إعلان نيروبي.. ورطة الغرب في السودان
تاريخ النشر: 27th, May 2024 GMT
أدخلت الحكومات الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، نفسها في ورطة كبيرة بخصوص موقفها تجاه الأزمة السودانية الراهنة وقضية الحرب في هذا البلد الكبير الذي يزخر بموارد طبيعية وفيرة وبموقع جغرافي إستراتيجي، ويتميز بتنوّع بشري وثقافي خلّاق كان من الممكن أن يجعله في وضع سياسي واقتصادي وثقافي مثالي إقليميًا ودوليًا، لكنه وبفعل صراع (الكبار)، وأطماع (الصغار)، تحوَّلت هذه الميزات إلى مصدر شقاء منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا.
أقول حكومات الغرب وليس الغرب بمفهومه الشامل؛ لأن حرب إسرائيل على غزة وتداعياتها الدرامية أنتجت للعالم واقعًا مغايرًا لما كان سائدًا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، فقد اتّضح للجميع أن حكومات الدول الغربية التي انحازت إلى إسرائيل، منفصلة تمامًا عن مجتمعاتها وشعوبها، ولا تعبّر بشكل منطقي عن قيم ورغبات، واتجاهات تلك المجتمعات. ويفتح ذلك الباب على مصراعيه لإعادة النظر في صلاحية ميكانيزمات الديمقراطية الغربية التي على أساسها يتمّ اختيار الحكومات، وإلى أيّ حدّ تعبر عن رؤى وتفضيلات الناخبين.
وليس أدلّ على ذلك الانفصال بين الحكومات وشعوبها، تلك الإجراءات القمعية التي واجهت بها الولايات المتحدة التظاهرات الضخمة التي انتظمت مندّدة بالانحياز الرسميّ للجانب الإسرائيلي.
هذا الاستطراد ضروري لفهم الصورة الكاملة لورطة (الأنظمة الغربية) التي أصبحت عالقة في وحْل الأزمة السودانية، ولا تدري كيف السبيل إلى الخروج منها.
فقد عملت هذه الأنظمة بقيادة الولايات المتحدة بدأب منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، للقضاء على حكم الرئيس المعزول عمر البشير، في إطار محاولتها لحصار تيار الإسلام السياسي. ورغم تجنيد الغرب لموارده السياسية والاستخباراتية والاقتصادية، ونفوذه الواسع في المحيط الإقليمي للسودان، فقد استغرق هذا العمل وقتًا أطول بكثير مما كان يخطط له، إذ تواصل منذ العام 1990 وحتى أبريل/نيسان 2019.
غداة نجاح الثورة الشبابية التي أدت إلى تنحية الرئيس البشير بمعاونة اللجنة الأمنية المكونة من الجيش والشرطة والمخابرات، رمى الغرب بثقله وراء المكونات الحزبية المدنية التي برزت إلى سطح الأحداث، وقدّمت نفسها على أنها رأس الرمح في الثورة الوليدة، فتبنت شعارات الثورة، واحتكرت الحديث باسم الثوار وأطلقت على نفسها (قوى الحرية والتغيير).
برزت بعض الشعارات الخطيرة والمثيرة للكراهية التي صاغها زعماء قوى الحرية والتغيير، وجعلوها شعارًا للثورة (كل كوز ندوسو دوس) وكلمة (كوز) مصطلح تحقيري يطلقونه على المنتمين للتيار الإسلامي، وترجمة الشعار هي (سنسحق بأقدامنا كل إسلامي).
كانت خطة الغرب مزدوجة، تقوم على دعم قوى الحرية والتغيير، بالتزامن مع القضاء على الحكم القائم، وأوكلت هذه المهمة المزدوجة إلى ثلاثة سفراء غربيين، كانوا هم المهندسين الذين أشرفوا على تنفيذ المشروع الغربي المزدوج في السودان تحت لافتة: "إحلال الحكم المدني محل الحكم العسكري ونشر الديمقراطية"، كانت هذه هي اللافتة البراقة لمشروع الغرب في السودان.
