زهير عثمان حمد

يعيش السودان في مفترق طرق حاسم. فبعد عقود من الصراع والتهميش، تتاح الآن فرصة لبناء مستقبل أفضل وأكثر عدلاً لجميع السودانيين. إنّ التصدي للتهميش بشكل فعال وبناء السلام الدائم ضروريان لتحقيق هذا المستقبل. أن الحديث عن مجتمع التهميش في السودان بعد الحرب. منذ اندلاع النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تعيش مناطق كثيرة في السودان حالة حرب منذ فترة طويلة.

هذه الحروب نجمت عن الصراع على الموارد والسلطة، وأشكال التهميش التنموي والاجتماعي. تأثيراتها تشمل النزوح واللجوء والتشرد، وترتبط بمظاهر المظالم التاريخية. يعتبر الحل المتاح عبر الوساطات والتسهيلات الخارجية، مثل منبر جدة، أكثر فعالية في تحقيق التوافق بين الفرقاء السودانيين. لذا، يجب أن يتبنى المثقفون المعتدلون وقادة المجتمع ومنظمات المجتمع المدني سياسات وتصالحًا مجتمعيًا لتقوية العلاقات الاجتماعية وتحقيق السلام الدائم في السودان. هذا يمكن أن يساهم في تحسين وضع السودانيين بعد الحرب.
التهميش الاجتماعي يمكن أن يؤثر بشكل كبير على حقوق الإنسان في المجتمعات المضطربة. :بالحرمان من الفرص والمشاركة: يُحرم الأفراد والجماعات المهمشة من فرص الوصول والمشاركة في المرافق الاجتماعية والسياسية. هذا يؤدي إلى عدم قدرتهم على تفعيل قدراتهم ومواهبهم والمساهمة في تطوير المجتمع.

وتأثير على الصحة النفسية: يشعر المهمشون بالعزلة وعدم الانتماء، وقد يعانون من انخفاض في التقدير الذاتي والثقة بالنفس. يصابون بالاكتئاب والقلق نتيجة للتمييز والظلم. , تفاقم الفقر والتشرد: التهميش يؤدي إلى تفاقم الفقر وعدم القدرة على الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والسكن.
تأثير على الأمن والاستقرار: عدم المساواة والتهميش يزيد من انعدام الأمن والتطرف ويؤدي إلى الهجرة غير الطوعية. ، يجب أن يكون التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي متكاملًا للتغلب على التهميش وتحقيق حقوق الإنسان في المجتمعات المضطربة.
في عصرنا الحالي، تعتبر فكرة التهميش موضوعًا مهمًا في الأدب والبحث الاجتماعي. دعوني أشارك معك بعض المفاهيم المتعلقة بالتهميش: أدب المهمشين (Marginated Literature): يشير إلى الأعمال الأدبية التي تأتي من الفئات المهمشة أو الجماعات الاجتماعية التي لم تحظ بالاهتمام الكافي. يعكس هذا الأدب تجارب الهامش والصراعات الاجتماعية.
التهميش الاجتماعي في المدن: يشير إلى انهيار العلاقة بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها اجتماعيًا وجسديًا. يتضمن مظاهر مثل التمييز العنصري أو الطبقي، وتوزيع غير عادل للموارد، وارتفاع معدلات البطالة.
التهميش والعولمة: يربط بين التهميش وظاهرة العنف، حيث يعد الفقر والتهميش منبعًا لتوالد الجماعات العنيفة ذات الطرح المتطرف. العولمة قد تزيد من الشعور بالإنزواء والهامشية.
فكرة التهميش ليست وليدة العصر الحالي فحسب، بل هي متجذرة في مختلف الحضارات عبر التاريخ. يمكننا استخدامها لتحليل الظواهر الأدبية والاجتماعية.
التميز والإقصاء والتهميش هي مفاهيم مختلفة ترتبط بالتفاوت في المشاركة والفرص في المجتمع. دعوني أوضح الفروق:التميز (التفوق):يشير إلى تميز الأفراد أو الجماعات في مجال معين، سواء كان ذلك في العمل أو التعليم أو غيره.
يعكس القدرات والإنجازات الفردية والاستفادة من الفرص المتاحة.
قد يكون إيجابيًا عندما يكون مبنيًا على الجهد والمهارات.
الإقصاء: يعني استبعاد الأفراد أو الجماعات عن الفرص والمشاركة. , قد يكون نتيجة للتمييز أو الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية. , يؤدي إلى عدم تحقيق الإمكانيات الكاملة للأفراد. , التهميش:يعني وضع أفراد أو جماعات على هامش الأحداث والمشاركة.

