عالم فرنسي جمع بين الرياضيات والفيزياء والفلسفة، ولد عام 1596 في مدينة إندر ولوار، التحق عام 1618 بمدرسة حربية في هولندا، ثم عاد إلى فرنسا عام 1622، وأعلن عن وفاته عام 1650.

نذر حياته للبحث العلمي من خلال مجالسة العلماء والمشاركة في المناظرات معهم. اشتغل على منهج خاص بعلم الرياضيات، وتبنى الطريقة العلمية العقلانية، التي تنص على أن المسائل الرياضية لابد أن تبدأ بالمعطيات السهلة لتمر إلى مرحلة أكثر تعقيدا.

المولد والنشأة

ولد رونيه جواكيم ديكارت يوم 31 مارس/آذار 1596م في مدينة إندر ولوار (إقليم وسط فرنسا)، وهي المدينة التي سميت فيما بعد باسمه ديكارت منذ عام 1967.

ينحدر من أسرة برجوازية، والده جواكيم ديكارت كان مستشارا في برلمان مدينة رين الفرنسية، ووالدته جين بروشار، ابنة عمدة مدينة نانت التي انتشر فيها وباء الطاعون، فاضطرت إلى مغادرتها.

لم تمض سوى سنة واحدة فقط على ولادته حتى فارقت والدته الحياة وتكفلت جدته برعايته، إلى جانب والده ومربيته.

لم يكن يتوقف عن طرح الأسئلة منذ صغره، وعن التعبير الدائم عن شغفه بمعرفة وتتبع ما يدور حوله، نال لقب "الفيلسوف الصغير" كما كان يناديه والده.

كان يخصص وقت فراغه ويجلس وحيدا للتأمل والقراءة وأيضا لدراسة الرياضيات ومختلف الظواهر الفيزيائية.

المسار التعليمي

تشير بعض الكتابات إلى أنه خلال فترة طفولته، تابع تعليمه الابتدائي بمدرسة "لافليش" في باريس، وفيها بدأ مساره العلمي والمعرفي.

وبعد ربيعه الـ11 عام 1606، ولج إعدادية "هنري لوكغو" عام 1606، التي تعد من أشهر المؤسسات التعليمية الفرنسية، واستمر فيها حتى 1614.

رونيه ديكارت تبنى الطريقة العلمية العقلانية كما صاغ نظرية حول الحقائق الأبدية (غيتي)

تولى تعليمه اليسوعيون الموالون للكنيسة الكاثوليكية، ومن بينهم البابا فرانسوا فورنات الدكتور في الفلسفة، والبابا جون فرانسوا الذي علّمه الرياضيات عاما كاملا.

بدأ نبوغه المبكر يظهر داخل مدرسته التي قررت إدارتها مَنحه تعاملا تفضيليا بسبب بنيته الصحية الضعيفة وإصابته بمرض على مستوى الرئة، فتقرر إعفاؤه من حضور الحصص الصباحية.

تعلم الرياضيات والفيزياء وما تعرف بالفلسفة المدرسية (تسمى أيضا الفلسفة السكولائية)، التي كانت تُدرس في المؤسسات التابعة للكنيسة. وأثرت هذه المرحلة كثيرا في مساره العلمي.

فبمجرد أن اشتد عوده وبدأ التفكير في المنهج، لم يتوقف عن انتقاد هذه المؤسسات التابعة للكنيسة، واعتبرها غير منطقية ولا تتناسب مع حسن التفكير، خصوصا أنه أمضى فيها تسعة أعوام، ثلاثة أعوام لتعلم الفلسفة وست للتعم العلوم الإنسانية.

تشير عدة تقارير إلى أنه حصل على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) عام 1614، وبعدها على شهادة الإجازة (البكالوريوس) في القانون من جامعة بواتييه عام 1616، لكنه رفض الاستمرار في هذه الشعبة.

قرر التوجه إلى باريس، حيث اعتكف في أحد أحيائها عامين على البحث العلمي وعلى الدراسة والتأمل من خلال ما وصفها برحلة التحرر والحرية وخوض المغامرة خارج الحدود.

عندما بلغ الـ22، دفعه حماس الشباب وشغف المعرفة إلى مغادرة بلده فرنسا عام 1618 والتفكير في زيارة بلدان أوروبية. فذهب في جولة بين هولندا والدانمارك وألمانيا، مما ساعده على تدشين مسار علمي جديد بعد ربطه الاتصال بثلة من العلماء، ونشر عدة أطروحات مثلت ثمرة أفكاره.