مهندسو المشروع الغربي ولسوء تقديرهم واستعجالهم لتنفيذ المشروع، قرروا أن يسلكوا طريقًا أقصر وأقل كلفة حسب تقديراتهم، فعمدوا إلى التأليف بين قوى الحرية والتغيير، المعروفة اختصارًا بـ (قحت)، وبين مليشيا الدعم السريع، بعد أن كان العداء مستحكمًا بينهما منذ مجزرة فضّ الاعتصام التي اتهمت فيها (قحت) مليشيا الدعم السريع بتنفيذها. وقامت الخطة على أن تكون (قحت) هي الحاضنة السياسية للائتلاف الجديد ومليشيا الدعم السريع الذراع العسكرية له، بمعنى أن تحل المليشيا محل الجيش السوداني الذي يعتقد الغرب أنه تحت هيمنة الإسلاميين.
ولضمان نجاح الخطة تم تصميم (الاتفاق الإطاريّ) الذي ينطوي على تفكيك الجيش، تحت مسمى ناعم هو: "إعادة الهيكلة"، وقد عمدوا إلى تفخيخ الاتفاق ببنود لا يمكن للجيش أن يقبلها، واشترطوا قبولها بحذافيرها باعتبارها الحل الأوحد، وأن البديل لها هو الحرب، هكذا وضعت "قحت" وحليفها العسكري ومِن ورائهم الثلاثي الغربي (العقدة في المنشار)، فكان الرفض لها من قبل الجيش والقوى السياسية الوطنية الأخرى، ومن ثم انتقلت الحالة السياسية بالبلاد إلى وضع (الإحماء) للبديل الآخر وهو الحرب.
اشتعلت نار الحرب وكان مقدرًا لها ألا تتجاوز ساعات قلائل، أو أيامًا معدودات في أسوأ الفروض. ولكن جاءت رياح الحرب بما لا تشتهي سفن مشعليها، فطال أمد الحرب، ودخلت عامها الثاني، ولم تستطع مليشيا الدعم السريع القضاء على الجيش، بل أسوأ من ذلك تحولت المليشيا إلى عصابات نهب وسلب واغتصاب وسرقة وقتل للمدنيين، وتدمير للمنشآت المدنية، وارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غرب دارفور، على النحو الموثق والمعروف. ولا تزال تمارس القتل والنهب والسرقة وتدمير الأعيان المدنية وتهجير المواطنين في ولاية الجزيرة وأجزاء من ولاية النيل الأبيض، وتتأهب للهجوم على الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.
في خضم هذا الوضع المتدهور، برزت على نحو مفاجئ وثيقة اتفاق سياسيّ سمّيت (إعلان نيروبي)، تمّ توقيعها برعاية الرئيس الكيني وليام روتو في 18 مايو/أيار الجاري، وضم هذا الإعلان 3 قيادات، منهم اثنان من قادة حركات مسلحة، هما عبد الواحد محمد نور (رئيس حركة تحرير السودان- دارفور)، وعبد العزيز الحلو (رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان- الشمال)، والثالث عبد الله حمدوك (رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) المعروفة اختصارًا بـ (تقدم)، وهي في واقع الأمر مسمى جديد لـ (قحت).
الاتفاق الجديد القديم هو نسخة معدلة ومزيدة من الاتفاق الإطاري الذي أشعل الحرب. والجديد فيه شيء واحد، وهو فقرة تتحدث عن تقرير المصير، فالاتفاق الإطاري وضع شروطًا، إما القبول بها جملة واحدة أو (الحرب)، أما إعلان نيروبي فوضع شروطًا إما القبول بها جملة واحدة أو (تقرير المصير)، وهي الشفرة التي تعني الانفصال، نفس الوعيد هنا وهناك، هذا أو الطوفان.
إذن، فالسودانيون موعودون بتفتيت بلدهم وتشظيه، وفقًا لإعلان نيروبي فيما لو رفضوا قبول هذا الإعلان.
