ثمة أسئلة مستقبلية - لمستقبلنا القصير - لا يمكن القفز عليها - حتى وإن دارت في سياقات بعيدة عنا نسبيًا - إلا أن امتداد أثرها سيطالنا بشكل أو بآخر، هذه الأسئلة تشكّل على الأقل مستقبل ما تبقى من العام الحالي (2024) ومستقبل العام المقبل (2025) في أبعادها السياسية والاقتصادية والبيئة والاجتماعية. ووسط هذه الأسئلة تنمو بضعة متغيرات لا يُمكن القبض عليها، ولكن يمكن تقدير سيناريوهات احتمال وقوعها؛ لعل آخرها العلامات التي تظهر بين فترة وأخرى حول احتمالية حدوث صراع بين الصين وتايوان، وما قد يشكله هذا الصراع من استتباعات على مآلات القوى العسكرية، وسحب أنظار العالم إلى نقطة صراع جديدة محتملة، والتأثير على القطاع الصناعي العالمي، بالإضافة إلى التهديدات المحتملة على سلاسل الإمداد والتوريد، والتوقع بارتفاع أسعار السلع العالمية، ودخول العالم في موجات تضخمية محتملة.
ما يحدث اليوم في غزة يرتقي إلى مستوى أهم أسئلة المستقبل القريب بالنسبة للمنقطة، سواء في شقة الإنساني، متمثلًا في ضرورة إيقاف المأساة الإنسانية الحاصلة، والدفع بالتعاون الإقليمي لتحييد العدوان الغاشم، وضمان إيجاد آليات فاعلة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى رقعة الحرب، أو في شقه السياسي والعسكري، خصوصًا في ظل استمرار الكيان الغاشم في انتهاك آليات وتوافقات المؤسسات الدولية ومواصلة حرب الإبادة، وسعيه إلى توسيع نطاق الصراع، أو في شقه الاقتصادي والذي يضع الكثير من القيود حول مأمونية ممرات الملاحة البحرية وبالتالي خسارة العديد من المكاسب الاقتصادية التي يحققها القطاع اللوجستي، وتضاعف كلف التأمين، واضطرار الدول للبحث عن بدائل للنقل، وبدائل اقتصادية لتنويع اقتصادياتها.
لا يمكن إغفال مسألة تغير المناخ عن أي سؤال عن المستقبل، ولكن ما يشكل مستقبل تغير المناخ هو تعقد أضراره، واشتباك أوجه الخسائر العالمية فيه، حيث تقويض البنى التحتية، والإضرار بالصحة العامة للإنسان، وخسارة المكاسب الاقتصادية، عوضًا عن القيود التي يفرضها على عودة عمليات التنمية إلى المربع الأول. قدرت دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي أن تكلفة الأضرار الناجمة عن الطقس القاسي من عام 2000 إلى عام 2019 شكلت نحو 143 مليار دولار في المتوسط، بما يساوي حوالي 16.3 مليون دولار في الساعة. يبدو المستقبل لا يعتمد فقط على الاحتمالات الهيكلية لحالات تغير المناخ وتأثيراتها ولكن كيف يمكن صناعة المجتمع المرن بالسلوك والعادات والثقافة ليكون مهيئًا لخطر تزداد ضراوته ولا يقل تأثيره عن تأثير الحروب، حدد فريق البحث في الدراسة التي أشرنا إليها أعلاه مجموعة بيانات تضم 185 حدثًا مناخيًا متطرفًا في الفترة من 2000 إلى 2019. وجدو خلالها نحو 60,951 حالة وفاة بشرية يمكن ربطها بتغير المناخ. على الجانب الآخر وفي مستوى الشدة ذاته يطرح سؤال عيشنا في الفضاءات السيبرانية أحد موجهات المستقبل القريب، من ظواهر الابتزاز والاحتيال وموجات الهندسة الاجتماعية المنظمة لسرقة وانتحال البيانات والهويات، إلى استهداف القطاعات المحورية عبر الفضاء السيبراني مثل قطاعات الطاقة وإمدادات الكهرباء والتأثير على النقل الجوي، تشكل كل تلك التحديات خطرًا داهمًا لا يمكن الاستهانة به، ولا يمكن التوقف عند حالة (التنظير عنه)، وكما هو الحال في تغير المناخ فإن من الإلحاح بمكان الوقوف عند حالة الثقافة والسلوك السيبراني البسيط للأفراد، إلى أكثر السلوكيات المؤسسية تعقيدًا لمحاولة درء هذا الخطر، وفقًا لتقارير Statista›s Market Insights ، يتوقع أن تصل كلفة الهجمات السيبرانية حتى عام 2028 نحو 13.82 تريليون دولار عام.