يمكن أن يكون نتيجة للتميز السلبي أو السلطة غير المتكافئة. , يؤدي إلى فقدان الفرص والتهميش الاجتماعي والاقتصادي. مصدر
وتجربة الانتقال الديمقراطي في السودان بعد إطاحة الرئيس عمر حسن البشير في 2019 شهدت تحديات كبيرة ومشكلات متعددة. هنا بعض النقاط المهمة:التمهيش والتحول الديمقراطي:الأحزاب السياسية في السودان تسعى للتغلب على التمييز والتهميش الذي عانت منه البلاد لفترة طويلة.
تركز على تعزيز المشاركة المدنية وتوفير فرص متساوية للجميع.
الحلول المقترحة: الإصلاح السياسي: تعزيز الديمقراطية من خلال تحسين الهياكل الحكومية وتعزيز دور المؤسسات الديمقراطية.
التنمية الشاملة: تحقيق التنمية المستدامة وتوزيع الثروة بشكل عادل للحد من التمييز الاقتصادي.
تعزيز حقوق المرأة: تعزيز مشاركة النساء في الحياة السياسية والاقتصادية.
المصالحة الوطنية: تعزيز الحوار والتسامح بين مختلف الأطياف السياسية لتحقيق الاستقرار.
وهذه مجرد نقاط عامة، وهناك العديد من الأفكار والاقتراحات التي تتناولها الأحزاب السياسية السودانية في تحقيق التمهيش والديمقراطية. مصدر
الحوار يلعب دورًا مهمًا في تحقيق التسامح والسلام بين مختلف المجتمعات. إليك بعض النقاط المهمة: , تقوية التقارب والتعارف:يساعد الحوار على تقوية العلاقات بين الأفراد والمجتمعات المختلفة.