لم يثنه تقدمه في السن عن التفكير في خوض تجربة تعليمية جامعية وعمره قارب الـ33. ففي عام 1629، قرر الالتحاق بجامعة فرانكير الهولندية حيث كان مستقرا، وبدأ يدرس الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة).

رونيه ديكارت انضم لجيش الدوق "بافيا" بسبب تزامن وجوده في ألمانيا مع اندلاع حرب الثلاثين عاما (غيتي) التجربة العسكرية

خلال جولته التعليمية التي قادته إلى بعض الدول الأوروبية، خاض تجربة عسكرية من نوع خاص. فقد التحق عام 1618 بالمدرسة الحربية "لموريس دي ناسو، في الديار الهولندية.

غادر هولندا متجها إلى ألمانيا عام 1619، حيث حضر مراسم تتويج الإمبراطور فرديناند في فرانكفورت، وانضم إلى جيش دوق "ماكسيميليان بافيار"، بسبب تزامن وجوده في ألمانيا مع اندلاع حرب الثلاثين عاما، التي عرفت مواجهة عنيفة بين الكاثوليك البروتستانت في جميع أنحاء أوروبا بين 1618 و1648، فطاف الدانمارك وبولونيا والمجر.

تجربته العسكرية لم تدم طويلا، وسرعان ما وضع لها نقطة النهاية، وعاد إلى فرنسا عام 1622، وهناك استكمل بحثه العلمي.

محطات أساسية

إبان زيارته هولندا حوالي عام 1618، التقى العالم إسحاق بيكمان في مدينة بريدا، عالم الرياضيات والفيزيائي والصيدلاني الذي كانت عادته طرح مسائل رياضية معقدة للحل على شاكلة مسابقة وسط دائرة ويعلقها في شوارع وأزقة المدينة، مع وعد بتقديم مكافأة لمن يفلح في ذلك.

كان الشاب ديكارت سباقا لتفكيك العملية الرياضية والظفر بالجائزة، التي تَولد عنها اكتشاف موهبته العالية في علم الرياضيات، ونتجت عنها صداقة دامت طويلا من خلال النقاشات وتبادل الرسائل مع بيكمان، الذي يعد أحد أشهر علماء الرياضيات ممن تركوا بصمتهم في هذا المجال المعقد.

كان ذلك حدثا مشهودا أخرجه إلى دائرة الضوء، وفي المقابل ترقى الفيزيائي بيكمان إلى كاشف حقيقي للمواهب في العلوم الرياضية والفيزيائية.

كتاب "التأملات في الفلسفة الأولى" للعالم رونيه ديكارت (الجزيرة)

ومن بين المحطات البارزة في حياته تلك التي دشنها ما بين 1622 و1625، وهي الفترة التي عرفت ازدهارا في البحوث المتعلقة بالرياضيات (الجبر والهندسة وغيرهما)، فبدأ يتردد على الأوساط العلمية والأدبية في باريس. ثم بعد ذلك، شرع في التعريف باختراعاته في مجال الرياضيات، ولم تتوقف رحلته، إذ سافر إلى بعض الدول الأخرى منها إيطاليا.

عاد إلى فرنسا ما بين صيف عام 1625 وخريف 1627، حيث التقى بالبابا الفرنسي مارين ميرسين الفيلسوف وعالم الرياضيات، ونذر حياته للبحث العلمي من خلال مجالسة العلماء والمشاركة في المناظرات معهم.

أمره الكاتيدرال بيرول بدراسة الفلسفة وحمّله المسؤولية الضميرية، فما كان منه إلا أن شد الرحال إلى بريطانيا حيث مكث لهذا الغرض ما بين خريفي 1627 و1628.

عاد إلى فرنسا شتاء عام 1628، وزار صديقه العالم بيكمان، ثم رجع إلى هولندا ربيع عام 1929، هناك استقر وكرس حياته للعلم، والتقى بعدد من العلماء منهم الفيلسوف هنري رينيري وعالم الرياضيات فرانس فان شوتن والطبيب فوبيسكيس بلمبيوس وغيرهم.

