لجريدة عمان:
2025-04-30@03:14:15 GMT

«3»: قراءة العمل الموسيقي

تاريخ النشر: 25th, May 2024 GMT

السؤال الذي يمكن أن يَرِد إلى أذهاننا منذ البداية هو: ما العمل الموسيقي؟ فالموسيقى تُؤلَّف لأجل أغراض متعددة متباينة: فمنها الموسيقى الخالصة التي تستخدم الآلات وحدها (ولذلك تُسمى أيضًا موسيقى الآلات) التي لا تخدم أغراضًا جمالية خارج السياق الموسيقي نفسه؛ ومنها الموسيقى الدرامية التي تُسمى أحيانًا بالموسيقى الوصفية؛ لأنها تصف أحداثًا: كالأوبرا التي تؤلَّف من أجل نص أوبرالي، وموسيقى الفيلم، والأغنية التي تُؤلَّف لتصاحب كلمات شعرية؛ ومنها الموسيقى الحماسية التي تُعزَف في المناسبات الوطنية بمصاحبة كلمات أو من دونها؛ ومنها الموسيقى التي تُؤلَّف لكي تصاحب المتع والحالات العابرة: كالاسترخاء أو الرقص أو تناول العشاء، إلخ.

ومع ذلك، فإن الموسيقى في كل الحالات تظل عملًا موسيقيًّا باعتبارها سياقًا زمانيًّا يتألف من أصوات موسيقية تتابع في تشكيل جمالي يقوم على اللحن والإيقاع والهارموني متعدد الأصوات. وقد تخلو الموسيقى من الهارموني، كما هو الحال غالبًا في الموسيقى الشرقية؛ ولكن هذا لا ينال من مشروعية العمل الموسيقي وجمالياته. ويظل اللحن هو العنصر الأساس في بناء اللحن وقيمته الجمالية، ويكون اللحن أكثر جمالًا حينما يعتمد على ثيمة لحنية خصبة قادرة على توليد تشعبات فرعية للحن في مسارات عديدة قبل أن يعود اللحن إلى القرار الذي بدأ منه. يمكن تطبيق هذا على أشكال مختلفة من الأعمال الموسيقية، رغم أنها أشكال لكل منها خصائصها وأساليبها الفنية في التعبير عن الموضوع الذي كُتِبَت من أجله:

الأغنية

ربما يكون اللحن الغنائي هو أكثر أشكال الموسيقى التي يألفها عموم الناس. جمال الأغنية يكمن في ارتباط اللحن بالكلمات بحيث يعبر عن الحالة الشعورية التي تسكنها؛ ولهذا فإننا نستعذب اللحن الذي يستخدم الناي والآلات الموسيقية القادرة على التعبير عن الشجن والحزن في المواويل. ولهذا السبب نفسه، فإننا نستهجن ونأنف أو ينقطع شعورنا الجمالي حينما نجد أن اللحن الحزين المواكب للموال ينقلب فجأة إلى لحن صاخب إيقاعي راقص. ولكن هذا -للأسف- هو ما نجده في ألحان بعض الملحنين العظام من أمثال بليغ حمدي الذي ألَّف ألحان بعض من أشهر الأغاني العربية!

الموسيقي الدرامية

هي الموسيقى التي تُكتَب من أجل نص أوبرالي حافل بالأحداث الدرامية، وهي تتوالى أو تتابع مع تطور وتتابع الأحداث الدرامية. وكذلك فإن موسيقى الفيلم تصف أو تصوِّر موسيقيًّا الأحداث والحالات الشعورية التي تهيمن على الفيلم. ولعل ريتشارد فاجنر هو أهم رواد فن الأوبرا، كما أن إنيو موريكوني هو أهم صانعي موسيقى الفيلم في عصرنا. ومع ذلك، فإن شوبنهاور الذي كان معاصرًا لفاجنر لم يعتد سوى بالموسيقى الخالصة؛ لأن الموسيقى لا ينبغي أن تكون تابعة للكلمات: حقًّا إنه يرى أن ارتباط اللحن بالكلمة يضفي عليها تأثيرًا شعوريًّا قويًّا، ولكنه يرى في الوقت ذاته أن اللحن لا ينبغي أن يكون تابعًا للكلمات؛ بل ينبغي أن تبدو الكلمات تابعة له (أي: كما لو كانت مثالًا عليه أو تجسيدًا له).