يعزز التفاهم والاحترام المتبادل. تبادل المعارف والأفكار:يمكن للحوار أن يساهم في تبادل المعرفة والثقافة بين الأشخاص.
يقلل من الجهل والتحيز. التسامح والعفو:يعزز الحوار مفاهيم التسامح والعفو عن الآخرين.
يساعد في تجنب الصراعات والانقسامات. , التعامل بحكمة وبعيدًا عن الغضب:يساهم الحوار في التعامل مع الظروف والأحداث بحكمة.
ويقلل من التوترات ويسهم في بناء السلام. , و يمكن أن يكون جسرًا للتفاهم والتعايش السلمي بين مختلف الثقافات والمجتمعات. مصدر
و يعتبر بناء رؤية وطنية في السودان لإنهاء التهميش في ما بعد الحرب أمرًا حيويًا. هناك مبادرات محلية تسعى لتحقيق ذلك: منصة التأسيس الوطنية: أعلنت مجموعة متنوعة من الشخصيات السودانية عن وثيقة سياسية جديدة تسمى “منصة التأسيس الوطنية”.
تهدف إلى تشكيل توجهات عامة للفترة ما بعد الحرب، وتحقيق التوافق بين المكونات الوطنية.
وتتضمن آليات مؤقتة للتمثيل والتمهيد قبل الانتقال إلى التفويض الانتخابي.
تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم):تحذر من تفتت كيان الدولة السودانية وتلاشيها في حال استمرار الحرب. , تطرح رؤية لإنهاء الحرب وتسعى للحفاظ على الوحدة الوطنية.
بالتعاون والتفاهم، يمكن للسودان بناء مستقبل يتجنب الأخطاء التي أدت إلى الحرب ويحقق التماسك السياسي والاقتصادي والأمني. مصدر نعم، هناك أمثلة تاريخية عديدة تُظهر دور الحوار في تحقيق التسامح والسلام. دعوني أشارك بعضها: التسامح في التاريخ الإسلامي: الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- كان قدوةً في التسامح والعفو. على سبيل المثال، تسامحه مع الأعرابي الذي أخطأ في التعامل معه ومع الرجل الذي حاول قتله.
كما أظهر الصحابة مثل أبو بكر الصديق ومسطح بن أُثاثة تسامحًا رائعًا في مواقف مختلفة.
الجهود الحديثة للتسامح والحوار:المملكة العربية السعودية تعزز ثقافة السلام والتسامح من خلال جهودها في حل النزاعات الإقليمية والدولية بالطرق السلمية.
مثالًا على ذلك هو دور المملكة في إنهاء حالة حرب دامت قرابة 20 عامًا بين إثيوبيا وأريتريا من خلال المصالحة التاريخية في عام 2018.
والمبادرات الدولية للحوار والتسامح:المؤتمرات الدولية تسعى لتعزيز الحوار والتسامح. مثلاً، المؤتمر الدولي لمبادرات تحصين الشباب ضد أفكار التطرف والعنف في جنيف عام 2019 أكد على أهمية الاحترام المتبادل وتعزيز الصداقة والتعاون بين الأمم.
التسامح والحوار يبقيان أدواتًا قويةً لبناء المجتمعات المتسامحة والمستدام بالسودان يحمل تاريخًا طويلًا من التحديات والتغييرات الاجتماعية والسياسية. هذه بعض الجوانب من الإرث الاجتماعي الذي يمكن البناء عليه لإنهاء التهميش في السودان: التنوع الثقافي والعرقي: السودان يضم مجموعة متنوعة من القوميات والثقافات واللغات.
يمكن استغلال هذا التنوع لتعزيز التفاهم والتسامح بين مختلف المجتمعات. , والتراث الثقافي والفني: الفنون التقليدية والموسيقى والأدب السوداني يمثلون جزءًا من الهوية الوطنية. , يمكن تعزيز الوعي بالتراث واستخدامه لتعزيز الوحدة والتماسك.
التضامن الاجتماعي: ,تاريخ النضال والتضحيات في السودان يمكن أن يكون مصدرًا للتحفيز للعمل من أجل المستقبل. , ويمكن استخدام هذا التضامن لتحقيق المساواة والعدالة. , التعليم والوعي الاجتماعي: تعزيز التعليم والوعي بحقوق الإنسان والمشاركة المجتمعية يمكن أن يساهم في تغيير الواقع.
البناء على هذا الإرث الاجتماعي يمكن أن يساهم في تحقيق التسامح والمساواة في السودان مصدر و دعوتي للساسة والشباب هي أن يكونوا منفتحين على الحوار والتعاون. , وهنا تكمن النقاط المهمة:الحوار البناء: يجب أن يكون الحوار مفتوحًا ومبنيًا على الاحترام المتبادل. يجب أن يكون الساسة مستعدين للاستماع إلى آراء الشباب والاستفادة منها في صنع القرارات. تمكين الشباب: يجب أن يكون الشباب شركاء في تشكيل السياسات والبرامج. يجب أن يتم توفير فرص للمشاركة الفعّالة للشباب في العملية السياسية. التركيز على التنمية المستدامة: يجب أن يكون هدف الساسة هو تحقيق التنمية المستدامة وتوفير الفرص للجميع. يجب أن يكون الشباب جزءًا من هذا الجهد. التسامح والتعايش السلمي: يجب أن يكون الساسة قدوة في تعزيز التسامح والتعايش السلمي بين مختلف الأعراق والثقافات.
ودعوتي للساسة والشباب هي أن يعملوا معًا من أجل مستقبل أفضل ومجتمع أكثر تسامحًا وتقدمًا , إنّ بناء مستقبل عادل ومزدهر للسودان يتطلب جهدًا مشتركًا من جميع السودانيين، بدعم من المجتمع الدولي. إنّ التصدي للتهميش وبناء سلام دائم ضروريان لتحقيق الاستقرار والتنمية في السودان.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: أن یساهم فی یجب أن یکون فی السودان بین مختلف بعد الحرب یؤدی إلى فی تحقیق یمکن أن یکون ا

إقرأ أيضاً:

الصحة تحت النار: أثر الحرب على المنظومة الصحية السودانية

تقرير: د. يسار البشرى حمور

مقدمة
بعد مرور عامين على اندلاع النزاع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، يواجه السودان ما وصفته الأمم المتحدة بأنه أكبر أزمة إنسانية ونزوح في العالم، حيث يحتاج أكثر من 30 مليون شخص، أي 60% من السكان، إلى مساعدات إنسانية، منهم ما يزيد عن 20 مليون بحاجة ماسة لخدمات صحية.
لقد خلّف الصراع المستمر، الذي اتسم بمستويات مفرطة من العنف وانتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين، آثارًا كارثية على جميع القطاعات، لا سيما القطاع الصحي الذي كان يعاني أصلاً من الهشاشة وضعف الموارد حتى قبل اندلاع القتال. يهدف هذا المقال الموسع إلى تسليط الضوء بشكل أعمق على الوضع الصحي المتدهور في السودان، وتفصيل تأثير النزاع المستمر على النظام الصحي مستندًا إلى تحليل شامل للمعلومات الواردة من مصادر متعددة بما في ذلك تقارير الأمم المتحدة، منظمة الصحة العالمية، أطباء بلا حدود، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين،اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان بالإضافة إلى توثيقات محلية مفصلة.
إن انهيار النظام الصحي ليس مجرد إحصائية، بل هو واقع مرير يعيشه الملايين يوميًا، حيث تلد الأمهات دون مساعدة طبية متخصصة، ويموت الأطفال من أمراض يمكن الوقاية منها، ويُترك المصابون بأمراض مزمنة أو إصابات خطيرة دون علاج، مما يرسم صورة قاتمة لمستقبل الصحة العامة في البلاد.

تدهور البنية التحتية الصحية والهجمات المباشرة
كانت الهجمات على البنية التحتية الصحية سمة مروعة للنزاع منذ ساعاته الأولى. لم يكد يمض يومان على اندلاع الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم في منتصف أبريل 2023، حتى أعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان عن تعرض أربع مستشفيات حيوية للقصف المباشر، مما أدى إلى خروج ثلاثة منها عن الخدمة بشكل كامل، وتعرض مستشفى رابع لاعتداء مباشر، بالإضافة إلى إخلاء قسري لمستشفيات أخرى، بما في ذلك مركز الدكتورة سلمى التخصصي لأمراض الكلى، المرفق حيوي بالقرب من رئاسة قيادة الجيش بوسط الخرطوم، مما ترك مرضى غسيل الكلى في وضع حرج للغاية. لم يقتصر الضرر على العاصمة، بل امتد بسرعة ليشمل مستشفيات رئيسية في ولايات أخرى؛ ففي 17 أبريل 2023، تم اقتحام مستشفى الضمان التخصصي في مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، مما أدى إلى خروجه عن الخدمة. كما أكدت التقارير خروج مستشفى الجنينة التعليمي في ولاية غرب دارفور، ومستشفى الضمان، ومشفى مروي العسكري عن الخدمة في الأيام الأولى ذاتها. وسرعان ما ظهرت النتائج المأساوية لهذه الأضرار، حيث حُبس مئات المرضى الذين كانوا يتلقون الرعاية الحرجة داخل هذه المستشفيات، إلى جانب مرافقيهم والكوادر الطبية العاملة، ليجدوا أنفسهم عالقين في مرمى النيران. كما قامت قوات الدعم السريع باقتحام بعض هذه المرافق المحاصرة وشنت عددًا من الهجمات من داخلها أو بالقرب منها، مما زاد من تعريض حياة المدنيين للخطر. ومنذ البداية، أدانت منظمة الصحة العالمية، عبر مديرها الإقليمي آنذاك الدكتور أحمد المنظري، بشدة هذه الهجمات المتزايدة على الموظفين والمرافق الصحية وسيارات الإسعاف، مؤكدةً أنها تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني والحق الأساسي في الصحة، وطالبت بوقفها فورًا.

