نحو مشروع وطني سوداني ثلاثي الأبعاد من أجل السلام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي: ثانياً، إنهاء الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي
بروفيسور إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر
وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السابق
مايو، 2024
الملخص
أبنا في الورقة البحثية الأولي من مشروع الثلاثية الوطنية بأن الحرب الفصائلية العسكرية الحالية قد تتحول إلى حرب إثنية-مناطقية واسعة، مما سيلحق دماراً بالغاً بمقدرات البلاد الاقتصادية والمؤسسية ويشكل تهديداً وجودياً للبلاد وسلامة أراضيها.

لذلك، فإن إنهاء هذه الحرب قبل توسعها وبناء سلام مستدام هو ضرورة حتمية لبقاء السودان. نعالج في هذه الورقة البعد الثاني المتعلق بتحديات وفرص وقف الحرب وبناء السلام، استناداً إلى تحليل نموذج ما يسمى بـ "مثلث السلام" الذي تتشكل أضلاعه من مؤشرات عن متانة راس المال الاجتماعي والمؤسسات الوطنية (الضلعان المحليان للمثلث) واللذان يحددان مدى الحاجة إلى العامل الخارجي لدعم عملية السلام (الضلع الثالث). بإسقاط الحالة السودانية على هذا النموذج، يتضح أن الدعم الخارجي المتمثل في منبر جدة والمبادرات الإقليمية الأخرى المرتبطة به يبقي الرافع الأبرز لبناء السلام، بالنظر إلى ضعف القدرات الذاتية لبناء السلام نتيجة للانشطارات الهوياتية وتهتك النسيج الاجتماعي وانهيار المؤسسات القومية جراء هذه الحرب. علاوة على ذلك، برأينا أن تأمين فرصة حقيقية للسلام قد يستدعي النظر في إسناد المبادرات الإقليمية الحالية بمشاركة أممية فاعلة، بحيث يتم رفد الضلع الثالث من مثلث السلام بعملية تحويلية، متعددة الأبعاد لحفظ السلام تقودها الأمم المتحدة، وبمشاركة إقليمية. لكي يكتسب الدعم الخارجي الشرعية الكافية، وبالتالي الفعالية المطلوبة، يجب أن يكون ممتلكاً وموجهاً من قبل جبهة مدنية ديمقراطية عريضة القاعدة، لا تستثنى أحداً يؤمن بخيار الشعب في الحرية والسلام والعدالة ومرجعية ثورة ديسمبر المجيدة، تستهدي بعقد اجتماعي متين يشمل بعدى السياسة والاقتصاد وبناء توافق عريض حوله عبر سردية وطنية. أيضاً، يتطلب تحقيق الانتقال المدني السلمي الديموقراطي المستدام مشروعاً نهضوياً شاملاً لإحداث تحولات اقتصادية كبري، الأمر الذي يستدعي أن تختار النخب الانتقالية والمنتخبة لاحقاً "الرهان على التنمية" والسعي إلى "الشرعية الاقتصادية" وعدم الاكتفاء بـ “الشرعية السياسية" الانتخابية فقط. هذا الاستحقاق الوطني سيكون محور الورقة الثالثة والأخيرة، بإذن الله.
كلمات مفتاحية السودان، الحرب العسكرية، الحرب الإثنية-الجهوية، بناء السلام، مثلث السلام، منبر جدة، العملية الأممية متعددة الأبعاد، الانتقال المدني الديمقراطي، العقد الاجتماعي، السردية الوطنية، المشروع الاقتصادي النهضوي.
*** هذه الورقة مساهمة شخصية متواضعة في الحوار الوطني السوداني عن سبل وقف هذه الحرب اللعينة وبناء السلام المدني الديموقراطي النهضوي، وبالتالي التحليل والأفكار وخاصة التوصيات الواردة فيها لا تمثل بالضرورة مواقف حزبية أو فئوية بعينها لأي جهة كانت.
1. مقدمة
لقد اضطلعت الورقة الأولى من ثلاثية "المشروع الوطني السوداني " (البدوي، 2024أ) بالمساهمة في مشروع الاستنارة ونزع الشرعية عن الحرب العسكرية الفصائلية الطاحنة التي يشهدها السودان منذ أبريل، 2023 وزيادة الوعي بمخاطرها الوجودية المحتملة على البلاد والشعب السوداني وكذلك تبعاتها السلبية على الأمن والسلم الإقليمي. لقد ألحقت هذه الحرب المأساوية أضراراً كبيرة بالقاعدة الصناعية والتعليم والمرافق الصحية في البلاد، كما أدت أيضاً إلى انهيار النشاط الاقتصادي، بالنظر إلى أنها، على عكس الصراعات المسلحة السابقة، قد اشتعلت في عاصمة البلاد، حيث مركز السلطة السياسية والاقتصاد، ثم توسعت لتشمل كبريات المدن السودانية في وسط وغرب البلاد. وكحرب داخلية، هذا الصراع غير مسبوقٍ من حيث شدة العنف وحجم الموت والدمار المرتبط به، ناهيك عن الأزمة الإنسانية الهائلة التي خلفها، حيث تماثل القوة التدميرية للطرفين حالة حرب الدول وليس حالة الحروب الأهلية التقليدية التي عادة ما تدور في مناطق ريفية نائية وتستخدم فيها آلة حربية أقل فتكاً وتطوراً.
بالرغم من الأزمة الإنسانية التي لا يمكن تخيلها والكلفة الاقتصادية الهائلة لهذه الحرب وهي بالكاد أكملت عامها الأول، وفي ظل تضاؤل فرص إنهائها في غضون الأشهر القادمة ، فقد حاججنا في الورقة الآنفة الذكر بأن الأسوأ مازال قادماً، وذلك لأن احتمالات توسع هذه الصراع إلى حرب اثنية/جهوية متطاولة تظل كبيرة جداً. فالمجتمع السوداني الذي ظل يعاني من التشرذم والاستقطاب العمودي على أسس اثنية، قبلية وجهوية وسياسية أيضاً، والتي تزداد تشدداً وتطرفاً بسبب الحرب الجارية، من المرجح أن تسهل معه عمليات التجنيد والتحشيد وإثارة الغرائز على أسس الانتماءات ما دون القومية. في الواقع، وكما تشير بعض الأدلة المبكرة، فإن هذا ما يحدث بالفعل ومن قبل طرفي النزاع.
أيضاً، فقد احتوت الورقة الأولى من الثلاثية على محاكاة وتحليل للكلفة الاقتصادية باستخدام نموذج النمو طويل الأجل (Long-term Growth Model: LTGM)، مع الأخذ في الاعتبار المؤشرات الرئيسة والافتراضات الموضوعية المتعلقة باقتصاد السودان في عام 2022، كسنة الأساس قبل اندلاع الحرب. هذا وقد أفادت نتائج تقدير ومحاكات هذا النموذج بأنه حتى في ظل افتراضات محافظة للغاية، ستكون الحرب مكلفة جداً حتى ولو كانت حرباً قصيرة الأجل. أما في حالة الحرب الاثنية طويلة الأجل والتي قد تستغرق 15 عاماً أو أكثر، وهي للأسف الاحتمال الأرجح، ستكون المخاطر ذات أبعاد وجودية لوحدة البلاد وسلامة أراضيها.
تأسيساً على ما خلص إليه مبحثنا الأول نحسب أن إنهاء هذه الحرب والعمل على بناء السلام المستدام من البديهي أن يكون على رأس سلم الأجندة الوطنية في هذا المنعطف التاريخي الأخطر منذ ما يقارب السبعين عاماً من مسيرة السودان المستقل.
في القسم الثاني من هذا المبحث سنقوم باستطلاع نقدي مختصر لتجارب البلاد مع مبادرات بناء السلام والتي شملت أربع اتفاقيات لتقاسم السلطة مدعومة إقليمياً ودولياً وثلاثة بعثات أممية/إقليمية. للأسف لم تفشل هذه الاتفاقات في الحفاظ على السلام فحسب، بل أدى بعضها إلى نتائج كارثية، مثل تقسيم البلاد في عام 2011 وإعاقة المسار الدستوري نحو الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر، الأمر الذي ساهم في التمهيد لهذه الحرب العسكرية الحالية. تقطع الورقة بأن عوار هذه الاتفاقيات، والذي ساهم في إفشالها، أنها كانت محصورة على النخب العسكرية والجيوش المتحاربة تحت إمرتهم. عليه، خلصت هذه الورقة إلى أن عملية إنهاء الحرب وبناء السلام المستدام يجب أن تكون عملية "تشاركية" يكون المجتمع المدني السوداني والقوى الديمقراطية المدنية في قلبها.
يقيّم القسم الثالث تحديات بناء السلام من خلال تحليل نموذج ما يسمى بـ "مثلث السلام" لأستاذي العلوم السياسية بجامعة ييل الأمريكية (Yale University)، بروفيسور مايكل دويل وبروفيسور نيكيلس سامبانيس ، حيث اختبر الباحثان فرضية أن احتمال نجاح عملية السلام تتناسب طردياً مع مساحة هذا المثلث، باستخدام قاعدة بيانات عابرة للبدان تغطى مساحة زمنية منذ الحرب العالمية الثانية. تتشكل أضلاع هذا المثلث من مؤشرات عن متانة راس المال الاجتماعي و القدرات المحلية من مؤسسات "صلبة" و"ناعمة" – (الضلعان المحليان للمثلث) - واللذان يحددان مدى الحاجة إلى العامل الخارجي لدعم عملية السلام ( الضلع الثالث). بإسقاط الحالة السودانية على هذا النموذج يتضح بأن رأس المال الاجتماعي، المأزوم أصلاً كنتيجة لتسيد الزبائنية الجهوية واشتعال الحروب الاثنية خلال حقبة نظام الإنقاذ، قد تم تدميره جراء هذه الحرب، إضافة إلى القدرات المحلية المتدنية وتجريف المؤسسات القومية، المنهارة أصلاً منذ زمن بعيد، يتطلبان عملية حفظ سلام أممية/إقليمية "تحويلية، متعددة الأبعاد" - كضلع ثالث لمثلث السلام. غير أننا نسارع إلى التشديد على أنه لكي يكتسب هذا الدعم الخارجي الشرعية الكافية، وبالتالي الفعالية، يجب أن يكون ممتلكاً وموجهاً من قبل جبهة مدنية ديمقراطية عريضة القاعدة.
نحلل في القسم الرابع مشروع البناء الوطني المتعثر كنتيجة لفشل النخب السودانية في إدارة التنوع المجتمعي والتنافس الانتخابي بين القوى الديمقراطية في أعقاب نجاح الثورات مما أدى إلى هشاشة وضعف الحكومات الديمقراطية والتي بدورها كانت فرائسَ سهلة للانقلابات والأنظمة الاستبدادية التي حكمت البلاد لفترات طويلة. بالمقابل، أدى الفشل في تحقيق تحولات تنموية اقتصادية واجتماعية ذات بال إلى الحروب الأهلية والانقلابات وعدم الاستقرار السياسي. في هذا السياق نحاجج بأن الخروج من هذه "المتلازمة السودانية" الكارثية يتطلب بناء عقدٍ اجتماعيٍ متين يشمل بعدى السياسة والاقتصاد وبناء توافق عريض حوله عبر سردية وطنية فعالة تنتشل البلاد من حالة الإحباط وتنافر الرؤي جراء هذه الحرب المأساوية التي احتنكت البلاد وشعبها.
وأخيراً، يختتم القسم الخامس بتلخيص أهم نتائج هذا المبحث في سياق توصيات تتعلق بقضايا بناء السلام المستدام وأهم الاستحقاقات الوطنية بشأن الجبهة الوطنية القمينة بقيادة مشروع تحول سلمى ديموقراطي نهضوي، يستهدي بعقد اجتماعي وازن ذو أبعاد سياسية واقتصادية وسردية وطنية متينة لحشد إجماع وطني واسع لدعم مشروع التجديد الوطني المنشود.
2. اتفاقيات تقاسم السلطة والثروة في السودان ومآلاتها الكارثية
بقدر ما كان للسودان أكثر من نصيبه العادل من النزاعات، فقد كان أيضاً حقلَ تجاربٍ بامتياز في مبادرات بناء السلام، والتي شملت أربعة اتفاقات لتقاسم السلطة مدعومة من المجتمعين الدولي والإقليمي. لكن، للأسف، فشلت جميعها في تحقيق سلام مستدام، بل إن بعضها أدى إلى نتائج كارثية.
تم توقيع اتفاق السلام الأول، وهو ما يسمى باتفاقية أديس أبابا للسلام، في عام 1972 بين حركة المعارضة المسلحة الأولى في جنوب السودان وحكومة الجنرال جعفر نميري، حيث تمكنت هذه الاتفاقية من إنهاء الحلقة الأولى من الحرب الأهلية التي بدأت قبل استقلال البلاد في عام 1956 بفترة وجيزة واستمرت في تشكيل مستقبلها منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من توقف القتال لأكثر من عقد من الزمان (1972-1983)، إلا أن حرباً أشد فتكاً ودماراً اندلعت مرة أخرى لأكثر من 20 عاماً، انتهت بعد توقيع ما يسمى "اتفاقية السلام الشامل" في عام 2005 بين "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة الدكتور جون قرنق ونظام الإنقاذ بقيادة الجنرال عمر البشير. لكن نهاية التمرد الثاني في جنوب السودان، قد أدى في نهاية المطاف إلى تقسيم البلاد وإنشاء دولة جنوب السودان عام 2011. وعلاوة على ذلك، وبينما كان يجري التفاوض على هذه الاتفاقية، اندلعت مرحلة جديدة من الحرب الأهلية في إقليم دارفور في عام 2003، مما شكل أول نزاع سياسي مسلح في الجزء الشمالي من البلاد منذ الاستقلال.
ونظراً للحجم الهائل من الوفيات والمعاناة الإنسانية المرتبطة بالصراع في دارفور، والقلق من أن يؤدي ذلك إلى عرقلة مفاوضات السلام الجارية آنذاك في اتفاق السلام الشامل، تم توقيع اتفاق سلام دارفور في عام 2006 تحت رعاية نيجيريا والاتحاد الأفريقي، وبدعم من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وجهات إقليمية ودولية أخرى. وعلى غرار اتفاق السلام الشامل، يستند اتفاق سلام دارفور على اتفاقات تقاسم الثروة والسلطة بين حركات دارفور والحكومة المركزية. ومع ذلك، وعلى عكس اتفاق السلام الشامل، الذي يشمل حركة معارضة مسلحة مهيمنة، تحت قيادة واحدة، فإن حركات دارفور كانت منقسمة إلى عدة فصائل. لذلك، ليس من المستغرب استمرار الصراع المسلح، حيث تحول التوازن العسكري لصالح الحركات غير الموقعة على الاتفاق. وبالفعل، لم يكتسب اتفاق سلام دارفور المصداقية الكافية لدى الحركات وتم التخلي عنه في نهاية المطاف عندما انضمت الحركة الوحيدة الموقعة عليه من جديد إلى العمل المسلح.
