بقلم عمر العمر
فجأة أصبح السودانيون رقماً قياسياً عالمياً في دفتر النزوح . إذ توصف مغادرتهم الجماعية الوطن الأكبر منذ الحرب العالمية الأخيرة، مع أن السودانيين ظلوا يرون الهجرة خياراً إضطراريا .فمع اتساع رقعة الحرب القذرة في الداخل يرتفع إيقاع الهروب إلى الخارج. مصر أمست وجهة تلقائية لموجة عالية في سياق النزوح القسري الفجائي نظرا لما بين البلدين من وشائج نسجتها الجغرافيا والتاريخ.
*****
ربما لا يكون التباين المصري السوداني نوبة نشاز في متن العلاقات الثنائية الممتدة في التاريخ ، إذ تواتر مثل هذا الانكسار في منعطفات تحت تأثير ضغوط متباينة . للظروف السياسية والاقتصادية الراهنة المحيطة بالشعبين دور في تسخين العلاقات . هذه نظرة لا تبرئ أيا منهما من عدم التحلي بالوعي المفترض. فالسودانيون عبروا الحدود دون إدراك شامل لحجم الكارثة الوطنية.ذلك القصور جعلهم كمن هو خارجٌ في نزهة قصيرة يعود منها على عجل. مع هذا الفهم حمل قطاع عريض من النازحين طبائعهم الاجتماعية.من المضحكات فيها قناعة تملي على المضيف بذل مافي وسعه بغية إكرام الضيف، بما في ذلك تحمل ممارساته وإن ثقلت. أكثر من ذلكم، تمنح تلك الطبائع الضيف حق(فيتو) انتقاد المضيف ما لم يتحمله . هذه المعادلة العرجاء المزدوجة ليست من سمات الحياة الاجتماعية بمصر. لهذا يراوح أهلها بين الضحك والبكاء تجاه ممارسات سودانية حياتية.
*****
لسوء طالع الشعبين أن قوام موجة النزوح المبكرة غلبت عليها عناصر الطبقة الطفيلية .تلك طبقة تفسّخت في عهد الإنقاذ وساهمت إلى حد بعيد في تشويه المجتمع السوداني التقليدي .هي ظلت أحد معاول ترييف الخرطوم .هي تتحمّل أكثر الأوزار السودانية في تصعيد التوتر الثنائي. فإليها يرجع غالبية ما جأرت به الطبقة المصرية الوسطى من شكايا ،مظاهر سلبية سودانية، غير قابلة للتعايش أو الاحتمال وفق القاموس الاجتماعي المصري.كذلك حملت أسراب النازحين عاداتهم وممارساتهم اليومية -فيها ما يستدعي ضحكا كالبكاء- إلى المهاجر دون تكليف أنفسهم حتمية مراعاة الفوارق في المرافئ الإضطرارية. ربما من أبسط سمات تلك الفروقات بمصر الإنتقال من مجتمع مترهل بالاسترخاء إلى آخر مصري مشدود بالانضباط...كما الانتقال من سلطة فالتة إلى قبضة محكمة.
*****
كذلك ليس المصريين يجانبهم المنطق فيما يراوحون بين الضحك والبكاء. فالشكوى-مثلا- من ارتفاع الإيجارات أو أسعار العقارات يُساءل عنه طمع المُلّاك قبل تدافع المستأجرين أو الشراة .فالسوريون اقتحموا سوق مصر عبر المطاعم والمخابز فأثروا شهية المصريين ولم يثيروا نقمتهم .فالسودانيون مفتنون بالمضاربة في العقار على قدر إقبال السوريين على صناعة الأكل من المضحك المبكي تصوير السودانيين كأنهم يعيشون بروح القطييع خارج الزمن الحضاري . مع ان ذلك سلوك تنتجه أصالة أخلاقيات وقيم دفء العشيرة النبيلة. فمن المبكيات كذلك أ ن المخيّلة السودانية مثقلةٌ بما هو أشدُ وطأةً بمثل هذا التنميط العشوائي المشرّب بالتعالي المصري.مثلما هي مشحونة بصور مصرية -تحرّض على الضحك- يراها السودانيون ليست حضارية البتة .كلا العقليتين ألقت طبقات لهذا التوتر القابل للالتهاب في منعرجات حرجة على سكة الروابط المشتركة . كلاهما يمتصان زيتهما من إرث سلبي إعتصرته العلاقات السياسية أكثر مما نسجه التشابك بين الشعبين. من المبكي دفع السودانيين أكثر فاتورة أعلى كلفة في حساب (الأخ الأكبر ) ،واجبة السداد على الخارطة العربية ،أكثر مما يتحمل المصريون.
