لجريدة عمان:
2024-12-18@17:10:17 GMT

قيمة الكتابة ومآلها

تاريخ النشر: 27th, May 2024 GMT

يطرح الكثيرون هذا السؤال، وفي المقابل يُطرح على الكثيرين، وتختلف الردود وفق نوعية الكتابة ومجالاتها، وكذلك حسب نفسية الكاتب ودرجة حساسيته، فالكتابة أنواع وكل كتابة لها محدداتها وشروطها وفلسفتها؛ فالكتابة البحثية ليست كالكتابة الإبداعية، والكتابة الإبداعية تتنوع وتمنح كاتبها الحرية أكثر من الكتابة العلمية المُحكمة، مثلما قال عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب (81عاما): «الحرية في الكتابة الإبداعية حرية لا توصف».

تمنح الكتابة الأدبية صاحبها جرعة من التعبير عن الذات وعن الآخر، فعوالم الذات الإنسانية لا نتعرف عليها إلا عبر الكلمات المجسدة لمشاعر الإنسان وعواطفه التي تدلل عليها أفعال وسلوكيات أبطال الأعمال الأدبية والمسرحية، أما كتابة المقال فإنها تنوب عن كاتبها في توجيه الرأي العام، فقد يرفع المقال ضررا وظلما قد يقع على إنسان، مثلما كتب الكاتب الفرنسي إميل زولا (1840-1902) مقالا عبارة عن رسالة عنوانها (إني أتهم) ونشرها في صحيفة باريس اليومية يدافع فيها عن الضابط الفرنسي ألفريد دريفوس (1850-1935) المتهم بالتجسس لصالح الألمان، وقد أدى ذلك إلى العفو عن الضابط دريفوس في القضية التي شغلت الرأي العام الفرنسي ورسخت قوة الكتابة في تبني القضايا العادلة والدفاع عنها.

تكفل الكتابة لصاحبها نوعا من الشهرة وتؤجل إخراجه من الذاكرة تدريجيا، ومع ذلك فقد تلحق الكتابة الأذى والأسى بصاحبها، خاصة حين يقترب من عتبة الموضوعات التي تسبب الإزعاج للبعض، أي حين تكون الكتابة كشفا وإزاحة الأغشية عن المستور، وتجد لها ردود أفعال منسجمة مع الرأي العام الباحث عمن يُعبر عن شؤونه وشجونه، ويرى في الكتابة نوعا من التنفيس.

ولأن الكتابة المسؤولة لا تقبل بالمغالاة ولا بالمهادنة فإنها تتحمل تبعات تأثيرها في تكدير صفوة الفئة المستفيدة من بقاء الأوضاع كما هي دون تطوير أو تغيير إلى الأفضل، لذلك فإن الجرأة في الطرح تزعج من يخشى من الحقائق، وقد كتب الروائي السوداني الطيب صالح (1929- 2009) في روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» يقول: «ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملا واضحة بخط جريء».

إن أصعب أنواع الكتابة هي الكتابة القلقة، الكتابة الناجمة عن قلق صاحبها من صعوبة الأسئلة التي لا يجد لها تفسيرا أو حلا إلا بالتخلص من الذات، مثلما فعل عشرات الكتّاب من ذوي الأنفس الحساسة مثل الكاتب والروائي الياباني يوكيو ميشيما (1925- 1970) الذي كان يفكر في الانتحار وفي سمعة عائلته بعد رحيله، وقد كتب ذلك في رسالة إلى صديقه وأستاذه الكاتب والروائي ياسوناري كاواباتا (1894- 1972) «قد تسخر مني لكن ما أخافه ليس الموت، بل شرف عائلتي من الموت، وإذا حدث لي شيء، فإن المجتمع سوف يكشف عن أسنانه ويبحث عن نقاط ضعفي ليدمّر شرف عائلتي. ليس مهما أن يسخروا مني وأنا موجود، ولكن لا أستطيع تحمل سخريتهم من أطفالي بعد موتي. وأعتقد يا سيد كاواباتا، أنك أنت الوحيد القادر على حمايتهم. وأنا منذ الآن، أعتمد عليك وأثق بك» وقد قرأ كاواباتا هذه الرسالة في جنازة صديقه، ولكنه انتحر بعد ذلك بسنتين.

لكن قد تُنفّس الكتابة عن صاحبها وتزيل عنه الكآبة والبؤس حين يعجز عن التعبير عن مشاعره تجاه العديد من القضايا التي يعيشها ولا يتعايش معها، أو حين يعيش تحت ثقل أمر ما يصعب عليه الاعتراف به أو حتى الكتابة عنه، خاصة إذا كان موضوعًا يتضرر منه أناس آخرين.

وتبقى الكتابة والتدوين أجمل وأرقى اكتشاف اكتشفه الإنسان في الكرة الأرضية، فبها بقيت اللغة والثقافة وبقي ما تم تدوينه.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. أغصان مشتعلة

#أغصان_مشتعلة

من أرشيف الكاتب #احمد_حسن_الزعبي

نشر بتاريخ … 20 / 1 / 2018

ظلت حوادث اشتعال الغابات في أستراليا لغزا محيّرا لكثير من الباحثين، فهي أخطر الكوارث وأصعبها على القارة الصغيرة. مثلا في عام 2009 احترق أكثر من أربع مائة ألف هكتار من الغابات، وقتلت الحرائق 174 شخصا ودمّرت 5% من الغطاء النباتي للقارة، صحيح أن ثمة حرائق موسمية تشتعل في أوقات محددة من السنة إلا إن لغز انتقالها إلى أماكن جديدة وبعيدة كان يفاقم المشكلة ويضع إشارة استفهام كبيرة؛ ما الذي يشعل الحرائق؟