الموسيقى الخالصة

السؤال الآن: أين نضع الموسيقى الخالصة من هذا كله؟ الموسيقى الخالصة، أعني الموسيقى التي تستخدم الآلات التي يمكن أن تستخدم الصوت البشري باعتباره مكوِّنا موسيقيًّا خالصًا كالآلات، هي موسيقى لا تعبر عن موضوع محدد كما نجده في الواقع، وإنما تعبر عن جوهر الشعور من دون ارتباط بموضوع محدد: فهي تعبر عن السعادة والبهجة أو الحزن أو الرهبة أو الجلال من دون الارتباط بموضوع محدد مما يمكن أن يثير هذه المشاعر.

ومن أمثلة الموسيقى الخالصة: السوناتا والكونشرتو والسيمفونية التي هي أعلى أشكال البناء الموسيقي وأكثرها تعقيدًا. والواقع أن معظم الناس -خاصةً في العوالم التي تفتقر إلى الثقافة الموسيقية- لا يتذوقون الموسيقى الخالصة، بل قد يأنفون منها؛ ببساطة لأن أذنهم لم تألف سماع هذه الموسيقى، والناس أعداء ما جهلوا، كما يُقَال. ولهذا يمكننا القول: إن الموسيقى الخالصة تظل هي النموذج الأسمى الذي يجسد العمل الموسيقي كما يكون في ذاته وبذاته.

ومع ذلك كله، فإننا يمكن أن نجد صلة قرابة بين الموسيقى الخالصة وغيرها، ونقول: إن الفن الموسيقي تكمن قدرته في التعبير عن موضوعه، وفي قدرته في الوقت ذاته على الاستقلال عن موضوعه الخاص بحيث يصبح معبرًا عن الحالة الشعورية العامة التي تتحقق في موضوعه مثلما يمكن أن تتحقق في غيره. ولإيضاح ذلك، يمكن أن نسوق هنا بعض الأمثلة:

لنـتأمل موسيقى الأفلام الشهيرة التي أبدعها إنيو موريكوني، ومنها ما يُسمى بأفلام الوسترن، وأهمها: «من أجل حفنة دولارات» و«من أجل مزيد من الدولارات»، و«الطيب والشرس والقبيح»، و«حدث ذات يوم في الغرب»، وحدث ذات مرة في أمريكا، فضلًا عن أفلام عالمية أخرى لا حصر لها. ولكن كثيرًا من أعمال هذا المؤلِّف العظيم تبقى لها قيمتها الجمالية الموسيقية بشكل مستقل عن الأفلام التي كُتبت من أجلها! وهنا تكمن المفارقة: فكل عمل من هذه الأعمال الموسيقية يبدو كما لو كان قد كُتِب من أجل وصف أحداث فيلم ما، ولكننا نكتشف أن هذه الأعمال الموسيقية قادرة على أن تستثير إعجابنا حينما يتم عرضها مستقلة في حفلات موسيقية أوركسترالية. ومنها حفلات بقيادة موريكوني نفسه. هذه المسألة تحديدًا قد فصلتُ القول فيها في سيرتي الذاتية بعنوان «الخاطرات»، وفي مقال سابق منشور بجريدة الاتحاد الإماراتية بعنوان «حينما تقوم الموسيقى بدور البطولة». ومثل هذا يمكن أن يُقال عن الموسيقى الأوبرالية كما جاءت في الأعمال الكبرى.