*****
من سوء طالع الشعبين المضحك حد البكاء غلبة سطوة وسائط التواصل الاجتماعي على عقلانية متوهمة لدى أجهزة الإعلام والصحافة تجاه معالجة العلاقة المشتركة .فالوسائط لم تكتف بالصور السلبية في المخيلة الجمعية بل ذهبت أبعد لجهة رسم صور ذات قواسم عدوانية لتنميط (سوداني قبيح)على الطريق الأميركية.وراء ذلك كذلك جهات إعلامية تستهدف توسيع (الجفوة المفتعلة)بين شعبي وادي النيل.من الصعب تحديد نقطة انطلاق بدايات غرس بذور التعايش السوداني في مصر أو المصري في السودان.لكن في المتناول تأطير القواسم المشتركة بين الجانبين .التاريخ شاهد على محطات بلغ-لايزال- ذلك التعايشفيها حد التساكن، التصاهر والاندماج على صُعد متباينة أو التكامل السياسي..
*****
من سوء حظ المصريين ان هذه (الجفوة المفتعلة)تأتي بينما اضطرابات فوضوية تحيط بهم من الشرق والغرب والجنوب.لذلك ليس من صالحهم الحفاظ على التناسق في الداخل بما في ذلك قمع حملات التكريه الاجتماعي .فليس في رحابة صدور كل السودانيين مساحة لتحمل كل المرح المصري خاصة إذا انطوى على وخذ ساخر .ففوق كل ذلك يظل السودان العمق الأثير لمصر عبر التاريخ. كما ليس ثمة مهرب من الجغرافيا فليس من سبيل لصناعة مستقبل لا يستند إلى التاريخ أو يقفز فوق الحاضر .تلك حقيقة جيوسياسية لابد للشعبين من إدراكها ملياً. فما دام لا انفكاك مما ليس منه بد فلابد من التعايش معه.لذلك لا جدوى إيجابية لممارسة العزف على الأوتار المنفرة.هناك تزمر سوداني سياسي تجاه إسناد الشأن الثنائي إلى الأجهزية الأمنية بمافي ذلك العلاقات الدبلوماسية.
*****
خروج السودانيين من الوطن حالة اضطرارية محدثة مقارنة بأفواج جاليات عربية أخرى ؛كاللبنانيين،السوريين، اليمنيين والمصريين ضربت في أركان الدنيا الأربعة . السودانيون الجدد الخارجون قسرا من ملتقى النيلين وضفافهما مطالبون بالحفاظ -إن لم يستطيعوا المراكمة -على صور زاهية رسمها أترابهم الأوائل في مهاجر عربية بينها مصر . فحتى قبل الحرب الراهنة بلغت ذروة الموجة الأعلى للمغتربين السودانيين في عقدي الثمانينيات الأخيرة نحو مليون وسبعمئة الفا.السلطات السودانية أخفقت في تأطير هجرتهم داخل استراتيجية وطنية . فما بالك في حال اهترائها الراهن وفي مصر نحو ٤.٥ ملاين مهاجر و نازح .هذه بحد ذاته مسألة تندرج في قول أبي الطيب :كم بمصر من المصحكات ولكنه ضحك كالبكاء.
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
غارديان: السجون اليونانية تعج باللاجئين السودانيين
أفادت صحيفة الغارديان البريطانية بأن السلطات اليونانية ظلت تحتجز مئات المهاجرين غير النظاميين بموجب قانون صارم يُجرِّم تهريب البشر دخل حيز التنفيذ في عام 2014 ويعاقب منتهكوه بالسجن لمدد قد تصل إلى 25 عاما.
