سودانايل:
2024-07-01@19:42:07 GMT

مِن ياتو ناحية .. لحظة التوازن الإنفعالي

تاريخ النشر: 25th, May 2024 GMT

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
مِن ياتو ناحية .. لحظة التوازن الإنفعالي
أثار ويثير مقطع الفيديو المصور الذي ظهر فيه الشهيد محمد صديق وهو في الأسر قبيل اغتياله المفجع حالة من التضامن النفسي والاجتماعي والاخلاقي لدى معظم القطاعات المجتمعية في السودان. بل ويمكن القول أن تلك اللحظة ستلعب دوراً مهما في مسار الحرب، فقد هوت بقوات الدعم السريع في قيعان سحيقة من الإدانة وعلت نبرات الإستهجان والاستنكار لهجة كل من شاهد ذلك المقطع.

.. فقد كان منبع الإستهجان مرتبط بعملية الاستقواء التي أبرزتها المجموعة التي أسرته وعرضته بإعتباره صيد سمين، يمكن أن تُنزع منه في حالة الضعف النفسي والعجز عن الفكاك، رسالة بكلمة أو كلمتين تكونان ذات أثر نفسي ليس فقط على مسار الحرب في ميدان المعركة، وإنما يُكسر من خلالها كبرياءه وتمرغ أنفه كمحارب بالتراب. لذلك جاءت لحظة مطالبته بإرسال رسالة " للجاهزية"... حيث يمكن للمرء أن يقرأ تلك اللحظة وسائر تفاصيل المشهد وما إحتشد به من منظور علم النفس Psychology لما ينطوي ذلك على مفارقات مهمة على مستوى البنية النفسية لكل من الأسير والشخصية التي طالبته بإرسال الرسالة، وما ترتب على ذلك كله من متحصلات انقلبت فيها الموازين رأساً على عقب. حيث صار المنتصر مهزوماً، واستحال الأسير لبطل.
فمن منظور علم النفس يمكن النظر للشخصية التي قامت بصفع الأسير بأنها شخصية " عُصابية" Neurotic personality غير قادرة على التحكم في التوتر الداخلي أو في حركة الانفعالات المائجة بداخلها عندما توقعت من الأسير أن يقدم رسالة تتماشى ومستوى توقعه كونه منتصراً في تلك اللحظة. وكونه الآمر الناهي وأن مصير الأسير مرتهن بما قد يدلي به بالصورة التي يريدها هو تمجد أفراد "الجاهزية" وتستعطفهم وتستجدي منهم إبقاء الأسير على قيد الحياة.
كما أن تراجيدية المشهد وما يستتبعه من مدلولات قام فيها الشهيد محمد صديق بشحن تلك اللحظة المطلوب فيها كسر كبرياءه، بحالة بطولية أصابت مستجوبه بحالة من العُصاب نابعة من يأس مفرط تجلت من بين ثنايا الإنفعالات التي اعتملت بداخله من دوافع لا شعورية وتوتر داخلي مفرط حمله في لحظة عصابيته تلك أن يوجه صفعة على وجه الأسير. كانت تلك الصفعة بمثابة اعلان هزيمة للطرف المستقوي ودلالة على حالة اضطراب نفسي اعترت صاحب الصفعة لعدم اتساق ردة الفعل مع مضمون اللحظة التي كان يُؤمِّل فيها أن ينكسر الطرف "الأضعف" لحظتذاك.
فبإمعان النظر والتأمل في جملة (من ياتو ناحية) فإنها في الواقع لا تشير الي إجابة، ولا هي كذلك سؤال بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما كانت (إستجابة سريعة وذكية ومربكة وفائقة الدلالة) عبرت عن حالة رفض لإرسال الرسالة المطلوبة. وليس لها تفسير غير ذلك. فالجملة لا تحمل في مضمونها سيمطيقياً أي معنى دلالي يمكن أن يجري تفسيره بشكل منطقي سوى الرفض المطلق ولا شي غير الرفض لشخص مُحاط بمجموعة قرَّ في داخلها زهو الإنتصار، وتريد أن تنتزع من "صيدها" على وجه السرعة وبإنفعال مطلق أي كلمات إيجابية في حقهم، فإذا به يبرز من خلال تلك الجملة بسيمائها الرافض (مِن ياتو ناحية) حالة من الإتزان الإنفعالي Emotional balance تناسبت مع مطلوبات الموقف الذي كان يستدعي أن يكون الأسير كجندي محترف رابط الجأش وذو قدرة على التحكم في انفعالاته، فهي سمات تسم الشخصية التي تتمتع بالمرونة النفسية psychological Resilience والتي عادة ما يكون فيها المرء قادرا على إبراز قدرات مميزة أهمها التكيّف اللحظي مع ظروف معاكسة وغير مواتية، تتسم بقدر كبير من سؤ المعاملة. لذلك فإن الصفعة التي تلقاها الشهيد الأسير في تلك اللحظة كانت بمثابة هزيمة لعدوه على المستوى الأخلاقي والإنساني والإجتماعي والنفسي وكل ما قد يتصل بالقيم المطلقة بما في ذلك القيم التي تم سنها في القانون الدولي الإنساني القاضي بصون كرامة الأسير وعدم عرضه أمام الكاميرات بغية انتزاع كلمتين منه.
مهما يكن من أمر، فإن مستوى القدرة على الإتزان الإنفعالي الذي أبداه الشهيد بجملة (مِن ياتو ناحية) فوق أنها قد أفسدت لحظة النصر والظفر لدى عدوه، فإنها إرتقت به لحالة بطولية ملهمة يمكن أن تُدرج في سجلات التراث كأحد أروع الأمثلة لحالة بطولية تؤثر الموت على المذلة، لترتقي به لقيمة رمزية، ليصير حالة دراسية لطلاب علم النفس يتأملون فيها قدرات فذة على ذلك السلوك الذي تنقلب فيه الموازين حينما تغلبُ الشجاعةُ الكثرةَ، وتشمخ فيها الهامات على مخازي الإنتصار الرخيص. ويستمد منها المؤرخون وكُتّاب السِّير لحظة الصمود في وجه الموت المحدق ببسالة نادرة المثال. وعلامة فارقة يلتقطها أُولي البصائر والإعتبار ليستنهض فيها الأدباء والمبدعون ممكنات الإبداع عندما يتجاوز الواقع الخيال لتكون قصصٌ تُروى للأجيال.
د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: تلک اللحظة

