب الروسیة طوفان الأقصى

إقرأ أيضاً:

اختتام دورات “طوفان الأقصى” في إدارات أمن مديريات الضالع

الثورة نت|

اختتمت إدارة أمن محافظة الضالع وفروعها في المديريات الدورات العسكرية المفتوحة “طوفان الأقصى – المستوى الأول”.

تضمنت الدورات للمرحلة الأولى خلال 15 يوماً في مديريات الحشاء وقعطبة، وجبن، مجموعة من الأنشطة الثقافية والعسكرية، التي هدفت إلى تعزيز الروح الجهادية والمعنوية، وتطوير الجاهزية لمواجهة التحديات.

وأكد المشاركون، من مديري الأمن والضباط والأفراد، جاهزيتهم الكاملة في جميع المجالات دعماً للشعب الفلسطيني المظلوم ومقاومته الباسلة ضد قوى الشر أمريكا وإسرائيل، وبريطانيا.

وجددوا التزامهم بالمشاركة الفعالة في جميع الأنشطة والفعاليات المناصرة للقضية الفلسطينية، مؤكدين ضرورة رفع مستوى اليقظة والوعي في مواجهة التحديات الراهنة التي تمر بها الأمة، خاصة في ظل الأحداث المؤلمة التي تشهدها غزة.

مقالات مشابهة

  • عبد المنعم سعيد: طوفان الأقصى أحدث زلزالا كبيرا في المنطقة
  • السجن 10 سنوات لمدان بإثارة الحرب ضد الدولة والدعوة لمعارضة السلطة بالعنف بالدمازين
  • أحمد موسى: غزة لن تعود كما كانت عليه قبل عملية طوفان الأقصى
  • أمسية ثقافية في المشنة بإب تحت شعار “طوفان الأقصى جهادٌ وانتصار”
  • المفتي: وضع توصيات الندوة الدولية الأولى لدار الإفتاء حيِّز التنفيذ
  • المطران عطا الله حنا: يجب أن تتوقف الحرب التي يدفع فاتورتها المدنيين الأبرياء
  • اختتام دورات “طوفان الأقصى” في إدارات أمن مديريات الضالع
  • عُمان وبيلاروس.. التحولات العالمية تفرض شراكات جديدة
  • عرض فيلم تسجيلي عن إنجازات الدار وأمانة الإفتاء العالمية.. فيديو
  • انطلاق فعاليات الندوة الدولية الأولى لدار الإفتاء "الفتوى وتحقيق الأمن الفكري"