دانشمند لأحمد فال الدين.. في حضرة وجوه أخرى للإمام الغزالي
تاريخ النشر: 27th, May 2024 GMT
عندما نهم بقراءة روايات السيرة الذاتية، ننشغل قليلا بمصادرها، وربما نحقق في خلفية الكاتب وسابق أعماله، هذا في حالة كان المكتوب عنه رجل سياسة أو أدب مثلا، فماذا لو كان عالم دين، شغل الأولين والآخرين؟ حتما وقتها ستظهر هواجس إضافية للقارئ، مرتبطة بالحبكة والإمتاع، ومدى التداخل بين الواقع والخيال.. وقبل كل ذلك كانت حياته وتجربته فريدة من نوعها في عصره.
"دانشمند" اسم مختلف، اختاره المؤلف أحمد فال الدين ليكون أول ما يلفت انتباه قارئه، وكما يبدو هو لفظ غير عربي، وعندما تبحث عن معناه الفارسي ستجده يعني "عالم العلماء"، أي أكثرهم علما، والرواية تتناول حياة أبي حامد الغزالي، حجة الإسلام الفيلسوف والصوفي، وقبل ذلك الإنسان.
"غزلت غزلي دقيقا فلم أجد لغزلي نساجا… فكسرت مغزلي" الإمام الغزالي
وبعد العنوان المختلف، ما يلبث الكاتب أن يلقي ثانية رمياته فيبدأ أول فصول روايته، من الميلاد الثاني، لتتداعي الأسئلة في رأسك.. أين الميلاد الأول؟ ولماذا اختار الثاني؟ ولماذا لحظة دخول دمشق؟ كل هذه الأسئلة التي تضج في رأسك مع الصفحات الأربع الأولى من الرواية، تشبه تلك التي كانت تملأ عقل وقلب الإمام، عندما كان يقف على أبوب دمشق باحثا عن نفسه، وراغبا في إيجاد أغوارها.
"فكم عاما رابط أمام قلبه ليفتحه؟ وأي أسوار في الأرض أمنع من أسوار القلوب؟ كم سنة راود نفسه ليقنعها بالسير إلى الكريم المتعالي؟".
تلك كانت لحظة وداعه لعالمه الذي كان يعج بالعز والفخر والجاه إلى عتبات الفقر والتضرع والتواضع والرغبة في الاختفاء عن الجميع بحثا عن حبل التعلق بالواحد.
وبعد البدء من مشارف الأربعين، يعود بنا إلى مرحلة الطفولة، تلك التي شكلت حياة الإمام، ليتجول بنا عبر الفصول من الطابران بخراسان، إلى تحصيل العلم والتدريس في شوارع نيسابور، وصولا إلى قصور بغداد الباذخة، وما بها من صولات في بلاط الحكام والسلاطين.
رواية تاريخية أم تجربة ذاتية؟ينتقل الكاتب في روايته عبر مسارين أساسيين، أولهما الإمام الغزالي ومراحل تكوينه المذهبية والفكرية، وثانيهما صراعات السلطة والحكم في زمانه، وهو عصر كانت تلف به المخاطر والنزاعات. ليعرج بنا خلال سرده إلى محطات مهمة في تاريخ الأمة الإسلامية، عبر حواضرها الأشهر، فينتقل بنا من بغداد إلى دمشق ثم القدس، وبينها مسافات بعيدة قطعها الغزالي بقلبه قبل أن يمشيها على قدميه.
ليس من الغريب أن نقرأ هنا عن مسيرة الإمام الفقهية الغنية بالشك واليقين والتأليف، لكن المثير كيف جعل الروائي تلك الأحداث والأفكار تتنفس حية داخل رجل ناظر وقرأ وألف حتى أتعب من جاءوا بعده.
استطاع الكاتب أن يدخلنا في أغوار نفس الغزالي، عبر حديث ذاتي شغل جُل صفحات الرواية، ليكون الصوت الداخلي للبطل محركا رئيسا في الأحداث، فأنت هنا لا تقرأ عن الرجل بل تسمع ما يجول بخاطره، ما يشغل عقله، فتلمس مدى قلقه وتقلبه طوال لياليه من ألم شك اعتصره وهو حجة الإسلام في عصره، وتتألم لوجعه وحيدا في فيافي بعيدة عن وطنه يرجو عبرها الوصول ولو متأخرا، وتتمنى لو أنه التفت بعد توديعه لابنتيه وزوجته ليواسيهما قبل غياب سيطول، لتجد فيها جزءا خفيا من حياة الرجل زوجا وأبا وإنسانا عاديا يبحث عن إجابات..