هذا الإعلان يعتبر (خارطة طريق) لمشروع فصل إقليم دارفور ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، وهو امتداد للمشروع الأول الذي نجح في إشعال الحرب، لكنه لم يحقّق النتائج المرجوّة منها، نفس الفخاخ التي لا تجد قبولًا من سواد الشعب السودانيّ: "الدين، الهوية، الثقافة، نمط الحياة، هيكلة الجيش والمؤسسات النظامية والأجهزة الأمنية.. إلخ".
ورطة القوى الغربية التي تدعم المشروع الجديد القديم، تتمثل في كيفية التوفيق بين طرفي سياستها التي تقوم على مناصرة المكوّنات الأفريقية ضد المكوّنات العربية من جهة، ومناهضة التيارات الإسلامية من جهة أخرى.
الورطة تكمن في أن الأداة العسكرية التي يستخدمها الغرب لتنفيذ المشروع تتألف بصورة كاملة من المكونات العربية وهي "مليشيا الدعم السريع" التي تناصب المكونات الأفريقية العداء وتسعى إلى القضاء عليها والحلول محلها، فضلًا عن ارتكابها جرائم حرب وإبادة ضد هذه المكونات، وقد استخدمت تلك الجرائم في أوساط الرأي العام الغربي بغرض تشويه صورة العرب ووصمهم بالوحشية وممارسة الإبادة الجماعية ضد مجموعات مسلمة بدوافع عرقية، ليخففوا بذلك الضغط على إسرائيل، ويبرروا حربها على غزة والإبادة الجماعية التي تمارسها ضد الفلسطينيين.
في السابق وفي عهد الرئيس البشير، كان الغرب يروج لمزاعم تقول إن نظامه (الإسلامي العربي) يشن حربًا دينية وعرقية ضد المسيحيين واللادينيين ذوي الأصول الأفريقية في جنوب السودان ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق. ثم في مرحلة أخرى اتهموه بارتكاب الإبادة الجماعية بحق القبائل الأفريقية في دارفور مستخدمًا "مليشيا الدعم السريع" المؤلفة من القبائل العربية.
لكن ها قد دارت دورة الأيام ليكون الغرب وذات دوائره وأنظمته داعمين ومستخدمين لنفس المليشيا ذات الخلفية العربية لتنفيذ مشروع القضاء على الإسلاميين، حيث يعتقدون أنهم يهيمنون على الجيش، فأصبحوا في مأزق التوفيق بين هذين المتناقضين.
ما هو، إذن مصير، (مليشيا الدعم السريع)، ومكانها من الإعراب في الكيانات المقترح إنشاؤها وفق برنامج تقرير المصير؟
أين ستُخفَى أداة الجريمة؟ كيف يمكن فهم هذه المفارقة؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات ملیشیا الدعم السریع قوى الحریة والتغییر
إقرأ أيضاً:
تحقيق أممي في وصول صواريخ تملكها الإمارات إلى الدعم السريع
قالت رسالة اطلعت عليها رويترز إن لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة مكلفة بمراقبة العقوبات في السودان تحقق في كيفية وصول قذائف مورتر مصدرة من بلغاريا إلى الإمارات إلى رتل إمداد لمقاتلي قوات الدعم السريع شبه العسكرية.
وتحمل قذائف المورتر التي ضبطت مع الرتل في نوفمبر تشرين الثاني في ولاية شمال دارفور بالسودان الرقم التسلسلي نفسه الذي أخبرت بلغاريا محققي الأمم المتحدة أنها صدرته إلى الإمارات في عام 2019. وأمكن رؤية الرقم التسلسلي في الصور ومقاطع الفيديو التي نشرها أعضاء الجماعات الموالية للحكومة على الإنترنت بعد عملية الضبط.
ووفقا لرسالة بتاريخ 19 ديسمبر كانون الأول من البعثة الدائمة لبلغاريا في الأمم المتحدة، والتي اطلعت عليها رويترز، أبلغت بلغاريا محققي الأمم المتحدة أنها شحنت قذائف مورتر عيار 81 مليمترا بالرقم التسلسلي نفسه إلى الجيش الإماراتي في عام 2019.
وقالت وزارة الخارجية البلغارية لرويترز إن أحدا لم يطلب إذن بلغاريا لإعادة تصدير الذخائر إلى طرف ثالث.
