تشكل الانتخابات البرلمانية التي ستجرَى في جمهورية جنوب أفريقيا يوم 29 مايو/أيار الجاري، أكبر تحدٍ في تاريخ حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، حيث تشير معظم استطلاعات الرأي إلى أنّ حزب المؤتمر ربما يفقد الأغلبية البرلمانية التي ظلّ يحظى بها منذ أول انتخابات ديمقراطية تعددية في البلاد في عام 1994.

ربما نتساءل: ما هي أهمية الانتخابات البرلمانية؟، والجواب هو أن نظام الحكم في جمهورية جنوب أفريقيا برلماني، وعليه فإن الحزب الذي يحظى بالأغلبية البرلمانية سينتخب رئيسه رئيسًا للجمهورية، وهذا يعني أيضًا أن فقدان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي للأغلبية البرلمانية، سيجعل من العسير عليه تصعيد رئيس الحزب الحالي سيريل رامافوزا رئيسًا للجمهورية لدورة ثانية.

ما هي حظوظ حزب المؤتمر الأفريقي، ولماذا تراجع رصيده الشعبي بعد أن ظلّ ثلاثين عامًا الحزب الأول في البلاد، ما هي الأسباب، ومَن هم المنافسون؟

يشكل العام 1994 تاريخًا مهمًا لجمهورية جنوب أفريقيا، فهو العام الذي خرجت فيه البلاد رسميًا من المرحلة الكالحة في تاريخها، وانتصرت فيها إرادة الأمة التي ناضلت لعقود ضد التمييز العنصري الذي فرضته الأقلّية البيضاء بحدّ السيف. في هذا العام نُظمت أول انتخابات ديمقراطية تعددية في البلاد أوصلت القائد الحكيم والتاريخي نيلسون مانديلا إلى سدّة الحكم.

ولئن كانت مسيرة النضال الطويلة من أجل الحرية قد خاضها شعب جنوب أفريقيا كله، فقد كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو حادي هذا الركب، وكان المخطط والقائد لحركة النضال والمواجهة السياسية والعسكرية ضد الأقلية البيضاء الحاكمة حينها، وكان قادته أكثر من تعرّض لبطش نظام الفصل العنصري وخاض الحزب ملحمة سطرها التاريخ الأفريقي، بل والإنساني كله بمداد من نور.

حزب المؤتمر الوطني الأفريقي حزب قديم وعريق، تأسس في العام 1912، من أجل الدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء ضد سيطرة الأقلية البيضاء، ويعتبر بذلك أقدم حركة تحررية في القارة الأفريقية. تعرض الحزب طوال تاريخه الحافل للتضييق والحلّ، كما تعرّض قادته للسجن والتعذيب والتنكيل. ولكن الحزب ظل دومًا في الطليعة في قيادة الجماهير، ومواجهة سياسة الفصل العنصري في البلاد.

في العام 1960 تحوّل حزب المؤتمر الأفريقي إلى حركة مقاومة شاملة، وأنشأ جناحًا عسكريًا أطلق عليه اسم رُمح الأمة، وسنعود إلى هذا الجناح لاحقًا، وكلف نيلسون مانديلا هذا الجناح العسكري بمهمة المقاومة المسلحة للطغمة البيضاء. ولكن بعد نجاح معركة التحرير واستعادة إرادة الأمة، تحوّل شعار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من المقاومة إلى إعادة الإعمار وبناء الأمة، واختفى جناح المقاومة المسلحة الذي يمثله رمح الأمة.

أصبح المؤتمر الوطني الأفريقي منذ أول انتخابات تعددية، هو الحزب الأكبر والأهم في البلاد، والمتسيّد في الساحة السياسية، وفاز بأغلبية المقاعد في كل الانتخابات البرلمانية التي نظمت طوال السنوات الثلاثين الماضية من عمر جنوب أفريقيا الحرة. ولأن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ظل يتمتع بالأغلبية المطلقة في البرلمان، فقد قدم للبلاد رؤساءها الأربعة الذين حكموا خلال الثلاثين سنة الماضية، وهم على التوالي: نيلسون مانديلا، وثابو أمبيكي، وجاكوب زوما، والرئيس الحالي سيريل رامافوزا.

فاتورة السلطة المكلفة

رغم كل هذا التاريخ الحافل، فإن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يواجه تحديًا حقيقيًا في الانتخابات البرلمانية التي ستجرَى نهاية هذا الشهر، فلأول مرة يواجه الحزب حركة تذمر شعبي واسعة وموجة استياء من أدائه التنفيذي. كما أنه يواجه معارضة داخلية خطيرة يقودها بعض رموز الحزب التاريخية وعلى رأسهم الرئيس السابق جاكوب زوما.