مقالات ذات صلة دعوة لإغلاق الهواتف يوميا من الثامنة حتى العاشرة مساء احتجاجا على رفع الاشتراكات 2024/12/18

أخيرا اكتشف الباحثون صانع الكوارث ومضرم النيران الخفي الذي أرعبهم وأرهقهم طوال هذه السنين، إنها الصقور المجنونة؛ فعندما تخفت النيران وتوشك على الاستسلام والانطفاء تحمل الصقور الغصون المشتعلة في مناقيرها وبين أظافرها إلى غابات خضراء ومسالمة لتشتعل النيران هناك فتهرب القوارض والزواحف من النيران وتصبح فريسة سهلة لها، لا تهتم الصقور إن دمّرت غابات بأكملها من أجل جرذ، ولا يؤنبها ضميرها الجارح على الأشجار التي تفرح بنموّ سيقانها مئات السنين لتهوي في لحظة اشتعال من أجل أرنب بري.. المهم أن تصطاد الصقور وجبة اليوم حتى لو احترق العالم..
ما أصعب أن يحرق الشجرة الحكيمة العالية غصن صغير مشتعل.. يحمله طائر أحمق ويطير به متى شاء وأينما يشاء.. ما أصعب أن تهوي شجرة اعتادت عناق الريح وكتابة رسائل الغيم لتنام على فراش الرماد بعد أن تتسلقها ألسنة اللهب بعد أن كانت تنسج على جذعها الغضّ إكليلا من البراعم والورق.

ولتحترق الغابات الجميلة كلها، المهم أن تخرج القوارض فأصطادها، هذا ليس لسان صقور أستراليا وحسب، بل غربان روسيا التي تحلّق فوق إدلب وريفها، تحرق التاريخ العالي، ترمي حمم النار على البيوت الوارفة، تحرق السهول الخضراء لتخرج طرائد الطائرات والنظام من مخابئها.. الطائرات ضمائرها من حديد مصفّح لا تؤلمها صرخات الاستغاثة ولا أنين المحترقين في المستشفيات، زجاجها عازل للصوت؛ فهي لا تسمع نداءات “يا الله.. يا الله” عندما تلقي البراميل على الآمنين، أو ترمي صاروخا مشتعلا نزل متى شاء الطيار الغريب وأينما يشاء، صاروخ مشتعل مدفوع من دم الشعب ليسفك دم الشعب.

ما أصعب أن يحرق العائلة الآمنة المسالمة صاروخ مجنون، يرميه طيار أحمق قالت له الإحداثيات هنا يكون الموت أكثر وفرة، هنا تنضج أجساد الأطفال أسرع من غيرها، هنا تهوي الأمهات على أبنائهن الرضّع وتحترق الغابة ولا يخرج منها سوى رماد القلوب.

ما أصعب أن تهوي طفلة اعتادت جدائلها على عناق الريح وأرجوحة الغيم أن تنام على فراش الرماد بعد أن تسلّقت ألسنة اللهب رجليها والتهمت شفاهها ووجهها الحنطي المرتجف.

الصقور الأسترالية ليست وحدها التي تمارس الجنون وشغف الاحتراق، غربان روسيا هي الأخرى تستهويها مشاهد النيران العربية، هي ترى ألسنة اللهب الحمراء ألسنة عطشى، فتصب فوق النار نارا فتستطيل ألسنة الاحتراق أكثر.. وكلما خمدت في منطقة أو انطفأت في غابة رؤوس بشرية، حملت أسبابا مفتعلة ورمتها لتحرق أرضا أخرى.. وسوريا الأم.. تتألم هنا وتتألم هناك، فأينما أطلق صاروخ انطفأ في الجسد.. الدول الكبرى تعامل الدول الضعيفة المستعمرة والمحتلّة كالجواري؛ تلبسها القيد في رجليها وتقنعها أنه خلخال، تغتصبها بحجة حمايتها وتحرقها على طريقة الغربان الأسترالية لتخرج صيدها البرّي منها.

في إدلب أضرمت النيران في الأشجار والأعمار وفي أحلام الأطفال وأسرّتهم.. ثم غاب نعيق السوخوي بعيدا بعيدا قرب عشّ الرئيس.

احمد حسن الزعبي

ahmedalzoubi@hotmail.com

#170يوما

#الحرية_لاحمد_حسن_الزعبي

#أحمد_حسن_الزعبي

#كفى_سجنا_لكاتب_الأردن

#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي

مقالات مشابهة

  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. أغصان مشتعلة
  • معرض جدة للكتاب يسرد تجربة فنّ التدوين في الكتابة اليومية
  • تجمع المحامين في حزب الله: لن نقبل ان يتحول الرأي المقاوم الى تهمة او جرم
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. الوطن المعتقل
  • التخلي عن الكتابة نوع من الموت
  • نقيب الصحفيين يدعو للإفراج عن المحبوسين في قضايا الرأي
  • دور الكتابة العلاجية في تعزيز الصحة النفسية والوعي الذاتي
  • معرض جدة للكتاب 2024 يعزز الوعي حول فنون الكتابة الصحفية
  • الكاتب البريطاني سومرست موم .. لماذا أصبح جاسوسا؟
  • الكاتب الزعبي في رسالة جديدة من خلف القضبان .. شكرا للأحلام