خروج المستشفيات عن الخدمة واحتلالها
استمر تدهور البنية التحتية الصحية بشكل متسارع وممنهج خلال العامين الماضيين، مؤكدًا التحذيرات المبكرة التي أطلقتها جهات مثل اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في أواخر أبريل 2023، والتي نبهت إلى أن "النتيجة الحتمية للحرب العبثية" ستكون "شلل المنظومة الصحية" وأن "انهيار النظام الصحي أصبح وشيكاً"، حيث بدأت المرافق الصحية تخرج عن الخدمة الواحدة تلو الأخرى وأخرى أصبحت مهددة بالإغلاق فبحلول مايو 2023، أي بعد شهر واحد فقط من بدء القتال، أعلن الجيش السوداني عن سيطرة قوات الدعم السريع على 22 مستشفى ومرفقًا صحيًا رئيسيًا، وتحويل بعضها إلى ثكنات وقواعد عسكرية للتخطيط للعمليات أو لإطلاق النيران، مما حرم السكان من الوصول إليها. وأكدت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء في ذلك الوقت أن 66% من مستشفيات البلاد الخاصة الواقعة في المناطق القريبة من الاشتباكات قد توقفت عن تقديم خدماتها. وبشكل عام، من أصل 89 مستشفى أساسيًا في الخرطوم والولايات المتأثرة بشكل مباشر، توقف 59 مستشفى عن الخدمة خلال الشهر الأول
بحلول يوليو 2023، أي بعد مرور 100 يوم فقط على بدء الحرب، ارتفع هذا الرقم بشكل مقلق، حيث أعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء أن 70% من المستشفيات في مناطق الاشتباكات (أي 62 مستشفى) أصبحت متوقفة تمامًا عن الخدمة. وتشير التقديرات الأحدث، بعد عامين من النزاع، إلى أن ما بين 70% إلى 80% من المرافق الصحية في مجمل المناطق المتأثرة بالنزاع قد خرجت عن الخدمة كليًا أو أصبحت تعمل بشكل جزئي للغاية وبقدرات محدودة جدًا. وقد وثقت وزارة الصحة السودانية حتى ديسمبر الماضي خروج 250 مستشفى من أصل 750 مستشفى في البلاد عن الخدمة بسبب الدمار المباشر أو غير المباشر الناجم عن الحرب، وقدرت الوزارة الخسائر المالية الفادحة التي تكبدها القطاع الصحي بنحو 11 مليار دولار أمريكي، وهو رقم يعكس حجم الكارثة التي حلت بالبنية التحتية الصحية.
لم يقتصر الأمر على التدمير، بل تم توثيق احتلال واستخدام المرافق الصحية لأغراض عسكرية في 52 مناسبة على الأقل حتى فبراير 2025، وفقًا لبيانات "Insecurity Insight"، حيث تم في كثير من الأحيان استخدام المستشفيات كقواعد عسكرية، ونُشر قناصة على أسطحها، وتم إجلاء المرضى قسرًا في بعض الحالات لإفساح المجال أمام جرحى المقاتلين. كما تعرضت المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات والصيدليات لعمليات نهب وتخريب واسعة النطاق ومنهجية، شملت سرقة الأدوية الحيوية والمعدات الطبية الأساسية وحتى الأسرة والأثاث، بالإضافة إلى تدمير متعمد لمختبرات حيوية، كمختبرات أكاديمية الحلم الدولية للعلوم الصحية في مدينة الأبيض التي دمرت بقصف مدفعي في مارس 2025.

استهداف مدينة الفاشر وصمود القطاع الصحي بها
تعتبر مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، مثالاً صارخًا على التأثير المدمر الذي خلفه النزاع على الخدمات الطبية وعلى صمود العاملين الصحيين والمجتمع في مواجهة الشدائد. طالت الهجمات المدينة بشكل خاص ومكثف، حيث تعرضت جميع مستشفياتها الرئيسية (المستشفى التعليمي، مستشفى النساء والتوليد التخصصي، المستشفى العسكري، مستشفى الشرطة، المستشفى الجنوبي) لهجمات وصفت بالممنهجة والمتعمدة، مما أدى إلى إغلاق بعضها أكثر من مرة ابتداءً من يونيو 2023، وصولاً إلى توقفها شبه الكامل عن الخدمة.
رغم استمرار الهجمات والحصار المشدد الذي فرضته قوات الدعم السريع على المدينة منذ مايو 2024، أظهر السكان والعاملون الصحيون صمودًا لافتًا ومذهلاً. حيث بادر المواطنون بجهود أهلية لافتتاح بعض المراكز الصحية الصغيرة لتقديم الإسعافات الأولية، وتمسكوا بالمستشفى السعودي للولادة، الذي كان يعد آخر مستشفى مدني كبير يعمل في المدينة ويقدم خدمات حيوية لآلاف الأشخاص، على الرغم من استمرار قوات الدعم السريع في استهدافه بشكل متكرر وعنيف، مما أدى إلى إغلاقه عدة مرات، كان آخرها في ديسمبر 2024. وفي محاولة يائسة للحفاظ على استمرارية الخدمات الطبية الأساسية وحماية الأرواح، تم تصميم وبناء ملاجئ تحت الأرض داخل حرم المستشفى السعودي باستخدام حاويات شحن كبيرة (سعة 20 قدمًا) تم دفنها وتغطيتها بأكياس من التراب لتوفير بعض الحماية من القصف. ضمت هذه الملاجئ غرفة مكتب متواضعة للأطباء والطاقم الطبي، بالإضافة إلى غرفة عمليات صغيرة مجهزة للتدخلات الطبية الطارئة في حال اشتداد القصف أو الاشتباكات، لتمكين الأطباء من مباشرة مهامهم بأمان نسبي. وفي يناير الماضي، انتشرت صورة مؤثرة لأطباء في المستشفى السعودي يجرون عملية جراحية دقيقة مستخدمين أضواء هواتفهم المحمولة كمصدر للإضاءة الوحيد أثناء تعرض المستشفى للقصف وانقطاع التيار الكهربائي، وهي صورة عكست أقصى درجات الصمود والتفاني والإنسانية في مواجهة ظروف تفوق الخيال.

