ما لهذه الساحات قاتمة، ما لهذه المآذن خرساء وما لتلك الجامعات خامدة، صمت يخيم على الجنبات، صمت كصمت القبور والمدافن.. ليس إلا الفراغ المدلهم... تلتفت فلا ترى غير السكون.. وما لتلك وما لنا وعلينا، نبدو هكذا وكأننا خشب مسندة... هدوء أرق من الصمت كما قال الشاعر عبد العزيز المقالح.
الصورة تبدو هكذا.. في الغرب تحضر فلسطين بقوة وتتسارع صور المجازر البشعة وبشكل غير مسبوق تتداول التفاصيل الدامية على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الشرق الصور ضبابية خاطفة متداخلة الملامح.
سؤال يقف عالقا في الحلقوم ويبدو الأكثر حدة وحرقة بل وكأنه سؤال وجودي، لماذا يقف العربي صامتاً لا يحرك ساكناً أمام هذا الطوفان من المذابح والمجازر، ماذا نحن فاعلون أمام هذه العسكرة والقوة الصلبة التي لا تبقي ولا تذر، هل نراهن على هذا التحول الفكري إن صح وقلنا ذلك؟ وهل يجدي نفعاً ويوقف الهيمنة الغربية علينا ويحرر لنا فلسطين ويوقف هذه المجازر، هل يكفي هذا التعاطف والتضامن؟ من أين يأتي هذا الخراب؟ لماذا كل ذلك، كيف وصل بنا الحال إلى هذا الوضع؟ لعلنا نقترب من تلك الصورة الباهتة وتفكيك إطارها ليتبين لنا ما تخفية أو هكذا ربما نعيد قراءات ما بين سطور الأشياء.
الحقيقة المرة والبشعة التي نراها ماثلة أمامنا أن الإنسان والعقل العربي تتجلى حقيقته وكأنه تعرض لعملية تخدير وكأن الحمية والشهامة والشجاعة نُزعت منه وتكالبت عليه كل أصناف القهر والتجويع وأصبح عرضه تلاحقه الأزمات من اختناق اقتصادي وتجويع ولهث يومي نحو لقمة العيش، إلى تجهيل تعليمي، وتغييب فكري، نتج عنه مواطن عربي مغربل مغسول دماغه لاهثا خلف المادة والكماليات والاستهلاك المُفرط، والانشغال بالتافه، لا يعنيه شيء مما يدور حوله. صمت المواطن العربي في كل الأرجاء من المحيط إلى الخليج فعمت ظاهرة الصمت.
منطق التعامل مع الآخر يختلف، الغرب بشكل عام يتعامل معنا بوجهين، وجه قبيح لا ملامح له يصدر لنا القتل والدمار والإرهاب، ومعاييره المزدوجة، وغرب آخر مشرق إنساني يتعاطف ويقف معنا، وقد يكون أكثر حدة في النقد والتعامل مع غربه الوقح القبيح. وهذه في الحقيقة نتاج عقود من النضال والثورات والفكر والفهم والديمقراطية.
شيء آخر يمتاز به الغرب أيضاً أن هناك أفقا وفضاءات وقوى أخرى تبرز عندما يتعطل العمل السياسي ويضيق أفق الحوار وتغيب العدالة فيتصدى الطلبة وغيرهم من منظمات المجتمع المدني لتلك القوى الشريرة ويخرجون في مظاهرات عارمة معبرين عن رفضهم لما يحدث وذلك لا يبدو غريباً ولا مختلف، فهو ديدن الغرب.
القوة، نحن لا نملك القوة. على صعيد العلاقات الدولية الهوة تتسع بين الدول العربية ودول العالم الأخرى. منبع ذلك وسره يكمن في القوة. القوة التي نفتقدها أو الغلبة كما وصفها ابن خلدون هي المكمن. العالم لا يعترف إلا بالأقوياء، هذا هو المنطق وهذه هي الحقيقة الساطعة التي لا تحتاج إلى تفسير أو تأويل وكل ما عدا ذلك ليس إلا أوهام وخزعبلات. يتجلى لنا ذلك في كل ما نراه حاليا تنتهك سيادات الدول ويقتل الناس وتدمر ممتلكاتهم ويعاث في الأرض فساداً وجوراً. الأقوياء وحدهم يسيطرون على العالم وهم وحدهم من يقول كلمة الفصل ولا شيء يعلو على القوة. ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة قالها الزعيم جمال عبد الناصر. الدول التي تملك القوة هي من يتحكم ويسيطر وهي من تدفع وتدافع عن مصالحها وتحمي شعوبها وثرواتها من خلال القوة، سواء كانت قوة عسكرية أو اقتصادية أو تكنولوجية، ورغم أن مفهوم القوة بدأ عليه بعض التغير وفقا للتطور حيث تراجعت أهمية البعد العسكري فاسحة المجال لقوى أخرى لا تقل تأثيراً عن القوة العسكرية، فبرزت القوة الناعمة التي أخذت تتجه إلى أحداث بعض التغيرات في العلاقات الدولية. لكن تبقى القوة الصلبة هي السريعة التأثير والحسم، فالدول العظمى والمتقدمة لا تحسم معاركها بالفكر أو السياسة أو المفاوضات أو القوى الناعمة بل تلجأ مباشرة إلى استخدام القوة الصلبة وخصوصًا القوة العسكرية.
