البوابة نيوز:
2025-04-27@05:38:44 GMT

المسئولية الأخلاقية للعالِم

تاريخ النشر: 26th, May 2024 GMT

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

العلم قوة هائلة يمكن توظيفها لخدمة البشر، كما يمكن - وبالقدر نفسه - توجيهها لتدمير العالَم والإنسان، تمامًا كعود الثقاب؛ فى وسعنا أن نضىء به شمعة تنير لنا الطريق، وفى مقدورنا أن نشعل به حريقًا يدمر حياتنا. العلم إذن ليس خيرًا أو شرًا فى ذاته. ومن هنا فهو أحوج ما يكون إلى قيم إنسانية رفيعة تقوده نحو خير الإنسان ورفاهيته.

ففى غياب قيم إنسانية رفيعة يندثر الإنسان والأفكار والعلم جميعًا.
من هنا تثار مشكلة «مسئولية العالِم» فى العصر الحاضر. ذلك لأن العالِم كان، تقليديًا، يقوم بالبحث النظرى أو التطبيقى وليس فى ذهنه إلا هدف واحد، هو إنجاز ما بدا له. ولكن الوعى المتزايد بالنتائج الأخلاقية والاجتماعية التى يمكن أن تترتب على كثير من الكشوف العلمية فى هذا العصر، جعل من الضرورى أن تضاف إلى أعباء العالِم مهمة أخرى، هى أن «يفكر» فى تلك النتائج قبل وأثناء قيامه ببحثه، وربما أن يمتنع أصلًا عن مواصلة البحث إذا أيقن بأن نتائجه ستكون وخيمة.
ولقد تفاوتت الآراء حول مشكلة «مسئولية العالِم»، فهناك من يضيقون تلك المسئولية إلى الحد الأدنى، فيرون أنها تقف عند حدود معمله أو مختبره، وأن العالِم لا شأن له بما يحدث خارج هذه الحدود. وهناك من يوسعون هذه المسئولية إلى أقصى حد، فيؤكدون أنها تمتد فى عصرنا الحاضر إلى المجتمع بأسره. ولكل من الفريقين، وكذلك لمن يقفون موقفًا وسطًا بينهما، حججه التى يدعم بها موقفه. ومن الواضح أننا ميالون إلى تأكيد مسئولية العالِم، وأننا نصفق بحماسة حين نجد عالِمًا كبيرًا يخرج من إطار عمله العلمى الخالص لكى ينبه الرأى العام إلى خطر يوشك أن يحدثه العلم، أو حماقة تنزلق إليها البشرية نتيجة للتقدم التكنولوجي. ولكن المسألة ليست دائمًا بهذه البساطة.
توجد حالات لا يستطيع المرء أن يكون فيها على يقين من أن تدخل العلماء فى اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمصير المجتمع، لا بد أن يكون خيرًا على الدوام. وهناك دول تولى علماءها وخبراءها ثقة زائدة، وتوكل إليهم أمورها. فالولايات المتحدة الامريكية مثلًا كانت أول دولة استحدثت وظيفة مستشار علمى للرئيس، كما أنها تقوم بتعيين ملحق علمى للعديد من المهام الدبلوماسية حول العالَم، فضلًا عن لجنة المستشارين الخاصة بالرئيس والتى تضم نخبة من كبار العلماء فى كافة التخصصات من داخل الحكومة وخارجها. ومن الملاحظ أن الغالبية العظمى من دول العالم أصبحت تحذو حذو الولايات المتحدة فى هذا الشأن. 