توقف المراكز الطبية المتخصصة
لم تسلم المراكز الطبية المتخصصة، التي كانت قليلة ومواردها محدودة أصلاً قبل الحرب، من الدمار والتوقف، مما فاقم معاناة المرضى ذوي الحالات الحرجة. ففي يوليو 2023، أشارت تقارير الإدارة العامة للطب العلاجي إلى خروج جميع مراكز قسطرة وجراحة القلب الستة المعروفة في البلاد (خمسة منها في ولاية الخرطوم وواحد في ولاية الجزيرة) عن الخدمة بسبب وقوعها في مناطق الاشتباكات أو تضررها المباشر. كما توقفت مراكز المخ والأعصاب الرئيسية في الخرطوم ومدني ونيالا عن العمل أما مراكز غسيل الكلى، فقد واجهت أزمة وجودية حقيقية؛ فمع نزوح آلاف المرضى من مناطق النزاع إلى الولايات التي كانت تعتبر آمنة نسبيًا، تعرضت المراكز القليلة العاملة فيها لضغط هائل يفوق طاقتها الاستيعابية بأضعاف. وبحلول أغسطس 2023، أصبحت غالبية مراكز الغسيل في الولايات الآمنة مهددة بالإغلاق بسبب نقص الإمدادات والمحاليل وتعطل الأجهزة وتزايد أعداد المرضى، بينما توقفت المراكز تمامًا في الأقاليم التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع وكانت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان قد دقت ناقوس الخطر مبكرًا في بيانها الصادر في 28 أبريل 2023، محذرة من أن "الموت يهدد مرضى الفشل الكلوي" وأن بعض مراكز غسيل الكلى قد "نفذت فيها الإمدادات". وأوضحت النقابة أن هذه المراكز كانت تجري غسيل الكلى لحوالي 12 ألف مريض فشل كلوي مزمن بالإضافة إلى الحالات الحادة، بمتوسط 140 ألف جلسة غسيل شهريًا، مؤكدة أن حياة معظم هؤلاء المرضى أصبحت "على المحك" وأن البلاد أمام "خطر فقدان 12 ألف مريض فشل كلوي" ما لم تصل الإمدادات بشكل عاجل. وبالفعل، أشارت التقارير إلى أن 44 مركزًا فقط من أصل 102 مركز غسيل كلى في عموم السودان كانت تعمل بشكل متقطع في يوليو 2023، مما هدد حياة آلاف المرضى المعتمدين على هذه الجلسات للبقاء على قيد الحياة.