وذكرت أن مهربي البشر المدانين يشكلون ثاني أكبر مجموعة تقبع في السجون اليونانية، بعد مرتكبي جرائم تتعلق بالمخدرات.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إنترسبت: مشروع قانون يقمع الدروس عن فلسطين بولاية كاليفورنياlist 2 of 2فايننشال تايمز: هكذا تستطيع أوكرانيا أن تفكك التحالف الغربيend of listوقالت الصحيفة إن السودانيين يشكلون رابع أكبر المجموعات من طالبي اللجوء في اليونان، وتجاوزوا بذلك أعداد المهاجرين التقليديين غير النظاميين من الجنسيات الأخرى مثل السوريين والفلسطينيين.
وأضافت أن جزيرة كريت برزت مؤخرا بوصفها نقطة رئيسية لدخول المهاجرين غير النظاميين إلى اليونان، حيث استحوذت على أكثر من ربع إجمالي الوافدين منذ يناير/كانون الثاني الماضي، متجاوزة بذلك نقاط عبور ساخنة سابقة مثل جزيرتي ليسبوس وساموس اليونانيتين.
ونقلت عن مسؤولين يونانيين القول إن أكثر من 2500 شخص وصلوا إلى جزيرة كريت من أفريقيا حتى الآن هذا العام. وأشارت إلى أن إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تُظهر أن عدد الوافدين إلى الجزيرة زاد بأكثر من 6 أضعاف عام 2024 مقارنة بعام 2023.
إعلان
وانتقدت غابرييلا سانشيز -وهي باحثة في مجال الهجرة بجامعة جورج تاون الأميركية- تعامل اليونان مع طالبي اللجوء السودانيين. وقالت لصحيفة الغارديان إن تجريم اللاجئين من الحرب الأهلية في السودان يتعارض مع بروتوكول الأمم المتحدة بشأن تهريب المهاجرين، والذي ينص بوضوح على أنه لا يمكن مقاضاة مهاجر بسبب تسهيل تهريبه. واعتبرت أن الممارسة المتبعة في دول الاتحاد الأوروبي بمحاكمة المهاجرين الشباب بصفة مهربين تتعارض مع مبادئ البروتوكول.
والتقت الصحيفة بمواطن سوداني يدعى صموئيل (19 عاما) زعم أنه فرّ من مدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور بعد فترة وجيزة من تعرضها للنهب من قبل قوات الدعم السريع.
وبعد أن نجح صموئيل في الوصول برا إلى ليبيا، ركب قاربا كان يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط طوال يومين في يونيو/حزيران الماضي، قبل أن تنقذه سفينة شحن، وينقله خفر السواحل اليوناني إلى جزيرة كريت.
وقد تعرف ركاب الزورق الآخرون على صموئيل وقالوا إنه كان يقود الزورق، مما يعد انتهاكا للعديد من القوانين اليونانية بما في ذلك المساعدة في نقل المهاجرين غير النظاميين. وطبقا للغارديان، إذا تمت إدانته فإنه يواجه احتمال السجن لمدة 15 عاما.
وكشفت الصحيفة أن صموئيل -وهو طالب قانون سابق- محتجز الآن في سجن أفلونا للأحداث، على بعد 45 كيلومترا شمال أثينا، إلى جانب ما يقدر بنحو 50 رجلا سودانيا آخر، يقول محامون ونشطاء إن معظمهم من لاجئي الحرب الذين احتُجزوا واتّهموا بتهريب المهاجرين بعد طلب اللجوء في أوروبا ووصولهم إلى جزيرة كريت.
لكن صموئيل يقول إنه ليس مهرّبا للبشر، بل لاجئا يبحث عن الأمان في أوروبا، وقد دفع للمهربين في ليبيا 12 ألف دينار (نحو 2226 دولارا أميركيا)، واشترطوا عليه أن يقود هو القارب بنفسه.
إعلانوقال للصحيفة "لقد تفرقت عائلتي. لدي أم وأب، وأنا أكبر أطفالهما الستة سنا. وقد علمت من أصدقائي أنهم يقيمون في مخيمات للنازحين، لكنني لم أتحدث إليهم منذ أكثر من عام".
وشنت جوليا وينكلر، الباحثة السياسية التي شاركت في تأليف تقرير 2023 حول تجريم المهاجرين في اليونان، هجوما لاذعا على الدول الأوروبية.
وقالت إن ما يحدث في جزيرة كريت يعد "مثالا وحشيا" على أن ما تسمى في أوروبا بـ"الحرب على التهريب" هي في الواقع تجريم لفعل الهجرة ذاته.