ويمكن تعريف «السياسة» بأنها كافة الجهود المبذولة التى تستهدف المشاركة فى السلطة أو التأثير فى توزيعها. وهكذا؛ فإن «السياسي» هو كل إنسان يمارس العمل العام سعيًا للوصول إلى السلطة، إما لأنه ينظر إليها بوصفها وسيلة لخدمة أهداف أخرى مثالية أو أنانية، أو لأنه يريدها لذاتها على سبيل الاستمتاع. أما «الدولة» فمن الممكن النظر إليها بوصفها صاحبة الحق الحصرى والمشروع فى ممارسة السيطرة على بقعة معينة، والذى يقوم بذلك، سواء أكان فردًا أم جماعة هو السياسي. ومن هنا فإن محاولات السياسيين لإرغام العلماء من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، هى محاولات لا تنقطع. وليس أدل على ذلك من التسابق العلمى خلال الحرب العالمية الثانية لإنتاج القنبلة الذرية. 
رغم أن البعض يرى أن الاشتغال بالسياسة، يتعارض مع نزاهة رجل العلم، ويستنزف جهدًا ينبغى أن ينصرف إلى ممارسة عمله العلمي. فإننا نتفق مع الدكتور فؤاد زكريا فى أنه من الأفضل أن يكون العالِم – بجانب عمله العلمى - ذا وعى سياسى فى الوقت نفسه. وهذا أمر يتحقق بالفعل لدى عدد من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا هذا، والذين لم يمنعهم عملهم العلمى الشاق، وانهماكهم فى كشوفهم الحاسمة، من أن يمتدوا بنظرتهم بحيث تتسع لمشاكل العالَم الكبرى، وتدرك وضع الإنسان فى المجتمع المعاصر، وتنفذ إلى الأسباب العميقة للأزمات التى يعانيها، وإلى الحلول الفعالة لهذه الأزمات. ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة، والغالبية الساحقة تنشغل بعملها العلمى إلى الحد الذى يحجب عنها رؤية كثير من حقائق العالم المحيط به. ومن الصعب أن يعيب المرء على هذه الغالبية قصور نظرتها فى الأمور المتعلقة بالسياسة والأوضاع الاجتماعية ومشكلات الإنسان، إذ إن العمل العلمى يزداد تعقيدًا على الدوام، ومن الطبيعى أن يكون فى المشكلات المهنية الخاصة ما يشغل العالِم بما فيه الكفاية. ومع ذلك كله؛ فإن العالِم فى عصرنا الحاضر ينبغى أن يكون لديه حد أدنى من الوعى بالنتائج المترتبة على عمله العلمي، وهذا يرجع إلى أن طبيعة العلم ذاتها قد أصبحت تقتضى ذلك. فحين تتغير وظيفة العلم، من نشاط لا يؤثر إلا تأثيرًا محدودًا، إلى نشاط مصيرى يمتد تأثيره إلى كافة جوانب الحياة البشرية، يكون من الطبيعى أن تتغير نظرة المشتغل به، من الإطار المهنى الضيق، إلى الميدان الإنسانى الشامل. (د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، عالم المعرفة، العدد الثالث، الكويت، ١٩٧٨، ص ٣٠٨).
يبقى من الثابت أن توجيه العلم نحو خدمة الأغراض العسكرية وبالصورة الصريحة والمباشرة التى يتسم بها هذا الوضع خلال المرحلة المعاصرة، لم يعد يترك أى مجال للحديث عن حياد العلم واستقلاله عما يدور فى ساحة الصراعات الإيديولوجية. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأنه مهما أمعن رجال العلم فى تأكيد حرصهم على تحصين أبحاثهم من شبهة التأثر بمدخلات الخيار الإيديولوجي؛ فإن هذا الخيار أصبح يفرض نفسه كإطار يحدد للبحث العلمى سقف إمكاناته وسلم أولوياته، وهو ما يمكن تتبع تجلياته الملموسة من خلال رصد الترابطات الوثيقة التى أصبحت تنظم العلاقة بين التجمعات العلمية وبين أجهزة ومؤسسات السلطة السياسية.
د. حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس.
 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: خدمة البشر حسين علي العال م أن یکون

