السؤال الذي يمكن أن يَرِد إلى أذهاننا منذ البداية هو: ما العمل الموسيقي؟ فالموسيقى تُؤلَّف لأجل أغراض متعددة متباينة: فمنها الموسيقى الخالصة التي تستخدم الآلات وحدها (ولذلك تُسمى أيضًا موسيقى الآلات) التي لا تخدم أغراضًا جمالية خارج السياق الموسيقي نفسه؛ ومنها الموسيقى الدرامية التي تُسمى أحيانًا بالموسيقى الوصفية؛ لأنها تصف أحداثًا: كالأوبرا التي تؤلَّف من أجل نص أوبرالي، وموسيقى الفيلم، والأغنية التي تُؤلَّف لتصاحب كلمات شعرية؛ ومنها الموسيقى الحماسية التي تُعزَف في المناسبات الوطنية بمصاحبة كلمات أو من دونها؛ ومنها الموسيقى التي تُؤلَّف لكي تصاحب المتع والحالات العابرة: كالاسترخاء أو الرقص أو تناول العشاء، إلخ.
الأغنية
ربما يكون اللحن الغنائي هو أكثر أشكال الموسيقى التي يألفها عموم الناس. جمال الأغنية يكمن في ارتباط اللحن بالكلمات بحيث يعبر عن الحالة الشعورية التي تسكنها؛ ولهذا فإننا نستعذب اللحن الذي يستخدم الناي والآلات الموسيقية القادرة على التعبير عن الشجن والحزن في المواويل. ولهذا السبب نفسه، فإننا نستهجن ونأنف أو ينقطع شعورنا الجمالي حينما نجد أن اللحن الحزين المواكب للموال ينقلب فجأة إلى لحن صاخب إيقاعي راقص. ولكن هذا -للأسف- هو ما نجده في ألحان بعض الملحنين العظام من أمثال بليغ حمدي الذي ألَّف ألحان بعض من أشهر الأغاني العربية!
الموسيقي الدرامية
هي الموسيقى التي تُكتَب من أجل نص أوبرالي حافل بالأحداث الدرامية، وهي تتوالى أو تتابع مع تطور وتتابع الأحداث الدرامية. وكذلك فإن موسيقى الفيلم تصف أو تصوِّر موسيقيًّا الأحداث والحالات الشعورية التي تهيمن على الفيلم. ولعل ريتشارد فاجنر هو أهم رواد فن الأوبرا، كما أن إنيو موريكوني هو أهم صانعي موسيقى الفيلم في عصرنا. ومع ذلك، فإن شوبنهاور الذي كان معاصرًا لفاجنر لم يعتد سوى بالموسيقى الخالصة؛ لأن الموسيقى لا ينبغي أن تكون تابعة للكلمات: حقًّا إنه يرى أن ارتباط اللحن بالكلمة يضفي عليها تأثيرًا شعوريًّا قويًّا، ولكنه يرى في الوقت ذاته أن اللحن لا ينبغي أن يكون تابعًا للكلمات؛ بل ينبغي أن تبدو الكلمات تابعة له (أي: كما لو كانت مثالًا عليه أو تجسيدًا له).
الموسيقى الخالصة
السؤال الآن: أين نضع الموسيقى الخالصة من هذا كله؟ الموسيقى الخالصة، أعني الموسيقى التي تستخدم الآلات التي يمكن أن تستخدم الصوت البشري باعتباره مكوِّنا موسيقيًّا خالصًا كالآلات، هي موسيقى لا تعبر عن موضوع محدد كما نجده في الواقع، وإنما تعبر عن جوهر الشعور من دون ارتباط بموضوع محدد: فهي تعبر عن السعادة والبهجة أو الحزن أو الرهبة أو الجلال من دون الارتباط بموضوع محدد مما يمكن أن يثير هذه المشاعر.
