تشكّلات الصورة في مجموعة «ذهبَتْ وكأنها موسيقى»
تاريخ النشر: 27th, May 2024 GMT
جاءت مجموعة (ذهبت وكأنها موسيقى 2019م) للشاعر العماني يحيى الناعبي محتفية باللغة البديعة والاشتغال الفني للدلالة التي بُنيت عليها النصوص الشعرية، كما أنها وازنت بين جمالية التعبير الشعري وبين دقة التصوير. وإذ يُقدّم الناعبي هذه المجموعة باشتغالٍ عالٍ للكتابة الشعرية في إطار قصيدة النثر، فإنه يُؤكد على الاتساع الكتابي الذي تسير عليه القصيدة النثرية منذ تشكّلها في المشهد الشعري العربي عامة والشعري العماني خاصة كونها مرّت بمراحل مختلفة واكبها جملة من التنظيرات والنقد سواء المتفق مع أسلوبها الكتابي أو المختلف معها.
يسير يحيى الناعبي في هذه المجموعة على طريق الانفتاح الكتابي في استعمال الدلالة الشعرية، فالقصيدة النثرية في المجموعة اتسعت رؤيتها الداخلية، وأمسكت باللغة جيدًا في إطار التعبير، وهنا يظهر أثر الشاعر وقراءاته في تمكين اللغة وتطويرها وصولًا إلى التعبير الشعري الخلّاق.
ما يلفت النظر في مجموعة (ذهبتْ وكأنها موسيقى) أنّ الشاعر قادرٌ على تجسيد الأشياء ومنحها بُعدًا دلاليًا، لقد قدّم تجسيدًا يتعاطى مع الحياة والإنسان والكون، فهو يمزج بين صورتين: صورة الجماد التي تتماهى مع الواقع والحياة، فتتلبس صورة الإنسان المتشكّلة من رؤية عميقة للمشهد، ففي قصيدة (قسوة) مثلا نجد قدرة الشاعر على التكوين والبناء والمزج بين صورتين ارتبطتا بالتجسيد، فالظلّ يخرج من كونه ظلًا تابعًا للشيء إلى كونه شخصية مؤثرة يعيد الشاعر إنتاج دلالاتها الشعرية، فتعبّر الحركة السردية للشخصية الجديدة/ الظل عن إيجاد الدلالات وانتزاع الصورة فيها، نجد ذلك حين يقول:
ظلي
لا يحتاج إلى منظار كي أراه
إنه بجانبي
في الفَصْلِ
يُعِيرُنِي مِسْطَرَتَهُ
وأُعيره أحزاني
أساعِدُهُ على حفظ جدولِ الضَّرْبِ
لِيَضْرِبَ أكثر
تَشْتَدُّ قَسْوَتُهُ فَيَحْزَنُ أَكثر
يُرْسِلُ إِليَّ إشاراتِهِ
مع أوراق الخريف
ثُمَّ نَجْلِسُ معا نبكي طفولتنا.
الظل هو الوَطَنُ
لَمْ يَعُدْ يَشْرَبُ قهوته
التي يُحِبُّ
صار جِرَاحًا تَتَمَدَّدُ
في تابوت الآثام
صار
بلا آلام
يَحْلُمُ بالسَّفَرِ كثيرًا
وبالعزف على جوع الفقراء.
تتشكّل الصورة في نصوص المجموعة من تعددها، وتتكوّن الفكرة من التعدّد الوارد في النصوص، وهنا نجد المهارة في تشكيل الصورة، والمهارة في مزجها داخل النص وإذابتها مستخرجًا من عوالمها اتجاهات متعددة للمعاني وتحديثات الفكرة.
لعل غير نص من نصوص المجموعة احتفت بهذا الأسلوب؛ نجد ذلك على سبيل المثال في نصوص: (موعد للفراغ، وفقاقيع ضجيج، وصرير، وقفر، وحفلة فاخرة، وظلال باهتة) وغيرها من النصوص التي تقوم على تشكيلات الصورة وتعددها في النص الواحد.
وهنا تنبغي الإشارة إلى أنّ نصوص المجموعة قد تشكّلت من حسٍّ شعري بديع، تنوعت فيها جماليات كل نص بمعزل عن الآخر، كما يُقدّم كل نص فكرته من منطلق الابتكار الدلالي والصورة المنحوتة من عمق الذاكرة؛ ففي نص (أحلام ملونة) يعود النص بالقارئ إلى مواطن التذكر الأولى باستخدام دلالات الماضي (كان)، حيث تكررت ست مرات في مقاطع النص الشعرية في صورة تمزج الاستعادة باللحظة التي يعيشها:
طفولتي
لَمْ تَكُنْ قروية بحتة.