إقرأ أيضاً:

ماذا يكون بعد أن حكم القضاء في تونس؟

لن يكون شيء، فاذهب أيها القارئ العابر إلى مقال آخر قد تجد فائدة، فهذا الموقع غني بالأقلام الجادة. تونس لم تعد مصدرا لأي حدث جميل، عجبا أهذه تونس نبع الربيع العربي ومصدر الإلهام الديمقراطي؟ نعم، لقد وصلت تونس إلى حالة من عدم التأثير في ما حولها، بل هي تأكل نفسها مثل نار نفد حطبها. ذلك الحلم الجميل أغلق، لكن لماذا تطرح السؤال في العنوان؟ إن ذلك العنوان هو الجملة التي يطرحها على نفسه كل تونسي حمل ذلك الحلم ثم رآه يتلاشى، وقد يصل الأمر ببعض الناس إلى السير في الشوارع يكلمون أنفسهم كالزومبي. من أوصل البلد إلى هذه الحالة؟ وكيف يمكن أن يخرج مما هو فيه من بؤس سياسي؟

تحميل المسؤوليات

الجميع يبرئ نفسه ويتهم الآخرين، هذه رياضة وطنية في تونس.. الآخرون هم السبب. من هنا بدأت الأزمة التي توجتها الأحكام الجائرة في حق النخبة السياسية باختلاف الأسماء والتوجهات السياسية. انقسم الشارع الافتراضي الذي لا يزال مفتوحا؛ إلى مواقف متضادة يمكن تلخيصها في ما يلي:

- موقف الشامتين في المحكوم عليهم، يكتبه وينشره قوم من المعارضة يعيشون خيبة أمل كبيرة في النخب، ويرون أن المحكومين كانوا سببا في ما حصل وليسوا أبرياء مما أصابهم. فقد ساهموا بدرجات في ترذيل الوضع السياسي قبل الانقلاب ولم يبنوا عملهم السياسي ضمن مشروع ديمقراطي جامع، بل تحركوا بمنطق التكايد السياسي خاصة ضد حزب النهضة منذ الثورة، بل كان بعضهم مساندا ومبررا للانقلاب حتى انقلب على الجميع. وهذا الموقف ينتهي عند الشماتة المُرة ولا يبلغ مبلغ التفكير في ما بعدها، وغالبا يختم قوله بجملة محبطة "خليها تخرب على الجميع". هذا الموقف هو قمة اليأس السياسي وهو موقف واسع، ويضم كل مساكين حزب النهضة وكثير من الحالمين الذين أعادت لهم الثورة أرواحهم بعد موات وخيبت النخب آمالهم.

- موقف الحائرين الذين لا يختلفون في تحليل الوضع عن الشامتين، لكنهم يبحثون عن حل فيه ربع أمل في أن تتحول الأحكام الجائرة إلى محرض على اجتماع سياسي يمهد لوضع بديل. وهذا ما يُسمع في صفوف جبهة الخلاص أو ما تبقى منها يقف في الشارع وقفات خجولة ومترددة أو غير مؤمنة إيمانا كاملا بالمستقبل، ولكنها تقترب من رفع العتب ولا تنتج خطة فعالة للتجميع.

- موقف المتشفين من المحكوم عليهم، وهذا موقف أنصار النظام ويضم فصائل يسارية وقومية يرون في ما يجري فتح طريق لتملك السلطة زمنا طويلا ويرون في المرحلة مرحلة تنظيف. وهم غير مهتمين بالسؤال: ماذا بعد؟ فما يجري هو خطتهم، فهم السلطة. وتصدر عن هذا الموقف تهديدات بالسحل لمن يشكك في القضاء الشامخ.

وينتشر حول هذه المواقف خطاب التخلي الشامل عن كل طموح. ففئة واسعة من التونسيين ودّعت أحلامها وقالت ننتظر حكم الطبيعة، فالطبيعة لا تنسى مهماتها. ويعقبون حتى بعد حكم الطبيعة: سنجد أنفسنا في نفس الوضع القديم، فالنخب لم تقرأ درس الديمقراطية عند معلم جاد.

ألا يوجد حل؟

بلى يوجد لكنه حل روائي لنقل يوجد حل مثالي، يقوم على مراجعات جادة من قبل الجميع باستثناء المتشفين من أنصار السلطة، لكن هذه الرواية تقوم على شجاعة استثنائية لذلك فهي غير واقعية.

تحديد قائمة الأخطاء في حق المسار الديمقراطي الذي راكم تراثا لم يندثر من النفوس ومن الورق، فهناك دستور يمكن البدء منه. لم يكن "دستور الخوانجية" بل دستورا تونسيا بُذل فيه جهد واجتهاد كبير. هذه خطوة مؤسسة ومنها يستعاد العمل السياسي الجماعي بهدف واضح اسمه استعادة الديمقراطية.