يرى كثير من مؤيدي الحزب أنه لم يحافظ على مبادئ أساسية وضعها القائد نيلسون مانديلا، ومن أهمها إهمال الحزب قضايا الحقوق المدنية، والعدالة المجتمعية، وهي مبادئ ناضل من أجلها شعب جنوب أفريقيا لعقود طويلة وقدم في سبيلها تضحيات جسيمة. كما أن أداء الحزب قد تراجع كثيرًا في مجال إعادة الإعمار وبناء الأمة، وهو الشعار الذي حدّده مانديلا للحزب بعد انتهاء مرحلة المقاومة الشاملة بانتهاء نظام الفصل العنصري.

ومن أكبر الانتقادات التي توجّه للحزب وقادته هي تهم الفساد التي أصبحت تلاحق عددًا من كبار قادة الحزب ومسؤوليه على مستوى المركز والولايات. ويؤخذ على الحزب أيضًا تهاونه في مكافحة الفساد، وتقاعسه عن محاسبة قادته الذين وجهت لهم تهم فساد عديدة.

من جانب آخر يشكو المواطنون من تردي الخدمات الأساسية، ومن أهمها مشكلة الطاقة التي تمثلت في الانقطاعات المزمنة للكهرباء وضعف خدمات المياه، وغلاء المعيشة وتردي التعليم. وفوق كل ذلك، فإن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لم ينجح في اعتماد مقاربة تحد من الفقر المستشري، وترفع مستوى معيشة المواطن، وهي قضايا ملحّة من شأنها أن تقلب الرأي العام ضد أي حزب حاكم مهما كان تاريخه النضالي حافلًا بالبطولات. هذا بالإضافة إلى ضعف جهود مكافحة الجريمة المنظّمة التي ارتفعت بنسبة كبيرة، وأصبحت مهددًا رئيسيًا لسكان المدن الكبرى، وبالذات الجريمة الموجّهة ضد النساء.

كما تعثّرت جهود الحزب وسياساته في مجال محاربة البطالة وسط الشباب، وبالتالي فإن قطاعات واسعة من الشباب أصبحت زاهدة في المشاركة في الحياة السياسية، على عكس آبائهم الذين كانوا مغرمين بالسياسة، ومؤمنين بحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، أكثر من إيمان عجائز الإنجليز بالديمقراطية.

نظرًا لكل هذه الأسباب فقد تراجعت شعبية حزب المؤتمر الوطني الأفريقي كثيرًا، ويشير آخر الاستطلاعات إلى أن شعبية الحزب تراجعت إلى نحو 40% فقط من أصوات الناخبين، مما يهدد مستقبل الحزب السياسي، وربما حرمانه لأول مرة من الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان في الانتخابات المقبلة.

جاكوب زوما يخلط الأوراق

في تطور مقلق جدًا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، أعلن الرئيس السابق للحزب ورئيس الجمهورية السابق جاكوب زوما تمرّده على الحزب الحاكم، وصرّح بأنه سيدعم حزب رمح الأمة الذي أُنشئ حديثًا في العام 2023، تيمّنًا بحركة رمح الأمة المسلحة التي أنشأها نيلسون مانديلا في العام 1960.

فيما يرى البعض أن الحزب الجديد قد نشأ بتوجيه من الرئيس زوما نفسه. ويعتبر تمرد الرئيس جاكوب زوما تطورًا خطيرًا؛ نظرًا للدعم الشعبي الكبير الذي يحظى به بالذات في مسقط رأسه إقليم كوازولو ناتال، ولدوره التاريخي كواحد من أعمدة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، فهو أحد المقربين من نيلسون مانديلا ورافقه في السجن لأكثر من عشر سنوات، وظل في موقع القيادة في الحزب والحكومة حتى استقالته مرغمًا من رئاسة الجمهورية في العام 2018 بتهم الفساد والمحسوبية.

ويبدو أن جاكوب زوما لم ينسَ المؤامرة التي حيكت ضده عندما كان رئيسًا للجمهورية، ولم ينسَ الحكم الذي أصدرته ضده المحكمة بالسجن والذي اعتبره محاكمة سياسية. لقد تطور الصراع بين زوما وحزب المؤتمر بشكل خطير في الأشهر الأخيرة، ووصل إلى المحاكم مرة أخرى. وبالرغم من أن جاكوب زوما لن يخوض الانتخابات، لضرورات العمر، حيث تجاوز الثمانين من عمره، فإنه ما زال قادرًا على الإضرار بحزب المؤتمر، فهو سياسي مكين، وخطيب مفوّه، ومستودع أسرار فيما يخص حزب المؤتمر وتاريخه وحاضره وأسراره المخفية. ولذلك فإن الصراع مع جاكوب زوما هو أكبر تحدٍ يواجه المؤتمر الوطني الأفريقي في انتخابات مايو/أيار القادمة.