وبحسب حظ المتلقي من الثقافة الموسيقية يكون حظه من حسن قراءة العمل والاستمتاع به. وعلى نحو آخر نجد أن المايسترو وكذلك العازفون يقومون بقراءة العمل الموسيقي بالمعنى الحرفي للقراءة، أعني قراءة النوتة الموسيقية باعتبارها أعدادًا حسابية وفواصل زمنية، إلخ. ولكن قراءة النوتة ليست مجرد قراءة حرفية، ولكنها أيضًا قراءة للحالة الشعورية المباطنة في اللحن؛ ولذلك نجد على هامش النوتة مصطلحات موسيقية تصف هذه الحالة الشعورية التي يمكن أن يستلهمها المايسترو أو العازف (خاصة العازف المنفرد)، وفي هذا يتفاوت حظ هؤلاء من حيث المكانة الموسيقية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الموسیقى التی یمکن أن ی من أجل التی ت

إقرأ أيضاً:

الشتات بوصفه مَجازًا مضادًا: قراءة نقدية في أطروحة “الشتات قيد التشكل في أستراليا”

الشتات بوصفه مَجازًا مضادًا: قراءة نقدية في أطروحة “الشتات قيد التشكل في أستراليا”
للباحث الدكتور عبد الخالق السر

ثمّة نصوص لا تُقرأ فحسب، بل تُنصت، إذ تمتزج فيها التجربة بالتأمل، والسرد بالتحليل، والذات بالجمعي. وأطروحة “الشتات قيد التشكل في أستراليا” لنيل درجة الدكتوراه للباحث عبدالخالق الحسن تنتمي إلى هذا الضرب من الكتابة التي لا تقف عند وصف الظواهر، بل تتساءل عنها، وتقلقها، وتستدعي قواها الخفية لتُفصح.
في قلب هذا المشروع الأكاديمي، ثمة سعي لفهم الذات السودانية في المهجر، لا كحالة تائهة بين وطنين، بل كاحتمال سردي يعيد مساءلة الوطن نفسه، والهوية، والانتماء، والتاريخ، والذاكرة.

من العنوان، يُفهم أن “الشتات” ليس واقعة منجزة، بل عملية جارية؛ “قيد التشكل”. كأنّ الذات السودانية المُهاجرة لم تستقر بعدُ كجماعة في المنفى، بل ما تزال بنية قلقة، تتأرجح بين الانغراس والانفلات، بين الحنين والقطيعة، بين التمثل والتمرد.

تمضي المقدمة في بناء خلفية فلسفية واجتماعية للأطروحة، حيث لا تبدو الهجرة السودانية إلى أستراليا كتدفق بيولوجي أو تحوّل ديمغرافي، بل كجُرح معرفي ناتج عن فشل المشروع الوطني السوداني في تأسيس هوية جامعة تتجاوز القبيلة، والعِرق، والدين، والجهة. وهذا الفشل ليس محض خلل في الأداء السياسي، بل خلل في التصور الجوهري لفكرة “السودان”.
يشير عبد الخالق إلى أن المهاجرين السودانيين لم يغادروا الوطن فحسب، بل حملوه معهم – بذاكرته، بلغته، بخلافاته المؤجلة، بانقساماته الحادة – ليعيدوا تمثيله في المهجر على صورة مألوفة: الجهة تغلب الوطنية، واللغة تفرز الطبقة، والانتماء الإثني يعلو على المجال المشترك. وكما قال إريك فروم: “الحرية التي لا تقترن بتحول داخلي، تُعيد إنتاج القيد على نحو جديد.” وهذا بالضبط ما ترصده الأطروحة: أن الخروج من السودان لم يكن كافيًا للتحرر من منطق السودان، بل أُعيد تشكيل “القيد” داخل فضاء جديد يبدو، للوهلة الأولى، محايدًا.

ينقلنا الفصل الأول إلى الجذر التاريخي للمسألة: السودان كدولة أُريد لها أن تكون “عربية-إسلامية” فوق واقع أفريقي متنوع. لقد فشلت النخب التي تعاقبت على السلطة منذ الاستقلال في الاعتراف بالواقع التعددي، بل عملت على قمعه رمزيًا وماديًا. وقد أُقحِم الدين في خدمة هذا المشروع، لا كإيمان فردي، بل كأداة للهيمنة الرمزية، لتبرير السيطرة، وسحق المختلف. وهنا تستحضر الأطروحة مفهوم بول ريكور عن “الذاكرة الجريحة”، حيث يُقصى الآخر لا لأنه غريب، بل لأنه يُذكّر المركز بـ”مظلوميته المؤجلة”. السودان هنا لا يُنتج ذاتًا جمعية، بل فضاء لإنتاج “الآخر الداخلي” باستمرار: جنوب السودان، دارفور، جبال النوبة، الشرق… إلخ.
ما يقترحه عبد الخالق هنا هو أن هذه الدولة المؤجّلة لم تغب عن المهاجر، بل تسكنه، وتُشكّله، وتدخل حتى في علاقاته اليومية مع بني جلدته في المنفى. وهنا يتحول الشتات من تجربة اغتراب مكاني إلى تجربة اغتراب نفسي مزدوج، تتكثف فيه الغربة كفقد للمكان وكتمزق للرمز في آن واحد.