كان اتفاق السلام الشامل الأخير هو اتفاق جوبا للسلام الذي تم توقيعه في أكتوبر 2020 في جوبا، عاصمة جمهورية جنوب السودان. جاء هذا الاتفاق بعد أكثر من عام بقليل من تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى (حكومة الكفاءات) في سبتمبر 2019، إثر اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، 2018. وكان الجانب الحكومي ممثلاً بالسلطة المدنية-العسكرية الانتقالية، بينما كان الموقعون الآخرون بعض الحركات المسلحة التي كانت تخوض معارك منخفضة الحدة مع النظام السابق. وقد أدى اتفاق جوبا للسلام إلى حل حكومة "الكفاءات" وتشكيل حكومة محاصصة سياسية، تهيمن عليها قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق .
ولسوء الحظ، مثل سابقاتها، لم تكن اتفاقية جوبا للسلام والأمن عملية سلام ذات قاعدة عريضة من شأنها تمكين المجتمع المدني في المناطق المتأثرة بالنزاعات في البلاد. بالتالي وفرت آلية لصفقة جانبية بين المكون العسكري وبعض، وليس كل، الحركات المسلحة في اتفاق جوبا. لذلك، وبمجرد انضمام هذه الحركات إلى الحكومة الجديدة، سرعان ما انحازت إلى جانب هذا المكون والذي أصبح معادياً بشكل متزايد لجهود شركائه المدنيين للمضي قدماً في الأجندة الانتقالية الحيوية بشأن الإصلاحات الأمنية وتفكيك الإمبراطوريات الاقتصادية للنظام السابق. لم تكتفِ الحركات الأكثر نفوذاً في جوبا بدعم انقلاب القصر في أكتوبر/تشرين الأول 2021 من قبل قيادات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والذي أطاح بالحكومة التي يقودها المدنيون وأنهى المسار الدستوري للانتقال الديمقراطي، بل استمرت أيضاً في المشاركة في نظام ما بعد الانقلاب. لا ينبغي أن يكون هذا التحول الكارثي للأحداث مستغرباً - والذي نزعم بأنه في نهاية المطاف قد أوجد الظروف المواتية لاشتعال الحرب العسكرية الفصائلية الحالية - بالنظر إلى حقيقة أن بعض حركات المقاومة المسلحة السودانية لها تاريخ في إبرام الصفقات مع الأنظمة العسكرية الاستبدادية، قبل اتفاق جوبا للسلام وانقلاب أكتوبر 2021 بوقت طويل (إبراهيم، 2021).
وكما نوقش على نطاق واسع في الأدبيات السودانية حول النزاعات وبناء السلام ، فإن حقيقة أن اتفاقي السلام الأولين اللذين تمحورا حول ترتيبات تقاسم السلطة قد تم التوصل إليهما في ظل حكم استبدادي شخصاني يفسر سبب عدم استدامة الاتفاق الأول، بينما أدى الاتفاق الثاني إلى تقسيم البلاد واشتعال عمليات المعارضة المسلحة والعنف الاثني/القبلي في دارفور. وبالنظر إلى تشرذم حركات المعارضة المسلحة في دارفور، فإن فرص بقاء اتفاق سلام دارفور في ظل حكم نظام عمر البشير الاستبدادي كانت أقل بكثير. وحتى في بيئة سياسية أكثر انفتاحاً وشفافية في أعقاب ثورة ديسمبر/كانون الأول، فإن استفراد الأطراف العسكرية بهذا الاتفاق قد تبين لاحقاً علاقته بمواقف بعض هذه الحركات المتماهية مع مشروع الثورة المضادة.
بالإضافة إلى تقديم الدعم لمختلف الأطراف السودانية الموقعة على الاتفاق، أسس المجتمعان الدولي والإقليمي ثلاث عمليات لحفظ السلام تهدف لدعم جهود بناء السلام. أولها بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان (AMIS)، التي بدأت عملياتها في عام 2004، بقوة قوامها 150 جندياً، وبحلول منتصف عام 2005، ارتفع عددها إلى حوالي 7000 من قوات حفظ السلام والمراقبين المنتشرين في جميع أنحاء المنطقة لمراقبة اتفاق سلام دارفور. وبهذا المعنى، كانت بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان بعثة "رصد ومراقبة" في حدها الأدنى. وبعد ثلاث سنوات، تأسست بعثة جديدة مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (يوناميد :UNAMID) في ديسمبر 2007. وسعت هذه البعثة إلى الاستعاضة عن بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان (AMIS) سيئة التجهيز وقليلة العدد بقوات مختلطة أكبر حجماً وأفضل تجهيزاً قوامها حوالي 19555 عنصراً عسكرياً و6432 من الشرطة، إضافة إلى مكونٍ مدنيٍ كبير. وتم تكليف البعثة بمهمة أمنية موسعة تتمثل في ردع العنف وضمان إنهائه. وعلاوة على ذلك، من المتوخى أن تقدم البعثة الدعم الشامل لعملية السلام؛ والمساعدة في بناء المؤسسات في المجالات الحاسمة لسيادة القانون والحوكمة وحقوق الإنسان؛ وتيسير المساعدة الإنسانية . إلا أن غياب الإرادة السياسية وطبيعة الأنظمة الشمولية الحاكمة آنذاك قد كان عائقاً أمام نجاح هذه البعثات أيضاً.
في أعقاب ثورة ديسمبر 2018 وتشكيل الحكومة الانتقالية، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2524 (2020)، الذي أنشأ بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة في المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) في يونيو 2020 (United Nations Integrated Transition Assistance Mission in Sudan: UNITAMS). كانت هذه بعثة سياسية خاصة، لتقديم الدعم للسودان لفترة أولية مدتها 12 شهراً خلال فترة انتقاله السياسي إلى الحكم الديمقراطي. وفى سياق هذا التفويض ستدعم بعثة اليونيتامس تحقيق الاستقرار في السودان من خلال مجموعة من المبادرات السياسية ومشاريع بناء السلام والتنمية، بما في ذلك مساعدة البلاد على تحقيق أهداف الإعلان الدستوري الصادر في أغسطس/آب 2019، وتنفيذ الخطة الوطنية لحماية المدنيين. وكذلك في الجانب الاقتصادي ترتكز المرتكزات الاستراتيجية المحددة للبعثة على أهداف التنمية المستدامة .
وبناءً على طلب الحكومة الانتقالية المدنية، قرر مجلس الأمن الدولي أيضاً إنهاء تفويض بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور بعد ستة أشهر من تأسيس بعثة اليونيتامس. ويبدو أن الدافع وراء هذا القرار هو الرغبة في إفساح المجال للحكومة الانتقالية المدنية للاضطلاع بالمهام الرئيسة التي كانت موكلة حتى ذلك الوقت إلى اليوناميد. وكانت هذه المشاريع حيوية، بما في ذلك دعم عملية السلام وحماية المدنيين وتيسير إيصال المساعدات الإنسانية ودعم الوساطة في النزاعات بين القبائل. ومع ذلك، كان حل اليوناميد خطوة غير حكيمة من قبل الحكومة الانتقالية والأمم المتحدة، لأن الفراغ الأمني لم يكن من الممكن ملؤه من قبل السلطات العسكرية السودانية التي لم تكن محل ثقة كاملة من قبل بعض المجتمعات الدارفورية النازحة في المعسكرات التي كانت تحميها اليوناميد. علاوة على ذلك، بعد الانقلاب في عام 2021، أصبحت يونيتامس معطلة بسبب عدم تعاون المؤسسة العسكرية التي عارضت المبادرة منذ البداية. وأخيراً بعد اندلاع الحرب في مارس 2023، قرر مجلس الأمن الدولي عدم تجديد تفويضها.
تتسق النتيجة المخيبة للآمال لاتفاقيات السلام السودانية المتعددة وعمليات الأمم المتحدة المرتبطة بها مع تنبؤات أدبيات بناء السلام، والتي تشير إلى أن اتفاقات السلام التي تقتصر على الأطراف العسكرية في الحرب الأهلية، من غير المرجح أن تؤدي إلى انتقالات ديمقراطية شاملة في مرحلة ما بعد النزاع. بدلاً من ذلك، حتى وَلو كان ذلك على حساب بعض التعقيدات المتعلقة بتعدد المشاركين وتنوعهم، يجب أن يكون لأصحاب المصلحة المدنيين، مثل الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمجتمعات المحلية مقعداً على طاولة المفاوضات (البدوي، 2008).
3. استحقاقات إنهاء الحرب وتحقيق السلام المدني الديمقراطي: نحو سلام "تشاركي" مستدام
تأسيساً على استعراض تجارب بناء السلام المأزومة في السودان، نحاجج في هذا القسم بأن أهم الدروس المستفادة منها هو أهمية اعتماد منهج السلام "التشاركي" الواسع، الذي بالضرورة لا يستثنى أصحاب المصلحة من مكونات المجتمع المدني العريض، بل يتوجب أن يكون لهذا المجتمع القدح المعلى في أي عملية سلام مستدام. أكثر من ذلك، سنحاجج أيضاً بأن هناك حاجة لعملية أممية متعددة الأبعاد لدعم مشروع وازن للانتقال المدني الديموقراطي، تعمل تحت اشراف سلطة، مدنية انتقالية تحظى بإجماع شعبي وجبهوي واسع.
3.1 نحو سلام "تشاركي" مستدام في السودان
يتبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مفهوم "السلام المستدام"، والذي يعرف بأنه "بعد التفاوض على السلام أو فرضه، المحاولة الجادة لمعالجة مصادر العداء الماثل وبناء القدرات المحلية لحل النزاعات". ويرتكز مفهوم السلام هذا على "قدرة الدولة ذات السيادة على حل النزاعات الطبيعية التي تكون جميع المجتمعات عرضة لها بوسائل أخرى غير الحرب" (دويل وسامبانيس، 2000: ص 3). وبالتالي، يشمل هذا التعريف الشامل الحاجة إلى بناء المؤسسات والأُطر والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تضمن التسوية السلمية للنزاعات، أي منع تصاعد النزاعات في المستقبل إلى حرب. إن التعبير التجريبي لهذا المفهوم هو ما يسميه دويل وسامبانيس (2006) "السلام التشاركي"، والذي ينطوي على إنهاء الحرب، وعدم وجود عنف متبقٍ كبير، وسيادة غير مجزأة، وحد أدنى من الانفتاح السياسي. ونموذجهم المعياري لتحليل احتمالات السلام هو ما يسمى "مثلث بناء السلام".
ووفقاً لهذا النموذج، يتناسب احتمال نجاح بناء السلام طردياً مع مساحة مثلث بناء السلام - وأضلاعه الثلاثة هي مستوى العداء السائد في بداية عملية السلام؛ والقدرات المحلية على التعافي والتنمية بعد الحرب؛ والقدرات الدولية الداعمة لبناء السلام. الفكرة الرئيسية وراء نموذج مثلث بناء السلام هي أن عنصر الكفاءة الدولية يمكن أن يخفف من الآثار السلبية لارتفاع مستوى العداء وانخفاض القدرات المحلية. وعلى وجه الخصوص، فإن دور عملية بناء السلام متعددة الأبعاد التابعة للأمم المتحدة والمجهزة تجهيزاً كاملاً والمفوضة بشكل كافٍ سيكون حاسماً. ومن المناسب التشديد على أن العمليات التي نحن بصددها لا تسمح بالتدخلات الخارجية الأحادية غير المحايدة من جانب فرادى البلدان، حيث أن عمليات الأمم المتحدة المناسبة لبناء السلام تعمل بموجب ولاية صارمة للغاية تضمن الحياد والنزاهة والتبعية لسيادة البلد المعني (الصندوق (1)).
لقد تم استخدام عدة محددات لتمثيل الأضلاع الثلاثة لمثلث بناء السلام. هناك مؤشران يعكسان مدى انعدام الثقة في المجتمع المتأثر بالحرب. أكثرهما وضوحاً هو عدد القتلى والنازحين، والآخر هو ما إذا كانت الحرب ذات طبيعة هويوية تضع مجموعات دينية أو اثنية أو ثقافية محددة ضد بعضها البعض. وعلى عكس الحروب العقائدية التي تتقاطع مع الهويات، من المرجح أن تكون النزاعات الهويوية أكثر تدميراً للتماسك الاجتماعي والثقة بين المجتمعات. فيما يتعلق بالكفاءة المحلية يتم النظر في عدة مؤشرات، مثل نصيب الفرد من الدخل أو التحصيل العلمي أو مستوى استهلاك الكهرباء للفرد. من المرجح أن يحقق المجتمع المتضرر من الحرب الذي يتمتع بكفاءة محلية عالية انتعاشاً اقتصادياً قوياً في مرحلة ما بعد النزاع خلال وجود قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهذا بدوره من شأنه أن يعزز احتمالات السلام المستدام بعد انتهاء عملية الأمم المتحدة.
ولسوء الحظ، حتى بمعيار مجتمعات ما بعد الحروب، يتسم السودان بانخفاض الثقة بين المجتمعات والتماسك الاجتماعي وكذلك انخفاض الكفاءة المحلية. وكما رأينا بالفعل، مقارنةً بالحروب الأهلية السابقة في السودان وأماكن أخرى، فإن حجم الموت والنزوح والدمار الذي أحدثته هذه الحرب لم يسبق له مثيل، حيث بلغ المتوسط الشهري للضحايا منذ بدء هذا الصراع أكثر من 30 ضعف المتوسط الشهري لعدد القتلى في البلاد التي شهدت حروباً أهلية في الماضي القريب . وهناك بالفعل دلائل على أن الحرب قد زادت من حدة الاصطفاف الهويوي في المجتمع السوداني والذي أصلاً ظل يعاني من التشرذم والاستقطاب المجتمعي، خاصة خلال فترة حكم نظام الإنقاذ (البدوى، 2024أ؛ البدوى والحلو، 2023). عليه، فقد أشعلت هذه الحرب الغرائز البدائية المثيرة للانقسامات الهوياتية ، و"سلحت" وسائل التواصل الاجتماعي على أسس عرقية وجهوية. كما غذت هذه الحالة الذهنية أيضاً حملة التجنيد على أسس عرقية إلى حدٍ كبير، مما أدى إلى زيادة انخفاض رأس المال الاجتماعي المتدني أصلاً في البلاد، والذي صُنّف عالمياً ضمن أدنى ثماني درجات في عام 2023 (الشكل 1).