منهجه العلمي

اشتغل على منهج خاص بعلم الرياضيات، وتبنى الطريقة العلمية العقلانية، التي تقضي بأن المسائل الرياضية لابد أن تبدأ بالمعطيات السهلة لتمر إلى مرحلة أكثر تعقيدا.

اقترح استعمال الحروف الأبجدية الأولى بالنسبة للقيمة الرياضية المعروفة، والحروف الأبجدية الأخيرة بالنسبة للقيمة الرياضية المجهولة.

كما أنه صاغ في أبريل/نيسان 1630 نظرية حول الحقائق الأبدية، فكان كثير التساؤل عن مكانة العلم، وطوّر منهجه الميتافيزيقي انطلاقا من تأملاته.

إسحاق بيكمان مكتشف موهبة ديكارت في علم الرياضيات حيث جمعتهما صداقة علمية (مكتبة ليندهال)

أشارت بعض الكتابات إلى أنه كان بصدد كتابة أطروحته الأخلاقية، وهذا ما عبر عنه في رسالة بعثها إلى البابا ميرسين في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1630، وكشف فيها هذه الرغبة باعتبار أن ميرسين من الأوائل الذي دعموه وشجعوا أفكاره واجتهاداته وروجوا لها في دائرة العلماء في قلب باريس.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1633، أسس لأطروحة علمية حول "العالم والنور"، إلا أنها تزامنت مع إدانة العالم الإيطالي غاليليو غاليلي بسبب رأيه بأن الأرض تدور حول الشمس، وهو الرأي الذي قاد صاحبه عام 1633 إلى حبل المشنقة بعدما أدانته محكمة التفتيش المقدسة عام 1633. تبنى موقف غاليليو، لكن مقالته لم تنشر إلا عام 1664، أي بعد 14 عاما من وفاته.

المؤلفات

خلافا لما جرت عليه العادة في تلك المرحلة، تميزت كتاباته بأسلوبه المبتكر، طبق فيها مناهج الفيلسوف التي تتأرجح بين ثنائية الشك واليقين، وعكست اهتمامه بالمنهج العلمي الذي تناوله ضمن مؤلفاته، بما في ذلك كتابه الشهير "مقال عن المنهج" عام 1637.

كما كتب ديكارت عن الهندسة والتأملات الميتافيزيقية ومبادئ الفلسفة، وله قائمة طويلة من الكتب التي ألّفها، منها ما نشر قيد حياته ومنها ما لم ينشر إلا بعد وفاته. ومن بين أشهر مؤلفاته كتاب "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وكتب أخرى أبرزها:

مقال عن المنهج عام 1637. علم الهندسة عام 1637. قواعد لتوجيه الفكر (تضاربت الروايات عن تاريخ إتمام تأليفه إلا أنه من المرجح أن يكون ذلك عام 1628، علما بأنه بدأ تحريره منذ عام 1619، أما نشره فكان عام 1701، أي بعد وفاته بسنوات). "العالم"، الذي يُعرف أيضا بكتاب "النور" أو "رسالة في الضوء"، نُشر عام 1664. مبادئ الفلسفة. انفعالات النفس، ويعرف أيضا بعنوان "عواطف الروح"، نشر عام 1649. تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ويعد أبرز أعماله في الفلسفة الحديثة، نُشر عام 1641. رونيه ديكارت توفي عام 1650 ودفن في كنيسة "سان جيرمان دي بري" في العاصمة باريس (شترستوك) الوفاة

يوم 11 فبراير/شباط 1650 أُعلن عن وفاته في مدينة ستوكهولم بالسويد. وخلف حادث وفاته جدلا كبيرا. وتقول الرواية الرسمية إن سبب وفاته يعود إلى إصابته بالتهاب رئوي ناتج عن قسوة المناخ وعن خروجه باكرا من إقامته مع السفير الفرنسي بيير شانوت لزيارة الملكة كريستين كل يوم على الساعة الخامسة صباحا لتلقينها دروسا في الفلسفة منذ أكتوبر/تشرين الأول 1649.

وهناك فرضية تؤكد أن وفاته لم تكن طبيعية، وأنه تعرض لتسمم باستعمال الزرنيخ على يد القسيس فرانسوا فيوجي، الذي كان يخشى أن يثني تأثيره الملكة كريستينا عن اعتناق الكاثوليكية.