في الفصل الثاني، يستعرض الدكتور الأدبيات التي تناولت تجارب الشتات السوداني في أوروبا وأمريكا الشمالية، ليُظهر كيف أن عناصر الانقسام التي ظلت تنهش الجسد السوداني في الداخل، قد تسرّبت إلى الخارج بنفس البنية تقريبًا، بل ربما بانسيابية أكبر. إذ أن المسافة الجغرافية لم تُلغِ التراتب الاجتماعي، ولم تُطفئ نار التمييز الإثني أو الانقسام الجهوي، بل منحتها وجوهًا جديدة، وغطاءً “متعددًا ثقافيًا”. حتى المراكز الثقافية السودانية في الغرب، التي يُفترض أن تكون منصات للوحدة، تُدار غالبًا بمنطق المركز والهامش، والهيمنة الرمزية، واحتكار الصوت. وتُظهر الأطروحة أن هذه المراكز تعيد رسم خريطة السودان القديم بطرق رمزية عبر اللغة واللهجة والموقع والتاريخ الشخصي. فتستمر أصوات الخرطوم في التحدث باسم الجميع، بينما تظل المناطق المهمشة – دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق – في الخلفية، ما لم تحضر بوصفها “كوارث” أو “ملفات” يجب التعامل معها من موقع أخلاقي خارجي.

هنا يُستحضر فكر فرانز فانون حين كتب عن “الجلد الأسود والأقنعة البيضاء”، ليؤكد أن الأقنعة التي نرتديها – لا لتخفي هويتنا، بل لتحميها – قد تتحول إلى سجون نفسية. وفي هذا السياق، تتحول طقوس السودانيين في المهجر إلى رموز مشروطة، تمارس تمسكًا هشًا بهوية لم تُبنَ على أساس العدالة أو الاعتراف، بل على إرث طويل من الإقصاء.

في الفصل الثالث، يُبرهن عبد الخالق على وعي منهجي لافت، إذ يدمج بين المنهج الظاهراتي لفهم التجربة المعاشة، والواقعية النقدية لفهم القوى البنيوية الخفية التي تُنتج تلك التجربة. بهذا المزج، تُقرأ روايات المشاركين لا كمجرد قصص شخصية، بل كبنى لغوية، تمثل الذات في مواجهة التاريخ، والسياسة، والطبقة. ويُذكرنا ذلك بتحليل فيكتور فرانكل، الذي يرى أن استدعاء الألم يُعدّ أحد أشكال مقاومة التشييء، حيث تتحول المعاناة من حدث معزول إلى نص جماعي. وهكذا تصبح شهادة الفرد السوداني في المهجر – أكانت امرأة تتحدث عن الاغتراب، أو شابًا عن الرفض المهني – جزءًا من نص أكبر، يُعيد مساءلة شكل المجتمع، ومعنى الانتماء، وفكرة الوطن. ويتمكّن الدكتور هنا من تفكيك صوت الجالية بوصفه “حقل قوى”، حيث تتصارع الرموز لا فقط من أجل الحضور، بل من أجل تمثيل السودان نفسه. من يحق له أن يتحدث باسم الجالية؟ من يُمنح الميكروفون؟ من تُستدعى شهادته حين يتعلق الأمر بالعنف، أو الاندماج، أو النجاحات الرمزية؟

في الفصل الرابع، يرصد عبد الخالق النشاط السياسي في المهجر كاستمرار للجرح. فالمنفى، في هذه الأطروحة، لا يُغلق الجراح، بل يُعيد فتحها في صيغ جديدة.
الغريب أن معظم التشكيلات السياسية في الشتات، رغم أنها تُرفع باسم “الحرية” و”التغيير”، تعيد إنتاج الانقسام ذاته الذي دمّر السودان: طائفية ناعمة، احتكار للصوت، تهميش للنساء، وشكوك مزمنة في الآخر. كما يلاحظ الدكتور أن النشاط السياسي في الشتات مهووس بـ”سودان لا يسمع”، بينما يتجاهل أستراليا التي يُفترض أنها “الواقع”، وكأن السياسة ليست سوى طقس استرجاع لنداء لم يُجب بعد.