ولكن، هل معنى ذلك أن الرواية غاصت في ذات الإمام، مبتعدة عما أحاط به من أحداث وحروب وتغيرات تاريخية كثرت في عصره؟
الإجابة ستجدها عبر فصول متعاقبة بالرواية، يترك الكاتب الغزالي قليلا، وينتقل بين قصور الحكام وأصوات السيوف في المعارك، ورسائل الجواسيس في الأسواق، ليرسم عالما كاملا من الفتن والحروب والحياة شهدتها تلك السنوات.
فرغم التعمق الموغل في حياة الإمام، لم يغفل كل تلك المتغيرات من حوله، بل ألم بها بمهارة عبر الإسهاب تارة والإيجاز مرات، وهنا ستجد أحمد فال بارعا في مزج الخط التاريخي بالإنساني، فجمع أهم الأحداث التي شهدها الإمام كأحد أطرافها، أو شاهدا عليها، فهو العالم الشاب الذي سعى للوصول إلى نظامية بغداد، ليكون قريبا من السلطة ووزيرها نظام الملك الذي اشتهر بالاهتمام بنشر المذاهب السنية وتعزيز دورها، وهو نفسه الذي كتب عن الحشاشين فاكتسب عداوة زعيمهم حسن الصباح، فكان على رأس المطلوبين لديهم، وهو الرجل الذي استطاع أن يسير على طريق شائك مغاير لمن سبقوه فسلك طرقا جديدة من الفقه إلى الفلسفة ثم الصوفية، غير عابئ بخسائره التي ظلت تتناثر على طول الطريق، راغبا في كسب نفسه أولا.
وهكذا تراوح الرواية بين معارك ذاتية داخل الإمام، ومذهبية سياسية من حوله، ومع كل جولة يعلو شأن فئة فتحط الثانية، يسقط سلطان فيخلفه آخر، يبرز مذهب فتعركه مذاهب عدة، وقبل كل هذا تتقلب نفس الإمام بين شك يعذبه ويقين ينجيه، وتزداد الأسئلة داخلك.
ماذا كان الغزالي حقا؟بلغة متينة، ووصف يمزج بين روح عصر شخصياته ومعايير عصرنا، استطاع أحمد فال الدين محاكاة فترة عجت بالعلم والإنتاج والتقدم والخلاف، وخلطها بمشاعر قربتنا إلى عوالم الغزالي المتشابكة العميقة، فجاء السرد سلسا وماتعا، رغم صعوبة ذلك في مثل هذه الروايات، ربما كانت تجربته في روايته "الحدقي" التي تناولت سيرة عالم اللغة "الجاحظ"، معينا له في تخطي تلك المعضلة بسهولة، لتحقق "دانشمند" توازنا بين التأريخ والإمتاع.
ربما لم تتمكن من قراءة مؤلفات الغزالي كلها، ويبدو أن الكاتب فعلها نيابة عنك، فخلال الرواية ستتعرف على أهم محطات الرجل وكتبه، ستجد مقتطفات من مناظراته فيلسوفا انغمس في دروب الفلسفة حتى شربها فهزم فطاحلها كما سطرها في "تهافت الفلاسفة".
وستقرأ آراءه عالما لديه بصيرة تخطت زمانه بقرون طويلة، كما جاء في كتابه الأشهر "إحياء علوم الدين"، وستراه عالما غيورا على دينه في بعض نصوص" المنخول" وهو أشهر ما كتب في نقد الباطنية، وستصادفه صوفيا تائها في ملكوت الله رابضا على أبوابه، لا يريد من الدنيا غير لحظة يقين وحبل ممدود إلى خالقه، وقبل كل هؤلاء ستتعرف على رجل عادي، يشك ويتألم ويضج بالحياة فيهرب منها ويقاطع الزاد والأهل، ليبحث عن بعض نفسه الضائعة كما كتب عن رحلته في" المنقذ من الضلال".
ولا يسعك وأنت تمر بين المراحل الفكرية والنفسية تلك إلا أن تسقط بعضا مما تقرأه على ذاتك، وهنا سيفيدك لو اطلعت على رسائله إلى أحد تلامذته في كتاب "أيها الولد".
"هل وفقني الله لجمع ميراث الحويني مع ميراث الفارمذي بعد كل هذه الرحلة، وهل هداني الله لتحقيق ذلك المسعى الشريف: عقد مصالحة في علوم الدين بين الكلام والفقه وبين المحمود من المنطق والفلسفة والمأثور من الحديث؟".
عندما تمسك الرواية بين يديك، قد تستثقل وزن الكتاب، لكنك عند الانتهاء منه ستجاذبك الأفكار بين الامتلاء متعة، والرغبة في قراءة متأنية أخرى، على مهل أكثر، أما وقد انتهيت من قراءة أولى يحركها الفضول، إلى ثانية أكثر تعمقا في كل تلك الحكايات التي مرت عبر قرون واختُصرت في صفحات، ستشعر بحاجة إلى مزيد من التبحر في عالم الغزالي، وستكتشف أنها لم تكن أبدا كثيرة على ما ألممت به من أفكار وأحداث وحكايات.
