عرف العالم الاستعمار منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، حينما ظهر البرتغاليون والهولنديون مع بداية القرن السادس عشر، وتبعهم الإنجليز والفرنسيون مع مطلع القرن الثامن عشر، وكانت القارة الإفريقية مجالا فسيحا للنفوذ الأوروبي حينما تعرفوا على تجارة الرقيق باعتبارها سلعة اقتصادية رائجة، دفع فيها الأفارقة ثمنا باهظا من حريتهم وأرواحهم، وهي تجارة حاول المؤرخون الأوروبيون إلصاقها بالعرب، وهي تهمة تهاوت أمام أدلة قاطعة، رغم أن كثيرا من المؤرخين الأوروبيين ما يزالون يقولون بأن العرب هم أول من ابتدع هذه التجارة.
يعد السلطان برغش بن سعيد ( ١٨٣٧-١٨٨٨) حاكم زنجبار، نموذجا للحاكم الذي أحبه الأفارقه عندما كان يقضي بنفسه في القضايا التي كان يلجأ إليه فيها (العبيد) للشكوى من أسيادهم، وكان يحكم بينهم بنفس القواعد التي يحكم فيها بين القبائل العربية، والأدلة على ذلك أدلة توثيقية من خلال الوثائق التي كانت تسجل مثل هذه القضايا، التي كان يخصص لها السلطان وقتا محددا كل يوم ما بين العصر والمغرب، وقد حفظت الوثائق العديد من القضايا التي احتفظت بها الأرشيفات الإفريقية والعربية وحتى الأوروبية، وجميعها تشيد بما كان يقوم به السلطان، حيث كان يساوي بين الجميع بصرف النظر عن الأعراق والديانات.
مع بدايات القرن الثامن عشر وصولا إلى القرن التاسع عشر وقعت العديد من دول العالم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تحت نير الاستعمار، حينما احتلت هذه البلاد بهدف نهب ثرواتها واستعباد سكانها، وعانت هذه الشعوب معاناة قاسية امتدت إلى منتصف القرن العشرين، بعد أن هبت هذه الشعوب وناضلت نضالا امتد عشرات السنين وربما مئات السنين أحيانا للحصول على حريتها، ويعد الاستعمار الأوروبي المسؤول الحقيقي عن تخلف هذه الشعوب عن ركب الحضارة الحديثة، واليوم بعد أن تحررت هذه البلاد وقطعت شوطا كبيرا في التنمية، وبعضها مسته سياسة الحكم الرشيد سياسيا واقتصاديا، وكانت الكثير من أقطارنا العربية من بين الدول التي عانت من الاحتلال الأوروبي، إلا أنها حصلت على حريتها بعد نضال شاق، ولم يبق إلا فلسطين التي تآمر عليها الأوروبيون بهدف إنشاء دولة يهودية يستقدمون إليها اليهود من كل دول العالم، دون سند قانوني أو تاريخي، وهي مؤامرة مكنت اليهود من قيام دولة إسرائيل في ظل ضعف عربي وتآمر دولي وانحياز واضح من الأمم المتحدة.
منذ عام ١٩٤٨، والفلسطينيون يعيشون تحت نير الاحتلال، بعد أن أُجبر الكثيرون منهم على الهجرة من وطنهم للعيش في بلاد الشتات، وقد وزعوا بين دول عربية وإفريقية أو أمريكية (أمريكا اللاتينية) ومنذ هذا التاريخ والعرب جميعا يعتبرون فلسطين قضيتهم الرئيسية، إلا أنهم قد عجزوا في سياساتهم وحروبهم عن تحقيق نجاحات تعيد الفلسطينيين إلى أرضهم، رغم أن كل دول العالم التي احتلت بما فيها الدول الإفريقية والعربية قد تحررت وحصلت على استقلالها، وأصبحت عضوا في الأمم المتحدة وفي المنظمات الإقليمية، وما يزال الفلسطينيون متمسكين بأرضهم وبعودة وطنهم السليب، وقد دفعوا في سبيل ذلك عشرات الألوف وربما مئات الألوف من دماء أبنائهم في ظل سياسات القمع والتنكيل والإبادة، تحت سمع وبصر العالم الذي يشاهد صباح مساء موت الأطفال والنساء وهدم البيوت على ساكنيها، وهي أحداث مروعة يراها العالم رؤي العين عبر كل وسائل الإعلام، ورغم ذلك فما تزال الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الأوروبية تقف داعمة لهذه الجرائم أدانتها محكمة العدل الدولية أخيرا.