وأشارت بعض التقارير إلى أن جثته أخرجت من قبره في السويد عدة مرات، وأنه تقرر إعادة ما تبقى من رفاته إلى فرنسا -وطنه الأم- عام 1667، ودفن في كنيسة "سان جيرمان دي بري" في العاصمة باريس.

وبمقتضى اتفاقية وطنية عام 1792، تقرر نقل رفاته إلى معبد البانثيون في باريس، حيث مقبرة العظماء، إلا أنه عمليا استعصى تنفيذ هذا القرار، وبقي مدفونا في كنيسة سان جيرمان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فی الفلسفة إلى فرنسا فی مدینة من خلال إلا أن إلى أن

إقرأ أيضاً:

مصطفى طلاس.. قصة وزير دفاع الأسد الذي أرعب السوريين

قام نظام حافظ الأسد وابنه بشار طوال خمسين عاما على تغلغل ضباط الطائفة العلوية في المفاصل العسكرية والأمنية والحكومية في الدولة، وهو ما هيَّأ لهم حكما مستقرا بالحديد والنار، ولكن الأسد استخدم وجوها سُنية بارزة لتكون بمنزلة الواجهة السياسية التي تحمي نظامه الطائفي.

وكان من أبرز هذه الوجوه وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس الذي يُعد أطول وزراء الدفاع العرب عهدا، فقد بَقِي الرجلُ في منصبه هذا أكثر من ثلاثين سنة كاملة!

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2خزائن الرعب وتفاصيل فروع القتل والتعذيب الأمنية السوريةlist 2 of 2العلويون والقصة الغامضة لحكم سورياend of list

وُلد مصطفى طلاس في 11 مايو/أيار 1932 في بلدة الرستن بمحافظة حمص، وفي عام 1947 التحق بالكلية الحربية في المدينة نفسها، وفيها تعرّف على مجموعة من الضباط البعثيين، كان من بينهم صلاح جديد وحافظ الأسد، وبعد تخرجه في أوائل الخمسينيات أصبح ضابطا في الجيش السوري.

الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد (يمين) ووزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس في حفل عشاء عام 2000م (الفرنسية) طلاس من صداقة الأسد إلى خدمته

وكما يقول محمد نذير سنان في كتابه "لماذا سورية؟"، فمع قيام الوحدة بين سوريا ومصر بين سنوات (1958-1961)، نُقل طلاس إلى القاهرة برفقة عدد من الضباط، كان من بينهم حافظ الأسد، ومحمد عمران، وصلاح جديد، الذين سيقودون العديد من الانقلابات التالية.

وخلال تلك الفترة، توطدت علاقته خصوصا مع رفيقه حافظ الأسد، وعندما وقع الانفصال، اعتُقل الأسد في القاهرة، بينما عاد طلاس إلى سوريا، مصطحبا معه زوجة الأسد وابنته بُشرى، ولاحقا أُفرِج عن الأسد في صفقة تبادل مع مصر.

وفي عام 1963، مع بداية حكم البعث، نال مصطفى طلاس مكافأة على إخلاصه، رغم أنه لم يكن له دور بارز في انقلاب الثامن من آذار، الذي قاده مجموعة من الضباط العسكريين في خطوة كانت تبدو محدودة، لكن طلاس الذي لم يُعرف بنشاطه الثوري، أثبت ولاءه للنظام القادم، وهو ما سيجعله قريبا من دائرة السلطة.

إعلان

ولكن في عام 1964، انفجرت الأوضاع في حماة عندما اندلعت مواجهات دامية بين الشعب الرافض لممارسات السلطة الجديدة، التي اجتاحت مدنا عدة على شكل إضرابات ومظاهرات شعبية واسعة.

وفي المقابل قامت السلطة البعثية بتهديد كل صوت معارض بعنف، حيث اقتحمت المحال التجارية المغلقة ونهبت محتوياتها، وأطلق النظام يد الجيش لقمع المعارضة، حتى وصل الحال إلى قصف مسجد السلطان في حماة، الذي تحول حينئذ إلى ملاذ للمطاردين، وكانت النتيجة سقوط 17 ضحية من أبناء المدينة، وهو ما يمكن أن يوصف بالإرهاصات المبكرة لمجزرة حماة التي ستقع بعد ذلك بثمانية عشر عاما.