وقالت الوزارة "نعلن بشكل قاطع أن السلطات البلغارية المختصة لم تصدر ترخيصا لتصدير المنتجات المرتبطة بالدفاع إلى السودان".
وأحجمت الأمم المتحدة عن التعليق على هذا التقرير.
ونفت الإمارات الاتهامات المتكررة لها بإذكاء الصراع من خلال تسليح قوات الدعم السريع في حربها ضد الجيش السوداني.
وأودى الصراع في السودان بحياة عشرات الآلاف وتسبب في نزوح الملايين. وخلصت الولايات المتحدة العام الماضي إلى أن أفرادا من قوات الدعم السريع والجماعات المسلحة المتحالفة معها ارتكبوا إبادة جماعية في القتال الدائر منذ نيسان / أبريل 2023.
وعندما سألت رويترز مسؤولين إماراتيين عن الذخائر البلغارية، أشاروا إلى أحدث تقرير سنوي صادر عن لجنة خبراء الأمم المتحدة، والذي يتحدث بالتفصيل عن نتائج تحقيقاتها في تدفق الأسلحة والأموال إلى دارفور.
ولم يُنشر بعد التقرير الذي عُرض على مجلس الأمن الدولي هذا الشهر واطلعت عليه رويترز. وتقتصر إشارته إلى الإمارات على دورها في حفظ السلام في السودان.
وقال المسؤولون الإماراتيون لرويترز إن التقرير "يوضح أنه لا توجد أدلة دامغة على أن الإمارات قدمت أسلحة أو دعما ذا صلة لقوات الدعم السريع".
وتوثق لجنة الأمم المتحدة عملية ضبط الذخائر التي جرت في نوفمبر تشرين الثاني في تقريرها السنوي. واعترضت جماعة موالية للحكومة مركبات تابعة لقوات الدعم السريع كانت تنقل قذائف مورتر وذخائر أخرى، ونشرت مقاطع فيديو وصورا للأسلحة التي صادرتها. ولم يتطرق تقرير المحققين إلى مصادر الذخائر.
لكن الرسائل المتبادلة بين مسؤولين إماراتيين ولجنة الأمم المتحدة تظهر أن المحققين مستمرون في تتبع دور الإمارات في الصراع.
وتظهر الرسائل، التي اطلعت عليها رويترز، أن السلطات الإماراتية رفضت تلبية طلب محققي الأمم المتحدة بإرسال بيانات الشحنات الخاصة بنحو 15 طائرة مختلفة انطلقت من مطارات الإمارات وهبطت في أم درمان ونجامينا في تشاد.
وراسلت لجنة الأمم المتحدة السلطات الإماراتية بتاريخ 26 نوفمبر تشرين الثاني لطلب بيانات شحنات الرحلات الجوية. وردت الإمارات على اللجنة في العاشر من ديسمبر كانون الأول ورفضت تقديم هذه المعلومات متعللة بعدم قدرتها على الالتزام بالموعد النهائي لضيق الوقت.
وقدمت الإمارات في المقابل تفاصيل عن مواد تزن حوالي 22 طنا وتضم أغذية وأدوية ومركبات مدنية نقلتها ثلاث رحلات جوية إلى أم جرس في تشاد. وتمثل المواد الواردة في الرسالة حوالي نصف سعة طائرات الشحن آي.إل-76 التي يمكنها حمل ما يصل إلى 40 طنا في الرحلة الواحدة.
ولم ترد الإمارات على أسئلة رويترز عن البيانات.
والسؤال الرئيسي للمحققين هو من الذي يقدم السلاح لقوات الدعم السريع، التي عززت سيطرتها على جزء كبير من دارفور في حملة دموية.
ورفع السودان دعوى قضائية على الإمارات أمام محكمة العدل الدولية الشهر الماضي يتهمها فيها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها حين قامت بتسليح قوات الدعم السريع شبه العسكرية. وبدأت المحكمة نظر الدعوى الأسبوع الماضي.
وتنفي الإمارات هذه التهمة، وتقول إن المحكمة ليس لديها اختصاص لنظر هذه الدعوى.