ما يحدث اليوم في فلسطين من جرائم مروعة يسجلها التاريخ بدماء الضحايا، إلا أن المستقبل سيظل داعما للقضية التي أهمل العرب التعامل معها، بعد أن اكتفوا في سياساتهم وفي جامعتهم العربية على مجر إصدار بيانات، وهو ما ضاعف من قسوة إسرائيل واجتياحها بيوتا ومدنا ومزارع كانت تشكل الحد الأدنى من الحياة لهذا الشعب البائس، ورغم ما يعانيه الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية إلا أن صمودهم وتمسكهم بأرضهم وحقوقهم التاريخية سيظل سببا قويا لنجاح قضيتهم رغم مرور أكثر من سبعين عاما على احتلال وطنهم، فالتقادم غالباً لا يعد دليلا على نجاح إسرائيل واستقرارها، فكل الدول التي استُعمرت ناضلت سنوات طويلة وقدمت تضحيات هائلة من قبيل الهند والصين والجزائر وجنوب إفريقيا، ومعظم دول أمريكا اللاتينية والدول الإفريقية إلا أن المستعمر لن يستطع الصمود أمام أصحاب الحقوق. وستظل قضية فلسطين من بين القضايا الكبرى المعلقة في رقاب أصحابها والمدافعين عنها، وستبقى مسؤولية العرب بالدرجة الأولى على الرغم من أن بعضهم يحاول التنصل منها، ووصل الأمر بالبعض إلى إلقاء المسؤولية على الفلسطينيين بعد أن اكتفى العرب بمجرد الإعلان عن دعمهم لفكرة قيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل، وهي تصريحات إعلامية بينما على أرض الواقع وخلف الغرف المغلقة لا نرى إلا إصرارا على أن يتخلى الفلسطينيون عن سلاحهم وأن يقبلوا العيش كرعايا تحت الإدارة الإسرائيلية.
قد يتصور البعض أن طموح إسرائيل سوف يتوقف عند فلسطين، الكثيرون لا يقرؤون التاريخ ولا يتابعون ما يدور خلف الكواليس من سياسات إسرائيلية ماكرة تسعى لامتداد دولتها من النيل إلى الفرات كما خطط لها فلاسفتها وساساتها منذ نهايات القرن التاسع عشر، إنها سياسة الخطوة خطوة، وخصوصا وأن الجيل الجديد من الإسرائيليين أكثر تشددا من كل الأجيال السابقة، وإذا كان العرب لا يقرؤون ولا يدركون المخاطر القادمة فسوف يدفع الجميع الثمن ولن تكون أية دولة عربية بعيدة عن أطماع إسرائيل، بما في ذلك الدول التي تسابقت على التطبيع.
طالما بقي الفلسطينيون يناضلون ويستشهدون في سبيل استعادة وطنهم، فلن يضيع حقهم وسيتحقق حلمهم باستعادة وطنهم مهما طالت معاناتهم، فالأوطان تستحق أثمانا باهظة من دماء أبنائها، ولن يضيع وطن قدم بنوه كل هذه التضحيات عبر أكثر من سبعين عاما.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
العلاج بالصدمة للتعددية
لا أحد يشك في أن إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب لن تبدي اهتمامًا كبيرًا بالتعددية. فحتى أكثر المعينين توجها نحو العالمية مثل وزير الخزانة المعين سكوت بيسنت يعتقدون أن الغرض من الانخراط مع المؤسسات الدولية هو «الفوز». يجب أن تنخرط أمريكا، ولكن فقط بالقدر الذي لا يسمح بتضرر مصالحها الخاصة.
يفترض النقد الأمريكي النموذجي للتعددية أن النظام القائم معطل بشكل جوهري، وأن هناك حاجة قائمة إلى إحداث صدمة للمؤسسات الدولية لإزالة المخاطر التي تهدد المصالح الأمريكية أو التحديات لوجهة النظر الأمريكية. ولكن ماذا قد يحدث بعد الصدمة؟ ستنشأ الحاجة إلى مبادئ تنظيمية جديدة، وهي لن تأتي من مجرد مطالبة الجميع بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة. من المسلم به أن التشخيص ليس خاطئًا تماما. فضعف الجهود المتعددة الأطراف مؤخرا يعكس تفككا فكريا وسياسيا أشد عمقا. فبينما كان صندوق النقد الدولي يعقد اجتماع الخريف السنوي في أكتوبر 2024، عقدت مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا وأربعة أعضاء جدد) اجتماعا ضم 36 من القادة الوطنيين في قازان بروسيا، حيث تركز النقاش حول استبدال النظام النقدي الدولي القائم على الدولار. في الوقت ذاته تقريبا، كان مؤتمر أطراف اتفاقية التنوع البيولوجي منعقدا في كالي بكولومبيا، وأعقبته قمة المناخ في باكو بأذربيجان التي أتت بنتائج عكسية، ثم قمة مجموعة العشرين غير المجدية في ريو دي جانيرو. لو كانت تعددية الأطراف تعمل على النحو اللائق، لكانت هذه المفاوضات كلها مُـجَـمَّـعة. بيد أن المقاومة ضد النظام الدولي ليست بالأمر الجديد. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، أعربت الإدارات الجمهورية القادمة في أوائل سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عن ازدرائها للتعددية، وطالبت حلفاء أمريكا المتطفلين المستغلين بدفع مزيد من الأموال مقابل المظلة الأمنية التي توفرها. لم يُـخفِ ريتشارد نيكسون ووزير خزانته جون كونالي ازدراءهما للمؤسسات الدولية، بحجة أن العمل الأحادي الـمُـعَـطِّـل للقديم بدرجة كبيرة هو وحده القادر على تغيير الأمور. وقد بدأ علاجهم بالصدمة بامتياز في أغسطس من عام 1971، عندما أنهى نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب وفرض ضريبة عامة على الواردات. وتُركت البلدان الأخرى للتعامل مع عالم أصبحت فيه صادراتها أكثر تكلفة.