كانت أشجارُ الصَّنَوْبَرِ
في فنجان القهوة.
والنساء الشقراوات كالشرايين
يتمدَّدْنَ في أعماقي
والوجوه منتشرة كالطُّحْلُب
في مخيلتي
وأنا كالخنزير البري
لا يَمَلُّ المداعبة والركض.
ورغم الفرح
كانت النُّجوم المعتمة
تقلم أظافري
في المقبرة المخصصة لأسلافي،
المزروعة تحت جبل جحيمي.
لَمْ تَكُنْ هناك قصيدةٌ بَعْدُ
تفلي شعري
أو تَرْشُفُ مِنْ يَنبُوعي
وتَغْتَسِلُ مِنْ حَوْضِ أحلامي
أو تُدَفْئني
كما يَفْعَلُ بَيْتُ الطِّين.
لَمْ أَكُن نَّسْرًا يرمي بالحجارة
ويُنْصِتُ الموسيقى بيتهوفن.
كانتْ كَذَّبَةً طفولة
يُسَرّح شَعْرَهَا الضجَرُ
وَقْتَ الصَّباح
ويَغْمُرُها باللذة.
الأمر ذاته في نص (رسائل غرام داكنة) فإن الصور الشعرية تتوزع بين عالمين اثنين: الماضي والحاضر، ودلالات الأفعال أيضا دالة على الاثنين. إنّ هذا النص قد كُتب بشغف واسع ورؤية بصرية متقنة، وروح شفافة، وهو من النصوص التي تأخذ القارئ بصورها ولغتها وشفافيتها إلى عالم الأحلام المتخيلة.
إنّ صور النص هنا تعبيرٌ عن ذائقة للحياة، ونحت في أفق الشعور البلاغي، يقول:
عيوننا المخملية
أشهى مِنْ لُعْبَةٍ
في يَدِ شَيْخ
أو
جُوْعِ يَلْسَعُ مُشَرَّدًا.
ويقول:
الموج الأخضر
مِثْل قميص يُلوِّنُ نَهْدَيْكِ وجزءًا مِنْ خَاصِرَتِكِ
يُزبِّدُ لَكِ شالًا
كالخرافة.
ويقول:
يَنْسَكِبُ المَطَرُ النَّائِي
فَوْقَ تِلالِ العُمْرِ
وَبِسَوْطِ الجَلادِ
يَتَمَزَّقُ جسدي
في مقبرة العشق.
أما نص (بيت بلا أسرار) فهو على قصره فإنه يكشف عن عوالم مختلفة يركّب الشاعر من خلالها صوره الشعرية: (الصمت للبحر، والحركة والثورة للريح)، وفي (البحث عن الأبواب المهجورة، والبحث عن تاريخ الأقفال) وفي الجمع بين دلالات (الفرح والتوابيت)، وبين (لثغة الطفولة وغابات اليتم).
إنه نص يضج بلحظات السكون والثورة، الفرح والحزن، الطفولة واليتم، إنه يُقدّم مسارات متعددة في القراءة البصرية للصورة:
عندما لا تستطيع الكلام
اصْمُتْ كالبحر
وَاتْرُك للرِّياح مسارها؛
إِنَّهَا تَهْتِفُ كثيرًا
بلا ضجر.
كَمَن يتدثُرُ بِظِلُّ الغَيْمَةِ
الوحيدة في الكَوْنِ
أَبْحَثُ في الأبواب المهجورة
تاريخ الأقفال
فالعالم سر
قَدْ يُولِجُ فِي أَعْيُنِنَا الفَرَحَ
حِيْنَ تَشْتَعِلُ أفكارنا
بلهيب التوابيت.
فَمُنْذُ لَثغَةِ الطُّفولة
وَقَبْلَ أَنْ تُقْتَلَعَ أرواحنا
مِنْ مَكْمَنِها
صَلَّيْنَا كالبَرْقِ
على غابات اليتم.
إنّ القارئ لهذه المجموعة سيجد في نص (ملحمة الرمل) نموذجًا مهمًا لتركيب الصورة وتعددها، وانتزاع دلالاتها الفنية من جهات عدة. نجد الصورة تتشكّل من الرمل، والريح والصمت والغابات والليالي والمجرات والصحراء والغربة والمطر والطيور والعشق... لذا فإن تشكلات الصورة المتعددة هنا نابعة من زوايا عدة استطاع الشاعر من خلالها تشكيل أبعادها في النص، يقول:
الحبيبات الرَّمْلِيَّة
التي ظَلَّتْ تُعَانِقُهُ
تَخَلَّلَتْ أَصابِعَهُ
تَرَبَّصَتْ بِهِ كَالذَّنْبِ
حين كان يَحْرُسُهَا مِنَ الرِّيح
هو
العاشق الذي
دَفَتْهُ بِحُبِّها.