أعتقد أزف علينا الوقت نحن العرب ولابد من الوحدة والاتحاد وإعداد القوة لنواجه العالم وإلا ما يحدث في غزة غير مستبعد حدوثة في أرجاء أخرى من الوطن العربي. مستقبلنا لن يكون مشرقاً إلا إذا انتهجنا القوة منهجاً في تعاملنا مع الآخر، وأن نرى العالم ونتعامل معه من خلال نفس الوسائل التي يرانا ويعاملنا بها. لن نكون متفائلين وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نكون متشائمين ونحن نرى البطولات التي تسطرها المقاومة في غزة التي تنبئ بغد مشرق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الغرب
إقرأ أيضاً:
متغيرات السياسات الدولية
يحدث خلط أحيانًا بين مفهوم «السياسة العالمية» ومفهوم «السياسات الدولية»: والحقيقة أنني أرى المفهوم الأول مفهومًا بلا «ما صدقات» (بلغة المنطق)، أي مفهومًا ليس له ما يصدق أو ينطبق عليه في دنيا الواقع، أو هو على الأقل مفهوم غامض وفضفاض. ذلك أن ما يُوجد في الواقع ليس بسياسة عالمية، وإنما سياسات دولية تتعلق بعلاقات الدول بعضها ببعض وبسائر المؤسسات والمنظمات الدولية، وهي سياسات تتأثر بقوة بالأوضاع والمتغيرات السياسية والاقتصادية الراهنة والمتوقع أن تطرأ على العالم مستقبلًا؛ لأن هذه الأوضاع والمتغيرات هي ما يمكن أن يخلق دولًا ونظمًا وتكتلات سياسية واقتصادية تُسهم باستمرار في تشكيل النظام العالمي.
ولذلك فإن هذا النظام العالمي يتغير من حقبة إلى أخرى، وحتى حينما يسود نظام عالمي ما زمنًا طويلًا وبقدر ما من الثبات، نجد أنه تنشأ من داخله متغيرات تعمل على تفكيكه أو -على الأقل- الاستقلال النسبي عنه، وبذلك تتغير العلاقات بين الدول وفقًا لموازين القوة والتأثير، ويصبح هناك تقريب للبعيد وتبعيد للقريب (بشكل نسبي وزماني بطبيعة الحال).
كيف نطبق ذلك على عالمنا الراهن؟ الواقع أن ذلك القول الذي ذكرت ينطبق على عالمنا الراهن بشكل أكثر وضوحًا من انطباقه على أية عوالم تنتمي إلى حقب سابقة؛ لأن الأوضاع في عالمنا تتغير بشكل متسارع أكبر كثيرًا مما كان يحدث في أية حقبة سابقة، وهو تغير يحدث أحيانًا بين ليلة وضحاها.الشواهد على ذلك لا حصر لها، ولكن يكفي هنا التذكير ببعض منها:
لعلنا نتذكر الأوضاع السياسية العالمية التي كانت سائدة منذ ثلاث سنوات حينما اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا. كانت الحرب محسومة منذ البداية لصالح روسيا؛ نظرًا لتفوقها العسكري الكاسح؛ ولكن المتغير العالمي الذي طرأ على السيناريو ليطيل أمد الحرب، هو دخول الغرب بزعامة الولايات المتحدة في المشهد بقوة، وتكريس حلف الناتو ليكون داعمًا لأوكرانيا.