الشكل 1: مؤشر وترتيب رأس المال الاجتماعي في السودان

ملاحظات:
1. يقيس مؤشر رأس المال الاجتماعي: الصحة والأمن والحرية والمساواة والرضا عن الحياة داخل البلد.
2. المصدر: تم الحصول على البيانات المتعلقة بدرجة رأس المال الاجتماعي وترتيبها من مؤشر التنافسية العالمية المستدامة لعام 2023 : (https://solability.com/the-global-sustainable-competitiveness-index/the-index)
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الأطراف الرئيسية لا تزال القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، فإن بعض الميليشيات التي وقعت اتفاق جوبا للسلام وانضمت لاحقاً إلى الحكومة الانتقالية قد انحازت إلى جانب طرفي النزاع، حيث دعم بعضها القوات المسلحة السودانية وانضم البعض الآخر إلى قوات الدعم السريع. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى زيادة تعقيد آفاق بناء السلام. فبحسب صحيفة الإندبندنت العربية التي أجرت تحقيقاً حول الحركات المسلحة ، "مع اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في منتصف أبريل 2023 أعلنت بعض الحركات المسلحة الانحياز إلى الجيش وقررت أخرى التزام الحياد، وبعد نحو أسبوعين من بدء القتال شكلت حركات دارفور الرئيسة الأربع قوة مشتركة لحماية المدنيين في الإقليم. تشهد الحركات المسلحة في السودان حالة من التشظي والانقسامات بسبب مواقفها من الحرب الدائرة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، فبعد أن تبنت مبدأ الحياد عقب اندلاع الحرب، فإنها بعد مرور أكثر من سنة عادت حركات عدة للانحياز إلى جانب الجيش السوداني، فيما بقيت أخرى عند موقفها الحيادي، وهو ما عرضها لهزات وانقسامات داخلية كبيرة."
لقد عبر المفكر والسياسي السوداني دكتور إبراهيم الأمين في مبحثه القيم الموسوم "هل من أمل" (2024: ص 3) عن مدي تدهور رأس المال الاجتماعي في سياق الانحطاط الذي أصاب الخطاب السياسي والمجتمعي السوداني خلال الفترة الأخيرة من مسيرة البلاد:
"غياب العقول أو تغييبها وانسداد قنوات الحوار يعني فتح الأبواب لمزيد من العنف والتطرف والدعوة لنشر قيم جديدة تدعو للعنف والعنصرية، تمجد القبيلة كبديل للهوية الجامعة لكل أهل السودان. والحديث عن كيانات أفضل من غيرها وعن سمو ثقافة على أخري، ثقافة لها الغلبة لذلك يجب أن تسود على حساب الثقافات الأخرى. ربما لهذا السبب تغيرت لغة الساسة ودعوتهم للوحدة ونبذ القبلية في أربعينيات القرن الماضي إلى لغة لها طابع منفر وعنصري يدعو لفرض إرادة بعض القبائل وبقوة السلاح، لا على القبائل الأخرى فحسب بل علي الدولة التي فقدت هيبتها ودورها."
وفى إشارة إلى أن سيكولوجيا العنف قد أصبحت تأخذ طابعاً أيدلوجياً متطرفاً، إضافة إلى العنف الغرائزي المرتبط بتفاقم الانشطارات الهوياتية والولاءات دون القومية في سياق هذه الحرب، فقد دق السياسي والكاتب الصحفي السوداني الأستاذ صلاح جلال ناقوس الخطر في ورقة بحثية هامة "حول – سيكولوجيا العنف وأبناء الفوضى – يعبدون الطريق للحرب الأهلية الشاملة" (مايو، 2024)، حيث قطع بأن:

"إن انتشار العنف الأيديولوجي المتطرف الذ ى يرافق الحروب الأهلية مع وجود دولة هشة فاقدة لأدوات السيطرة، هذا الواقع إذا لم تتم معالجته بحكمة سينتهي لحرب أهلية شاملة حرب الكل ضد الكل تختفي فيها الدولة بمفهومها الدستوري ومؤسساتها القانونية وتتحول لمليشيا في مواجهة مليشيات أخرى، السودان اليوم يعيش مشروع فتنة كبرى تجعل وجوده في خطر حقيقي أخشى أن نقول كان لنا وطن اسمه السودان إذا لم يتصدى العقلاء بأسرع ما يكون لسُحُب المخاطر التي بدأت تمطر على رؤوس المواطنين."
وفيما يتعلق بالكفاءة المحلية، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي في السودان أقل بكثير من متوسط البلدان ذات الدخل المنخفض والشريحة الدنيا من الدخل المتوسط (الشكل 2) وهو من بين البلدان الأفريقية العشرة التي تضم أكبر عدد من السكان الذين لا يحصلون على الكهرباء في عام 2021 (الشكل 3). كذلك بحسب مؤشرات التنافسية المتعددة الأوجه يحل السودان في المجموعة الدنيا من الدول مقارنة بالمتوسطات العالمية (الشكل 4).
الشكل 2: الناتج المحلي الإجمالي للسودان مقارنة بالبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل

ملاحظات:
1. مصدر البيانات هو مؤشرات التنمية العالمية https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.CD?end=2022&locations=SD-XO&start=1960.
2. يعرض الرسم البياني أعلاه نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مقيساً بالدولار الأمريكي في السودان وفي البلدان القليلة ومتوسطة الدخل.
وفي ظل هذا الرأسمال الاجتماعي البائس والقدرات المحلية المتدنية، فإن عملية ناجحة لإنهاء الحرب وبناء السلام في السودان بلا شك تتطلب "كفاءة دولية" قوية، وهي الضلع الثالث من مثلث السلام. وقد تم تفسير ذلك في الأدبيات بعدة عوامل، بما في ذلك ما إذا كانت الحرب قد انتهت نتيجة لمعاهدة سلام أم لا، وما إذا كانت قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة قد شاركت أم لا، وما إذا كان تفويض الأمم المتحدة لعملية حفظ السلام محصورة فقط في الرصد والإبلاغ أم أنها عملية موسعة. علاوة على ذلك، فإن ارتفاع نصيب الفرد من المساعدات هو مؤشر آخر على الكفاءة الدولية. وتخلص هذه الأدبيات إلى أن الحروب التي تنتهي بمعاهدة سلام من المرجح أن تحقق نتائج ناجحة في بناء السلام لأن المعاهدات تعكس إرادة المشاركين في الحرب لإنهاء نزاعهم العنيف. بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن يرتبط نجاح بناء السلام أيضاً بعمليات حفظ السلام متعددة الأبعاد. فبالإضافة إلى حفظ السلام الأساسي، فإن هذه العمليات مكلفة أيضاً بالاضطلاع بمهمة إنفاذ السلام فضلاً عن تدابير بناء السلام على المدى الطويل التي تهدف إلى تحقيق التحول الديمقراطي والأهداف التنموية الملموسة، مثل معالجة الفقر والتفاوت الاقتصادي، لا سيما التفاوت الأفقي على أسس جهوية أو هويوية (دويل وسامبانيس، 2000).
الشكل 3: البلدان التي تضم أكبر عدد من السكان الذين لا يحصلون على الكهرباء في أفريقيا في عام 2021 (بالملايين)

ملاحظات:
1. المصدر: تم الحصول على هذه البيانات من موقع Statista ونشرها دوريس دوكوا ساسو، 3 يوليو 2023.
2. يعرض الرسم البياني البلدان في أفريقيا التي تضم أكبر عدد من السكان (مقيسًا بالملايين) الذين لا يحصلون على الكهرباء في عام 2021.
الشكل 4: القدرات المحلية الإجمالية للسودان مقارنة بالمتوسط العالمي

ملاحظات:
1. المصدر: يمكن الحصول على بيانات مؤشر التنافسية العالمية المستدامة من الرابط أدناه https://solability.com/the-global-sustainable-competitiveness-index/the-index
2. يقيس مؤشر التنافسية العالمية المستدامة (GSCI) القدرة التنافسية للبلدان على أساس 190 مؤشراً كمياً قابلاً للقياس مستمدة من مصادر موثوقة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالات الأمم المتحدة المختلفة. تم تجميع المؤشرات الـ 190 في 6 مؤشرات فرعية: رأس المال الطبيعي، وكفاءة الموارد وكثافتها، والتماسك الاجتماعي، ورأس المال الفكري، والاستدامة الاقتصادية، وكفاءة الحوكمة.
باستخدام نسخة محدثة من مجموعة بيانات دويل وسامبانيس وتطبيق استراتيجيات تقدير مختلفة لتحليل الآثار قصيرة وطويلة الأجل لبعثات الأمم المتحدة للسلام، أختبر بروفيسور نيكيلس سامبانيس متانة نتائج النسخة الأولى من الأدبيات الواردة (سامبانيس، 2008)، حيث أيد معظمها مع بعض التحفظات المهمة. تحديداً خلُص سامبانيس إلى أنه في حين أن بعثات الأمم المتحدة فعالة في تنفيذ الاتفاقات وتعزيز السلام والديمقراطية التشاركية ذات القاعدة العريضة، إلا أن تأثيرها يميل إلى التلاشي على المدى الطويل بعد انتهاء البعثة. وتتمثل الفكرة الرئيسة وراء هذه النتيجة المهمة في أن تجنب الانتكاسات بعد انتهاء النزاع والحفاظ على السلام على المدى الطويل يتطلب نمواً اقتصادياً قوياً ومستداماً، يؤدى إلى ظهور طبقة وسطي وازنة، عابرة للهويات المجتمعية الفرعية. ومع ذلك، على الأقل حتى وقت قريب، كانت بعثات الأمم المتحدة مصممة كمشروع سياسي مع القليل من الاهتمام بالتحول الاقتصادي الهيكلي كعنصر أساسي في عملية بناء السلام. وعلاوة على ذلك، فإن النمو ليس محركاً رئيساً للسلام المستدام فحسب، بل هو أيضاً من أهم روافع الديمقراطية المستدامة .
4. ملامح المشروع الوطني لبناء السلام المستدام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي
يتعين على مشروع البناء الوطني معالجة تحديين محوريين استعصى كلاهما على التحولات الديمقراطية السابقة في البلاد. فعلى الصعيد السياسي، أدى الفشل في إدارة التنافس بين القوى الديمقراطية في أعقاب نجاح الثورات إلى هشاشة وضعف الحكم الديمقراطي وفتح الباب على مصراعيه للانقلابات والأنظمة الاستبدادية التي حكمت البلاد لحِقب طويلة. وعلى صعيد متصل، أدى الفشل في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تحولية وعادلة إلى ترك البلاد في حالة من الفقر والحرمان، وهو ما أصبح بدوره السبب الجذري للحروب الأهلية والانقلابات وعدم الاستقرار السياسي. يشكل هذان الإشكالان في المشروع الوطني السوداني قلب "المتلازمة السودانية" الكارثية، المتمثلة في الديمقراطيات الهشة قصيرة العمر، والتي كانت فرائساً سهلة للانقلابات العسكرية المفضية إلى أنظمة استبدادية متطاولة، والتي بدورها أُطِيح بها في نهاية المطاف بواسطة الانتفاضات الشعبية العارمة، ممهدة الطريق لانتخابات حرة ومن ثم ديمقراطية هشة أخرى مهيأة لانقلاب جديد، وهكذا دواليك .
عليه، تتطلب معالجة هذين الإخفاقين عقداً اجتماعياً شاملاً، يأخذ في الحسبان بعدي السياسة والاقتصاد في المشروع الوطني. أيضاً، فإن تحدي بناء توافق حول المشروع الوطني والعقد الاجتماعي المستند إليه في ظل حالة الإحباط وتنافر الرؤي جراء هذه الحرب الكارثية يتطلب سردية وطنية متينة وفعالة للملمت شعث الوطن وترميم لُحمَة الانتماء القومي الجامع. نستعرض فيما يلي هذه القضايا تباعاً.

4.1 العقد الاجتماعي:
برأي هناك ثلاث قضايا محورية في هذا المضمار يتوجب على العقد الاجتماعي مخاطبتها، تتعلق بطبيعة النظام السياسي؛ النظام الفيدرالي ومستويات الحكم؛ و"الشرعية الاقتصادية" كشرط لازم لاستدامة السلام واستقرار النظام الديموقراطي.
أولاً، لعل من أكثر القضايا المحيرة هي لماذا فشلت النخب السودانية في التَعلُّم من التجارب المخيبة للآمال للحكومات الائتلافية البرلمانية المنقسمة وغير المستقرة في ظل ديمقراطية وستمنستر، والتي تبنتها النخب المتلاحقة بشكل أعمى ولم تفكر ولا زالت في أنظمة سياسية بديلة قد تكون أكثر قدرة على التكيف مع الاستقطاب الاجتماعي والسياسي المتأصل الذي كان عليها أن تتعامل معه. وعلى الرغم من أن النظام الرئاسي الأوتوقراطي كان كارثياً على البلاد، إلا أنه قد يكون أفضل بكثير في ظل الديمقراطية. وعلى وجه الخصوص، قد يكون النظام الرئاسي - البرلماني المختلط مع مجلسين تشريعيين أكثر ملاءمة للسودان. إن التعايش بين رئيس منتخب شعبياً ورئيس وزراء منتخب بالأغلبية البرلمانية الذي يفرضه هكذا نظام، كما هو الحال في النظام الفرنسي مثلاً، يحقق التوازن الصحيح بين الاستقرار السياسي الذي تشتد الحاجة إليه من جهة، وتقييد السلطة الرئاسية من جهة أخرى. أيضاً، يوفر هذا النظام قسمة فعالة للصلاحيات بين الرئيسين، حيث عادة ما يُسند لرئيس الدولة الصلاحيات السيادية العليا مثل السياسة الخارجية والإشراف على القضاء والقوات النظامية.. إلخ، بينما يتولى رئيس الوزراء السياسات الداخلية مثل إدارة الاقتصاد وشئون الحكم الاتحادي.. الخ. وعلاوة على ذلك، فإن الهيئة التشريعية المكونة من مجلسين على غرار النظام السياسي الأمريكي لا شك ستساهم في مأسسة التوازن بين الأقاليم على مستوي السلطة المركزية. فوفقاً لهذا النظام، ستكون الأقاليم ممثلة بالتساوي في غرفة المجلس الأعلى، وبما يتناسب مع حصتها من إجمالي عدد سكان البلاد في المجلس الأدنى. فبينما يكون مستوى تأثير الأقاليم متساوياً في الغرفة العليا صاحبت القرار في التشريعات والإشراف السيادي، مثل إجازة تعيين قضاة المحكمة العليا، تكون نسبة التأثير في الغرفة الدنيا للأقاليم ذات الكثافة السكانية العالية، مثل دارفور والخرطوم والأوسط وكردفان.
ثانياً، معالجة الإرث الفيدرالي الكارثي لنظام الإنقاذ البائد تعتبر أيضاً من أهم استحقاقات الشق السياسي للعقد الاجتماعي. لقد عمد ذلك النظام إلى تأطير خارطة التنوع الاثني-الجغرافي الكبير للسودان الشمالي في سياق 18 ولاية كقاعدة للحكم الاتحادي ضمن استراتيجيته لبناء قاعدة شعبية على أساس الزبائنية السياسية بين مركز السلطة في الخرطوم والنخب القبلية في هذه الولايات وتدمير القواعد الشعبية للأحزاب التاريخية العابرة للولايات. كما يبين الشكل (5) أدناه، فإن هذه الولايات قد أصبحت بؤراً للاستقطاب والنزاعات القبلية في سياق الصراع من أجل النفوذ والريع المترتب عليه. علاوة على ذلك فقد لقد ولّد النظام الحالي - الذي يضم 18 ولاية وأكثر من 500 محلية - بيروقراطية غير عملية وليست ذات ملاءة مالية لتقديم الخدمات العامة الأساسية الموكلة إليها، مثل المياه النظيفة والكهرباء والتعليم. وتتطلب تلبية هذه الأولويات الاستثمار بشكل خاص في تطوير نظام فيدرالي مالي يمكّن المحليات والولايات من زيادة مواردها من أجل التنمية المحلية. في هذه السياق نرى أنه يمكن تقديم حجة قوية بإلغاء هذه الولايات والعودة إلى نظام الحكومات الإقليمية الست الأصلية - دارفور وكردفان وشرق السودان والخرطوم والنيل الأزرق وشمال السودان، مع ترشيق المحليات وحصرها على المدن الكبرى وأريافها في كافة الأقاليم . إذا تم التوافق على ثلاث مستويات للحكم: اتحادية، إقليمية ومحلية حول المدن الكبرى، نحاجج بأن هذا النظام الفيدرالي المقترح سيكون رافعاً هاماً لمشروع اقتصادي نهضوي يستند الى المدن المنتجة ومحاور النمو حولها لإحداث تحولاً هيكلياً في القطاع الزراعي السوداني الغني والمتنوع، والذي كان ولا يزال الركيزة الأساسية للاقتصاد السوداني .
ثالثاً، ومع ذلك، وعلى الرغم من أن إعادة الهيكلة المقترحة لنظام الحكم السياسي خطوة ضرورية، إلا أنها ليست كافية بأي حال من الأحوال لضمان الاستقرار السياسي واستدامة الانتقال المدني الديمقراطي. هنا ننتقل للشق الاقتصادي من العقد الاجتماعي، مستعرضين ما يسمى بأطروحة "التحديث" لأستاذ العلوم السياسية سيمور ليبسيت في العام 1959 (Modernization Hypothesis)، والتي تحتل مكاناً رئيساً في هذه الأدبيات. ببساطة، تقول فرضية التحديث بأن التطور الاقتصادي شرطٌ لازمٌ لاستدامة الديمقراطية، لأنه ضرورياً لتوسع الطبقة الوسطى بحيث يصبح الهيكل الاجتماعي معقداً، في ظل إنتاجية عالية وتقدماً تكنولوجياً، الأمر الذي يعزز مكانة المنتجين في المجتمع ويقوى المجتمع المدني، وبالتالي تصبح الأنظمة الديكتاتورية أقل فعالية في ضبط المجتمعات وبالتالي غير قادرة للحفاظ على حكمها (روبرت بارو، 2015).
إلا أن إنجاز تحولات اقتصادية كبرى لتحديث الاقتصادات المتخلفة وبناء طبقة وسطى وازنة لتثبيت واستدامة الأنظمة الديموقراطية في البلدان النامية ليست فقط نتاج لبرامج اقتصادية فعالة على المستوى التقني ولكنها في المقام الأول محصلة لقرار سياسي من النخب الحاكمة باعتماد "الشرعية الاقتصادية" كاستراتيجية ومبرر لبقاء النظام السياسي. إلا أنه وبحسب البروفيسور إستيفان ديركون، أستاذ الاقتصاد بجامعة أكسفورد وكبير الاقتصاديين السابق بوزارة التنمية الدولية البريطانية، يبدو أن هناك توافقاً واسعاً وسط الأوساط العلمية حول الرأي القائل بأن الدول تنشأ نتيجة اتفاق النخب على تقاسم الريع المتاح في ظل السلطة القائمة، مهما كان ضئيلاً. غير أن النخب الحاكمة لا "تراهن" على التنمية إلا في حالات قليلة، حيث تكون مستعدة للتضحية بالريع المتاح من أجل النمو والتنمية في المستقبل. وهذه المراهنة تتسم بالمغامرة لأنه لا توجد وصفة للنجاح، بل مجرد مبادئ عامة، مثل الاستثمار في رأس المال المادي والبشري والمؤسسات... إلخ . وبالتالي، إذا كان النجاح غير مضمون، فلماذا تجازف بعض النخب؟
الشكل 5: الولايات صارت مسرحاً للاستقطاب والصراعات القبلية/الاثنية