سَماها الذَّهَبَ الأصفر
وقلعة الأسرار،
قِيثَارَة للصَّمْتِ
وَمَرْتَعًا للأنبياء والتائهين.
أَضْحَتْ حُبَيبَاتُ الرَّمْلِ إِشارات
تَتَجَوَّلُ فِي أَركانِ جَسَدِهِ
كأَنَّهَا جَيْشُ مِنَ المفقودين
في غابة «أوكيغاهارا» للمنتحرين.
حَوْلَهُ كان الأصدقاء يحومونَ
مِثْل طيور بَريَّة أليفة
يُغنُّونَ قصائد
عَنْ أقمار
غابتْ عَنْ ليالي قُرَاهُمْ
وَمجَرَّاتِ أَنْهُرِهِمْ
في شتات الأمكنة.
أغانيهِمْ ترنموا بها في أَصْقاعِ الصَّحْرَاءِ
ولاذوا بها إلى أرواحهم
بين قوسي غُرْبَةٍ واغتراب.
مِثْلُ الطيور التائهة
يبحثون عن
فَرَحٍ يُشْبِهُ المَطَرَ
وَكَثِيرٍ مِنْ وَحْشَةٍ أليفة.
تَجْمَعُهُمْ عناوينُ وَأَمْكِنَةٌ
رَابِضَةٌ في صحراء رُبعنا الخالي مِنْ أحلامنا.
تعد هذه المجموعة من المجموعات الفنية التي اشتغل عليها الشاعر برويّة وهدوء، حتى أنتج نصوصًا فنية متخيلة تقدّم صورة عن تحولات قصيدة النثر في المشهد الشعري العماني الحديث، إنها أشبه بالموسيقى التي يتردد صداها في أروقة المكان ليهتدي العابر بإيقاعاتها المتناغمة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نصوص ا
إقرأ أيضاً:
سعاد بشناق عن موسيقى فيلم يونان.. رحلة بين عالمين
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- في كل فيلم سينمائي مجموعة من الجنود المجهولين، والموسيقي بالتأكيد واحد منهم، فهو يقدم البناء الموسيقي للفيلم الذي يساند القصة، ويستكمل عناصر مفقودة لم تتمكن الصورة من تقديمها، فالموسيقى، بالنسبة للمؤلفة الموسيقية سعاد بشناق، ليست فقط طبقة تضاف إلى الفيلم "في كل حال"، وإنما هي حالة انسجام مع القصة والمشاعر والأحداث وكل التفاصيل السينمائية فيه.
التقينا بشناق، وهي المؤلفة الموسيقية لفيلم "يونان" للمخرج أمير فخر الدين، الذي عرض هذا الأسبوع في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وحظي باهتمام واسع وكبير، ويحكي قصة كاتب مغترب في ألمانيا، يعيش حالة من اليأس، فيقرر الانعزال والعيش في جزيرة نائية من أجل اتخاذ قرار مصيري. في الجزيرة، تلاحقه ذكرى حكاية روتها له والدته في صغره، فتصنع له عالماً يتشابك مع واقعه الحالي.
عن هذه التجربة تقول سعاد: "كانت رحلة مكثفة بكل ما للكلمة من معنى، فهناك بعض المشاريع التي أعمل عليها لمدة شهرين أو ثلاثة، أما تلك التي أركز بالعمل عليها لسنوات فهي قليلة، مثل فيلم المنعطف للمخرج الراحل رفقي عساف، الذي عملت على إعداد الموسيقى له لمدة أربع سنوات. والآن فيلم (يونان)، الذي يرى النور أخيراً".
وتضيف: "في عام 2022، حضرت افتتاح فيلم (جنائن معلقة) للمخرج أحمد الدراجي، وهو الفيلم الذي ألفت موسيقاه، والتقيت حينها بأمير فخر الدين، فسألني أين أسكن، أجبت، في تورونتو ، فدعاني لحضور عرض فيلم (الغريب) في مهرجان تورونتو للأفلام الفلسطينية. أذكر أنني عندما شاهدت الفيلم تملكتني الدهشة من جودة العمل، فمع أن أمير مخرج شاب، إلا أن في أفلامه نوعاً من النضوج الملحوظ، وأثنيت على عمله حينها، وها أنا اليوم أكون جزءا من فريقه الذي عمل على تقديم فيلم (يونان)".