وهكذا بدأت تدق طبول حرب عالمية ثالثة كان يمكن أن تكون مدمرة للعالم؛ خاصةً أن روسيا وحدها تمتلك أكبر قوة نووية بالقياس إلى أية دولة أخرى! ونظرًا لأن هذا الاحتمال بدا مستبعدًا في نظر العقلاء؛ فقد بدا لنا هذا الصراع أشبه بساحة لاستعراض القوة والنفوذ إلى حد التهديد على أرض الواقع، بين قوة غربية مهيمنة، وقوة شرقية مناوئة لهذه الهيمنة بزعامة روسيا ومن ورائها الصين وإيران، وغيرهما.
ولقد سبق أن ذكرت آنذاك في مقال منشور بهذه الجريدة الرصينة أن رئيس أوكرانيا لم يفهم أن الغرب الذي ينفخ في صورته باعتباره بطلًا، إنما يستخدمه باعتباره أداة في هذه الحرب. ولقد أثبتت الأيام صدق نبوءتي بعد أن تحقق متغير عالمي جديد، وهو فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية (وهو في الأصل رجل أعمال كبير جاء ليتعامل مع الأوضاع السياسية بمنطق الربح وحده، وباعتبارها أوضاعًا تتبدل باستمرار كما تتبدل أسواق التجارة والمال): فمنذ ذلك الحين لم يعد الغرب يمثل كتلة واحدة بزعامة الولايات المتحدة، داعمة لأوكرانيا ضد روسيا، بل انشق ترامب عن هذه الكتلة، ورأينا ما رأينا من مشاهد مهينة لرئيس أوكرانيا في البيت الأبيض، لا يبدو فيها باعتباره زعيمًا قوميًّا مثلما كان يتم تصويره قبل ذلك بشهور قليلة، وإنما يبدو في حجمه الحقيقي باعتباره أداة في يد قوى الغرب التي استخدمته بأشكال متنوعة في فترات متباينة.
ذلك التصدع في كتلة الغرب كانت له نتائج بعيدة المدى، فقد بدأت بعض الدول الغربية الكبرى في الدعوة إلى اتخاذ سياسات مستقلة لا تدور في فلك سياسات الولايات المتحدة، ولا تعتمد عليها كقوة عسكرية؛ حتى إن بعضها بدأت في زيادة ميزانيات ترساناتها المسلحة! والحقيقة أن هذا الانشقاق أو الاستقلال النسبي لم يظهر فحسب على خلفية الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وإنما ظهر أيضًا على خلفية الصراع على أرض فلسطين: فقد تكشفت المواقف الرسمية لبعض الدول الأوروبية الداعمة لحقوق الفلسطينيين والمناوئة للموقف الغربي الداعم لإسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين، مثل: إسبانيا والنرويج وأيرلندا.
ومن الشواهد البارزة أيضًا على المتغيرات السياسية في عالمنا ما جرى ولا يزال يجري بعد اندلاع الثورة السورية؛ فقائد هذه الثورة المدعوم من دول على رأسها تركيا، قد أصبح رئيسًا للبلاد وممثلًا لها في المحافل السياسية والعلاقات الدولية، بعد أن كان مصنفًا على قوائم الإرهاب لدى الولايات المتحدة! وهذا تغير بالغ الدلالة في مواقف الدول الغربية، وهو تغير محكوم بمصالح وحسابات الغرب المعقدة في منطقة الشرق الأوسط؛ وتلك مسائل دقيقة يستطيع أن يخوض فيها أهل الاختصاص. والواقع أن الوضع في سوريا بالغ التعقيد، وربما يكون على المحك.
هذه المتغيرات السياسية الدائمة تشهد بأن السياسة بالفعل هي فن الممكن، أي فن إدارة الأمور وفقًا للممكنات والمتغيرات. والغالب على الأوضاع السياسية العالمية الراهنة هو حالة أسميها «حالة الخلخلة أو الرجرجة» إن جاز استخدام هذا التعبير، وهي حال تشبه المخاض الذي يسبق ولادة نظام عالمي جديد تتوازن فيه القوى على الأرض، وبذلك يتحقق الاستقرار النسبي للأوضاع العالمية.
ولذلك فإنها أيضًا حالة تشبه البراكين والزلازل التي يعقبها استقرار الأرض إلى حين. (وقد يكون تصويري هنا ضاربًا في الخيال أو تعبيرًا عن رؤية ميتافيزيقية للسياسة). والحقيقة أن هذا هو المعنى الميتافيزيقي البعيد الذي أفهمه من قوله تعالى: «ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض، لهُدِّمت صوامع وبيَع وصلوات ومساجد يُذكَر فيها اسم الله كثيرًا».