المصدر: الجزيرة نت (2022).
قد تختار النخب الحاكمة المراهنة على التنمية إذا ما رأت أن هناك خطراً وشيكاً على النظام القائم بسبب الركود الاقتصادي، كما كان الحال بالنسبة لنُخب الحزب الشيوعي الصيني الحاكم خلال ما بعد حقبة "الثورة الثقافية". ففي عهد الرئيس دنغ شياو بينغ، الذي تولى السلطة بعد فترة وجيزة من وفاة الزعيم الأعلى ماو تسي تونغ في عام 1976، أعادت قيادة الحزب الشيوعي الصيني هيكلة أيديولوجية الحزب وسياسته العامة بشكل جذري وحوّلت الصين إلى معجزة تنموية هائلة. وفي حالات أخرى، مثل البلدان الخارجة من حروب أهلية مدمرة، يعتمد اختيار الرهان على التنمية على قدرة النخب على التعلم من الأخطاء والانخراط في مسار تصحيح المسار. فقد قررت النخب الإثيوبية الحاكمة بقيادة ميليس زيناوي إجراء تحول اقتصادي كبير في عام 2004 بعد عقد من تبنيها لنسخة ألبانية متطرفة من الماركسية. يكشف تحليل ديناميكيات النمو المقارنة في ظل نظامي الجبهة الديموقراطية الثورية في أثيوبيا والإنقاذ في السودان عن تجارب نمو متباينة للغاية، كما يلقي الضوء على الاختلاف الشديد بين النخب التي حكمت البلدين (البدوى وآخرون، 2023). فبينما شهد الاقتصاد السوداني ركوداً لمدة 15 عاماً، تضاعف الاقتصاد الإثيوبي أكثر من أربع مرات. وفي أقل من جيل واحد، تمكن الاقتصاد الإثيوبي من سد الفجوة التي كانت تفصله عن الاقتصاد السوداني في عام 2004، والتي تجاوزت 60 مليار دولار. وعلى نفس المنوال، بينما ظل دخل الفرد السوداني راكداً لمدة 15 عاماً، زاد دخل الفرد الإثيوبي بنحو ثلاثة أضعاف، مما سمح لإثيوبيا التي كانت أكثر فقراً بتقليص الفجوة في الدخل من خمس دخل الفرد السوداني تقريباً في عام 2004 إلى النصف في عام 2019. وبالفعل، حققت إثيوبيا نصف ما يسمى "بالمعجزة التنموية" ، إذ بلغ متوسط معدل النمو السنوي لدخل الفرد فيها نحو 7% على مدى 15 عاماً. على الجانب الآخر، كان النمو في السودان متواضعاً وغير مستقر، بل وحدث انهيارٌ اقتصاديٌ كبير بعد انفصال الجنوب.
عليه، نظراً لنجاحها الاقتصادي الواضح، قررت النخب الإثيوبية بناء "شرعية اقتصادية" كأساس لبقاء النظام في السلطة. وبدلاً من ذلك، اعتمدت نخب الإنقاذ على الزبائنية السياسية في ظل نظامها الكليبتوقراطي الممول بالنفط والذهب للتمسك بالسلطة. التجربة الأثيوبية هامة جداً بالنسبة لمقاربة الشق الاقتصادي للعقد الاجتماعي المستقبلي بالنسبة للسودان والتي سنطرق لدلالاتها في القسم الأخير من الورقة.
4.2 السردية الوطنية وهندسة المشروع الوطني السوداني
يتوقف نجاح المشروع الوطني الطموح المقترح على قدرة أهل السودان على إعادة تأهيل رأس المال الاجتماعي الفخيم الذي تشكل في بدايات ثورتهم المجيدة، والانتقال إلى توازن اجتماعي جديد يسع الجميع. ولتحقيق ذلك يجب أن يتوافق أهل السودان، في إطار حوار مجتمعي هادف وشفاف، على "عقد اجتماعي" شامل يحدد مفهوم "الشرعية السياسية والاقتصادية". ومن شأن هذا العقد الاجتماعي بدوره أن يوفر "تقنية التزام" لتجسير وتنسيق الأهداف السياسية والاقتصادية المتباينة المرتبطة بالمصالح المتضاربة بطبيعة الحال في المجتمع السوداني المتسم بالانشطارات الهوياتية وكذلك الاستقطاب السياسي.
يجب أن تكون البداية هي التبادل الفعّال للأفكار. وهذا يحدد سوقاً سياسياً يعبر فيه الناس عن تطلعاتهم الوطنية في جانب الطلب، وتستجيب النخب بالأفكار والبرامج في جانب العرض (ديوان، 2022). في هذا السياق، فإن طلب الشعب السوداني لحياة أفضل في مجتمع آمن يعمل بشكل جيد من شأنه أن يستدعي عرض الأفكار حول أفضل السبل لتحقيق التطلعات. ويحدد التفاعل بين العرض والطلب في هذه السوق السياسية-الاقتصادية "التوازن الاجتماعي". وتحدّد نوعية "العقد الاجتماعي" وشرعيته الشعبية نوع التوازن الاجتماعي الناتج عن ذلك. وبالتالي، فإن التوازن الاجتماعي التعاوني الذي يغرس الثقة والتعاون في المجتمع، وبالتالي تعزيز الديمقراطية المستقرة والمؤسسات القوية والتنمية التحويلية، يتطلب عقداً اجتماعياً واسع النطاق ومدروساً بصورة جيدة.
وانطلاقًا من التحليل أعلاه، نقدم (في الشكل 6) المكونات الرئيسة للعقد الاجتماعي المقترح، الذي يقوم على تلبية تطلعات المجتمع السوداني (الشباب، المجتمع المدني... إلخ) من قبل النخب السياسية التي ستلتزم بعقد اجتماعي يهدف إلى تلبية مطلب الحياة الأفضل الذي يتبناه الجمهور. ويتوقف النجاح على تعاون النخبة في تنفيذ العقد الاجتماعي، وإفساح المجال للقطاع الخاص للمساهمة في التحول الاستثماري، تحت سقف قيادة الدولة للمشاريع الاقتصادية الاستراتيجية الكبرى والتزامها بتحقيق الأهداف التنموية المستدامة بتوفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وتقديم الحماية الاجتماعية الشاملة. لتحقيق هذا المشروع لابد من تطوير خطاب وطني ملهم واستشرافي لغرس الثقة في المجتمع وتأمين استعداده للتضحية في المدي القريب وقبول كلفة الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية الضرورية مقابل التوقعات بغدٍ أفضل في ظل العقد الاجتماعي المتفق عليه. وكما هو موضح في الشكل، فإن المشروع التحويلي هو تجربة تعليمية اجتماعية تفاعلية متبادلة بين الجهات الفاعلة الرئيسية: المجتمع والنخب المدنية السياسية والاقتصادية وكذلك العسكرية.
وأخيراً، فإن إطلاق المشروع الوطني وفق المقترح أعلاه يتطلب تحالفاً وطنياً واسعاً في شكل "جبهة وطنية عريضة" لوقف الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي المستدام. هذا الاستحقاق سيكون من أهم المحاور التي سنعرض لها في الخاتمة والتوصيات أدناه.

الشكل 6: كيف يمكن أن تؤدي التحولات الكبرى إلى بناء تسوية سياسية لمشروع النهضة الاقتصادية في السودان

5. الخاتمة والتوصيات
أجرينا في هذا المبحث تحليلاً منهجياً معمّقاً شمل ثلاثة قضايا رئيسة: اتفاقيات تقاسم السلطة بين الحكومات المتعاقبة وحركات المعارضة المسلحة كمنهج لبناء السلام وبينا نتائجها الكارثية؛ الدعم الخارجي كرافع لا غنىً عنه لمشروع وقف الحرب الحالية وبناء سلام مستدام في ظل ضعف القدرات المحلية وتآكل راس المال الاجتماعي من جراء الحرب؛ وملامح العقد الاجتماعي وسرديته الوطنية للانتقال المدني السلمي الديموقراطي النهضوي. إلا أن هذه الأجندة الوطنية تتطلب التوافق على بناء جبهة وطنية عريضة لاستعادة الوطن من كل مكونات المجتمع لا تستثنى أحداً يؤمن بخيار الشعب في الحرية والسلام والعدالة ومرجعية ثورة ديسمبر المجيدة، على قاعدة وقف الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي المستدام. عليه، علينا أن نبدأ بمعالجة هذا الاستحقاق قبل تناول التوصيات المترتبة على مقاربات هذه الورقة بشأن قضايا وقف الحرب وبناء السلام ومرتكزات المشروع الوطني المقترح.
هناك بعض المبادرات الوطنية المقدَّرة في الساحة لبناء توافق يمكن أن يؤسس لقيام الجبهة الوطنية المنشودة، نذكر منها على سبيل المثال "خبراء سودانيون ضد الحرب" و "الآلية الوطنية لدعم التحول المدني الديمقراطي"، إلا أن تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) - والتي عقدت مؤتمرها التحضيري في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في أكتوبر، 2023 وتتهيأ لعقد مؤتمرها التأسيسي أيضاً في نفس المدينة في أواخر مايو 2024- تظل المبادرة الأبرز وربما الأوفر حظاً للنهوض بهذا الاستحقاق الوطني العظيم، لكن هذا يتطلب تلبية شروط هامة سنعرض لها أدناه. فضلاً عن أنها تحظي بدعم دولي وإقليمي واسع، فقد أعدت التنسيقية رؤية سياسية ومشروعاً وطنياً شاملاً في سياق "البيان الختامي لإعلان تقدم" في 26 أكتوبر 2023 و"إعلان مبادئ إنهاء الحرب وتحقيق السلام وتأسيس السلام وانتقال مدني ديمقراطي مستدام " الصادر في 29 نوفمبر 2023. يحتوي "مشروع خارطة طريق إنهاء الحرب وتحقيق السلام وتأسيس انتقال مدني ديمقراطي مستدام " الذي اعتمدته (تقدم) بالتزامن مع إعلان المبادئ في 29 نوفمبر 2023م على ست خطوات (الصندوق 2).

رغماً عن أن "تقدم" تمتلك "قصب السبق" مقارنة بالمبادرات الأخرى إلا أننا نعتقد أنها ما زالت بعيدة عن توفير الإجماع المطلوب، حيث تواجه معارضة صارمة من قبل أهم أحزاب اليسار السوداني، إضافة إلى تحفظات أساسية من قبل حزب الأمة تتعلق بعدة قضايا محورية تشمل نسبة تمثيل الأحزاب السياسية، والتي خُصص لها ولحركات المعارضة المسلحة نسبة 30% مقارنة بنسبة 70% حُظيت بها قوي المجتمع المدني. يبدو أن مسألة نسب المشاركة وبعض التحفظات الأخرى قد تمت معالجتها بحسب بعض المصادر المأذونة، إلا أن هناك اختلافات عميقة بين قيادات حزب الأمة بشأن "تقدم"، بالرغم من أن الحزب ما زال يُعتبر، بحسب معظم المراقبين، الرافع الأهم للتنسيقية.