وعن بداية العمل على الموسيقى في هذا الفيلم، تقول سعاد: "في البداية، قررنا البدء بالتأليف الموسيقي بناء على السكريبت، وفي العادة ينتهي فريق التصوير من المشاهد، وبناء عليها يتم تأليف الموسيقى. جاء هذا القرار لأن الفيلم فلسفي إلى حد كبير. غير أن أمير وبعد الانتهاء من المشاهد، وجد أن الموسيقى ذهبت في اتجاه بينما ذهبت القصة بصرياً في اتجاه آخر. فغيرنا طريقتنا بالعمل، وأصبحنا نجلس اجتماعات طويلة عبر الفضاء الرقمي لوضع الموسيقى على المشاهد التي تم تصويرها. كان من المهم أن يكون للفيلم صوت، وأن الموسيقى يجب أن تكون من قلب الفيلم وليس مجبرة على مشاهده. كان من المهم أيضا اختيار الآلات المناسبة لقصة الفيلم ورؤيته، وبما أن الفيلم يحمل فلسفة كبيرة، اخترت الآلات الموسيقية التي تتوافق مع فلسفة هذا الفيلم، والتي أترك للمشاهد فرصة الاستماع إليها والتعرف بها عند مشاهدة الفيلم".
وبرغم أن سعاد تحرص دائماً على ألا تترك شيئا للصدفة، اكتشفت خلال البناء الموسيقي لفيلم "يونان" أن الشكل العام كان دائرة كاملة، أي أنها الموسيقى بدأت من نقطة معينة، وتطورت خلال الفيلم، لتصل في النهاية في شكلها وتوجهها إلى النقطة التي بدأت منها.
في فيلم "يونان"، كان للصمت دور يوازي دور الموسيقى فيه، وفي هذا الإطار، حرصت سعاد بشناق على الاستفادة من الصمت في البناء الدرامي للموسيقى. وحول ذلك تقول: "تخيلي أنك تستمعين إلى مقطوعة موسيقية مستمرة على طول الفيلم. لن تشعري بشيء. ولكن عندما تكون هناك بعض اللحظات الخالية من الموسيقى، وتدخل الموسيقى بعدها، ستشعرين وكأنك تنظرين إلى جدار مزين وملون بألوان مختلفة، وبالتالي يبدو منظره جميلاً، مقارنة بجدار آخر ملون بلون واحد. الصمت في نظري جزء من الموسيقى، وربما ما جعلني أشعر أن الموسيقى أدت مهمتها في الفيلم هو عندما قال كل من حضر الفيلم إنهم شعروا بذات الشعور في نفس المشهد وفي نفس الوقت. هذا الأمر يجعلني أتأكد أن الموسيقى قامت بدورها تماماً في الفيلم".
وبرغم أن لسعاد بشناق تجارب سينمائية سابقة بين الروائية والوثائقية، لهذا الفيلم خصوصية كبيرة كونها المرة الأولى التي تقود فيها أوركسترا الوتريات، وهو أمر لا تقوم بها عادة، فهذه التجربة صنعت بينها وبين الفيلم نوعا من الحميمية والقرب الشديد.
وتضيف: "على عكس الكثير من الأعمال الفنية التي شاركت بها، حين كنت أستطيع الجلوس في أي وقت والعمل على التأليف الموسيقي، كان لا بد لي في فيلم (يونان) الدخول في الـ(زون) الخاص، أي القدرة على الانتقال إلى عالم جديد ومختلف أعيش فيه حالة فيلم يونان. كان من المهم أن أشعر أنني أعيش داخل فيلم يونان، وليس في عالمي اليومي، حتى أتمكن من استحضار الموسيقى وتأليفها بشكل يجعلها تولد من قلب قصة الفيلم".
ولمعرفة آلية العمل بين الموسيقيين، كان مهماً أن نسأل سعاد عن الطريقة التي تتبعها عند العمل على تأليف الموسيقى للمسلسلات والأفلام. وإجابة على هذا السؤال تقول: "عادة ما يقوم المؤلف بتأليف الموسيقى بناء على المشهد الذي يراه أمامه الآن، ولكن في البداية يجب أن يدور نقاش مع المخرج حول القصة، وصوت الفيلم، والمشاعر التي نحاول إيصالها، ورسالة كل مشهد. من بعدها نقوم أيضا بتحديد مواقع الموسيقى، أي متى يجب أن يسمع المشاهد جملة موسيقية. الصوت الموسيقي مهم جداً لأنه يخلق حالة من التجانس بين جميع عناصر الفيلم".
هذه التجربة علمت سعاد بشناق الكثير. تقول سعاد: "تعلمت ألا أتعلق بأي جملة موسيقية أكتبها. فنحن في البداية كتبنا بناء موسيقياً للفيلم، وقد أعجب به أمير إلى حد كبير، ولكن اكتشفنا أنه لا ينسجم مع أحداث الفيلم، فكان من المهم التخلي عنها والبدء من جديد. وهذا الدرس ليس في الموسيقى فحسب، وإنما في الحياة بصورة عامة".