ففي نحو 700 صفحة، طافت بنا الرواية بين عوالم الإمام، لنتساءل عن أنفسنا، هل حقا نعرف ذواتنا، أم نحتاج إلى الغوص فيها أكثر من تلك اللحظة التي اعتدناها إلى حقيقة ما خلقنا لأجله؟
أحمد فال الدين، كاتب وروائي موريتاني، صدرت له 3 روايات، "دانشمند" صادرة عن دار مسكلياني 2023، "الشيباني" صادرة 2019 عن دار التنوير، "الحدقي" صادرة عن دار مسكلياني عام 2018، كما نشر له من الكتب "حجر الأرض: صراع الغزاة والحماة في أفغانستان"، صادر عن مركز الجزيرة للدراسات عام 2021، و"في ضيافة كتائب القذافي" عام 2011.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
ابن عَريق
محمد بن عامر بن راشد المعولي ويكني بأبي سليمان ويلقب ب" ابن عَريق". ولد في العقد الثاني من القرن الثاني عشر الهجري الموافق الثامن عشر الميلادي، أي فترة إمامة الإمام سيف بن سلطان الثاني اليعربي ( 1711م -719م) ، في قرية أفي إحدى قرى وادي المعاول. ولد في بيت علم ورئاسة، فوالده عمل واليا للإمامين سيف بن سلطان " قيد الأرض"، والإمام سلطان بن سيف الثاني على ولاية بركاء. مما يعني نشأة محمد بن عامر في سعة من العيش فتفرغ لطلب العلم، وتلقى تعليمه على يد والده الشيخ عامر بن راشد، ثم جلس في مجلس الشيخ خلفان بن جمعة بن محمد الرقيشي، والشيخ خلف بن سنان الغافري، وسعيد بن بشير بن حمد الصبحي، والشيخ سعيد بن زياد بن أحمد الشقصي. هذا الاهتمام الذي لقيه المعولي في تعليمه انعكس عليه وعلى مؤلفاته حيث كان واسع الاطلاع والمعرفة.
عاصر محمد بن عامر الكثير من الأحداث السياسية الجسام التي حدثت في عمان بعد وفاة الإمام سلطان بن سيف اليعربي سنة 1719م، حيث شهدت الفترة التي أعقبت وفاة الإمام سلطان بن سيف الثاني اضطرابات كثيرة في المشهد السياسي العماني، وحدث صراع على السلطة بين أفراد البيت اليعربي مما أدخل عمان في حالة من عدم الاستقرار والفوضى بسبب تدخل شيوخ القبائل في هذا الصراع. كان للشيخ محمد بن عامر دور في هذا الصراع، حيث كان من العلماء الذين خلعوا الإمام سيف بن سلطان الثاني عام 1733م، وشارك علماء عمان في تنصيب الإمام بلعرب بن حمير إماما على عمان. وفي سنة 1748م كان المعولي من العلماء الذي خلعوا الإمام بلعرب بن حمير . ومن العاقدين للإمام أحمد بن سعيد في الرستاق ومعه ثلة من العلماء الكرام يترأسهم الشيخ حبيب بن سالم أمبوسعيدي.
تولى ابن عريق منصب القضاء في دولة الإمام أحمد بن سعيد في مدينة مسقط. وكان يرافق الإمام في بعض جولاته داخل البلاد حيث رافقه في رحلته إلى جعلان وإبراء سنة 1757م.
لابن عَريق مؤلفات عدة، منها كتاب "قصص وأخبار جرت في عمان" يعد هذا الكتاب مصدرا هاما في دراسة الفترة التي عاصرها المعولي، فهو يستكمل الأحداث التي حدثت حيث انتهى كتاب كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة لسرحان بن سعيد الإزكوي سنة 1728م، ويستكمل المعولي الأحداث منذ هذا التاريخ وحتى عام 1744م. واتبع المعولي الترتيب الزمني للأحداث، وسار على نهج الإزكوي في الكتابة، إلا أن المعولي اتجه إلى الاختصار في سرد الأحداث. ويعد هذا الكتاب مصدرا مهما في دراسة المرحلة الانتقالية بين دولة اليعاربة والدولة البوسعيدية، لأن مؤلف الكتاب شاهد عيان ومساهم في صناعة الأحداث.