في هذا السياق، لا تصبح السياسة مشروعًا لبناء هوية جديدة، بل منصة لاستمرار النزيف، حيث “الوطن” يصبح شعارًا يتكرر دون فاعلية، ويتم إعادة تدوير الخطابات ذاتها التي هُزمت في الداخل. ويظهر ذلك جليًا في نقد الدكتور لبعض المواقف الماركسية التقليدية التي ما تزال ترى في أستراليا دولة استعمارية رأسمالية لا يمكن التحالف معها سياسيًا، ما يمنعها من التفاعل الواقعي مع شروط الهجرة الجديدة. وهنا تستدعي الدراسة مجددًا أفكار فروم، عن الحرية التي لا تُبنى على مشروع جديد، بل تبقى أسيرة الماضي. فالمنفى لا يُنتج مشروعًا، بل يضخ طاقة لا تُستهلك، تتكرر وتتعثر في شكل مظاهرات صغيرة، بيانات حادة، وخطابات داخلية لا يسمعها إلا من كتبوها.

الفصل الخامس يفتح نافذة بالغة الأهمية على صوت النساء، خصوصًا الليبراليات اللواتي خرجن عن الخط الرسمي للجالية، ليقلن ما لا يُقال. وهن هنا لا يظهرن كضحايا، بل كذوات مُنتجة للمعرفة، تعيدن مساءلة كل شيء: الدين، السلطة، النوع، والعائلة. المدهش أن أقسى المواجهات لم تكن مع المجتمع الأسترالي، بل مع أبناء جلدتهن داخل الجالية، أولئك الذين يُعيدون تمثيل القمع بثياب مدنية.
المرأة السودانية في المهجر، كما تصفها إحدى المشاركات، تُعامل كـ”كائن قابل للترويض”، لا كمواطنة. ومجرد اختيارها لمظهرها، أو صوتها، أو كتابتها، يُقابل بسيل من الشكوك والتهم.

وتكشف الأطروحة عن التوتر الحاد الذي تعيشه النساء بين الهوية الفردية و”الهوية الجمعية المفروضة”، خاصة حين يتعلّق الأمر بالتعبير عن الذات، والعلاقات العابرة للثقافة، واللغة التي تُختار في الحديث، وحتى طريقة ارتداء الملابس. ومع ذلك، فهؤلاء النسوة لا يُقدّمن أنفسهن كضحايا، بل كمخرجات لصوت جديد يُكافح لأجل تشييد سردية أنثوية سودانية بديلة، خارجة عن القوالب، ومتصالحة مع الذات. هذا الصوت، وإن بقي مهمشًا في مؤسسات الجالية، إلا أنه يُحدث أثرًا عميقًا في الأجيال اللاحقة، ويخلق تقاطعات مثمرة بين الجندر، العرق، والتجربة.

أما الفصل السادس، فهو أقرب إلى مرآة تكشف هشاشة ما يُسمى بالجالية. فحتى في قلب المنفى، يستمر التمييز الطبقي، والجهوي، والديني، بل يتخذ أحيانًا أشكالًا أشد مراوغة: لهجة معينة تُعد أكثر “سودانوية”، اسم معين يُعتبر “راقٍ”، وجمعيات تُنشأ لا لتمثيل التنوع، بل لتثبيت التفوق الرمزي. الزواج هنا يتحول إلى امتحان إثني، واللغة إلى اختبار انتماء، والموسيقى إلى إعلان طبقي. كل شيء يُفرز، وكل فرد يُصنّف، في نظام يعيد تمثيل الخرطوم دون الحاجة إلى جغرافيا. ويتناول عبد الخالق هذه البنية بجرأة واضحة، مشيرًا إلى أن بعض السودانيين الذين ينتمون إلى الطبقة المتعلمة من الخرطوم غالبًا ما يحتكرون فضاء التمثيل في الإعلام والهيئات الاستشارية، في حين يُهمّش الآخرون الذين جاؤوا من معسكرات اللجوء، أو ممن لا يمتلكون رأس المال الرمزي الكافي.