ومن أمثلة الموسيقى الخالصة: السوناتا والكونشرتو والسيمفونية التي هي أعلى أشكال البناء الموسيقي وأكثرها تعقيدًا. والواقع أن معظم الناس -خاصةً في العوالم التي تفتقر إلى الثقافة الموسيقية- لا يتذوقون الموسيقى الخالصة، بل قد يأنفون منها؛ ببساطة لأن أذنهم لم تألف سماع هذه الموسيقى، والناس أعداء ما جهلوا، كما يُقَال. ولهذا يمكننا القول: إن الموسيقى الخالصة تظل هي النموذج الأسمى الذي يجسد العمل الموسيقي كما يكون في ذاته وبذاته.
ومع ذلك كله، فإننا يمكن أن نجد صلة قرابة بين الموسيقى الخالصة وغيرها، ونقول: إن الفن الموسيقي تكمن قدرته في التعبير عن موضوعه، وفي قدرته في الوقت ذاته على الاستقلال عن موضوعه الخاص بحيث يصبح معبرًا عن الحالة الشعورية العامة التي تتحقق في موضوعه مثلما يمكن أن تتحقق في غيره. ولإيضاح ذلك، يمكن أن نسوق هنا بعض الأمثلة:
لنـتأمل موسيقى الأفلام الشهيرة التي أبدعها إنيو موريكوني، ومنها ما يُسمى بأفلام الوسترن، وأهمها: «من أجل حفنة دولارات» و«من أجل مزيد من الدولارات»، و«الطيب والشرس والقبيح»، و«حدث ذات يوم في الغرب»، وحدث ذات مرة في أمريكا، فضلًا عن أفلام عالمية أخرى لا حصر لها. ولكن كثيرًا من أعمال هذا المؤلِّف العظيم تبقى لها قيمتها الجمالية الموسيقية بشكل مستقل عن الأفلام التي كُتبت من أجلها! وهنا تكمن المفارقة: فكل عمل من هذه الأعمال الموسيقية يبدو كما لو كان قد كُتِب من أجل وصف أحداث فيلم ما، ولكننا نكتشف أن هذه الأعمال الموسيقية قادرة على أن تستثير إعجابنا حينما يتم عرضها مستقلة في حفلات موسيقية أوركسترالية. ومنها حفلات بقيادة موريكوني نفسه. هذه المسألة تحديدًا قد فصلتُ القول فيها في سيرتي الذاتية بعنوان «الخاطرات»، وفي مقال سابق منشور بجريدة الاتحاد الإماراتية بعنوان «حينما تقوم الموسيقى بدور البطولة». ومثل هذا يمكن أن يُقال عن الموسيقى الأوبرالية كما جاءت في الأعمال الكبرى.
وبحسب حظ المتلقي من الثقافة الموسيقية يكون حظه من حسن قراءة العمل والاستمتاع به. وعلى نحو آخر نجد أن المايسترو وكذلك العازفون يقومون بقراءة العمل الموسيقي بالمعنى الحرفي للقراءة، أعني قراءة النوتة الموسيقية باعتبارها أعدادًا حسابية وفواصل زمنية، إلخ. ولكن قراءة النوتة ليست مجرد قراءة حرفية، ولكنها أيضًا قراءة للحالة الشعورية المباطنة في اللحن؛ ولذلك نجد على هامش النوتة مصطلحات موسيقية تصف هذه الحالة الشعورية التي يمكن أن يستلهمها المايسترو أو العازف (خاصة العازف المنفرد)، وفي هذا يتفاوت حظ هؤلاء من حيث المكانة الموسيقية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الموسیقى التی یمکن أن ی من أجل التی ت
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن للمثالية المفرطة أن تفسد إجازتك؟
بالنسبة للكثيرين، تُعد العطلة المنتظرة فرصةً لكسر الروتين والتطلع إلى مغامرات جديدة. قد تكون رحلةً لاستكشاف أماكن بعيدة، أو لحظات دافئة تجمع العائلة، أو حتى استراحةً ضرورية من ضغوط العمل. لكن بالنسبة للمثاليين والساعين للكمال، قد تتحول الإجازة إلى ساحة توتر بدلًا من مساحة استرخاء. فهم يضعون معايير عالية لأنفسهم، ويشعرون بالذنب حيال أي خلل بسيط، مما يجعلهم غير قادرين على الاستمتاع بالحاضر. وبينما تمتلئ العطلات بالمفاجآت، يجد المثاليون والكماليون صعوبة في تقبلها، فتتحول الإجازة من وقت ممتع إلى تحدٍّ نفسي مرهق.
