يبدو أن هذا هو زمن «التريندات» المُهَرْوَلِ إليها على حساب كبار الأدباء العرب. إذْ لم تمضِ ثلاثة أسابيع على تريند السؤال العجيب الذي طرحه الروائي المصري يوسف زيدان على الباحث السوري فراس السواح: «هل أنت أهمّ أم طه حسين؟» وجواب الأخير: «أنا أهم، وأنت أهم»، حتى باغتنا الباحث السعودي في التاريخ (وليس الأدب) رضا الشملاني بتصريحشه في حوار تليفزيوني قبل عدة أيام أن نزار قباني ليس بشاعر!
بادئ ذي بدء، ينبغي أن أقول إنه لا أحد فوق النقد مهما بلغ شأوه في الثقافة والعلم والتنوير، فلا طه حسين منزّها عنه، ولا نزار قباني، ولكن عندما يكون النقد نقدًا بالفعل، وليس إلغاء للوجود أو محوًا للتاريخ، أو مجرّد ترّهات هدفها استغلال شهرة المنقود الكبيرة لركوب موجة الترند.
فزيدان طرح سؤاله الغريب ذاك في مؤتمر نُظِّم أصلًا احتفاء بعميد الأدب العربي عنوانه «خمسون عامًا على رحيل طه حسين» (أقيم في المتحف المصري الكبير يومي 4 و5 مايو الجاري)، ولذا؛ فإن ذلك السؤال وإجابته بَدَوَا خارج السياق تماما.
أما رضا الشملاني فقد سخر في مقابلته لبرنامج «سؤال مباشر» في قناة العربية من قباني قائلا إنه لا يعده شاعرا أصلا، وذكر عدة أسماء لشعراء شعبيين سعوديين قائلا: إن أضعف قصائدهم هي أفضل من شعر نزار! بل إنه استدعى من التاريخ أحد أشهر شعراء المعلقات العرب في سياق المقارنة قائلا: «يموت عمرو بن كلثوم مرة أخرى لو سمع «خمبقة» نزار»!
في الواقع، يمكن الزعم أن طه حسين تنبأ بهذا الجحود الذي يمكن أن يلقاه الأديب في حياته وبعد مماته، في كتابه «حافظ وشوقي» حين قال: «...أنا أشد الناس رثاء للكُتَّاب والشعراء والأدباء وأصحاب الفن الجميل عامة، فحظوظهم سيئة في حياتهم من غير شك، وقلما ينصفهم التاريخ بعد الموت، هم يثيرون في نفوس الأحياء ضروبا من الحقد وألوانًا من الضغينة»، إلى أن يقول: «ولكن التاريخ ليس أشد إنصافا، ولا أدنى إلى العدل من آراء الأحياء المعاصرين؛ لأن الناس دائما طوع شهواتهم وعبيد أهوائهم، وهم متأثرون بهذه المؤثرات المختلفة التي تضطرهم إلى ظلم الأحياء، ولا تعفيهم من ظلم الموتى».
أما نزار قباني فقد كان يعرف أن أي شاعر لا يمكن أن يحبّه الجمهور دون أن يدفع ضريبة لذلك. يقول في كتابه «قصتي مع الشعر»: «هذا الحب بيني وبين الجمهور صار صليبًا ثقيلًا على كتفي، فكلما اتسعت قاعدتي الشعرية زاد خصومي، كلما امتلأت القاعات، وسُدَّتْ الأبواب، وامتدّت الأوتوغرافات إليَّ، اشتدت المقاومة وكثر المقاومون، كلما ارتفعت نسبة توزيع كتبي وعدد قرائي، أشعر أنني اقترفتُ ذنبًا كبيرًا لم يقترفه شاعرٌ قبلي. إذن فأنا أسكن بين أسنان التنين. ويبدو أن هذا هو مكاني الطبيعي، إذْ لا يوجد شعرٌ حقيقي خارج التحدي والمغامرة. والغريب أنه كلما ضغطتْ أسنانُ التنين على لحمي شعرتُ أني أكثر قوة وعافية، وكلما زاد نقادي شراسةً زاد التفاف الجماهير حولي»، وهو ما لمسناه بالفعل خلال الأيام الماضية من حجم الدفاع الكبير عن شاعريته من جهة، والهجوم الكبير على منتقدِه من جهة أخرى.
يوسف زيدان لم يستطع تحمّل تسونامي الدفاع الكبير عن عميد الأدب العربي الذي جوبه به في وسائل التواصل الاجتماعي، لذا فقد خرج في اليوم التالي لـ «ترند طه حسين» معتذرا، وزاعما أنه كان والسواح يمزحان بذلك السؤال وتلك الإجابة، وأنهما في الحقيقة يقدّران العميد ويعرفان أهميته في الأدب العربي، مضيفا أن كلامهما اقتُطِع من سياقه، متناسيا أنه هو نفسه من اقتطع هذا الجزء الذي مدته دقيقة ونصف ووضعه على صفحته، ثم تناقله المغردون منها.