على نحو مماثل، في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، كان مستشارو رونالد ريجان يشككون علانية في صندوق النقد الدولي؛ وزعم كثيرون في فلك جورج دبليو بوش في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أن الأزمة المالية الأخيرة في شرق آسيا أفقدت الصندوق مصداقيته، وأن تدفقات رأس المال الخاص من الممكن أن تلبي جميع احتياجات تمويل التنمية على أية حال.
ولكن في كل حالة، فَـرَضَت أزمة مالية حادة في نهاية المطاف إعادة النظر. ففي سبعينيات القرن العشرين، تسبب انخفاض قيمة الدولار في دفع منتجي النفط إلى رفع الأسعار، وكان لا بد من إنقاذ كثير من البلدان النامية المستوردة للنفط من خلال مرفق النفط الذي أنشأه صندوق النقد الدولي حديثا آنذاك. وفي عام 1982، أدى ارتفاع قيمة الدولار وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية إلى إحداث أزمة ديون عامة، الأمر الذي دفع صندوق النقد الدولي إلى إعادة تشكيل نفسه لتلبية متطلبات اللحظة. وبحلول عام 1983، كان ريجان يشير إلى الصندوق باعتباره محور النظام المالي الدولي. وأخيرا، اندلعت أزمة 2008 المالية العالمية في السنوات الأخيرة من رئاسة بوش. وسرعان ما اجتمعت الحكومات في إطار مجموعة العشرين وفي هيئات عالمية أخرى لاحتواء التداعيات ووضع قواعد جديدة للطريق. بعيدا عن التاريخ القريب، نجد سببا أكثر جوهرية وراء استمرار تعددية الأطراف كضرورة أساسية.
في عالم يبدو منقسما إلى كتل متناحرة، تركز معظم الدول عن حق على حماية مصالحها الخاصة. وبما أن تلك المصالح لا تتماشى بدقة مع مصالح أمريكا أو الصين أو أي قوة عالمية طموحة أخرى، فإن الحكومات تريد الحفاظ على التواصل مع كل طرف في الصراع الذي يلوح في الأفق. كانت ديناميكية مماثلة تكمن وراء حركة عدم الانحياز في حقبة الحرب الباردة، والتي جمعت بين الدول التي رفضت الاختيار بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. على نحو مماثل، تطورت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) من منطلق الحرص على ألا تضطر إندونيسيا إلى الانحياز إلى طرف دون الآخر، بل يمكنها أن تؤكد نفسها من خلال إقامة علاقات أقوى مع جيرانها. كما نشأت الجماعة الأوروبية، التي تطورت لتصبح الاتحاد الأوروبي، لأن الأوروبيين، على الرغم من تحالفهم مع الولايات المتحدة، لم يرغبوا في أن يكونوا امتدادا لها. وبحلول عام 2008، في خضم الأزمة المالية الجديدة، أرادت رابطة دول جنوب شرق آسيا أن تتحرك في اتجاه التحول إلى اتحاد على غرار الاتحاد الأوروبي. حيثما نظرت في الوقت الحاضر، ستجد أن الرسالة هي ذاتها: لا نريد أن نختار جانبا، ولا ينبغي أن نُـجبَـر على ذلك. يزعم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عن حق أن اختيار المملكة المتحدة بين أوروبا والولايات المتحدة «خطأ بَـيّـن». في الرد على ذلك، يقترح ستيفن مور، مستشار ترامب، أن على البريطانيين أن يختاروا الاشتراكية الأوروبية أو الأسواق الحرة على النمط الأمريكي. ولكن مع ملاحقة كل حكومة الآن لشكل ما من أشكال السياسات الصناعية، يصبح هذا التقارب محض وهم.
تجلب الوقائع التاريخية الصعبة إدراكا لحقيقة مفادها أن العالم لا يُبنى حقا على حسابات محصلتها صفر. وقد عبّر وزير الخزانة الأمريكي هنري مورجنثاو عن ذلك بأناقة في مؤتمر بريتون وودز الأصلي: «الازدهار، مثله كمثل السلام، غير قابل للتجزئة. ونحن لا نملك ترف السماح بتبعثره هنا أو هناك بين المحظوظين أو الاستمتاع به على حساب آخرين». في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، رأى قادة الولايات المتحدة أنهم لا يستطيعون كسب السلام بالعمل فقط مع أولئك الذين تبنوا قواعد اللعبة الأمريكية. إذا كانت دولة قوية مثل الولايات المتحدة في عام 1945 لا تزال في احتياج إلى كسب الأصدقاء والتأثير على الناس، فمن المؤكد أن أمريكا اليوم تحتاج إلى ذات الشيء. إن علاج التعددية بالصدمة من شأنه أن يجلب قدرا عظيما من الإرباك؛ ولكن بعد ذلك، يجب أن يجلب مزيدا من التعاون الدولي؛ لأنه لا يوجد بديل.