في تلك الأثناء، عُيِّنَ طلاس الضابط العسكري قاضيا لمحكمة عرفية ميدانية، حينها أصدر أحكاما بالإعدام على علماء وشباب من مدينة حماة، ليعلن مبكرا عن ولائه للنظام البعثي الجديد.

في المقابل سعى الرئيس السوري وقتها وأحد ضباط البعث البارزين أمين الحافظ للقاء مع شيخ المدينة محمود الحامد، في خطوة تهدئة لتخفيف الاحتقان الناتج عن هذه المحاكمات والأحداث، وليُعلن بعدها عن عفو شامل عن جميع المحكومين في هذه القضية.

رسمت هذه الأحداث الصادمة بين السلطة والجيش بداية مسيرة مصطفى طلاس السياسية مبكرا، حيث كشفت عن ولائه العميق لطموحاته الشخصية وتطلعاته في الوصول إلى السلطة بأي شكل ولون.

في تلك الأثناء، كانت العلاقة بين طلاس وأمين الحافظ متوترة، فبينما كان طلاس يتحرك تحت إشراف صديقه المقرب حافظ الأسد، الذي كان يتمتع بميول طائفية واضحة، ويسعى لتشبيك الضباط العلويين وتقوية مراكزهم، كان أمين الحافظ، الرئيس السني، يتعامل مع المسألة الطائفية بعدم اهتمام لافت.

وفي عام 1965 كان مصطفى طلاس يسعى بكل قوة لاعتقال كبار الضباط الموالين لأمين الحافظ في منطقة حمص العسكرية المعروفة بالمنطقة الوسطى، وبترتيب وتنسيق مع صلاح جديد وحافظ الأسد.

صلاح جديد، ترأس سوريا لأربع سنوات، وأطاح به انقلاب عسكري عام 1970 قاده رفيقه في الحزب وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد، إثر خلافات بين الاثنين. (مواقع التواصل)

وكما يذكر طلاس في مذكراته "مرآة حياتي"، فقد أصدر أمين الحافظ، بتأييد القيادة القومية لحزب البعث الذي كان على رأسه مؤسِّسه ميشيل عفلق وآخرون، قرارا يقضي بإقصاء طلاس عن قيادة المنطقة الوسطى، ليخسر منصبه العسكري بسبب مشاركته في تسريح عدد من الضباط السنة الموالين للحافظ، بتوجيه من صديقيه حافظ الأسد وصلاح جديد.

إعلان

وعلى إثر هذه الحادثة بدأ الترتيب داخل حزب البعث من الضباط العلويين والدائرين في فلكهم مثل مصطفى طلاس للإطاحة بالمعارضين لنفوذهم المتصاعد، وعلى رأسهم مؤسس الحزب ميشيل عفلق وأمين الحافظ وغيرهم.

وفي النهاية نجح هذا المخطط في 23 فبراير/شباط 1966، حين شهدت الساحة الحزبية ما عُرف بثورة "الشُّباطيين"، حيث قام مجموعة من الضباط العلويين، وعلى رأسهم صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ الأسد، بالإطاحة بأمين الحافظ وكل مؤسسي حزب البعث الأوائل مثل ميشيل عفلق والبيطار، بالإضافة إلى القيادات السياسية كافة.

وعلى إثر ذلك، تولى صلاح جديد منصب نائب الأمين العام لحزب البعث، وظل هذا المنصب مرفوعا رغم تصفية القيادات التقليدية، بينما عُيِّنَ حافظ الأسد وزيرا للدفاع، وبعد نجاح الانقلاب الجديد، وكما وعد الأسد رفيقه طلاس سابقا، فقد عاد إلى منصبه قائدا للمنطقة الوسطى، وهو ما حدث، الأمر الذي جعل طلاس يستوثق من علاقته وولائه لصديقه حافظ الأسد بصورة مطلقة.

الذراع اليمنى لحافظ الأسد

في عام 1967، وقعت الهزيمة المدوية التي عُرفت في تاريخ العرب الحديث بـ"النكسة"، وكان نور الدين الأتاسي يشغل منصب رئيس الجمهورية في سوريا في ذلك الحين، ولم يكن في الحقيقة سوى واجهة سنية ضعيفة تحركها الأيادي العسكرية، في حين كان يوسف زعين يشغل منصب رئيس الوزراء.