في وجه هذه التحديات الجسام، طرح حزب المؤتمر الأفريقي برنامجًا طموحًا يقوم على تعزيز مكتسباته طوال الثلاثين سنة الماضية، ووعد بفتح المجال واسعًا أمام الشباب في قيادة الحزب، والاهتمام بركائز التنمية ومعاش الناس. مؤملًا أن يقنع هذا البرنامج الطموح قواعد الحزب بالتصويت له للحصول على الأغلبية البرلمانية، وإذا لم يفلح في ذلك فليس أمامه من خيار سوى التحالف مع أحد الأحزاب الثلاثة الكبرى التي تخوض الانتخابات، ولن يكون التحالف سهلًا.

وبالنظر إلى مواقف الأحزاب الكبرى، ربما يجد المؤتمر الأفريقي أن أقرب الأحزاب إليه هو حزب التحالف الديمقراطي، وهو الحزب الذي تدعمه الأقلية البيضاء، فإن كان الأمر كذلك، سيصدق على حزب المؤتمر الوطني الأفريقي قول أبي الطيب المتنبي: "ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدوًا له ما من صداقته بدّ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات حزب المؤتمر الوطنی الأفریقی الانتخابات البرلمانیة المؤتمر الأفریقی البرلمانیة التی نیلسون ماندیلا جنوب أفریقیا جاکوب زوما فی البلاد فی العام رئیس ا

إقرأ أيضاً:

دير مار مرقس بجنوب أفريقيا.. منارة روحية ومسيرة شهداء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يواصل دير القديس مار مرقس الرسول والقديس صموئيل المعترف في قلب مدينة جوهانسبرج بجنوب أفريقيا مسيرته الروحية رغم التحديات التي واجهها، أبرزها الهجوم المسلح الذي راح ضحيته القمص تكلا الصموئيلي واثنان من الرهبان في 13 مارس 2024.

 ومع حلول الذكرى السنوية الأولى لهذا الحدث الأليم، تجدد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عهدها بالمضي قدمًا في رسالتها الروحية وخدمة أبناء الإيبارشية هناك.

-الدير هو رسالة إيمان في أرض بعيدة

تأسس الدير عام 2007 على يد الأنبا أنطونيوس مرقس، مطران إيبارشية جنوب أفريقيا، ليكون مركزًا لنشر الإيمان الأرثوذكسي في القارة الأفريقية ، ويعد الدير أحد أهم المراكز الروحية للأقباط في المنطقة، حيث يضم كنيستين، الأولى تحمل اسم القديس مار مرقس الرسول، والثانية باسم السيدة العذراء مريم، كما أنه يشهد على توافد العديد من الرهبان الذين كرسوا حياتهم للخدمة هناك.

-حياة الرهبان في الدير
يعيش الرهبان في الدير وفقًا للتقاليد الرهبانية القبطية، حيث يقضون أوقاتهم في الصلاة، والتأمل، والخدمة ، ويقومون برعاية أبناء الجالية القبطية، إلى جانب تقديم المساعدات الروحية والمادية للمجتمع الأفريقي المحلي. 

ورغم التحديات الأمنية، يواصل الرهبان مسيرتهم بإيمان قوي، مستلهمين روح الإيمان التي تجسدت في حياة القمص تكلا الصموئيلي ورفيقيه.

إيبارشية جنوب أفريقيا ودورها الرعوي.

تعتبر إيبارشية جنوب أفريقيا للأقباط الأرثوذكس إحدى الإيبارشيات البارزة خارج مصر، ويترأسها  الأنبا أنطونيوس مرقس، الذي يقود العمل الكنسي في المنطقة منذ عقود، وتسعى المطرانية إلى توسيع نطاق خدماتها، من خلال إنشاء كنائس جديدة، ورعاية الأسر القبطية، وتعليم الأجيال الجديدة، إلى جانب تقديم خدمات اجتماعية وطبية للمجتمع المحلي.

ومع حلول الذكرى الأولى لرحيل القمص تكلا الصموئيلي والرهبان، تجدد الكنيسة التزامها بمسيرة الإيمان، مؤكدة أن دماء الشهداء لن تكون إلا بذارًا لحياة جديدة، واستمرارًا لنور المسيحية في جنوب أفريقيا.

مقالات مشابهة

  • قمة دافئة بين أوروبا وجنوب أفريقيا في مواجهة خطط ترامب
  • الاتحاد الأوروبي يعلن عن استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار في جنوب أفريقيا
  • دير مار مرقس بجنوب أفريقيا.. منارة روحية ومسيرة شهداء
  • “اغاثي الملك سلمان” يوزّع 400 سلة غذائية في جنوب أفريقيا
  • الإمارات تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قطاراً جنوب غرب باكستان
  • الإمارات تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قطارا جنوب غرب باكستان
  • عبدالحكيم الشلماني يُنتخب عضواً في اتحاد شمال أفريقيا لكرة القدم
  • الأفلان يثمّن الظروف التي جرت فيها انتخابات التجديد النصفي لـ “السينا “
  • الأفلان يثمن الظروف التي جرت فيها انتخابات التجديد النصفي لـ “السينا “
  • الأفلان يثمن الظروف الرائعة التي جرت فيها انتخابات التجديد النصفي لـ “السينا “