أما رضا الشملاني فلم يعتذر أو يوضّح ملابسات تصريحه بعد، لكن الهجوم الشديد الذي تعرض له، ومن قبله الهجوم الشديد على زيدان والسواح، يدلّان على أن طه حسين ونزار قباني (وهُما مَنْ هما في الأدب العربي) ليسا لقمتين سائغتين، وأنهما قادران وهما راقدان في قبريهما على الدفاع عن مكانتيهما في قلوب الناس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأدب العربی نزار قبانی طه حسین
إقرأ أيضاً:
د.حصة المفرح: “الأدب والعمارة”يندرج في باب التداخل والتراسل بين الفنون والمعارف
الثقافية – كمال الداية
استضاف مقهى أدب أ.د.حصة المفرح، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود، حيث ألقت محاضرة بعنوان: “الأدب وفن العمارة: بنية التشاكل ومعاني التجاور”، وقد افتتحت المحاضرة بحديث تناولت فيه العلاقة الجدلية بين العمارة والأدب تقول: “عنوان هذه المحاضرة يندرج في باب التداخل والتراسل بين الفنون والمعارف، وهو من بوادر الفكر البيني الذي ظهر منذ القدم على مستوى المؤلفات التي كانت تنفتح على علوم العربية والأخبار والتاريخ والقصص والنثر والشعر والإيحاءات النفسية والأبعاد الفلسفية، ولم يكن الأدب بعيدًا عن هذا التداخل والتراسل؛ إذ تقاطعت نصوصه مع فنون أخرى مثل: العمارة، النحت، الرسم والتصوير، والفنون الأدائية مثل: الرقص، المسرح، السينما.
– في عام 2017 نشرت مجلة فرنسية عددًا عن علاقة الأدب بالعمارة، وهي التي كانت في أعدادها السابقة تتناول علاقة الأدب بالحقوق، وعلاقته بالرسم، وفن الجاز، والرياضة.
– ألف ديفيد سبور(العمارة والأدب الحديث) يستقصي فيه العلاقة بينهما في القرنين التاسع عشر والعشرين ويؤكد على أن كلاً منهما يركز على إدراك الوجود البشري وإن اختلفت طريقة التعبير، إضافة إلى التسميات التي تجمع بينهما فيقال سردية الشارع، والجملة الحضرية(ارتباطًا بالمعالم المعمارية الحضرية)
العمارة والبعد الإنساني
– يؤكد المختصون بأنه رغم دراسة العمارة في الكليات الهندسية بوصفها نتاجًا هندسيًاتقنيًا، إلا أنها تتضمن جوانب إنسانية؛ فقد كانت ومازالت إبداعًا إنسانيًا محضًا؛ مما يقربها من العلوم الإنسانية، إذ يفترض دراستها بوصفها نشاطًا إنسانيًا.
– والعمارة المقصودة هنا “التي تتدخل إرادة الإنسان في تكوين هيئاتها وأشكالها على وفق صيغة تؤدي معها الغرض الذي أنشئت من أجله، والوظيفة التي ينتظر منها أن تؤديها”. والفضاء المعماري، هو الفضاء الذي يبنيه الإنسان عبر الزمن.
اقرأ أيضاًالمنوعاتإيناس يعقوب تأخذنا في رحلة “آلاء”: برنامج رمضاني يجسد نعم الله ويعزز القيم الإسلامية
– وفي ستينيات القرن العشرين ظهرت الأفكار التي نادت بالعودة إلى إنسانية العمارة،وهوية المكان الذي تقام فيه، والإنسان الذي تحويه، وقدمت بوصفها وسيلة اتصال بين الناس، يفهمون بعضهم بها ويتفاعلون معها، ويعيشون ذكرياتهم فيها، ويعبرونعن ثقافتهم وخصوصيتهم فالعمارة وما تضمه من هندسة وتصاميم تبدو مرتبطة بالمكان بوصفه الفضاء الذي يحتويها، إلا أنها من جهة ثانية ترتبط بالإنسان الذي يقطن هذا المكان، وتعبر عن هويته.
– ويشكل الطراز المعماري نمطًا ثقافيًا يتأثر بالبيئة التي نشأ فيها، ويؤثر فيها؛ إذ تمتلك معظم البيئات نمطًا معماريًاخاصًا يميزها عن الأنماط المعمارية في البيئات الأخرى، يتأثر بعوامل البيئة من مناخ، وتضاريس، وعادات سكانية،ومقومات فكرية، وثقافية. ومع التطور المعماري في العقود الأخيرة، إلا أن بعض المباني مازالت تتمسك باستلهام العناصر التراثية؛ لخصوصية المعلم المعماري نفسه، والمكان الذي يوجد فيه، كما في المساجد والمتاحف والمعارض الفنية.
