د. عبدالله باحجاج

ينبغي التسليم بأنَّ الحقبة الزمنية الراهنة هي حقبة الصيرورات/ التحولات التاريخية الكبرى ليس على الصعيد العالمي فحسب، وإنما على صعيد كل دولة؛ بل والأفراد والجماعات كذلك، ومن لم يُسلِّم بذلك، ويتعامل معه بتفكير مُختلف عن المسير الاعتيادي، سيجد ذاته في توترات مُقبلة لا محالة، لذلك فالكل مطالب بالتناغم مع منطق التغييرات الدراماتيكية التي نشهدها منذ السابع من أكتوبر 2023 بعد عملية "طوفان الأقصى" التي هي فوق العقل المجرد، وكل من يُتيح لنفسه التفكير فيها بعمق من المُؤكد سيقوده إلى سلوكيات وأفعال راديكالية هي أقرب للثورية من حيث النتائج، وكل من لا يفعله، فلن يستشرف مستقبله.

ونستدلُ على الصعيد العالمي باستدلالات عقلانية من وزن ردة الفعل على نتائج الصيرورات، وهنا لن نتوقف عند الاعتراف المنسق بين إسبانيا وأيرلندا والنرويج بدولة فلسطين حرة الذي سيدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من يوم الثلاثاء، رغم أنَّ الاعتراف يمثل صيرورة من الوزن التاريخي الثقيل، وإنما سنُركِّز على ما وراء هذا الحدث من قناعات سياسية إسبانية مجمع عليها صادمة للفكر العالمي عامة والأوروبي خاصة.

نحن نوثِّق هنا للتاريخ عامة، وللذاكرة الإسلامية والعربية استفراد مدريد أكثر من غيرها، ولن نجد مثيلها عربيًا أو إسلاميًا في الوقوف الشُجاع والحُر مع غزة وهي تُبادر، ومع مستقبل القضية الفلسطينية التي يُراد لها الطمس من القريب والبعيد، فآخر مواقف إسبابنا العظيمة والمشرفة، عندما وصفت وزيرة الدفاع الإسبانية مارجاريتا روبليس الحرب في غزة بأنها "إبادة جماعية حقيقية"، بعد أن قالت يولاندا دياز نائبة رئيس وزراء إسبانيا بعد الاعتراف الإسباني الإيرلندي النرويجي: "لا يمكننا التوقف عند هذا الحد، فلسطين ستكون حرة من النهر إلى البحر"، وهذا شعار يُشير إلى الحدود الفلسطينية في فترة الانتداب البريطاني والتي امتدت من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط قبل قيام الكيان المحتل عام 1948.

بينما صدر من بيدرو سانشيز رئيس الوزراء الإسباني موقف له مغزى استشرافي عميق، يعكس التفكير الإسباني المختلف تمامًا عن محيطه الأوروبي مما يجري في غزة، ومستقبل انعكاساته على أوروبا، كما يُقرِّبُنا كثيرًا من الرهانات السياسية الإسبانية على تحقيق الدولة الفلسطينية الحرة والحتمية، نرصد ذلك في موقفه الموجه لشركاء مدريد في الاتحاد الأوروبي قائلاً لهم: "الاعتراف بفلسطين ضمانة لأمن الجميع في المنطقة". وهنا حسابات العقلاء للمستقبل القريب، وهي تعني استشراف حتمية بزوغ الدولة الفلسطينية الحرة بعد الأعداد الكبيرة من الشهداء والإصابات ونوعية القتل وأحجام التدمير التي وراؤها عنف لن يُمكِّن من عودة الهدوء ولو مؤقتًا إلى ما قبل السابع من أكتوبر الماضي؛ فكلها معطيات تنتج الاستقلال والحرية لا محالة.

وكل من تابع مظاهرات الأمريكيين من أصول إيرلندية- قبل اعتراف إيرلندا المنسق مع إسبانيا والنرويج بدولة فلسطينية حرة- كانوا يقارنون الاستعمار الصهيوني وجرائمه في غزة بالمُستعمر البريطاني لبلدهم، فمثلًا، قارنوا استخدام الصهاينة في غزة سياسة التجويع، مثلما استخدمها البريطانيون في أيرلندا أثناء "الجوع العظيم". وتذكر بعض التحليلات أن تعاطف الإيرلنديين مع فلسطين المحتلة قد يكلف الرئيس الأمريكي جو بايدن خسارة أصواتهم، وكانت مظاهرات الأمريكيين من أصول إيرلندية في ولايات أمريكية، يد تلوح بالعلم الفلسطيني والأخرى بالعلم الأيرلندي، وتطالب بايدن بالرحيل. ويمثل الأمريكيون من أصول أيرلندية نحو 10% من السكان.