يُعتبر المؤتمر التأسيسي المرتقب لتقدم حدثاً محورياً لجهة إمكانية ارتقاء التنسيقية لمصاف "الجبهة الوطنية الجامعة" من عدمها. فبحسب قراءات لعينة عشوائية من عدة مقاربات في وسائل التواصل الاجتماعي توفرت لدي مساهمة أعتقد أنها الأكثر موضوعية للأستاذ عروة الصادق، الناشط السياسي والقيادي بحزب الأمة. برأيه أن المؤتمر يمكن أن يكون جامعاً للسودانيين من كافة القوى السياسية والمجتمعية والادارات الأهلية، وأن يعمل كمنصة لتوحيد الأطياف المختلفة في السودان وتسبيك الهوية الوطنية ومنعها من الانجراف في تيار التخبط والتمزق والعصبيات الجهوية. عليه، يمكن أن يساهم المؤتمر في تحقيق استقرار سياسي عبر التوصل إلى تصورات وملامح اتفاقيات تساعد في تجاوز الانقسامات السياسية والمدنية تدفع لتوسيع الكتلة المناهضة للحرب.
لتحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية الهامة على طريق بناء الجبهة المنشودة، يري أستاذ عروة أن على قيادة "تقدم" توفير إمكانية إجراء حوارات بناءة بين الأطراف المختلفة ليتسنى تحقيق توافق في الآراء حول القضايا الرئيسة، لا أن يكون المؤتمر نسخة معلبة جاهزة التصميم. في هذا السياق لابد أن يمثل المؤتمر فرصة لضمان تمثيل جميع الفئات والمهن والإدارات الأهلية في عملية صنع القرار، وليس تمثيلاً شكلياً صورياً. إضافة إلى ذلك، لابد أن يعكس المؤتمر التنوع الثقافي والعرقي والنوعي للمجتمع السوداني.
بالنظر إلى جسامة التحديات الماثلة أمام "تقدم" لتحقيق هذه الأهداف، تعتبر هذه الورقة أن الهدف الاسمي ببناء "الجبهة الوطنية الجامعة" مازال مشروعاً قيد الإنشاء حتى إشعار لآخر. مع ذلك نحسب أن التوصيات أدناه التي خلصت إليها هذه الورقة ضرورية لرفد المشروع الوطني للجبهة المنشودة عندما تصبح أمراً واقعاً في المدى القريب بإذنه تعالي.
5.1 ماذا يعنى المنهج "التشاركي" لبناء السلام لمنبر جدة والإيقاد والمبادرات الإقليمية الأخرى؟
لقد أبِنّا في سياق الاستعراض النقدي لتجارب اتفاقيات تقاسم السلطة إلى أن هذه الاتفاقات لم تفشل فقط في بناء السلام، بل أدت إلى نتائج كارثية، رغماً عن الدعم الإقليمي والدولي والذي تمثل في ثلاثة بعثات أممية/إقليمية. مثلاً، أفضت اتفاقية "السلام الشاملة" بين الحركة الشعبية ونظام الإنقاذ إلى تقسيم البلاد في نهاية المطاف، بينما لم تكن اتفاقية جوبا عملية سلام ذات قاعدة عريضة من شأنها تمكين المجتمع المدني في المناطق المتأثرة بالنزاعات في البلاد، بل كانت أقرب لصفقة شمولية للثورة المضادة. لهذا، أعاقت هذه الاتفاقية المسار الدستوري نحو الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر، الأمر الذي ساهم في التمهيد لهذه الحرب العسكرية الفصائلية الحالية. عوار هذه الاتفاقيات، والذي ساهم في إفشالها، أنها قد كانت محصورة على النخب العسكرية والجيوش المتحاربة تحت إمرتهم.
عليه، إن المغزى من الدروس المستفادة من قصة بناء السلام في السودان هو أن إنهاء الحروب وإعادة بناء السلام يجب أن تكون عملية "تشاركية" يكون المجتمع المدني السوداني والقوى الديمقراطية المدنية في قلبها. وبالنظر إلى الإرث الديمقراطي السوداني الثر، وإن تمت إعاقته مراراً بسبب الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، فإن توفير مساحة وصوت لأصحاب المصلحة المدنيين سيكون رافعاً لا يُستهان به لمشروع بناء السلام الديمقراطي المدني. وفى هذا السياق وكما هو معلوم فقد أعلن رعاة مبادرات السلام الحالية، والتي تمحورت الآن حول منبر جدة، بأن هناك ثلاث مراحل لعملية السلام تبدأ بإجراءات وقف إطلاق النار والفصل بين القوات؛ ثم فتح ممرات الإغاثة والعون الإنساني؛ وصولاً إلى ترتيبات الفترة الانتقالية وإصلاح المنظومة العسكرية-الأمنية. إلا أن نجاح مساعي السلام عبر هذه المبادرات الإقليمية يتوقف على توفير مساحة لأصحاب المصلحة المدنيين، مثل الأحزاب السياسية وتنسيقيات الشباب ومنظمات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية، حيث يمكن أن يشكل ذلك عدة روافع هامة لنجاح عملية السلام:
• كطرف ثالث يقف على مسافة واحدة من طرفي الحرب العسكريين، يمكن لقوي مدنية ذات مصداقية أن تساهم في جسر الهوة الهائلة بين طرفي الحرب والتخفيف من حدة العداء بينهما
• القوى المدنية الديموقراطية كطرف فاعل في مبادرات السلام تستطيع أن تدفع في تشكيل سردية وطنية لتبني مفهوم ومنهج للإصلاح العسكري والأمني وفق المعايير العالمية القمينة ببناء جيش وطني وقوات نظامية حرفية، تحت إشراف سلطة انتقالية مدنية وإنهاء عسكرة السياسة والاقتصاد
• مشاركة القوى المدنية ستعزز اعتماد "المؤتمر القومي" الجامع كمنهج ومنبر لبناء السلام بديلاً عن اتفاقيات اقتسام السلطة والمحاصصة العسكرية الفصائلية، مما يقطع الطريق على أي ترتيبات محتملة تعيد البلاد لإرث الصفقات الشمولية وآثارها الكارثية.
بناءً على ما تقدم لابد من الإشادة بخارطة طریق "إنهاء الحرب وتحقيق السلام وتأسيس انتقال مدني ديمقراطي مستدام" لتنسيقية "تقدم"، والتي تضمنت ست مراحل وخطوات أساسية للوصول إلى هدف انتقال مدني ديمقراطي مستدام تشمل دوراً محورياً للقوى الديمقراطية المدنية وكافة أصحاب المصلحة المدنية، ما عدا قوي الثورة المضادة المعلومة. إلا أننا كما أشرنا أعلاه ببعض التفصيل، لكي تكتسب الشرعية والمصداقية من طرف الشعب السوداني والمجتمعين الدولي والإقليمي للنهوض بهذا الدور الجسيم، على "تقدم" على وجه الخصوص وسائر تشكيلات القوى الديمقراطية المدنية الأخرى عامة أن تعالج بعض القضايا العالقة من أجل التوصل إلى تشكيل "جبهة وطنية عريضة" لاستعادة الوطن من كل مكونات المجتمع لا تستثنى أحداً يؤمن بخيار الشعب في الحرية والسلام والعدالة ومرجعية ثورة ديسمبر المجيدة، على قاعدة وقف الحرب وبناء السلام المدني الديموقراطي المستدام، ومسترشدة بعقد اجتماعي متين.
5.2 لكن، لماذا تظل هناك حاجة إلى عملية أممية لبناء وحفظ السلام متعددة الأبعاد في السودان؟
وبالاستناد إلى نموذج "مثلث السلام" لدويل وسامبانيس، والأدلة المتينة المترتبة عليه، يجب على القوى السياسية وقوى المجتمع المدني السودانية معالجة تحدي ترميم رأس المال الاجتماعي الذي دمرته الحرب والقدرات المؤسسية المستنفدة، والتي تشكل ضلعي هذا المثلث. وهذا يتطلب بناء تحالف عريض القاعدة من أجل السلام المدني الديمقراطي، يتمثل في جبهة وطنية عريضة كما أشرنا سابقاً. ومع ذلك، وكما أفادت هذه الورقة، فإن حجم الدمار الذي أحدثته هذه الحرب والقتال المحتدم بين الجيشين، إضافة إلى الخطاب التصعيدي والأجندة الحربية المتطرفة التي تتسيد المشهد، فضلاً عن جرائم الحرب المروعة التي تحدث، لكل هذه الأسباب لا يوجد أفق لإنهاء هذه الحرب، ناهيك عن إعادة بناء سلام مستدام، دون دعم خارجي. عليه، يكتسب منبر جدة ومبادرات الاتحاد الأفريقي والإيقاد والدول الجوار أهمية خاصة.
لكن بالنظر إلى تهتك النسيج الاجتماعي المريع والانشطارات الهوياتية غير المسبوقة، فضلاً عن تجذُّر المصالح الاقتصادية-الريعية الفئوية لطرفي الصراع وارتباطها بعسكرة السياسة والاقتصاد، سوف لن تكون مجهودات بناء السلام سهلة حتى في ظل وجود جبهة وطنية وازنة وإرادة إقليمية قوية. عليه، نرى أن تأمين فرصة حقيقية للسلام قد يستدعي النظر في إسناد المبادرات الإقليمية الحالية بمشاركة أممية فاعلة، بحيث يتم رفد الضلع الثالث من مثلث السلام بعملية تحويلية، متعددة الأبعاد لحفظ السلام تقودها الأمم المتحدة، وبطبيعة الحال بمشاركة إقليمية. لن تساعد مثل هذه العملية المختلطة في فرض السلام وحفظه فحسب، بل أيضاً ستمكن أصحاب المصلحة السودانيين من المدنيين والعسكريين من تبني وتنفيذ الإصلاحات الأمنية القمينة بإعادة بناء قوات مسلحة غير مسيسة ومهنية بعيدة تماماً عن التعامل في الأنشطة التجارية أو أي شكل من أشكال المصالح الاقتصادية. لقد توصلنا إلى هذا الموقف من وجهة نظر نزعم بأنها تستهدي بدلائل إرث كبير من الأدبيات المتواترة عن تجارب بناء السلام، تحتوي على دراسات محكمة عن عمليات بناء السلام منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
في هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن هناك مبادرات وطنية تدعو إلى تبنى الطلب إلى الأمم المتحدة بدعم مشروع إنهاء الحرب وبناء السلام. ففي بيانهم الصادر بتاريخ 16 نوفمبر، 2023 في العاصمة المصرية، القاهرة، دعا تجمع "خبراء سودانيون ضد الحرب" إلى قيام "الجبهة الوطنية لإيقاف الحرب"، مشددين على حقيقة أن:
"كافة أجهزت الدولة ومؤسساتها المعنية بإعمال العدالة وفرض النظام، إما انها تآكلت أو انها أصبحت طرفاً فاعلاً في الحرب مما يجعلها غير قادرة على تحقيق استتباب الأمن وغير مؤهلة لتحقيق النظام والقانون، وادراكاً لهذه الحقائق أكد المشاركون عل أن تحقيق السلام الدائم واستدامة الأمن وفرض الاستقرار والعدالة يستدعي قيام الشرعية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة وميثاقها بمساندة الشعب السوداني وتمكينه من ممارسة حقه المشروع في الحفاظ على وحدة ترابه الوطني وصيانة استقلاله وممارسة سيادته الوطنية دون نقصان أو إفتئات، و أن السودان جديرٌ بهذا التضامن من الشرعية الدولية لكونه أسهم عل نحو فاعل منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين علي مساندة الأمم المتحدة في سعيها الدؤوب لإرساء السلم و الأمن الدولي و إقرار حق تقرير المصير للشعوب وتصفية الاستعمار في افريقيا و بقاع اخرى ف العالم."