في الفصل السابع، يغوص الدكتور عبد الخالق في العلاقة بين الجالية السودانية والمجتمع الأسترالي. ورغم سياسة التعدد الثقافي، إلا أن المهاجر السوداني يُطلب منه أن “يقدّم نفسه” لا كفاعل، بل كـ”ضيف ثقافي”. وحين يُعرض في الإعلام، فإما بوصفه ضحية، أو مصدر خطر. أستراليا لا تعترف بالسوداني كاملًا، بل تقبله بوصفه حالة استثنائية، مشروطة، قابلة للزينة والاحتفاء في المواسم، لا للشراكة الحقيقية. وهنا يظهر السؤال المرير: ماذا يعني أن تُطلب منك المواطنة، لكن بلا اعتراف؟ أن يُقال لك: “كن مثلنا”، في الوقت الذي تُعامل فيه كأنك غير مرئي؟

ويُظهر الدكتور أن اندماج السودانيين في أستراليا هو اندماج “مشروط بالصمت”، أي أنه يُطلب منك أن تندمج بشرط ألا تُزعج السردية الرسمية، ألا تتحدث عن العرق، أو العنصرية، أو الذكريات المؤلمة. لكن السوداني في المهجر لا يملك رفاهية النسيان، ولا خيار التماهي الكامل، بل يجد نفسه متموضعًا في مساحة رمادية بين الحضور والتشكيك. ولهذا يتحول الكثير من السودانيين إلى “حالة تمثيل دائم”: يجب أن يكونوا مثالًا للنجاح، أو للنجاة، أو للبؤس… المهم أن يكونوا قابليين للتفسير ضمن سردية الدولة، لا خارجها.

أما الفصل الثامن، فهو انسياب وجداني لطبقة عميقة من التجربة. الحنين هنا لا يُقدّم كعاطفة، بل كأداة للتماسك، كبوصلة رمزية. المهاجر السوداني لا يشتاق للسودان كما هو، بل كما يجب أن يكون، أو كما يتخيله. الوطن لا يعود جغرافيًا، بل يصبح استدعاءً شعريًا، ورغبة فلسفية في المعنى. لكن عبد الخالق لا يقع في رومانسية الحنين، بل يُسائلها: هل يُعيقنا الحنين عن الانخراط في الواقع؟ هل يُمكن أن يتحول التعلّق بالماضي إلى قيد خفي يمنع تشكل الذات الجديدة؟ بعض المشاركين تحدّثوا عن الحنين بوصفه طقسًا يوميًا – في الموسيقى، في الطعام، في الأحاديث الجانبية – بينما آخرون اعتبروه شكلاً من أشكال “الانحباس النفسي” الذي يُعطل التفاعل مع المحيط الجديد. ولأن السؤال يُطرح من داخل التجربة، لا من فوقها، فإن جوابه يظل مفتوحًا، صادقًا، ومرتجًا مثل ضوء بعيد لا يُطفأ.

وينتهي الفصل التاسع إلى خلاصاتٍ مفتوحة؛ إذ أن الشتات، كما يقترح عبد الخالق، ليس حصيلة بل حركة، وليس انفصالًا بل تحوّلًا دائمًا. فلا يُنتج ذاتًا ثابتة، بل سردية تتشكل من الشظايا والتوترات التي لا تنتهي. وربما تكون أعظم مساهمة لهذه الأطروحة أنها لا تبحث عن خلاص، بل عن وعي جديد، متصالح مع تعدده، شجاع في اعترافه، لا يطلب المركز، ولا يخجل من الهامش.