لماذا نسعى إلى العطلة المثالية؟في مقال لها على موقع "سيكولوجي توداي" تتناول إيمي مورن، الأخصائية الاجتماعية والمعالجة النفسية، أسباب سعي البعض وراء الإجازة المثالية، وتقول:
"السعي للكمال خلال العطلات يعني محاولة خلق نسخة مثالية منها، سواء كان ذلك عبر اختيار ديكورات متقنة، أو تنظيم تجمعات مثالية، أو الالتزام الصارم بالتقاليد. وغالبًا ما يعكس هذا النهج قضايا أعمق، مثل الحاجة للسيطرة، والخوف من الأحكام، أو محاولة إخفاء الشعور بالنقص. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تسهّل الأمر، إذ تُغرقنا بصور لعطلات مثالية، مما يعزز توقعات غير واقعية".
إعلاننتخيل عطلتنا مثالية: طقس رائع، إقامة مريحة، وبرنامج يسير بسلاسة. لكن الواقع غالبا ما يحمل مفاجآت مثل التأخير أو الإرباك أو تغيّر المزاج. وعندما لا تتطابق التوقعات مع الواقع، قد نشعر بخيبة أمل، بدلًا من الاستمتاع بما هو متاح فعلًا.
كيف يوثر السعي للمثالية على الحالة النفسية؟يمكن أن يكون للسعي وراء الكمال خلال العطلات آثار نفسية وعاطفية سلبية. فبينما يسهم التخطيط المعتدل في تعزيز الشعور بالسعادة، فإن المبالغة فيه قد تؤدي إلى توتر مفرط وقلق مستمر، بل وقد تتسبب في نشوب خلافات. إليك كيف يمكن لهذا النهج أن يؤثر على صحتك النفسية وعلاقاتك:
يرتبط السعي للكمال خلال العطلات بارتفاع مستويات التوتر والقلق، حيث يحاول الأفراد التوفيق بين أدوار متعددة مثل التخطيط والاستضافة والديكور، مما يجعل أي انحراف بسيط يبدو وكأنه فشل. كما أن التخطيط المفرط وتحميل الإجازة بجداول صارمة قد يحولها إلى عبء إضافي بدلًا من فرصة للاسترخاء، مما يجعل الشخص منشغلًا بالالتزامات بدلًا من الاستمتاع باللحظة.
فقدان العفوية والسحر الحقيقي للإجازاتأجمل اللحظات خلال الإجازات هي تلك غير المخطط لها، مثل العثور على مقهى مميز أثناء المشي في أحد الأزقة، أو الاستمتاع بمنظر غروب الشمس غير المتوقع. عندما يتم التخطيط لكل لحظة مسبقًا، فإن هذه اللحظات العفوية تصبح نادرة، ويفقد السفر عنصره العفوي والسحري الذي يجعله تجربة مميزة.
التأثير السلبي على العلاقاتالسعي لعطلة مثالية قد يخلق توترًا داخل العائلة، حيث يشعر الشريك بالإهمال، ويتأثر الأطفال بالتوقعات العالية، وتتوتر الأجواء مع العائلة الممتدة. تنظيم كل تفصيل بدقة يرهق الجميع، ويؤدي إلى خلافات بسبب تضارب الرغبات والتوقعات.