وفى رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 18 أكتوبر، 2023، دعا تجمعٌ سودانيٌ من 16 جزباً سياسياً وقويً نقابية ومدنية مجلس الأمن الي:
“الشروع فوراً لتأسيس عملية شاملة لدعم السلام المستدام تابعة للأمم المتحدة لفرض السلم والامن في كل أنحاء السودان وأن يُبقي المجلس المسألة قيد النظر الفعلي، للتأكد من امتثال طرفا الحرب لطلبات المجلس بشأن الاجراءات ذات الصلة باستدامة السلام وضمان الانتقال المدني الديموقراطي. كما إننا نحث مجلس الأمن، على إنشاء لجنة تحقيق دولية، تضطلع بالتحقيق في التقارير المتعلقة بجرائم الحرب وانتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الانسان التي يرتكبها طرفا القتال وتحديد هوية مرتكبي تلك الانتهاكات لضمان محاسبة المسؤولين عنها. نحن نتطلع بأمل بالغ، ان يقوم سعادتكم بالاستجابة الفورية لدعوتنا، والطلب الي مجلس الأمن لعقد جلسة عاجلة لاتخاذ الإجراءات الفعلية اللازمة لإيقاف الحرب وإنهاء تداعياتها بالغة الخطورة على السلم والأمن الاقليمي والدولي."
وفى مقالٍ له في صحيفة الراكوبة الاليكترونية (عدد 15 مايو، 2024)، حذر الأكاديمي المرموق بروفيسور مهدى أمين التوم:
"من أن ما أفرزته الحرب اللعينة القائمة، وما أثارته من أحقاد وبغضاء في نفوس أهل السودان ضد بعضهم البعض، وما نشهده ونحس به من عدم تَعَلُّم المدنيين الحزبيين والمهنيين المتصدين للعمل العام، يلقي بظلال قاتمة علي إمكانية إنقاذ أنفسنا و وطننا بقدراتنا الذاتية الماثلة"؛ الأمر الذي دفعه إلى القطع بأن، "إن الوصاية، أو الإدارة، الدولية المؤقتة قد تكون فعلاً فكرة مجنونة ومربكة لكثيرين.. لكن الدافع وراءها قناعة أن الوطن محتاج إلى (جَمَّة) مؤقتة من أبنائه، ومتعطش إلي آلية قوية و فَاعِلة لفرض وقف فوري للحرب اللعينة القائمة، و لإعادة ترتيب البلاد دستورياً و أمنياً و إدارياً، لينطلق الوطن من جديد علي هدىً و علي دراية.."؛ مشيراً إلى "إنه إختبارٌ صعبٌ، وإختيارٌ تاريخي، لن يكون متاحاً إذا فات أوانه، وتحولت بلادنا، بالإرهاصات الماثلة، إلى كنتونات قبلية أو جهوية متصارعة ومتناحرة في ظروف لا تمت للقرن الحادي والعشرين بصلة، ولا تليق بأمة تعود جذورها التاريخية إلى عدة حِقَبٍ وقرون.."
برأي، رغماً عن أن ما يجرى في بلادنا جراء هذه الحرب اللعينة يمثل تهديداً وجودياً مكتمل الأركان، إلا أن علينا تفادى الذهاب بعيداً لدرجة طلب "الوصاية الأممية"، على أمل أن تتمكن القوى الديمقراطية المدنية من التوافق على مشروع الحد الأدنى ليتسنى تشكيل جبهة وطنية جامعة. بالمقابل، استناداً إلى التحليل والأدلة التي أفادت بها هذه الورقة بشأن تهتك رأس المال الاجتماعي وانهيار القدرات المحلية، توخى الواقعية والأمانة الفكرية يجب أن تقود هكذا جبهة إلى الدعوة صراحةً إلى عملية حفظ سلام أممية محايدة متعددة الأبعاد. هذه البعثة ستكون مكملة لمنبر جدة والجهود الإقليمية الأخرى، والتي بدورها ستمهد السبيل للموافقة الأممية لإنشاء هكذا عملية، بالنظر إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي من المأمول أن يُنجز في إطار منبر جدة يُعتبر شرطاً لازماً للموافقة المنشودة.
دعونا نذكِّر ما أشرنا أليه في سياق نموذج بناء السلام، حيث بينا بأن عنصر الكفاءة الدولية يمكن أن يخفف من الآثار السلبية لارتفاع مستوى العداء وانخفاض القدرات المحلية. وعلى وجه الخصوص، فإن دور عملية بناء السلام متعددة الأبعاد التابعة للأمم المتحدة والمجهزة تجهيزاً كاملاً والمفوضة بشكل كافٍ سيكون حاسماً. ومن المناسب التشديد على أن العمليات التي نحن بصددها لا تسمح بالتدخلات الخارجية الأحادية غير المحايدة من جانب فرادى البلدان، حيث أن عمليات الأمم المتحدة المناسبة لبناء السلام تعمل بموجب ولاية صارمة للغاية تضمن الحياد والنزاهة والتبعية لسيادة البلد المعني. عليه، تتوافق عمليات الأمم المتحدة لبناء السلام مع مرجعية الجبهة الوطنية الجامعة التي تضفي الشرعية المطلوبة للبعثة المنشودة للمساعدة في إنهاء الحرب وفرض السلام، مما يسمح للأطراف الوطنية المعنية بإطلاق الإصلاحات الأمنية والحوكمة السياسية والاقتصادية المطلوبة من أجل وضع البلاد على مسار التجديد والسلام المستدام.
5.3 لماذا الحاجة إلى مشروع نهضوي للنمو لتحقيق السلام المستدام في السودان؟
من المؤكد أن المعونة الإنسانية وتمويل إزالة الألغام والتسريح وإعادة الإدماج، على سبيل المثال، أمران حاسمان للغاية لبناء السلام، خاصة على المدى القصير. ومع ذلك، وبحسب الأدبيات المتواترة ، فإن النمو الاقتصادي التحويليtransformative economic growth) ( يمكن أن يدعم بشكل فعال التعاون بين الهويات المجتمعية من خلال تعزيز التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي العابر للهويات على الصعيد الوطني؛ وبالتالي تهدئة العداوات ولجم الخطاب "ما دون القومي"، المثير للغرائز البدائية الهدامة. وعلاوة على ذلك، فإن النمو ليس محركاً رئيساً للسلام المستدام فحسب، بل هو أيضاً من أهم روافع الديمقراطية المستدامة.
يرتكز مشروع النمو النهضوي على تسوية سياسية قوية، تؤدي إلى انتقال مدني، سلمى، ديمقراطي. وفي المقابل، يجب أن ترتكز هذه الشروط السياسية المسبقة على تغييرات جوهرية، مثل إنهاء عسكرة السياسة والاقتصاد السوداني بشكل فعَال، وبناء قوات مسلحة موحدة غير مسيسة ومهنية. وينطوي ذلك على تنفيذ إصلاحات أمنية تتماشى مع المعايير الدولية التي يوصى بها عادةً للبلدان الخارجة من الحروب الأهلية. وتشرف على هذه الإصلاحات سلطة مدنية انتقالية. علاوة على ذلك، يتوجب عقد مؤتمر وطني للسلام يجمع كافة الأطراف المعنية المدنية والعسكرية لتعزيز المصالحة والوحدة. أيضاً، يستلزم مشروع النمو النهضوي وضع حدٍ للمتلازمة السودانية المدمرة والشروع في نهضة اجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة، مسترشداً بعقد اجتماعي مستوحى من المبادئ "الأيقونية" لثورة ديسمبر "المجيدة": الحرية والسلام والعدالة. وتتطلب ضرورات النهضة السلمية الديمقراطية أن يراعي العقد الاجتماعي المتوخى الشرعية الاقتصادية والسياسية على حدٍ سواء. ومن ثم، يجب أن تكون النخب الحاكمة في المستقبل مسؤولة عن تحقيق التنمية والازدهار، وليس فقط الفوز في المنافسة الانتخابية.
5.4 نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى نظام سياسي فيدرالي بديل؟
أوضحنا في سياق مقاربة الأجندة السياسية للعقد الاجتماعي ضرورة إعادة النظر في ديمقراطية "وستمنستر" المختلة في السياق السوداني والنظر في اعتماد نظام رئاسي برلماني مختلط مع مجلسين تشريعيين، وهو برأينا سيكون أكثر قدرة على تحقيق الاستقرار وتوفير الضوابط والتوازنات المناسبة لمشهد سياسي يعاني من الاستقطاب المثير للانقسام، مثل السودان.
أيضاَ، فإن معالجة الإرث الفيدرالي الكارثي لنظام الإنقاذ البائد تعتبر أيضاً من أهم استحقاقات الشق السياسي للعقد الاجتماعي، حيث كانت الولايات كما بينّا في هذه الورقة قاعدة للحكم الاتحادي على أساس الزبائنية السياسية بين مركز السلطة في الخرطوم والنخب القبلية في الولايات، مما جعلها بؤراً للاستقطاب والنزاعات القبلية في سياق الصراع من أجل النفوذ والريع المترتب عليه. في هذا السياق نوصي بناءً على التحليل الضافِ لهذه الورقة بضرورة إلغاء الولايات والعودة إلى نظام الحكومات الإقليمية الست الأصلية - دارفور وكردفان وشرق السودان والخرطوم والنيل الأزرق وشمال السودان، مع ترشيق المحليات وحصرها على المدن الكبرى وأريافها في كافة الأقاليم. لقد أوردنا أيضاً بعض الأدبيات الوازنة التي أفادت بأن نظاماً فيدرالية ذو ثلاث مستويات للحكم - اتحادية، إقليمية ومحلية حول المدن الكبرى- سيكون رافعاً هاماً لمشروع اقتصادي نهضوي يستند الى المدن المنتجة ومحاور النمو حولها لإنجاز تحولاً هيكلياً في القطاع الزراعي السوداني الغني والمتنوع، والذي كان ولا يزال الركيزة الأساسية للاقتصاد السوداني.
تأسيساً على ما تقدم بشأن النظام الفيدرالي، نقطع بأن هدف الانتقال من المركزية الزبائنية – الريعية، كما كان سائداً في عهد الإنقاذ، يتطلب إعادة تموضع الحوار المجتمعي حول مستويات الحكم في سياق الفيدرالية التنموية المنتجة، بعيداً عن الجهوية الزبائنية.
5.5 نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى حكومات وحدة وطنية لإنجاز المشروع النهضوي؟
وتشير الدروس المستفادة من تجربتي نظامي الجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي ونظام الإنقاذ السوداني إلى أن "الاستبداد التنموي" لديه فرصة أفضل للبقاء من النظام الكليبتوقراطي الصريح. ومع ذلك، فإن الدروس المستفادة من فشل الأول في الحفاظ على السلام في إثيوبيا المنقسمة اجتماعياً بشكل كبير لا تقل أهمية، حيث تهدد الحرب الأهلية الأخيرة وعدم الاستقرار السياسي المستمر بالتراجع عن عقدين من الإنجازات الاقتصادية المذهلة.
أما السودان المنقسم اجتماعياً بنفس القدر، والذي لا يزال يترنح تحت تركة حكم كليبتوقراطي مدمر تمثلت في الانهيار الاقتصادي السحيق وعدم الاستقرار السياسي الحاد ومؤخراً الحرب العسكرية الفصائلية الحالية، فهو بحاجة ملحة إلى وقف الحرب وبناء السلام. ومع ذلك، كما أبنا أعلاه حتى هذا الإنجاز ليس كافياً لتحقيق انتقال مدني سلمى ديموقراطي مستدام. لبناء ديموقراطية متينة تحقق السلام والتنمية يجب على النخب الانتقالية والمنتخبة لاحقاً أن تختار "الرهان على التنمية" والسعي إلى "الشرعية الاقتصادية" وعدم الاكتفاء بـ"الشرعية السياسية" الانتخابية. ولضمان أن يكون لمعظم الفاعلين السياسيين، إن لم يكن جميعهم، حصة في نجاح النظام الديمقراطي واستقراره، فإن المؤسسة السياسية ستحتاج أيضاً إلى تشكيل حكومات وحدة وطنية لحقبة ما بعد الحرب، بما في ذلك الفترة الانتقالية وكذلك لفترة الحكومتين الديموقراطيتين اللاحقتين، بعد انتخابات مفتوحة وحرة. وبطبيعة الحال، ستعكس مثل هذه الحكومة الأوزان النسبية للمتنافسين في الانتخابات، ولكن لا ينبغي أن تقوم على أساس التنافس الانتخابي البحت.
كما أوضحنا في دراسات أخرى ، في ظل حكومات جبهة وطنية تمتد لما يقارب العقدين من الزمان، وتحت توافق وطني عريض على عقد اجتماعي متين، يمكن تحقيق مشروع تحول اقتصادي نهضوي عميق، يبدأ بإعادة الإعمار وصولاً لتحقيق معدلات نمو سنوية متواترة تقارب 10%، مما سيؤدى إلى مضاعفة الاقتصاد السوداني بحوالي ثمانية مرات خلال جيل واحد. سوف لن يؤدى هذا الإنجاز فقط إلى تحديث الطبقة الوسطى وبالتالي ترسيخ الديموقراطية بصورة عامة، بل سيكون فعالاً في تعزيز التعاون والاندماج الأثني والجهوي في المجتمع السوداني الذي ظل يعاني من الاستقطاب والانشطارات الهوياتية وتوظيفها سياسياً وعسكرياً من قبل النخب الشمولية.

5.6 نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى سردية وطنية فعالة لهندسة المشروع الوطني؟
هندسة المشروع الوطني تتوقف على قدرة القوي المدنية الديموقراطية وسائر أصحاب المصلحة في المجتمع السوداني المعبر عنها في سياق الجبهة الوطنية الجامعة على تطوير سوق سياسي مفتوح للأفكار من أجل رعاية حوار مجتمعي هادف وشفاف، يؤدي إلى "عقد اجتماعي" قابل للتطبيق لدعم المشروع الوطني. ومن الأدوات المهمة لتعزيز العقد الاجتماعي وجود "سردية وطنية“مقنعة وموحّدة. وتشير الأدبيات المتداولة إلى أن السرديات الوطنية تكون أكثر فعالية عندما تكون "محددة ثقافياً" و"ذات مصداقية". وانطلاقًا من السياق الاقتصادي والسياسي السوداني، ناقشنا اللبنات الأساسية للعقد الاجتماعي، مع الأخذ في الاعتبار الأجندة الاقتصادية والسياسية لتعزيز التسوية السياسية والتجديد والبناء الوطني. ونؤكد على أن التنفيذ الناجح للعقد الاجتماعي يجب أن يكون عملية حية من التعلم الاجتماعي والتفاعل المتبادل بين الجهات الفاعلة الرئيسة: المجتمع والنخب السياسية –الاقتصادية والعسكرية أيضاً.
في هذا السياق، يمكن أن تكون الدروس المستفادة من تجارب الدول الأخرى مفيدة ليس لمحاولة استنساخها، ولكن من حيث فهم العمليات الكامنة وراء التحول الذي تمكنت تلك الدول من تحقيقه. وبغض النظر عن الاختلافات في الأيديولوجية السياسية، فإن العمليات الكامنة وراء التحول الاقتصادي الهائل في الصين مهمة جداً للنظر فيها والتعلم منها. وكما أوضح البروفيسور بول كولير، فإن "سقالات" الصين لتحقيق تحولها كانت لها أربع لبنات بناء (كولير، 2019: ص 6-7):
"كانت الأولى هي السردية الشاملة التي انتشرت بين السكان، وهي إعادة بناء صين مرموقة وفخورة. والثانية كانت القيادة السياسية التي شجعت التعلم الاجتماعي المكثف والسريع لفهم ما يمكن أن ينجح في السياق المحلي. والثالثة كانت تقييم أداء أولئك الذين شغلوا مناصب السلطة ومحاسبتهم على النجاح والفشل. والرابعة كانت اللامركزية التي استُخدمت لتعزيز المنافسة المعيارية عبر الأقاليم، مما شجع على أخذ المبادرات وإجراء التجارب على المستوى المحلي."
ونحن كشعب سوداني في ظل هذه الحرب المأساوية علينا بادئ الأمر الغوص في أعماق شخصيتنا وقوامتها النفسية والاجتماعية وتراثها الديني والشعبي والتدبر في ذلك الذي حدث لنا وما دورنا نحن كمجتمع ونُخَب في صنعه. ولعل أبلغ تصوير لهذه الحالة ما جادت به عبقرية الأكاديمي والروائي الدكتور سامي حامد طيب الأسماء في روايته "أخت البداية". لقد وصف المؤلف عبد الجليل، بطل الرواية الذي آثر الهروب إلى خارج البلاد بدلاً من مواجهة مصيره إثر جريمة ارتكبها بجهالة، رغماً عن أنه عُرف بالشجاعة والإقدام، عرفه بأنه " لم يكن بدعاً في جيله":
"أجيال أدمنت الهروب. أدرنا ظهورنا حتى أدار الوطن لنا ظهره والآن نجني ثمار هروبنا هذا الشتات الذي نعيشه والضياع الذي يحتوينا، لا نكاد نتفق على فكرة حتى نختلف حولها ولا نجتمع حول راية حتى نبحث عن غيرها. نعم أخت البداية رواية أو قصة بل قل حكاية نسجتها خيوط الخيال وألبستها جسد واقع مليء بالأحداث الجسام التي غيرت وجه التاريخ نتذكرها جيداً ولم نستفد منها شيئاً."
وعلى المستوي الفكري ما فتئ الزعيم والمفكر الراحل الإمام الصادق المهدي من تحذير النُخب السودانية بعد ثورة ديسمبر المجيدة من خطورة الاستعلاء الفكري والسياسي وضرورة النهج التوافقي لنجاح الثورة، حيث كتب في سياق رؤية "لاستنهاض الوطن من دولة فاشلة الى مجدية ناهضة" (13 أغسطس، 2020):
"التعددية السياسية والفكرية جزء لا يتجزأ من النظام الديمقراطي. ولكن هنالك اتجاهات تقوم على نفي الآخر لا التعايش معه. هذه النظرة الإقصائية مرتبطة بمسألة الدين والدولة. إن لدى الحركة السياسية السودانية ذخيرة وافرة حول هذا الموضوع والمعادلة السلمية تتطلب ثلاثة أمور هي: كفالة المساواة في المواطنة، وكفالة حرية العقيدة، وحرية أصحاب المرجعية الدينية في الدعوة لمطالبهم مع الالتزام بحقوق المواطنة للكافة وبالنهج الديمقراطي. هنالك اتجاهات فكرية إسلامية وقومية عربية وأفريقانية وعلمانية وشيوعية تكفل لها حرية التعبير ولكنها ينبغي أن تراجع مواقفها لكي تسمح بقبول الآخر وإلا صارت خطراً على الديمقراطية ومدخلاً للفاشستية."
السردية الوطنية أيضاً تتطلب مقاومة اليأس والاستسلام وألا نيأس من روح الله:
"يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف، 87). صدق الله العظيم.
لهذا علينا التطلع للمستقبل والاحتفاء بعظمة ثورة ديسمبر المجيدة، فقد قال عنها أحد زعماء أفريقيا ممن قادوا مشروع الانتقال الديموقراطي في بلادهم:
"تجاوز الشعب السوداني النزعة الفردية والأنانيات الضيقة ليعانق السماء وليفتح لحكم الحرية والعدالة والسلام أرحب الآفاق، فإن كنا ننحي إجلالاً وتكرمة للحراك التاريخي فقد كنا مع ذلك نشفق على هذه الثورة من أن يجهضها القائمون عليها." (بروفيسور عمر كونارى، رئيس جمهورية مالي الأسبق، مقتطفة من مقالة "هل من أمل" للدكتور إبراهيم الأمين).
أما عميد الصحافة السودانية وأحد أيقونات الوطنية السودانية السامقة، الأستاذ الراحل محجوب محمد صالح، فقد خاطب القوي الديمقراطية المدنية، نيابة عن المبادرة الوطنية: "العودة إلى منصة تأسيس ثورة ديسمبر المجيدة"، التي قادها آنذاك، خاطبهم عندما تعثر المسار خلال الفترة الانتقالية وبدأت نذر الفتنة تكتنف البلاد كقطع الليل المظلمة، برسالة مفعمة بالحكمة والأمل والرجاء:
"إنها فرصة تاريخية للعودة إلى الوحدة ونقطة التأسيس. للعودة إلى أمجاد الثورة، وللشعب أمله وثقته في مكوناته السياسية والمجتمعية، وإحياء تطلعه لغد يليق بالوطن، ويتناسب مع التضحيات التي بذلت والدماء التي سالت في ثورة ديسمبر المجيدة".
وفى سياق التفاؤل بالمستقبل ولكن إذا حزمت الحركة الديمقراطية المدنية أمرها بالتوافق على الاستحقاقات الوطنية المطلوبة بإنجاز مشروع التحول السلمي المدني الديمقراطي النهضوي، فقد أشرنا في هذه الورقة، استناداً على دلائل متينة لدراسات وأبحاث محكمة عن الاقتصاد السوداني وموارده الزراعية الهائلة، إلي أن السودان في "ظل حكومات جبهة وطنية تمتد لما يقارب العقدين من الزمان، وتحت توافق وطني عريض على عقد اجتماعي متين، يمكن تحقيق مشروع تحول اقتصادي نهضوي عميق، يبدأ بإعادة الإعمار وصولاً لتحقيق معدلات نمو سنوية متواترة تقارب 10%، مما سيؤدى إلى مضاعفة الاقتصاد السوداني بحوالي ثمانية مرات خلال جيل واحد. سوف لن يؤدى هذا الإنجاز فقط إلى تحديث الطبقة الوسطى وبالتالي ترسيخ الديموقراطية بصورة عامة، بل سيكون فعالاً في تعزيز التعاون والاندماج الأثني والجهوي في المجتمع السوداني الذي ظل يعاني من الاستقطاب والانشطارات الهوياتية وتوظيفها سياسياً وعسكرياً من قبل النخب الشمولية."
وأخيراً، لأن الإنجازات الكبرى التي تستحقها هذه الثورة العظيمة وشبابها الأبطال تتطلب من النُخبة السودانية وحدة الهدف ورص الصفوف للتوافق حول جبهة وطنية عريضة لإنهاء هذه الحرب اللعينة وبناء السلام واستعادة الوطن وسلامته ونهضته، دعونا مرة أخرى نتدبر في إحدى حِكَم الأمام الراحل التي أطلقها في سياق إعلان التأسيس الرابع لحزب الأمة الذي رفع فيه شعار “التقدمية المؤصلة”، حيث قال:
"فإننا سنسعى لنتحالف مع غيرنا لأننا حتى ولو كان لدينا سند 80% فإننا نسعى للتحالف مع غيرنا، من هم هؤلاء الغير؟ هنالك اليمينيون الذين يغلبون التأصيل على التحديث، واليساريون الذين يغلبون التحديث على التأصيل، نحن سنجمع الذين يوفقون بين التأصيل والتحديث" .... "وفي ذلك سنجمع إلى حد كبير بالتوافق والحوار مع كل الذين رفعوا السلاح لأننا لسنا ضد أهدافهم، ونعتقد أن أهدافهم كانت صحيحة، لكنا اختلفنا مع وسائلهم، فما دام هناك اتفاق على الأهداف، وهي: لا مركزية للولايات، قسمة عادلة للسلطة، قسمة عادلة للثروة، اعتراف بالتنوع الثقافي، واعتراف بحقوق الإنسان. فهي أشياء مطلوبة لهم ولنا، لذلك نقول لهم أول شيء بعد الحرب لا بد من وضع السلاح “أرضاً سلاح” فلا حاجة له الآن وكلنا متفقين على الاستجابة للمطالب". (مقتطفات من خطاب الإمام الصادق المهدى، الجزيرة أبا، 6 يونيو 2019).
إذا التفَ حولَ الحقِ قومٌ فإنه يُصرِم أحداثَ الزمانِ ويُبرِم