واعتمد ابن عريق في كتابة هذا الكتاب على عدد من المصادر التاريخية العمانية مثل السير والجوابات وهو عبارة عن رسائل وجوابات بين عدد من علماء عمان ومفكريها، و كتاب الانساب لأبي المنذر سلمة بن مسلم للعوتبي وكتاب كشف الغمة لسرحان بن سعيد الإزكوي، وكتاب الجامع لابن بركة محمد بن عبدالله السليمي، وكتاب الاستقامة لأبي محمد سعيد بن محمد الكدمي.
ويبدأ الكتاب مباشرة وبدون مقدمة للمؤلف، حيث كتب في أول كتابه:" هذه قصص وأخبار جرت بعمان، وأول ذلك انتقال السيد المعظم الملك المكرم مالك بن فهم بن غانم". ثم يسترسل في ذكر الاحداث والوقائع إلى أن يختم الكتاب بحادثة نزول الفرس عمان وطرد والي صحار في ذلك الوقت أحمد بن سعيد البوسعيدي للفرس، حيث كتب في خاتمة كتابه:" والحمد لله على كل حال وجزاء الله عنا السيد أحمد بن سعيد وعن كافة أهل عمان وغيرها من المسلمين ألف ألف خير ولا مخلص عنه لكافة المسلمين إلى يوم القيامة".
وكتب المعولي كتاب في نسب عائلته من المعاول، وقال في سبب تأليفه لهذا الكتاب: "قد بدا لي أن أشرح نسب فخذنا الذي تنتمي إليه عشيرتنا ليعرف من أقرب إلى صاحبه نسبا من الآخر لسبب الميراث والوصية الأقربين وصلة الرحم".
وللمعولي مجموعة من القصائد الشعرية والنظمية في الميراث، وله عدد من المسائل الفقهية. وله كتاب التهذيب وهو في جزأين وموضوعه الأساسي في كتابة الصكوك والوثائق.
وللمعولي كتاب يعد هذا أحد أبرز كتب المكتبة العمانية، لأنه فريد في موضوعه ومحتواه، ويحمل عنوان: "المهذب وعين الأدب"، يقع هذا الكتاب القيم في جزأين وهو في علم الميراث. ويذكر ابن عريق السبب في تأليفه لها الكتاب الفريد في موضوعه:" دعتني الرغبة في تجديده بكتاب يسهل على الطالب تعلمه، ويخلف على الراغب تفهمه، وقد كلفت نفسي على جمعه وتأليفه، وحملتها على حسن تهذيبه وتشريفه، وحرصت جهدي على زراعته وتحريثه". وقال المعولي بيتا من الشعر يحدد فيه موضوع كتابيه المهذب والتهذيب فيقول:
إن الفصاحة في التهذيب يا أملي وفي المهذب من قول لوارثه.
شرع المعولي في تأليف المهذب سنة 1145هـ، ويبدأه بباب في تفصيل فرائض المواريث والحث على تعلمها، ثم باب صفة المواريث والأنساب والأسباب التي يسقط فيها الميراث، ويسترسل المعولي ويفصل في المواريث، وفي نصيب كل فرد، ويفسر الحالات التي يصعب فيها تقسيم التركة، ويشرح في ميراث الهدمى والغرقي وأهل الأديان الأخرى من غير الإسلام.
كان العلماء المعاصرين للمعولي حريصين على نسخ والاحتفاظ بنسخة منه في مكتبتهم للاطلاع عليه كون أن علم المواريث من أدق العلوم وأصعبها، فاستعارة مجموعة من شيوخ إزكي لنسخه، ثم استعارة السيد هلال ابن الإمام أحمد بن سعيد، والشيخ حبيب بن سالم أمبوسعيدي لنسخه، هذا التجوال بين الراغبين في نسخة أدى إلى فقد الكتاب لفترة من الزمن، ولم يكن محمد بن عامر المعولي يملك نسخة منه، وبعد فترة من الزمن عاد الكتاب لصاحبه، فأنشد المعولي يقول:
وافى كتابي الذي كنت فاقده ولم أزل بشفاه الثغر أرشفه
وصرت لما تلقاني البشير به كأنما قد أتى يعقوب يوسفه.
وللشيخ محمد بن عامر قصائد شعرية أوردها كل من محمد بن راشد الخصيبي في كتابه شقائق النعمان ومحمد بن سيف البوسعيدي في كتابه قلائد الجمان،
ومن قصائده قصيدة كتبها في رثائه لدولة اليعاربة حيث قال:
وداعا آل يعربنا وداعا مضت أيامكم بكم سراعا
فكم أسمعتكم نصحي فصمت مسامعكم فلم تلق استماعا
إذا لم تسمعوا قولي ونصحي فليس على المناصح أن يطاعا
توفي ابن عريق صباح يوم الثلاثاء في24 يناير 1777م ودفن في الوادي الكبير بمسقط.