الشعور بالذنب وعدم الرضاحين لا تسير الأمور كما خُطّط لها، غالبًا ما يشعر المثاليون بالذنب أو الفشل، وكأنهم أخفقوا في تحقيق "العطلة المثالية". هذا الشعور يُفقدهم القدرة على تقدير اللحظات الجميلة المتاحة، ويدفعهم للتركيز على ما لم يحدث، مما يقلل من رضاهم عن التجربة بأكملها.
توضح جينيفر لاتشايكين، وهي معالجة مرخصة في قضايا الزواج والأسرة، أن الأشخاص الساعين للكمال يميلون إلى تحميل أنفسهم أو الآخرين مسؤولية أي خلل، بدلا من تقبّل أن بعض الأمور ببساطة خارجة عن السيطرة. وغالبًا ما يتسبب ذلك في خلق توقعات غير واقعية تؤدي إلى صراعات داخلية. قد يلومون أنفسهم لعدم الحجز المسبق عند نفاد تذاكر المتحف، أو يوجّهون الانتقاد لشركائهم لاختيارهم مطعمًا مزدحمًا، مما يرفع مستوى التوتر ويفسد متعة اللحظة.
إذا كانت المثالية تُثقل عطلتك، فأنت لست وحدك. الخبر الجيد أن التحرر منها ممكن عبر الوعي والممارسة. إليك طرقًا تساعدك على الاستمتاع بالعطلة بعيدًا عن ضغوط الكمال.
إعلان خطط بمرونة دون مبالغةالتخطيط الجيد للعطلة ضروري، لكنه لا يجب أن يكون صارمًا. اترك مساحة للعفوية، فبعض أجمل اللحظات تأتي دون ترتيب مسبق. عندما تتغير الخطط بسبب ظروف خارجية كالتأخيرات أو الطقس، لا تدع الإحباط يسيطر، بل تكيف مع الوضع وابحث عن بدائل ممتعة ليومك.
وزع المهام وشارك الآخرين المسؤوليةيميل الكماليون إلى الرغبة في التحكم بكل التفاصيل، لكن من المفيد تحدي هذا الميل بتفويض المهام للآخرين، كطلب المساعدة في الطهي أو تزيين المنزل. مشاركة المسؤوليات تخفف العبء وتعزز الروابط. تذكّر أن الآخرين قد لا ينفذون الأمور بطريقتك، وهذا طبيعي. عند السفر، شارك التخطيط لخلق تجربة جماعية مريحة ومتوازنة.
ركز على التجربة وليس على التفاصيلبدلًا من الانشغال بالسعي للكمال، ركّز على الاستمتاع بالحاضر. لا بأس إن لم تلتقط الصورة المثالية أو فاتتك بعض المعالم السياحية، فالمتعة تكمن في اللحظة نفسها. تذكّر أن الكمال وهم، والنقص ليس فشلًا بل سمة بشرية. فحتى وجبة بسيطة أو زينة غير متقنة قد تصنع ذكريات جميلة تُضحكك لاحقًا. امنح نفسك مرونة، واسمح للخطط بالتكيّف مع الواقع.
تجنب مقارنة عطلتك بصور مثالية على مواقع التواصل أو بما تُظهره الأفلام، فغالبًا ما تكون بعيدة عن الواقع. هذه المقارنات تُضعف تقديرك للحظة. بدلاً من ذلك، ركز على ما تملكه فعليًا واشعر بالامتنان له، فالسعادة الحقيقية تكمن في تقدير الواقع لا في ملاحقة الكمال الوهمي.
السعي للكمال قد يحوّل الإجازة إلى تجربة مرهقة بدلًا من فرصة للراحة، لكن تقبّل العفوية والمرونة يفتح الباب للاستمتاع الحقيقي. اجعل هدفك عيش اللحظة وتقديرها، فالجمال يكمن في التفاصيل البسيطة، لا في التخطيط الدقيق. اللحظات العفوية غالبًا ما تترك أعمق الأثر وأجمل الذكريات.