المراجع العربية:
إبراهيم، عبد الله علي. 2021. "مفهوم النخبة: أتعثر حين أرى". ورقة مقدمة في مؤتمر "التحول الديمقراطي في السودان والجزائر" (باللغة العربية).
البدوى، إبراهيم. 2024أ. "نحو مشروع وطني سوداني ثلاثي الأبعاد من أجل السلام والانتقال المدني الديموقراطي النهضوي: أولاً، نزع شرعية الحرب وإبانة آثارها الاقتصادية ومخاطرها الوجودية"، غير منشورة، مايو.
الأمين، إبراهيم .2024. "هل من أمل" غير منشورة.
المك، هنادى. 2024. "النزاعات والحروب وتداعياتها على إقليم النيل الأزرق،" المرصد السوداني للشفافية والنزاعات، تقرير الوضع الإقليمي رقم 4: https://sudantransparency.org/
جلال، صلاح. 2024. "حول – سيكولوجيا العنف وأبناء الفوضى – يعبدون الطريق للحرب الأهلية الشاملة"، غير منشورة، مايو.
الجزيرة نت. 2022. "نزاعات قبائل السودان.. من مناوشات "الحواكير" إلى احتكار مواردها":
https://www.ajnet.me/politics/longform/2022/8/25/%D9%86%D8%B2%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D9%82%D8%A8%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%BA%D8%B0%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D9%88%D9%85%D8%A7
المراجع الانجليزية:
Barro, Robert (2015), “Convergence and Modernization”, Economic Journal, Volume 125, Issue 585, pp. 911- 942, June.
Bormann, Nils-Christian and Ibrahim Elbadawi. 2021. “The Juba Power-Sharing Peace Agreement: Will It Promote Peace and Democratic Transition in Sudan?” ERF Working Paper No. 1490, Economic Research Forum, Cairo, Egypt, October.
Collier, Paul (2019). “Ideas, networks and jobs: rebasing growth in the Middle East and North Africa”, ERF Working Paper # 1331, Economic Research Forum, Cairo, Egypt, August: https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/17938120.2019.1664843?journalCode=rmdj20
Collier, Paul and Dominic Rohner. 2008. “Democracy, Development, and Conflict,” Journal of the European Economic Association. Vol. 6, No. 2/3, Proceedings of the Twenty-Second Annual Congress of the European Economic Association (Apr. - May, 2008), pp. 531-540.
Craze, Joshua and Kholood Khair. 2023. “The Remains of the JPA: The Unlearnt Lessons of the Juba Peace Agreement”. The Rift Valley Institute: https://riftvalley.net/wp-content/uploads/2024/01/The-Remains-of-the-JPA_Nov-2023-FINAL.pdf
Dercon, Stefan. 2022. Gambling on Development: Why Some Countries Win and Others Lose. Hurst & Company, London, UK.
Diwan, Ishac (2022), “Background to MENA Commission on Stabilization and Growth,” background paper, prepared for the ERF-FDL project on stabilization and growth, October.
Doyle, Michael W. and Nicholas Sambanis.2000. “International Peacebuilding: A Theoretical and Quantitative Analysis.” American Political Science Review, 94 (4):779- 801
Doyle, Michael W. and Nicholas Sambanis. 2006. “Making War and Building Peace: United Nations Peace Operations.” Princeton University Press.
Eissa, Nada and Hamid Eltgani Ali. 2022. “Rebuilding the State Fiscal Federalism in Sudan”, ERF Working Paper No. 1596, Economic Research Forum, Cairo: November.
Elbadawi, Ibrahim (2008). “Perspective article on the Challenge Paper: The Security Challenge in Conflict-Prone Countries”. Copenhagen Consensus 2008 Perspective Paper, March.
Elbadawi, Ibrahim and Federico Fiuratti. 2024. “Sudan Contrasting Economic Fortunes: The Perils of Ethnic War versus The Dividends of Civil Democratic Peace”, unpublished mimeo, Economic Research Forum, May.
Elbadawi, I., M. Amin, A. Elobaid, A. Alhelo, A. Osman and K. Suliman. 2023. “Post-conflict Reconstruction, Stabilization and Growth Agenda for Sudan,” ERF Working Paper No. 1662, Economic Research Forum, Cairo, Egypt, November.
Elbadawi, Ibrahim and Alzaki Alhelo (2022). “The Sudan Syndrome: State-Society Contests and
the Future of Democracy Post-September 2018 Revolution”, unpublished mimeo, The Economic Research Forum, Cairo, Egypt.
Elbadawi, Ibrahim; Abdelrazig Elbashir; Abdelrahman Osman; Amir Hamid Elobaid; Elfatih Eltahir; Alzaki Alhelo and Kabbashi M. Suliman. 2022. Sudan’s Challenges and Opportunities - A Renaissance Project for Sudan: From Poor Agriculture to Agro-Industrial Growth and Sustainable Development. ERF Policy Research Report No. 40, Economic Research Forum, Cairo: July.
Elbadawi, Ibrahim and Samir Makdisi (editors). 2016. Democratic Transitions in the Arab World. Cambridge University Press.
Elbadawi, Ibrahim and Samir Makdisi (editors). 2011. Democracy in the Arab World: Explaining the Deficit, Routledge, Ottawa & London (An Arabic version published by The Council for Arab Unity Studies, Beirut, Lebanon).
Epstein, David Lester and Bates, Robert and Goldstone, Jack A. and Kristensen, Ida and O'Halloran, Sharyn. 2005. “Democratic Transitions”. Available at SSRN: https://ssrn.com/abstract=920180 or http://dx.doi.org/10.2139/ssrn.920180
Lipset, Seymour. 1959. “Some Social Pre-requisites of Democracy: and Economic Development and Political Legitimacy,” American Political Science Review, 53.
Rodrik, Dani, and Romain Wacziarg. 2005. "Do Democratic Transitions Produce Bad Economic Outcomes?" American Economic Review, 95 (2): 50-55.
Sambanis, Nicholas. 2008. “Short- and Long-Term Effects of United Nations Peace Operations,” The World Bank Economic Review, Vol. 22, No. 1: pp. 9-32.

raiseyourvoicenow@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوى الدیمقراطیة المدنیة السیاسیة والاقتصادیة عملیات الأمم المتحدة الاتحاد الأفریقی فی ثورة دیسمبر المجیدة الدروس المستفادة من فی المجتمع السودانی الحکومة الانتقالیة السیاسیة والاقتصاد الشرعیة الاقتصادیة المسلحة السودانیة الاقتصاد السودانی السیاسة والاقتصاد المدنی الدیمقراطی الفترة الانتقالیة المال الاجتماعی المعارضة المسلحة الوطنی السودانی العقد الاجتماعی الحرکات المسلحة القدرات المحلیة إنهاء هذه الحرب فی نهایة المطاف الشعب السودانی الحروب الأهلیة المشروع الوطنی المجتمع المدنی جراء هذه الحرب على وجه الخصوص للأمم المتحدة الحرب اللعینة النخب الحاکمة الدعم الخارجی الحرب الأهلیة أصحاب المصلحة هذا الاستحقاق من أجل السلام علاوة على ذلک نصیب الفرد من فی هذا السیاق تقسیم البلاد تحقیق السلام نظام الإنقاذ لبناء السلام المدن الکبرى الدعم السریع اندلاع الحرب جنوب السودان عملیة السلام تقاسم السلطة من المرجح أن الذی ساهم فی هذا النموذج أهل السودان خلال الفترة على التنمیة سلام مستدام یجب أن تکون یجب أن یکون القبلیة فی هذه الورقة بناء توافق مجلس الأمن حفظ السلام الأمر الذی فی السودان بالنظر إلى إعاد

إقرأ أيضاً:

فرص السلام .. و جاهزية “تقدم”