أما الحكام الفعليون لسوريا في تلك الفترة فكانوا: صلاح جديد نائب الأمين العام لحزب البعث، وحافظ الأسد وزير الدفاع، وأحمد سويداني رئيس الأركان.

وعقب النكسة، وفي ظل الصراع على السلطة، تصاعدت الخلافات بين الصديقين المقربين لهذا السبب، ونظرا للولاء المطلق الذي أدركه حافظ من صديقه طلاس، فقد عيَّنه في عام 1968 رئيسا لأركان الجيش، وذراعه اليمنى به، خاصة في تلك السنوات التي تصاعد فيها الصراع بين حافظ الأسد وصلاح جديد، وبلغ ذروته في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، عندما حاول صلاح جديد الحصول على قرار من القيادة القومية لإقالة حافظ الأسد ومصطفى طلاس.

إعلان

لكن حافظ الأسد سبقهم، ونزل بدباباته إلى الشوارع، فقام باعتقال صلاح جديد وأعضاء القيادة القومية وكل مَن كانوا موالين له، وعلى رأسهم نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية الضعيف، الذي ظل في السجن حتى وفاته عام 1992، بينما مات صلاح جديد في السجن أيضا في العام التالي 1993.

بعد نجاح ما سمَّاه حافظ الأسد بالحركة التصحيحية، تولى الحكم مباشرة، وكانت تلك المرة الأولى التي يصل فيها رئيس من الطائفة العلوية إلى السلطة في سوريا، وهي طائفة تُشكِّل أقل من 10% من السكان، وأمام هذا الواقع الجديد كان من المتوقع أن يكون مصطفى طلاس بمنزلة الواجهة السنية في التركيبة الحاكمة الجديدة.

وفيما بعد ترقى إلى رتبة عماد، وهي رُتبة خصصت له وتميزت عن باقي الضباط، وأُسندت إليه وزارة الدفاع طوال فترة حكم الأسد، بالإضافة إلى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، إلا أن طلاس بقي في نظر كثير من أهل السنة في سوريا ضابطا ذا قيمة محدودة.

ويتأمل باتريك سيل في كتابه "الأسد، الصراع على الشرق الأوسط" في الحاشية التي كانت تحيط بحافظ الأسد، وكان منهم بالطبع مصطفى طلاس، ورأى أن بقاءهم في مناصبهم لفترات طويلة يرجع إلى "الولاء" والولاء فقط، يقول: "في سنته الأولى جمع الأسد فريقه، فاستخدم رجالا قُدِّر لهم أن يعملوا تحت حكمه خمسة عشر عاما أو تزيد، ومثلما كان الأسد منسجما مع نفسه في مبادئه السياسية، بدا أنه يتردد كثيرا في تغيير الوجوه من حوله، كان من طبعه تقدير الولاء تقديرا عاليا".

كان مصطفى طلاس أحد اللاعبين في صياغة خطط حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 ضد الكيان الصهيوني، حيث كان له دور بارز في التنسيق مع الجانب المصري لإدارة العمليات العسكرية.

ورغم أن الجيش السوري حقق نجاحا مبدئيا بفضل عنصر المفاجأة الذي مَكَّن قواته من الوصول إلى شواطئ طبرية، فإن عجز القيادة العسكرية عن توفير الدعم اللازم للتقدم أو تعزيز الهجوم حال دون استثمار هذا الانتصار، الأمر الذي أدى إلى تراجع القوات السورية وفقدان كل ما أنجزته، بالإضافة إلى نزوح سكان 20 قرية نحو دمشق، لتنتشر الخيام الخاصة بالوافدين على أطراف العاصمة.

رغم تضخيم الذات الذي نراه في السيرة الذاتية التي كتبها طلاس في خمس مجلدات بعنوان "مرآة حياتي"، ومحاولة تصوير نفسه بأنه الرجل الثاني في سوريا طوال ثلاثة عقود، فقد نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ضابط الاستخبارات الفرنسي السابق والخبير في الشؤون السورية، آلان شوييه، قوله: "كان لطلاس دور محدود في وضع الإستراتيجية العسكرية للجيش السوري، حيث كانت القرارات تُتخذ من قِبَل حافظ الأسد والضباط العلويين".

وهو الأمر الذي أكده المؤرخ والدبلوماسي الهولندي نيكولاس فان دام في كتابه "الصراع على السلطة في سوريا"، فإن حافظ الأسد، بعد استيلائه على الحكم في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، اعتمد اعتمادا كبيرا على مجموعة من الضباط الموالين له، الذين تولوا مراكز إستراتيجية حيوية داخل القوات المسلحة.