إقرأ أيضاً:

نادي الأسير الفلسطيني: استخدام المدنيين والمُعتقلين كدروع بشرية سياسة إسرائيلية مُمنهجة

أكد نادي الأسير الفلسطيني، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي استخدمت المدنيين ومنهم المعتقلون كدروع بشرية على مدار احتلالها لفلسطين. 

 

وأوضح النادي - في بيان اليوم /الاثنين/ - أن مقاطع الفيديو التي نشرت لاستخدام جيش الاحتلال لمواطنين كدروع بشرية تشكّل امتداداً لنهج قديم متجدد، وهو وجه من أوجه حرب الإبادة المستمرة بحقّ الشعب الفلسطيني في غزة، التي تكشف يوميًا عن حقيقة هذا الاحتلال ومستوى توحشه الذي لم يعد له حدود. 

 

وأضاف أن كل ما تم رصده من جرائم ومنها جرائم حرب، وانتهاكات جسيمة لكل القوانين والأعراف الدّولية الإنسانية، لا تشكّل جرائم جديدة في تاريخ الاحتلال، بل هي سياسات ثابتة وممنهجة وجزء من أدواته، وأن العجز التاريخي لوقف هذه الجرائم هو الأساس لاستمرارها وتصاعدها حتى اليوم. 

 

وأكد أنه منذ بدء حرب الإبادة فإن مستوى الجرائم التي نفّذت بحقّ المعتقلين وعائلاتهم غير مسبوقة بكثافتها، وهذا ما تؤكده كذلك الشّهادات من مئات المعتقلين الذين أفرج عنهم، أو من تمكّنت الطواقم القانونية من زيارتهم. 

 

وأشار نادي الأسير إلى أنّ المزيد من الدلائل والإثباتات الواضحة على جرائم الاحتلال بكافة أشكالها، يضع المنظومة الحقوقية أمام اختبار إنساني كبير، ويتعاظم هذا الاختبار مع استمرار الاحتلال بجرائمه التي لم يعد لها سقف، ولا حدود، ولا مستوى. 

 

وذكر أنّ أعداد حالات الاعتقال من غزة تقدر بالآلاف، مشيرا إلى أنّ الاحتلال استخدم جريمة الإخفاء القسري بحقّهم، إلى جانب جريمة التّعذيب الممنهجة، وجملة من الاعتداءات -غير المسبوقة- بمستواها، منها الاعتداءات الجنسية التي وصلت حد الاغتصاب. 

 

وجدد نادي الأسير، مطالبته للمنظومة الحقوقية الدّولية باستعادة دورها اللازم ووقف حالة العجز التي تمسّ بالمجتمع الإنسانيّ برمته، مُشددًا على أنّ هذه المرحلة بما فيها من تحوّلات كبيرة، تحتاج بالمقابل إلى تحوّلات على صعيد عمل المنظومة الحقوقية الدّولية بحيث تتمكن من وضع لحد للتوحش الإسرائيليّ المتصاعد.

مقالات مشابهة

  • نادي الأسير الفلسطيني: استخدام المدنيين والمُعتقلين كدروع بشرية سياسة إسرائيلية مُمنهجة
  • نادي الأسير يعقب على استخدام المدنيين دروع بشرية
  • شرانز: مباراة انجلترا لحظة يمكن أن نندم عليها لبقية حياتنا
  • 9465 معتقلًا فلسطينيًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي
  • أحضان وبكاء.. لحظة لقاء أسير من غزة بأطفاله بعد الإفراج عنه (فيديو)
  • وقفة.. الحرب العالمية الثالثة
  • محلل إيطالي: ليبيا تواجه خطر الانزلاق نحو العنف مع تفاقم الانقسام الداخلي
  • رغم الانفاق الخدمي والميزانيات.. ناحية بصرية خالية من المدارس والطرق والصحة
  • «الرواية والتاريخ والمجتمع».. مرة أخرى!
  • 6 حالات يحق فيها للمؤمن عليه أو أسرته الحصول على معاش مادي.. منها المرض والوفاة