وهناك أيضًا استشراف آخر وراء دعوة سانشيز للاتحاد الأوروبي، الاعتراف بالدولة الفلسطينية الحرة، وهو أن هناك 147 من أصل 193 دولة تعترف بفلسطين، فكم بقي من دول لم تعترف بها؟ مما يعني أن الوقت ليس في صالح دول الاتحاد الأوروبي، ومن ثم عليها الإسراع في الاعتراف. وكلما تعمقنا في تحليل موقف سانشيز، نجد فيه المزيد من الأعماق لصالح أوروبا، فعدم اتخاذها موقفًا استدراكيًا الآن لصالح القضية الفلسطينية، سيقودها إلى دفع ثمنه آجلًا أم عاجلًا، وهذا الأخير هو أكثر الاحتمالات؛ فهناك دول رئيسية مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، آياديها مُلطخة بدماء الشهداء، ومُتورِّطة في التدمير والتجويع والتهجير، ولن يُغفَر لها تاريخيًا.

وكأن سانشيز يقول لهم، لن تُنظَّف آياديكم من هذه الدماء، إلّا بالإسراع من الآن لسبق الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فهل وصلت هذه الرسالة إليهم؟! صمت دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا حتى الآن قد نتلمس منه اختراق عقلانية سانشيز، والوقت ليس في صالحهم إذا ما طال أمد صمتهم، وواصل الصهاينة مجازرهم الجماعية في غزة بتشجيع منهم. هنا تظهر مدريد صوتًا للعقلانية داخل الاتحاد الأوروبي، لكنها في الوقت نفسه ترفع السقف السياسي للحق الفلسطيني التاريخي بصوت عالٍ في مرحلة الإبادة الجماعية الوحشية التي ينفذها الصهاينة بكل إجرام.

ويتماهى موقف مدريد مع أعلى مطالب الشعوب العربية والإسلامية بما فيها الفلسطيني، فأنظمتها أُكرهت على التطبيع بمختلف الضغوط.. وإسبانيا هذه الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي تعيد الآن كتابة التاريخ من جديد بوعي صيرورة طوفان الأقصى واستشرافات نتائجه الحتمية، وذلك من منطلق صيرورات حروب الاستقلال، فمن يسقط له 35 ألفًا و709 شهداء و79 ألفا و990 إصابة منذ أكتوبر 2023 حتى قبل أربعة أيام، وشلالات الدماء لا تزال مستمرة بصورة جماعية، فلن تكون نتيجتها سوى دولة حُرّة لا محالة.. ويُسجل لمدريد سبق استشراف حدودها السياسية من النهر إلى البحر، وبزوال الكيان المحتل.

ومدريد قولًا وفعلًا معًا، فقد تعهد بيدرو سانشيز في خطاب تنصيبه بعد توليه ولاية جديدة مدتها أربع سنوات بالاعتراف بالدولة الفلسطينية الحرة، كما رفضت مدريد السماح للسفن التي تحمل أسلحة لإسرائيل الرسو في موانئها، وآخرها السفينة "ماريان دانيكا" التي تحمل شحنة أسلحة إلى إسرائيل قادمة من الهند، وعلى متنها نحو 27 طنًا من المواد المتفجرة!!

إذن، من هي إسبانبا؟ وكيف تبدو عربية وإسلامية أكثر وأعظم ممن يحمل الصفتين الآن؟ ربما يكون أصلها إسلامية عربية، وكل من يزورها- كما يُقال- لا يشعر بعظمة التراث الإسلامي العربي إلّا فيها.. وهذا مفتاح للإجابة على التساؤل سالف الذكر!

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

كتابة الأموال للبنات.. بين الضوابط الشرعية والتحايل على المواريث

قال الدكتور عباس شومان عضو هيئة كبار العلماء أن المال يمثل ركيزة أساسية في حياة الإنسان، وقد ألقى الله حبه في قلب البشر، كما أوضح القرآن الكريم في قوله تعالى:
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46).