هناك باب للعمل الفعلي (الميداني)، أن تؤجل الأسئلة المتعلقة بمن أخطأ أكثر من الآخرين في حق المسار، وهذا يعني أن يوقف نزيف الاتهامات بين فرقاء كثر. فكثير من الأخطاء سيردمها الفعل البنّاء إذا انطلق، وسيكون من العيب العودة إليها إذا فتح صندوق الانتخابات. فالمحاسبات تتم في وضع ديمقراطي، حينها يكون لها تأثير إيجابي، أما الآن فهي مواصلة لعملية التخريب التي تصب في مصلحة الانقلاب. من سيتجاوز أولا إلى مبدأ العمل الجماعي؟ بعد أسبوع من صدور الأحكام لم نسمع من يقول بالتجاوز وبدء العمل من الصفر.

هنا تظهر مهمة أخرى نضالية بامتياز، قطع الأمل من وصول نجدة خارجية متعاطفة مع الديمقراطية في تونس، هذه النجدة لن تأتي أبدا. "حك جلدك بظفرك"، هذا عنوان رئيسي في كل جهد قادم للخروج من الوضع البائس. لقد تخلى العالم (الديمقراطي) عن تونس، والحقيقة أنه لم يكن أبدا مع الديمقراطية في تونس أو في غيرها. فالتونسيون الذين لهم عقول يذكرون جيدا وزيرة خارجية فرنسا تعرض المساعدة العسكرية على نظام بن علي حتى الدقيقة الأخيرة قبل ركوبه الطائرة هاربا.

التونسيون عاشوا حرب الطوفان ورأوا الغرب (المُنْجِد) يدمر شعبا في غزة ويجد اللغة الكافية لتبرير فعله. وإذا صحت الأخبار عن بدء حملة دولية لتدمير الحواضن الشعبية العربية للمقاومة، فإن مرحلة جديدة من التدمير السياسي توشك أن تحل على الرؤوس. وعندنا علم بتونسيين تحسسوا الموقف الأمريكي من الانقلاب منذ عهد بايدن، فقيل لهم "حلوا مشاكلكم بأنفسكم، اللي فينا مكفينا".

لنختم بشيء من الفلسفة، فالرواية الرومانسية لن تكون غدا أو بعد عام. من الفلسفة أن نقول كان هذا الانقلاب ضروريا، فهو تمحيص وغربلة وقد صفى وغربل ونخل وقدم صورة شاملة عن النخبة السياسية التونسية، فأسقط أنصاف الزعماء وكل الأدعياء ووضح الطريق لمن يؤمن بالعمل الجماعي لبناء الديمقراطية، وقد صورناه ونواصل رؤيته على المدى البعيد حريق الغابة الذي سيمهد لنبت جديد. وهذا ليس من الشماتة ولا تشفيا في المساجين، ومن يدري فقد يولد منهم في سجونهم مؤمنون بالديمقراطية ويؤسسون من هناك لخطاب جامع.

لنغلق بمشهد تمثيلي؛ أن ينصب من تبقي معارضا للانقلاب خيمته أمام السجن ويقول "اسجنونا معهم أو نعود بهم نحو المستقبل"، ساعتها سيبدأ ربيع عربي ثان من تونس.

مقالات مشابهة

  • الضرائب: اعفاء تام للممولين غير المسجلين قبل هذا الموعد
  • ثورة الزمن الكمومي.. هل يمكن للمستقبل أن يغيِّر الحاضر؟
  • فتح: قرار السلم والحرب يجب ان يكون بيد منظمة التحرير
  • هل يمكن للفول السوداني علاج حساسية الفول السوداني؟
  • منظمات دولية تحذر: أمراض يمكن الوقاية منها تهدد الملايين
  • ماذا يكون بعد أن حكم القضاء في تونس؟
  • إحمد ربنا.. رضا عبد العال يهاجم عبد الله السعيد
  • عيد تحرير سيناء|قصة نصر لا تنتهى.. 25 أبريل.. يوم رفرف فيه العلم على الأرض الطاهرة.. ملحمة شعب وجيش لا تنتهي
  • عاجل. ترامب: عدم السيطرة على كامل أراضي أوكرانيا هو التنازل الذي يمكن أن تقدم
  • محظورات على مقدم الخدمة بمشروع قانون المسئولية الطبية وسلامة المريض (تعرف عليها)