إعلان

ويلاحظ فان دام أن معظم هؤلاء الضباط كانوا من الطائفة العلوية، بينما وُكلت مناصب عسكرية رفيعة لعدد من الضباط المنتمين إلى طوائف أخرى، لكن دون أن يُشكِّلوا تهديدا فعليا لحكم الأسد، إذ ظل النفوذ الحقيقي في يد الضباط العلويين، الذين كانوا قادرين على إخماد أي محاولة للتمرد.

ولتوضيح هذا النمط، يستشهد فان دام بعدة أمثلة، منها اللواء ناجي جميل، وهو ضابط سني من دير الزور، الذي تولى قيادة سلاح الجو السوري من نوفمبر/تشرين الثاني 1970 حتى مارس/آذار 1978. ورغم منصبه الرفيع، لم يكن قادرا على استخدام سلاح الجو في مواجهة النظام، نظرا لأن القواعد الجوية الرئيسية كانت تحت سيطرة الضباط العلويين.

وينطبق هذا الأمر أيضا على ضباط سُنة آخرين كان على رأسهم اللواء مصطفى طلاس، الذي عُيِّنَ وزيرا للدفاع في مارس/آذار 1972، واللواء يوسف شكور، الذي شغل منصب رئيس الأركان لاحقا، وهو من الطائفة المسيحية (الروم الأرثوذكس).

ويرى باتريك سيل في كتابه السابق أن دور طلاس على رأس الجيش كان منع حدوث أي انقلاب عسكري على حافظ الأسد، ولعب دور في إحداث توازن عسكري وأمني أمام وحدات الجيش وقوات الأمن والمخابرات الأخرى، ولهذا السبب كان مجرد قطعة شطرنج يحركها الأسد وفقا لمصالحه الخاصة.

وسنرى ذلك واضحا في الدور الذي لعبه طلاس في مجزرة حماة عام 1982 بجوار رفعت الأسد وعلي حيدر وغيرهم من الضباط العلويين المتنفذين والمسيطرين على الجيش والقوات الأمنية، فقد كان طلاس مؤمنا بالحلول الأمنية واستخدام القوة والعنف المطلق لكل معارض لحافظ الأسد.

ففي مقابلة نادرة مع صحيفة "دير شبيغل" الألمانية عام 2005، دافع طلاس عن الحملة العسكرية الدموية على حماة، قائلا: "استخدمنا السلاح للوصول إلى السلطة… وأي شخص يريد انتزاعها منا، عليه أن يأخذها بالقوة"، مشيرا إلى أنه خلال تلك الفترة، كان يُنفَّذ نحو 150 حكما بالإعدام أسبوعيا في دمشق وحدها.

إعلان

كان لطلاس دور مهم أيضا في حماية نظام حافظ الأسد أثناء فترة الغيبوبة التي تعرض لها حافظ عام 1984، ففي تلك الفترة، سعى رفعت الأسد، الشقيق والمزهو بقيادته لقوات "سرايا الدفاع" ذات الأربعين ألف مقاتل بأسلحتهم الخفيفة والثقيلة، إلى تعزيز نفوذه والسيطرة على السلطة من خلال إجراء انقلاب أبيض، مستغلا مرض أخيه.

طلاس يورث السلطة لبشار!

في مذكراته الآنفة، يرسم مصطفى طلاس صورة الحامي لحافظ الأسد، والمدافع المخلص له، فتحت عنوان "ثلاثة أسابيع هزت دمشق"، ينقل طلاس عن رفعت الأسد قوله لحافظ الأسد بعد جلسة مصالحة بينهما: "أقسم لك بالله لولا العماد مصطفى طلاس، كل جماعتك في الأركان لا يساوون فرنك… كان الوحيد المستعد للقتال".

وكان لطلاس العديد من المواقف المثيرة للجدل على المستوى الإقليمي، فقد كان يصف الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بالخائن، لأنه في زعمه أراد أن يجنّده لصالحه وقد رفض ذلك، وربما كان من الذين حرضوا حافظ الأسد على إسقاط طائرة السادات حين جاء دمشق ليخبره بعزمه السفر إلى القدس للصلح مع إسرائيل، كما اشتهر عنه سبّه الشهير للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للموقف ذاته.