أمام هذه الأسئلة العابرة للحدود تجد الدول نفسها أمام سؤال مستقبل يتولد من الداخل، وهو سؤال العقد الاجتماعي، كيف يمكن للدول التوفيق بين تأمين وضعها السياسي والأمني والاقتصادي في عالم تشوبه المتغيرات والمخاطر المتصاعدة، وعلى الجانب الآخر تأمين متطلبات شعوبها، ثلاثة متغيرات مهمة تشكل هذا البعد: وهي طول أمد الحياة في مختلف المجتمعات والذي يتحسن بتحسن مستويات الرعاية الصحية، وبالتالي يولد ضغطًا جديدًا لتلبية الاحتياجات التنموية لعمر أطول، وبخدمات توعية. الأمر الآخر مجتمعات متباينة التفضيلات نتيجة الاندماج العالمي، وخاصة لدى فئة الشباب. أما الأمر الثالث فهو في ضغوطات نوعية الحالة الديموغرافية، فمجتمعات الشباب تضغط بقوة نحو أسواق عمل كفؤة وعادلة ونوعية، ومجتمعات المشيخ تضغط بقوة نحو خدمات رعاية وحماية اجتماعية أكثر نوعية وسياسات تشجيع إنجاب أكثر فاعلية. وقس على ذلك في بقية السياسات الاقتصادية والثقافية. إن دولة المستقبل هي التي تستطيع أن تحكم التوازن بين ما يفرضه عليها سياقها الخارجي من متغيرات ومخاطر، وفي الآن ذاته ما يفرضه عليها عقدها الاجتماعي من استحقاقات ورؤى نوعية للتنمية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تغیر المناخ لا یمکن
إقرأ أيضاً:
شيخ الأزهر: العدالة غائبة عن العالم.. ولا يمكن وصفه بـ«المتحضر»
استقبل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، صباح اليوم، بمشيخة الأزهر، الدكتور محمود محيي الدين، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية؛ لبحث سبل تعزيز التعاون المشترك.
غياب العدالة العالميةورحَّب الإمام الأكبر بالدكتور محمود محيي الدين، مؤكدًا أن الأزهر لا يتوانى عن تقديم كل أشكال الدعم للدول النامية والأقل حظًّا، خاصة في ظل التحديات العالمية المعاصرة، انطلاقًا من دوره الإنساني وواجباته الدينية والأخلاقية، معبرا عن أسفه في غياب العدالة العالمية، وتخاذل بعض الدول الكبرى في دعم الدول النامية، مشيرًا إلى أن عالم اليوم لا يمكن وصفه بالعالم المتحضِّر، وإنما هو عالم الحضارة المادية، وازدهار اقتصاديات السلاح على نيران الحروب والصراعات التي تنهش أجسادَ الأطفال الأبرياء.
صوت الدين في قضايا التنميةمن جهته، عبر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة عن تقديره لما يقوم به الإمام الأكبر من جهود كبيرة في نشر قيم الأخوَّة والسلام، وإبراز صوت الدين في قضايا التنمية، وتأثير هذا الصوت في توجيه التضامن نحو رفع وتقليل الضغوط عن كاهل الدول النامية، مشيرًا إلى تطلعه للتعاون مع الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين في رفع اهتمام المجتمع الدولي والمؤسسات ذات الصلة في عالمنا العربي والإسلامي إلى ضرورة تكثيف دعم الدول النامية والفقيرة بما يمكنها من تنفيذ مشروعاتها التنموية ومواجهة تحدياتها الداخليَّة.