في ذلك المقهى المشرف على شاطئ القرم تركت بعض الذكريات المرتبطة بالمعاناة من «حبسة الكتابة» كما يتعارف الكتَّاب على تسميتها. كنت أتردد على المقهى قبل فترة وجيزة من حصار جائحة كورونا، أرتشف قهوتي على مهل وأنا أجدّف بعيني في الزرقة التي لا تنتهي وأفكر بقصيدةٍ لم يكتبها أحدٌ عن البحر. عفوا، لا أتمنى أن يبدو المشهد رومانسيا مع هذا الوصف؛ لأن الوضع لم يكن كذلك على الإطلاق، خاصة حين أتذكر رطوبة الجو الخانقة وهي تطفح من المسام في أواخر 2019 القلِق مع تواتر الأخبار عن وباء وشيك سيجتاح العالم.

أتذكر أنني اعتدتُ الجلوس في ذلك المكان بعد الظهر، معي دفترٍ صغير أدوِّن فيه صورا للبحر «المكبوت» وبعض الملاحظات الشعرية التي ستخرج منها قصيدة عنوانها «قصيدةٌ مفتوحة للبحر». كانت المسوَّدات تشي بكتابة شعر عن البحر، لكن القصيدة التي خرجت وهي تتذرَّع بالبحر قد تحولت بعد تحاور أجزائها مع بعضها إلى شعر مكتوب عن الشعر، أي إلى كتابة عن الكتابة «بحبر الماء».

أَوضح ما أذكره من تلك الفترة هو عُسر حقيقي في الكتابة ضاعفه الخوف المتزايد من تراجع قدرتي على كتابة الشعر والاستغراق الطويل في تكوين الرؤية العامة للنص. لكن هاجسي الأعظم كان الخوف من ضمور محتمل في عضلات «الموهبة». وكم أشعر هنا برغبة لا تقاوم في أن أقتبس نفسي: الموهبة بكل بساطة هي أن «أكتب ما أحب كما أريد»... كانت هذه هي الجملة المعيارية الملائمة التي اهتديت إليها في موضعٍ ما من تلك القصيدة. ربما كانت قراءاتي العشوائية، وانقطاعاتها بفعل قلق الدراسة وطوارئ الامتحانات، عاملا أساسيا في ارتباك ذائقتي كقارئ آنذاك، وبالتالي عدم استقرار خطي في الكتابة، ولا أعني أنني أدعي ما هو عكس ذلك الآن، ولا أعني أيضا بأنني مقتنع تماما بأن من حقي المطالبة بظروف مثالية لأكبر فيها كشاعر، ولكن مهما تكن العوامل والظروف فإنني لم أكن لأتحرر من قلق الكتابة إلا بالكتابة عنها، هذا ما اقتنعت به بعد إنجاز القصيدة. ولعل من بين الأشياء المثيرة التي تميز الكتابة، كتابة الأدب تحديدا، هو أن كل شيء يمر من خلالها، بما في ذلك هواجس الكتابة نفسها.

أستطيع أن أتفهم تبرُّم بعض القراء من «موضة» الكتابة عن الكتابة التي سرعان ما يقرنونها بموضة القراءة عن القراءة، لكنني لستُ كذلك، بل على العكس؛ أعني أنني أحب الكتابة كما أحب القراءة والكتابة عنها، إلا حين تتحول هذه «الموضة» إلى إسفاف مبالغ فيه ينحو نحو رمنسة هذه المهنة من قبيل تحويل الكتابة عنها إلى مجموعة طقوس ووصفات سحرية أو إلى مديح للمعاناة واختراع لأساطير غير قابلة للتصديق عن شيء غيبي اسمه «الإلهام».

ولكن كيف للكاتب أن يكتب عن نفسه دون أن يكتب عن الكتابة التي تشكل هويته الشخصية في علاقته بنفسه والآخرين؟ أعتقد أن من الطبيعي بالنسبة للكاتب الذي اعتاد الكتابة لنا عن أشياء كثيرة أن يكتب لنا بين الحين والآخر عن طبيعة علاقته الخاصة بفن الكتابة، أن يشتكي، أن يعرب عن تعبه ومعاناته مع اللغة وتطويع الأفكار، أن يفصح لنا عن أسراره وأساليب احتياله على الرقابة وعلى القراء أيضا، وأن يعلمنا نحن زملاءه في المهنة بعض الخدع الضرورية، ومن الطبيعي أيضا أن يعلن من خلال الكتابة إخفاقه فيها.