وبالنظر إلى الفراغ الذي خلّفته سنواته الطويلة في وزارة الدفاع، ولتأكيد استنتاج نيكولاس فان دام وغيره من الباحثين في التاريخ السوري المعاصر بأن طلاس كان مجرد واجه سُنية تُستخدم لاعتبارات حفظ السلطة بيد العلويين، توجّه طلاس إلى مجال التأليف والنشر، فأسس دار نشر حملت اسمه، وأصدر من خلالها العديد من أعماله البارزة، كان من بينها مذكراته الشخصية "مرآة حياتي"، وكتاب "تاريخ الثورة العربية الكبرى"، و"الرسول العربي"، بالإضافة إلى "تأبين نزار قباني"، ولعل أشهر أعماله وأوسعها انتشارا كان كتابه عن "فن الطبخ".

في كتابه "الرواية المفقودة"، يستعرض نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية الأسبق فاروق الشرع وقائع العاشر من يونيو/حزيران عام 2000، حيث زار بيت الرئيس ليجد وفق إيماءة من اللواء آصف شوكت أن "جثمان الرئيس (حافظ الأسد) مسجى في الغرفة المجاورة".

إعلان

وفي هذا السياق، يشير الشرع إلى الدور الذي لعبه مصطفى طلاس في ترتيبات انتقال السلطة، قائلا: "لم يتساءل أيٌّ منا في جلسة حزينة كيف حدثت الوفاة المفاجئة، لكن العماد مصطفى طلاس كسر الصمت، واقترح مباشرة تعديل الدستور كي يتمكن الدكتور بشار من تولي الرئاسة. وتابع بأنّ التعديل المقترح يتطلب إبلاغ رئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة لعقد جلسة طارئة لهذا الغرض".

ومنذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، التزم مصطفى طلاس الصمت حيالها، فلم يعلن موقفا واضحا، ولم يوجّه أي انتقادات لمجازر النظام، مفضلا مغادرة سوريا والاستقرار في فرنسا مع أسرته، وسنجد من بين أبنائه الأكثر شهرة مناف طلاس، الذي كان قائدا للواء 104 في الحرس الجمهوري قبل أن ينشق عن النظام في يوليو/تموز 2012، حيث فرّ إلى تركيا، ومنها توجّه لاحقا إلى فرنسا.

وقد تباينت الروايات بشأن الدوافع الحقيقية لانشقاق مناف، فبينما أشارت بعض المصادر إلى أن قراره جاء احتجاجا على الحملة العسكرية العنيفة ضد مسقط رأسه، بلدة الرستن، رجحت مصادر أخرى أن القطيعة بينه وبين النظام بدأت خلال العملية العسكرية على حي بابا عمرو في حمص، بين فبراير/شباط ومارس/آذار 2012، حين رفض قيادة الوحدة التي شنّت الهجوم على الحي وسيطرت عليه لاحقا.

بعد حياة طويلة قضاها في خدمة آل الأسد، وفي 27 يونيو/حزيران 2017، توفي مصطفى طلاس عن عمر ناهز 85 عاما في مستشفى أفيسين قرب باريس، ليكون إحدى أهم الشخصيات التي لعبت دورا في إرعاب الشعب السوري في العقود الخمسة الأخيرة!

مقالات مشابهة

  • مصطفى طلاس.. قصة وزير دفاع الأسد الذي أرعب السوريين
  • السوداني يعلن قتل الإرهابي عبد الله مكي الذي يشغل منصب والي العراق وسوريا
  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. أنا السجّان الذي عذّبك
  • الإستعانة بالمؤسسات الناشئة لإدماج التكنولوجيا الحديثة في النقل
  • مذكرة تفاهم بين جامعتي كسلا وقونيا التركية في مجال الزراعة الحديثة
  • العاشر من رمضان.. النصر الذي هزم المستحيل
  • الإمارات تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قطارا جنوب غرب باكستان
  • تقرير: مشروع النفق البحري بين المغرب وإسبانيا نقطة تحول في الهندسة الحديثة
  • طلاب علمي يطالبون بزيادة زمن امتحان الرياضيات في جدول الثانوية العامة
  • أين تنشأ عملات البيتكوين؟ السر الذي لم يُكشف بعد