ومن هذا الوعي النقدي الذي تفتحه الأطروحة، يتبدى سؤالٌ محوري لا يمكن تجاوزه: هل استطاع الشتات السوداني أن يتحرر من قيده القديم، أم لا يزال معلقًا بين عالمين؟

وفي ضوء ما سبق، يبدو أن المهاجرين السودانيين في أستراليا، كجماعة، لم يتمكنوا بعد من تحقيق اندماجٍ ملحوظ أو انتماء مكتمل للفضاء الجديد. ما زالت الذاكرة الجمعية، بكل تناقضاتها وانقساماتها، تقيّد هذا الشتات بتجاذبات المكان الأول. وكأن الذات السودانية في المهجر تعيش حالة مُعلقة بين “هنا” و”هناك”، بين واقع جديد لا يُستثمر بالكامل، وماضٍ يرفض أن يغدو ماضيًا. ومع ذلك، لا ينبغي إغفال أن بعض الأفراد والجماعات – مثل الأقباط السودانيين – قد استطاعوا عبر مسارات خاصة تحقيق درجة أوسع من الاندماج والانتماء، مما يثبت أن إمكان التحول موجود، لكنه يتطلب تفكيكًا أعمق للبُنى الرمزية التي يُعاد إنتاجها حتى في قلب المنفى.

وبعد هذا التوغّل النقدي في أطروحة الدكتور عبد الخالق السر، أجدني لا أكتفي بقراءة النص، بل أدخل في حوار معه. فهذه الدراسة لم تقتصر على تحليل تجربة الشتات السوداني في أستراليا، بل فتحت إمكانية تأويل أكثر اتساعًا لفكرة الشتات بوصفه شكلًا من أشكال التمزق المعرفي والسياسي للذات في مواجهة التاريخ والهوية والانتماء. وقد حاولت، عبر هذا النص النقدي، أن أستدعي ما هو غائب في الخطاب الأكاديمي التقليدي: اللغة كجُرح، والصوت كفعل مقاومة، والحنين كطيف لا يسكن الماضي بل يطارد الحاضر. إن ما تضيفه هذه القراءة، في تقديري، هو مساءلةٌ مزدوجة: مساءلة لمفهوم “السودانوية” كما تتموضع في المنفى، ولمفهوم “المواطنة” كما يُعاد إنتاجه تحت قناع التعددية. هي محاولة لإخراج الصوت السوداني من تمثيله النمطي بوصفه ضحية، وإعادة صياغته كذات ناقدة، متشظية، ومُنتجة للمعرفة من قلب التصدع لا من ضفاف الانسجام.
والشتات هنا لا يُقرأ كانفصال عن الوطن، بل كمحاولة مضادة لاحتكاره، وكاحتمال رمزي لكتابة سردية بديلة عن الانتماء، والهوية، والذات الجمعية التي لم يكتمل نسيجها بعد.

وهكذا، يظل الشتات السوداني، في ضوء هذه الأطروحة، فعل مقاومة ضد اختزال الهوية، ومختبرًا مفتوحًا لإعادة تخليق الذات خارج خرائط الانقسام، في رحلة لا تبحث عن يقينٍ، بل عن مساحة أوسع للتماهي مع تعددها وإمكانها الإنساني.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • النقابة التونسية للمهن الموسيقية تكرم لطيفة بالقاهرة
  • مهرجان إن كلاسيكا في دبي يجمع فنانين كلاسيكيين عالميين وعازفي أوركسترا لأسبوعين من الحفلات الموسيقية
  • المهن الموسيقية: انتهاء التحقيق مع عصام صاصا وفي انتظار قرار النقابة.. خاص
  • وهبي: لا يمكن توفير طبيب شرعي لكل إقليم بسبب ضعف أجور التشريح التي لا تتجاوز 100 درهم
  • نقابة المهن الموسيقية تحيل رضا البحراوي للتحقيق
  • وفاة سعد الله آغا القلعة.. رائد التوثيق الموسيقي والوزير السوري السابق
  • هذه أبرز وظائف المستقبل التي تنبأ بها الذكاء الاصطناعي
  • الأمر لم يحسم.. مدير أعمال حمو بيكا يكشف تطورات الأزمة مع نقابة المهن الموسيقية |خاص
  • هل يمكن فصل الهوية المهنية عن الشخصية؟ دراسة توضح
  • الشتات بوصفه مَجازًا مضادًا: قراءة نقدية في أطروحة “الشتات قيد التشكل في أستراليا”