وكما أشارت د.المفرح إلى موضوع العمارة السردية بين التاريخ والتخييل؛ تقول: “تنطلق الرواية من تجربة نعيم الوزان، رجل أعمال سعودي يسافر إلى المغرب ومصر؛ لترتيب بعض الأعمال في مشروع إنشاء شركة اتصالات في السعودية. ومع ما يكتنف هذه التجربة من أحداث مفاجئة، وعلاقات متغيرة؛ أثرت في بناء الرواية، إلا أننا سنقف على ما يتعلق منها بالمعمار الذي ارتبط بفترتين تاريخيتين مختلفتين؛ إذ يسير الماضي والحاضر جنبًا إلى جنب:
– المسار الأول: تاريخي، تجري أحداثه في مدينة إستانبول التركية (عاصمة الخلافة العثمانية) أوائل القرن العشرين، وبطله الجد خليل الوزان.
– المسار الثاني: معاصر، تجري أحداثه في أكثر من مدينة عربية، وأخرى غربية نهاية القرن العشرين (المغرب، القاهرة، الرياض، المدينة المنورة، بريطانيا، كندا، أمريكا) وبطله الحفيد نعيم الوزان.
وتحضر العمارة في تفاصيل كثيرة من الرواية، لا تكاد تخلو صفحة من صفحاتها منها، ففي الفترة التاريخية التي تعين بتاريخ (1908) زمن الجد، حيث تشابه الشخصيات في حبها للعمارة وشغفها بها؛ هناك قصر مميز معماريًا لطلعت باشا الذي يعشق البناء والمعمار. والجد خليل وهو يتأمل المجسم المعماري يبدو في دهشة ” يا لها من تحفة معمارية”. وفي الحاضر، وصف قصر فؤاد شوكت في مصر الذي أعجب به نعيم الحفيد كثيرًا”كان القصر مبنيًا على الطراز الهندي مع بعض اللمسات الأوروبية… لم تكن الحديقة بأقل روعة من القصر؛ ولا سيما نوافير الماء، والزرع والنخيل الذي انتظم في أشكال هندسية فائقة الجمال”. وكان نعيم يردد كثيرً” أنا أهوى المعمار، وبالأخص القديم منه وما يتصل به من تاريخ”.
ومع الحضور المكثف للعمارة وتفاصيلها، والوصف الدقيق الذي طالها في أكثر من موضع في الرواية، يبقى الحضور الأهم متمثلًا في علاقة العمارة بالإلغاز؛ إذ تتخذ الرواية مسارًا بوليسيًا، وتعتمد وثائق تاريخية واقعية؛ لكشف اللغز تدريجيًا. وهذه الإحالات التاريخية، وإن لم تحدد بزمن معين، بل اتخذت تاريخًا موحدًا(1908)، إلا أنه يمكن إدراك حركة الزمن من تحولات المكان بين الماضي، والحاضر، والمستقبل؛إذ تمثل الإحالات، تاريخ العمران الذي يتداخل مع القاطنين في تلك الأماكن، والفترة الزمنية،والأحداث الماضية، والحاضرة التي تتداخل معها.
ولأن الرواية تركز على علاقة الأحداث بالتاريخ، وإعادة صياغة الحركات السرية التي تعمل في الظل وتأثيرها في صناعة القرار؛ فإنها تتناول حدثًا مهمًا، وتربط شخصياته في كل مرة بذلك اللغز ذي البعد المعماري، وتمثل الحدث في مقتل ثلاثة مؤرخين في ظروف غامضة وبالطريقة نفسها، وفي التوقيت نفسه في ثلاث مدن مختلفة: عبدالقادر بنوزاني، أستاذ التاريخ المغربي، أحمد عبدالوارث أستاذ التاريخ المصري، والصحافي الكندي صديق الصحافي المصري طلعت نجاتي
ولم يكن التشكيل المعماري(الهرم) وما ارتبط به من تشكيلات معمارية أخرى إلا وسيلة لفك لغز الماسونية ذات الامتداد التاريخي بين القديم والحديث، الجد والحفيد، موطن الخلافة الإسلامية العثمانية كما تصوره الرواية(إستانبول)، ومركز الإشعاع الإسلامي والخلافة الأولى (مكة والمدينة).
ولا نعدم في لوحة الغلاف حضور هذه المسارات المتوازية: المعمار بتشكيله التاريخي والمعاصر”.
وقد اختتمت المحاضرة بعدد من المداخلات التي أثرت الجلسة حيث شكر الحضور د.المفرح على إثرائها للأمسية التي حظيت بمتابعة بحضور جمع من الأدباء والمثقفين والمعماريين.