ربما لا يحبذ بعض القراء هذا اللون من الكتابة لأنهم يعتقدون ببساطة بأن الكتابة فن يقوم على مواضيعه التي ليس من بينها الكتابة نفسها. وأما إذا كانت الكتابة بحد ذاتها موضوعا فهي بالنسبة إليهم موضوع تقني لا يُعنى بقراءته سوى الكتاب أنفسهم. وجهة نظر مجحفة بالتأكيد إلا أنها تجعلني أتساءل إن كنت أستمتع بما يكتبه الكتَّاب عن الكتابة لأن صفتي كقارئ تتضمن، في الوقت نفسه، صفتي ككاتب؟! ألذا أشعر بالإخاء عندما يسرُّ لي كاتب كبير بحجم جابرييل جارسيا ماركيز بأنه يكتب مستعينا بالمعاجم بل يلجأ إلى قاموس المترادفات في كثير من الأحيان، أو ربما أتفاءل أكثر عندما أتذكر أن أقدم الشعراء الجاهلين تساءل في مطلع معلقته: «هل غادر الشعراء من متردمِ»؟!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عن الکتابة الکتابة عن

إقرأ أيضاً:

القراءة بين الإبداع والاستهلاك

آخر تحديث: 30 يناير 2025 - 10:45 صأ. د. طلال ناظم الزهيري كثيرًا ما يتم تداول المقولة الشهيرة: “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ”، المنسوبة غالبًا إلى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، كإشارة منه إلى المشهد الثقافي العربي في منتصف القرن العشرين. حيث تُستخدم هذه العبارة بشكل عام من باب الفخر والتباهي للتعبير عن الدور الريادي للعراق في حب القراءة والإطلاع. غير أن هذا التصور السائد قد يحمل في طياته إشكالية أعمق، إذ يمكن أن يُنظر له باعتباره إشارة ضمنية إلى محدودية الدور الذي يضطلع به المثقف العراقي في سلسلة الإنتاج الثقافي. القراءة وحدها، مهما كانت كثافتها، إذا لم تتحول إلى إبداع فكري أو إنتاج معرفي، تصبح مجرد استهلاك سلبي للمعرفة. إن اختزال المشهد الثقافي العربي بهذه العبارة يمنح العراق دور المستهلك، مقارنة بدوري الإبداع والصناعة اللذين تمثلهما القاهرة وبيروت. القراءة، بوصفها شرطًا أساسيًا للمعرفة، لا تكتسب قيمتها إلا عندما تتحول إلى كتابة أو إنتاج فكري يُضاف إلى الإرث الثقافي. فالتاريخ لا يخلّد القرّاء، بل يكرّم الكتّاب والمبدعين الذين أسهموا بإنتاجهم الفكري في تشكيل الحضارة الإنسانية. لم يسجل التاريخ شخصية عُرفت فقط بكونها قارئة عظيمة، بل خلد أولئك الذين استطاعوا توظيف قراءاتهم في صياغة أفكار جديدة وإنتاج إبداعي يُسهم في تطور الفكر والمعرفة. من هنا، تبدو الإشكالية في ثقافة القراءة إذا ما بقيت مقتصرة على استهلاك المعرفة دون السعي لتحويلها إلى عملية إنتاجية. فعلى الرغم من انتشار القراءة في أوساط المثقفين العراقيين، كثيرًا ما يلاحظ أن الحوارات الفكرية بينهم ترتكز بشكل كبير على اقتباسات مأخوذة من نصوص العلماء والفلاسفة الغربيين والشرقيين، دون أن تكون هناك محاولات واضحة لتقديم رؤى نقدية أو إضافات جديدة تتجاوز حدود النقل. هذا النمط السائد يُكرّس صورة المثقف العراقي كناقل للمعرفة، بدلًا من كونه منتجًا لها، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمام تطور الفكر الثقافي والإبداعي. القراءة، في جوهرها، ليست غاية، بل وسيلة للوصول إلى الإبداع والابتكار. غير أن القراءة التي تبقى حبيسة حدود الاستهلاك تظل فعلًا عقيمًا، لا يؤدي إلى التقدم الفكري. والسؤال المحوري الذي يجب أن نطرحه هنا هو: ما الذي يمنع القارئ من أن يصبح كاتبًا؟ وما العوائق التي تحول دون تحول المثقف العراقي من مستهلك للمعرفة إلى منتج لها؟ قد تتعدد الأسباب بين نظام تعليمي يكرس الحفظ والتلقين على حساب النقد والتحليل، وثقافة مجتمعية تخشى الخروج عن المألوف، وغياب بيئة داعمة للإبداع توفر الحوافز اللازمة للكتابة والابتكار. في المقابل، نجد أن الثقافات الإنتاجية، لا سيما في الغرب، تنظر إلى القراءة كجزء من عملية متكاملة للإبداع. الفلاسفة مثل سارتر وديكارت، والعلماء مثل نيوتن وأينشتاين، لم يكتفوا بقراءة من سبقهم، بل تجاوزوا هذه الحدود وأعادوا تشكيل المعرفة بما أضافوه من أفكار جديدة. أما في المشهد الثقافي العربي عامة والعراقي على وجه الخصوص، غالبًا ما نتوقف عند حدود الإعجاب بالنصوص ونقلها دون أن نجرؤ على نقدها أو تجاوزها. واليوم لم يعد ممكنًا الاستمرار في تكرار هذه العبارة دون مراجعة جادة لدورها وتأثيرها في صياغة التصورات الثقافية. القراءة التي لا تنتج كتابة، والكتابة التي لا تضيف جديدًا، كلاهما يشيران إلى ثقافة استهلاكية لا تسهم في تطور الإنسانية. نحن بحاجة إلى منظومة ثقافية جديدة تُحفّز الإبداع والابتكار، وتكسر قيود النقل والتبعية. العبارة “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ” قد عكست واقعًا ثقافيًا في فترة معينة، لكنها لم تعد ملائمة لعالمنا اليوم. المطلوب الآن هو بناء نموذج ثقافي جديد يُعيد توزيع الأدوار، بحيث يصبح المثقف العراقي ليس فقط قارئًا، بل أيضًا كاتبًا ومبتكرًا يسهم في صياغة مستقبل الفكر العربي. ففي الوقت الذي نتابع فيه الجهود التي تبذلها العديد من المنظمات المحلية في التشجيع على القراءة وإقامة الفعاليات الداعمة لها، إلا أننا نعتقد ان هذه المبادرات تفتقر إلى التوازن، إذ نادرًا ما نرى فعاليات مناظرة تهدف إلى تعزيز الكتابة والإسهامات الإبداعية. القراءة، رغم دورها الأساسي في بناء الوعي وتنمية المعرفة، تظل مجرد خطوة أولى في سلسلة الإنتاج الثقافي. ولا شك أن غياب التركيز على الكتابة يحرم الأفراد من تطوير قدراتهم الإبداعية وتحفيزهم على المساهمة بأفكارهم وتجاربهم. ان تعزيز الكتابة لا يقل أهمية عن التشجيع على القراءة، بل هو الخطوة الطبيعية التي تكمل هذا الجهد، لأن الإبداع هو ما يُخلّد ويُحدث الفارق في تطور الثقافات والمجتمعات.

مقالات مشابهة

  • قناة مصر قرآن تطلق تطبيقًا مطورًا يضم فتاوى وأذكارًا والمصحف بأصوات كبار القراء
  • طرح نسخة جديدة مطورة من تطبيق قناة مصر قرآن كريم
  • الآثار والمتاحف تعلن فتح أبوابها أمام البعثات الأثرية التي كانت تعمل في سوريا
  • القراءة بين الإبداع والاستهلاك
  • رويترز: طائرة بلاك هوك العسكرية التي اصطدمت بطائرة الركاب كانت في رحلة تدريبية
  • من مذكرات طبيبة إلى فلسفة التغيير: نوال السعداوي تحت الأضواء في معرض الكتاب
  • الكتابة والحزن
  • لماذا خلق الله البعض فقراء والآخر أغنياء؟.. الأطفال يسألون الإمام بمعرض الكتاب
  • عن الكتابة والقراءة والسفر.. خطط الأدباء لعام 2025
  • إطلاق برنامج كبار القراء لتلاوة القرآن في شهر رمضان بأسوان