ورغم امتلاك الإنسان حق التصرف في ماله خلال حياته، إلا أن هذا الحق ليس مطلقًا، بل تقيده ضوابط الشريعة الإسلامية التي تحرم الإسراف والتبذير واستخدام المال في المحرمات.

 كما أن توزيع المال بعد وفاة صاحبه يخضع لنظام المواريث الإسلامي، الذي قسم الأنصبة بدقة، وفقًا لنصوص قطعية الثبوت والدلالة.

 

ضوابط التصرف في المال أثناء الحياة

أجاز الشرع للإنسان أن يتصرف في ماله بما يراه مناسبًا، مع الالتزام بالضوابط الشرعية، ومنها:

تجنب الإسراف والتبذير.الابتعاد عن المحرمات في الإنفاق.عدم التصرف بما يؤثر على حقوق الورثة بعد الوفاة.

وقد خصص الشرع الوصية لثلث التركة، شريطة ألا تكون لوارث، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". (رواه الترمذي).

التحايل على المواريث: قضية شائكة

مع وضوح نصوص الشريعة، يلجأ بعض الناس إلى التحايل لتغيير أنصبة الورثة، من خلال كتابة عقود بيع أو هبة لبعض الورثة أثناء الحياة.

 ويزداد هذا السلوك عندما تكون ذرية المورِّث بنات فقط، بحجة الخوف عليهن من إخوانهن أو أعمامهن.

ورغم ادعاء البعض أن الإنسان يملك حرية التصرف في ماله أثناء حياته، فإن هذا التصرف مشروط بعدم مخالفة ضوابط الشرع. 

ويُستدل على ذلك بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أكل ولدك نحلت مثله؟" قال: لا، قال: "فارجعه". (رواه البخاري).

بطلان الحجة بجواز الهبة للبنات

تبرير الهبة للبنات بالخوف عليهن من الورثة مردود عليه، حيث إن نصيب البنات في حال عدم وجود الذكور واضح ومحفوظ شرعًا. فالشرع يمنحهن الثلثين من التركة، وهو نصيب كبير لا ينازعهن فيه أحد.

كما أن الفقهاء منعوا التصرفات المالية التي تهدف للإضرار بالورثة، مثل طلاق المرأة أثناء مرض الموت لإبعادها عن الميراث، مما يدل على بطلان هذه التصرفات حتى لو تمت في حياة المورِّث.

خطورة هذه الفتاوى

الفتاوى التي تبيح كتابة الأموال للبنات، أو غيرهن من الورثة دون وجه حق، تعد تحايلاً على شرع الله، وتتجاهل النصوص القطعية التي بينت المواريث. وقد قال تعالى:
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} (الفجر: 19).

دعوة للالتزام بشرع الله

ختامًا، يجب أن يتقي المسلمون الله في أموالهم، وألا ينجرفوا وراء أهوائهم أو فتاوى تزين لهم التحايل على شرع الله. فالمواريث نظام إلهي حكيم يحقق العدل بين الورثة، ويمنع الظلم.

مقالات مشابهة

  • مرموش: لا أريد أن أكون نسخة مكررة من صلاح.. أرغب في كتابة قصة جديدة لنفسي
  • كتابة الأموال للبنات.. بين الضوابط الشرعية والتحايل على المواريث
  • لافروف: من الممكن تنظيم لقاء بين بوتين وترامب اذا توفرت الإرادة السياسية
  • حصري: الاتحاد الأوروبي يدرس رفع العقوبات عن سوريا في قطاعات النفط والمصارف والنقل
  • حماس: طوفان الأقصى سيظل منعطفًا في تاريخ القضية الفلسطينية وقطاع غزة يمرّ بمرحلة جديدة
  • خبير: القضية الفلسطينية في وجدان الشعب المصري وعقل القيادة السياسية دائما
  • بعد منحه جائزة الاستحقاق الفلسطينية.. الكحلاوي: أشكر الرئيس محمود عباس
  • القضية الفلسطينية على رأس أولويات القيادة السياسية.. القاهرة أفشلت مخطط إسرائيل
  • رئيس وزراء فلسطين: نرفض الفصل بين غزة والضفة ولن يحكمها غير السلطة الفلسطينية
  • هل تنجح إسبانيا في كبح شهية الأجانب العقارية لحل أزمة الإسكان عبر رفع الضريبة 100%؟