عادل إسماعيل
تداولت الأنباء خبر ترتيب الجارة مصر لمسعى جمع الأطراف السودانية التي تتجاذب تفسير الواقع المؤلم الذي يعيشه الشعب السوداني ، و نحن هنا نطلق عليه مجازا الصراع السياسي . و ليس هناك صراع سياسي في واقع الأمر ، إنما أفكار قديمة مبعثرة تجاوزها الواقع السوداني بحربه الأهلية و بثورته قبل ذلك .
فعقب الثورة التي أطاحت بحكومة الإسلاميين ، لم يكن لدى القوى السياسية و النقابية ، التي تصدرت المشهد ، برنامج عمل للانتقال السياسي من حكومة الحزب الواحد صاحب المشروع الحضاري الملفق ، إلى حكومة في مقام التحديات الكبيرة . و قد اشتكى الدكتور حمدوك ، قليل المعرفة بالفعل السياسي السوداني حينها ، من غياب هذا البرنامج .
و في حقيقة الأمر ، لم يدع شباب ثورة ديسمبر 2019 الفخيمة ، و لا يزالون لا يدعون أنهم يملكون تصورا لما بعد الإطاحة بالحزب الإسلامي الحاكم , فكانوا يقولون "تسقط بس" ، و كانوا يعتقدون أن بعد "بس" هذه تقع مسئوليته على عاتق القوى السياسية التي كانت في المعارضة ، و هو شيء منطقي منهم .
و في حقيقة الأمر ، قاد الثورة السودانية في ديسمبر 2019 ، وعيان إثنان: وعي شبابي و هو كثير الطموح و قليل المعرفة ، و وعي الطبقة الوسطى الجديدة و هو وعي قليل الطموح و كثير المعرفة . و قد تحدثنا عن ذلك في غير مقال بالتفصيل . و لكن ما نحب التوكيد عليه ، هنا ، أن هذين الوعيين لم يخرجا من مواعين الأحزاب ، حتى تساءل أحد الكتاب مندهشا: من أين خرج هؤلاء ؟ في تناص معكوس مع سؤال الطيب صالح الشهير .
و كما ترى ، جاء وعي الشباب قليلا لأنهم لم يتلقوا تعليما جيدا ، فقد جاء في استراتيجية فلسفة التعليم لحكومة الإسلاميين ، إن التعليم ينبغي أن يلبي أشواق "الأمة" و المقصود بهذا "أهل القبلة" بحسب فهم الإسلاميين للأهل و للقبلة . و توكيدا لهذا الاتجاه ، فرضت مادة "الثقافة الإسلامية" في الجامعات و المعاهد التي وضعها الدكتور عبد الحي يوسف ، و هو من السلفيين حلفاء الحزب الإسلامي الحاكم حينها ، و قيل إنه كان يشغل خمس عشرة وظيفة حكومية و يتلقى من الرئيس المطاح به شعبيا ، عمر البشير ، أموالا ضخمة (لنشر الإسلام) . و لكن مع هذا التعليم الهزيل ، كان الشباب يتلقون معرفة بصرية مبعثرة صبتها ، على عقولهم الجائعة الضيقة ، نوافير الري الفضائي المنهمرة من الأقمار الصناعية ، بما يتيح لهم مقارنة حياتهم الرثة بالحياة التي يستحقون . و هذا هو السر في مزيج الوعي القليل مع الطموح الكبير . و أما الطبقة الوسطى الجديدة ، و هم مفصولو "الصالح العام" و صغار الموظفين الذين يعتقد أنهم غير حسني الإسلام ، فقد تفرقوا في دروب الحياة يعافرونها في قطاع الاتصال و المواصلات و صناعة الأطعمة و بقية المهن الموقوتة ، و ذلك لتوفير مستلزمات الصحة و التعليم بعد ما افتخرت سلطة الإسلاميين بجعل الأخرين موردا من مواردها . فأكسبهم ذلك وعيا عمليا عنيدا استغرقه هذان البندان الملحان اللذان مثلا سجنا لطموحهما . و هذا هو السر في مزيج الوعي الكثير مع الطموح القليل هذه المرة .
فلو أدركت القوى التي تصدت لقيادة التغيير "قوى الحرية و التغيير" ، طبيعة الوعي الذي صنع الثورة ، لأدركت أن هذين الوعيين تكشحا خارج المواعين الحزبية ، و بالتالي كان عليها العمل خارج جنازيرها الحزبية ، و كيدها السياسي الكلاسيكي الصبياني .
أهدرت حكومة الانتقال زمنا ثمينا في محاكمات عقيمة و تسيير "مليونيات" تستهدف شركاءهم العسكريين ، الذين كانت تتظاهر بالعداء معهم ، كما كشفت ذلك عضو المجلس السيادي المستقيلة حينما قالت إن وزراء الحكومة المدنية لا يلتقونهم عندما يزورون القصر الجمهوري و يكتفون بالجلوس مع الشق العسكري .
لو أنجزت حكومة الانتقال شيئا حياتيا واحدا ، لثبتت الفترة الانتقالية ، و لكنها كانت في حالة تلمظ دائم للاستحواذ على السلطة ، و لم تعاد العسكر إلا بعد أن فكر العسكر في استبدالهم بمدنيين آخرين كانوا جزءا منهم . و هذا التلمظ للسلطة زين لهم إهمال الشباب و هم الركن الركين في تفجير ثورة ديسمبر 2019 الفخيمة ، حتى أنهم كانوا يتزاوغون من لقائهم حين يزورهم الشباب في مكاتبهم بحجة أنهم مشغولون . و في واقع الأمر لم تكن الحكومة الانتقالية تفعل شيئا بل كانت تنتظر البعثة الدولية ( اليونيتامز) لتعمل عملها بدلا عنها ، على كل المستويات ، حتى أن وزارة الإعلام نقلت لليونسكو ملفات الوزارة لتصيغ منها برامج إعلامية لتحقيق أهداف الثورة .. و شجع هذا الجو الخمولي أحد الوزراء الخملاء أن يقول إنهم لم يجدوا قاعدة بيانات يشتغلون عليها ، دون أن يكلف نفسه أن يشرح لنا ماذا يفعل كل يوم في مكتبه الوثير .. إن هذا العطب الأدائي ، إن لم تقل المعرفي ، جعلهم يتحججون بعرقلة "الدولة العميقة" الإسلامية لهم ، كأنهم أخذوا منها عهدا لمساعدتهم في إنجاح الانتقال . و هذا ما أتلف الانتقال و بدد زخم الثورة و أحبط الشعب السوداني ، حتى أن كاتبا محترم الكتابة ، و هو عبد الله مكاوي ، قال إن أسوأ ما في هذه الحكومة أننا مضطرون لدعمها .. و عندي ، إن هزال أداء "قوى الحرية و التغيير" و تفاهة أفكارها هو الذي نفخ الروح في الحركة الإسلامية و أطمعها في السلطة مجددا .
و كما ترى ، فإن فشل الحكومات المدنية يغري العسكر بالتدخل الغليظ في إدارة الدولة ، و هذا الأمر ينتظم كل التاريخ السياسي في السودان و في غيره . و حتى إنقلاب 21 اكتوبر الأخير ليس استثناء من ذلك ، وقد تناولناه بشئ من التفصيل في مقال حمل عنوان "نعم انقلاب و لكنه ملء تلقائي للفراغ" ، و لا ضرورة لإيراد محتواه مجددا . و ما نحب الإشارة إليه هنا ، هو أن هذه الحرب البليدة الدائرة الآن ، ما هي إلا وجه من تجليات فشل الحكومة المدنية الانتقالية و خوائها السياسي . و لا يهمني في هذا المقال من بدأ الحرب ، سواء أكانوا إسلاميي المؤسسة العسكرية أم إسلاميي ا"لدعم السريع" ، أو غيرهم . ما يهمني بالدرجة القصوى هو كيفية وقف هذه الحرب التي احتشدت فيها القبور و امتد فيها الموت حوالي هذا الشعب الكريم ..
و عندما تريد أن توقف فعلا عن الاستمرار ، فإنك تضع يدك على الفاعلين المباشرين ، و هم ، هنا ، قيادة الجيش السوداني و قيادة "الدعم السريع" ، و ليس غيرهم .
و الجيش قديم ، و ا"لدعم السريع" حديث . و الجيش كيان قومي و لعل هذا ما يفسر ميله ذات الشمال مرة و ذات اليمين مرة . كما إنه لم يصطنعه حزب سياسي ، إنما تستغله المجموعات السياسية التي نطلق عليها مجازا أحزابا في صراعها البليد و الإفنائي على السلطة . فما أن وطأت مجموعة سياسية أرض الجيش ، حتى سفحت الأخرى الدمع على موطئها ..
و في ميله ذات اليمين و ذات الشمال ، تعرض الجيش لتخريب كبير ، جاء جله مع الإسلاميين الذين كان انقلابهم قبضة إسلامية بقفاز عسكري عام 1989 . و بالرغم من هذا التخريب المدروس ، لم يطمئن الإسلاميون له ، و هم محقون في ذلك ، فأنشئوا ترياقا له قوات "الدعم السريع" ، و سامحوها في إذلالها لكبار الضباط و حموا فظائعها من إدانة المجتمع الدولي الذي يستعطفون ، الآن ، إدانته لها ..
أما "الدعم السريع" تحت قيادة حميدتي ، و هو الطرف الثاني المباشر الذي يحمل السلاح ، فأمره غريب و مسيرته درامية . كان لحميدتي رغبة جامحة ، و دعني أتجرأ و أقول و صادقة أيضا في مساعدة الشعب السوداني ليكون مقبولا رائدا لحقبة ما بعد ثورة ديسمبر 2019 . فكان انحيازه لهذه لثورة عاملا حاسما منقطع النظير لإنجاحها . فإذا كان إطلاق الرصاص حاسما في تاريخ الثوارات ، فإنه في حالة حميدتي كان صمت الرصاص هو العامل الحاسم . و كما تعلم ، يا ابن ودي ، إن في الصمت كلاما .. و بالرغم من قدرة حميدتي للتعلم السريع ، إلا أنه لم يجد حوله من يرسم له طريق القبول و الريادة . فوجد نفسه صاحب أموال ضخمة و قوة عسكرية كبيرة و لكن بلا "دماغ" ، أي بلا فكرة تعبر عنها هذه القوة و الثروة ، فجعل يبحث عن "فكرة" كما سنرى .
غني عن القول ، إن كل حركات الكفاح المسلحة بدأت بفكرة تكافح من أجلها ، بغض النظر عن صوابية هذه الفكرة و بغض النظر عن إحسان منتسبيها للتعامل مع الفكرة و غاياتها ، لكن لابد من وجودها أولا . فالفكرة إنما هي الكتاب المنير لحركة الكفاح المسلح ، تمشي على هداه ، و تجتذب بها مؤمنين جددا ، و تفتح بها مدرسة كادرها لتعلمهم السلوك المنضبط في الحرب و السلم لتحقيق مراميها . و لكن حميدتي انفصل عن الفكرة التي أنشأته ، فأصبح يبحث عن فكرة تعبر عنها قوته و ثروته . و لعل هذا ما يفسر تيه و ضياع مستشاريه ، فمرة هم يكافحون دولة 56 و مرة هم يكافحون التهميش و مرة هم يكافحون الإسلاميين "الكيزان" ، و مرة هم يكافحون من أجل المدنية و الديمقراطية . كما يفسر السلوك البربري لمسوبي الدعم السريع في المناطق التي يسيطرون عليها . ففي غياب الفكرة ، لا شيء يغري بالقتال سوى أن يقال لهم إن ما تتحصلون عليه يعتبر ملكا لكم . و بالرغم من غياب الفكرة إلا أن وجود حميدتي في بداية الحرب كان له أثر كبير في ضبط سلوك منسوبيه . فالرجل الذي كان يرغب في إعادة كتابة سيرته ليكون مقبولا في المجرى العام للمشهد السوداني ، يعلم بفطرته القوية أن الاعتداء على ممتلكات الغير و نهبهم و تخريب البنى التحتية إنما يحطم أحلامه للأبد . و لكن سرعانما أختفى الرجل ، فانطلق قمقم البربرية و الإجرام من محبسه الموقوت ، فماذا تنتظر من ثروة و سلطة بلا "دماغ" ؟؟
عاد حميدتي و هو طويل الظهر ، لكنه وجد خرابا لا يمكن إصلاحه ، و لا يمكن قبوله . على أية حال ، أنا أحب أن أصدق أنه حميدتي لكى أوقف به هذه الحرب البليدة ، فما يزال للرجل نفوذ على قوات "الدعم السريع" و إن طال ظهره .
و في الجهة المقابلة ، تجد أن "قوى الحرية و التغيير" ، و هي القلب النابض لجبهة "تقدم" ، بعد فقدانها للسلطة بانقلاب البرهان و نائبه حميدتي ، ظنت أن رفض الشارع للعسكر إنما هو دعم تلقائي لها ، فأطلقت تصريحات مهينة للعسكر ، و تأففت من الجلوس معهم مجددا ، وصل حد وصفهم بالبوت ، و للرمز دلالته ، أما حميدتي أصبح مجرد الجلوس معه انتقاصا لوزنهم "النضالي" . و لما شعرت "قوى الحرية و التغيير" بسحب السلطة من تحتها و من فوقها ، باستدراج البرهان لمجموعة منها ، عرفت في الأدب أو قلة الأدب الصحفي ، بجماعة الموز و المحاشي ، لتكون وجها مدنيا للعسكر ، و هي جماعة ظهر فسادها و هي داخل معطف "الحرية و التغيير" و لم تحرك الأخيرة ساكنا بشأنها . و أما فقدان السلطة من فوقها ، فقد جسدته السفيرة الأمريكية مولي في ، التي كانت تشرف على "الرباعية" في بيت السفير السعودي ، بقولها إن الولايات المتحدة على استعداد للتعامل مع أي حكومة مدنية و ليس بالضرورة أن تكون "قوى الحرية و التغيير" شريكا فيها . فلم تجد "قوى الحرية و التغيير" ، القلب النابض لجبهة "تقدم" ، سوى الرجوع للشوارع التي لا تخون . و لأن الشوارع لا تخون بالفعل ، فقد رفضت وجودهم بينهم و شوهدت أكثر من حالة لطردهم الخشن من "مليونيات" هذا الشارع .
و كما ترى ، أصبحت هناك "فكرة" تهيم على وجهها في طريق العراء السياسي ، تبحث عن ثروة و سلطة .. ثم لمع برق الحرب الخلب في هذا الطريق ، فإذا بها ترى في نهايته "ثروة و سلطة" تبحث عن فكرة . فهرول الهائمان نحو بعضهما ، فلما الركب بالركب التقى ، قضى حاجاته الشوق الملح (ضم الميم إلى صدرك و أشدد من أزر الحاء المهملة) .. و هذا هو السر في الانجذاب المغناطيسي بين "تقدم" و "الدعم السريع" .. إنه تحالف مصيري ، إنه تحالف سيامي يلتصقان بالرأس و السواعد .. و غني عن القول ، إن السواعد في زمن الحرب تكون أعلى كعبا .
الدكتور عبد الله حمدوك الاقتصادي الأممي ، تقبل العمل رئيسا لوزارة الانتقال ، و بالرغم من براعته الاقتصادية ، إلا أنه كان شحيح المعرفة بالفعل السياسي . و هذا ليس مستغربا ، حيث تمنع منظمة الأمم المتحدة كبار موظفيها للتوغل في العمل السياسي ضمانا لحيدتها .. هذا الرجل يملك برنامجا اقتصاديا كبيرا ، قسم فيه السودان لخمس ولايات انتاجية ، تحدث هو عنه في أخريات أيامه في الوزارة . و ظني أنه في فترة الثلاث سنوات قد عرف قدرا لا بأس به من الفعل السياسي الضروري لإنجاح هذا المشروع الاقتصادي الكبير .
قلنا أعلى هذا المقال ، إن وقف الحرب يتطلب الاقتصار على اتفاق وقف النار بين الفاعلين المباشرين . و هذا يعني بتر الصلة بين أي تفاوض عسكري الطابع و أي عمل آخر اصطلحنا عل تسميته مشروعا سياسيا . و لتستمر المجموعات السياسية أن تعك عكها بمؤتمرها الوطني أو بدونه . ما يهمني أنا وقف القتل و التشريد و العذاب ، و توصيل الأغذية و الأدوية لهذا الشعب الكريم .
بعد ترتيبات وقف الحرب ، اقترح تكوين حكومة تسيير للتعافي و الانتقال برئاسة حمدوك بعد استخلاصه من أيدي "تقدم" و نزعه منها . و لتتقدم "تقدم" من دونه كما تشاء ، و ليتقدم الإسلاميون كما يشاءون ، فموعدهم المجلس التشريعي الانتقالي بنسبة 25% أجمعين و 25% أخرى للحركات المسلحة و 50% للشباب ، و ذات النسب للجنة إعادة الإعمار . فلا وجود ل"تقدم" أو غيرها في حكومة التعافي و الانتقال ، إنما قيادة الجيش و قيادة "الدعم السريع" فحسب ، فهما اللذان أوقفا الحرب ، و هما اللذان يقع على كاهلهما فرملة منسوبيهما و القضاء على متلفي السلام فيهما إذا لزم الأمر ، سواء أكانوا إسلاميين أو غير ذلك . ثم تشكيل الحكومة من الصف الثاني في الوزارات الحالية ، الذي أطلقنا عليها من قبل "حكومة النواب" .
كان في النفس شيء يقال بشأن تضخيم "تقدم" و "الإسلاميين" لبعضهما البعض من أجل إظهار أهمية ذاتية تجعلهم مهمين في هذا المشهد الدرامي العجيب ، لكن هذا المقال قد طال ، و يحسن ختامه هنا .


adil.esmail@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • في رسالة إلى مجلس الأمن.. الإمارات تدفع مجدداً من أجل تعزيز السلام في السودان
  • فرص السلام .. و جاهزية “تقدم”
  • فيديو من ناسا يأخذنا في رحلة مثيرة داخل “أعمدة الخلق”
  • زيلينسكي: خطة إنهاء الحرب مع روسيا ستكون جاهزة هذا العام‎
  • الداخلية تكشف ملابسات إنهاء حياة نقاش في دار السلام
  • من تحديات التحول الديمقراطي في السودان «2–4»
  • الجزائر: السلام في اليمن بناء على المرجعيات أمر أساسي للإستقرار في المنطقة
  • فيديو من ناسا يأخذنا في رحلة مثيرة داخل "أعمدة الخلق"
  • دعونا نضع حداً لحرب الضعفاء هذه: الجزء الأول
  • مدربة صحة نفسية تشدد على ضرورة بناء مساحة من الثقة بين الآباء والأبناء