وفيما يتعلق بمرضى السرطان، فقد كانت الكارثة أشد وطأة، ، حيث تعرضت خدمات رعاية مرضى السرطان لانهيار شبه كامل. فقد أصبح مستشفى الخرطوم للأورام والذي كان يعد المحور الرئيسي لعلاج وتشخيص وأبحاث السرطان في السودان، خارج الخدمة تمامًا بعد سيطرة قوات الدعم السريع على العاصمة السودانية الخرطوم . كما واجه المعهد القومي للسرطان في ود مدني، ثاني أكبر مركز لرعاية مرضى السرطان، مصيرًا مشابهًا بعد امتداد النزاع إلى ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023، حيث تعرض لهجوم مسلح من قبل قوات الدعم السريع، مما أدى إلى ترويع العاملين الصحيين والمرضى وإخلائه وتوقفه عن العمل. وقد أدى انهيار هذين المركزين الرئيسيين، إلى خسارة فادحة في البنية التحتية والمعدات الحيوية، فقد السودان بسبب الحرب خمسة أجهزة حيوية للعلاج الإشعاعي كانت موجودة في ولايتي الخرطوم والجزيرة، ولم يتبق سوى جهاز واحد قديم في مستشفى مروي شمالي السودان، لا يستطيع تغطية سوى حوالي 5% من الحاجة الفعلية للعلاج الإشعاعي في البلاد، مما قضى فعليًا على قدرات العلاج الإشعاعي في أهم منطقتين. ولم يقتصر الضرر على العلاج الإشعاعي، بل شمل أيضًا توقف الخدمات التشخيصية والجراحية والعلاج الكيميائي في هذه المراكز. وزاد الطين بلة تعرض مخازن الإمدادات الطبية المركزية في الخرطوم للهجوم والتخريب من قبل قوات الدعم السريع في الأشهر الأولى للنزاع، مما أدى إلى خسارة مخزون طبي يقدر بنحو 500 مليون دولار أمريكي، شمل المخزون الرئيسي لأدوية ومستلزمات علاج السرطان في البلاد. ولم يتبق سوى عدد قليل جدًا من المراكز التي تقدم بعض خدمات الأورام، مثل مركز الدمازين للأورام والعلاج الإشعاعي في مروي (وهو مرفق خاص يتطلب دفع تكاليف باهظة، حيث تصل تكلفة علاج حالة سرطان الثدي إلى حوالي 4600 دولار أمريكي لا تشمل العلاج الهرموني)، وقد أدى هذا الانهيار إلى نزوح مرضى السرطان، بمن فيهم الأطفال، بشكل متكرر بحثًا عن الأمان والعلاج، وغالبًا ما يضطرون لقطع مسافات طويلة وخطيرة (تصل إلى 2000 كم للوصول إلى مروي)، ويواجهون صعوبات مالية جمة في تحمل تكاليف السفر والإقامة والعلاج الباهظ. كما شهدت المراكز القليلة التي استقبلت النازحين قبل انهيارها اكتظاظًا شديدًا، حيث أفاد الأطباء بوجود 3-4 أطفال مرضى بالسرطان يتشاركون السرير الواحد في وحدة الأطفال التي تضم 12 سريرًا فقط. وقد أدى انقطاع العلاج وتأخره أو توقفه بالكامل إلى عواقب وخيمة على نتائج المرضى، وتدهور حالتهم، وزيادة كبيرة في معدلات الوفيات التي يصعب تقديرها بدقة في ظل الظروف الحالية. واضطر حوالي 275 طفلاً يتلقون علاج السرطان في المعهد القومي للسرطان بود مدني إلى الفرار مع عائلاتهم عند اقتحام المدينة، ليواجهوا مصيرًا مجهولاً

تأثير النزاع على العاملين في القطاع الصحي
واجه العاملون في القطاع الصحي، وهم خط الدفاع الأول عن صحة المجتمع، مخاطر جمة وانتهاكات مستمرة ومروعة منذ اليوم الأول للنزاع، مما أعاق قدرتهم على تقديم الرعاية وأجبر الكثيرين منهم على النزوح أو التوقف عن العمل. فمنذ أبريل 2023 وحتى فبراير 2025، تم توثيق مقتل ما لا يقل عن 127 عاملًا صحيًا، وإصابة 96 آخرين بجروح متفاوتة، واعتقال 73 منهم بشكل تعسفي، وفقًا لبيانات "Insecurity Insight". وقد قُتل 11 طبيبًا في الشهر الأول للحرب وحده، بعضهم داخل المستشفيات التي تعرضت للقصف وآخرون أثناء محاولتهم الوصول إلى أماكن عملهم أو العودة منها. وأشارت وزارة الصحة السودانية إلى فقدان 60 كادرًا صحيًا لحياتهم أثناء تأدية واجبهم الإنساني حتى ديسمبر الماضي.
لم تقتصر الانتهاكات على القتل والإصابة، بل تعرض الأطباء والكوادر الصحية الأخرى للمضايقات والتهديد والاعتقال بشكل ممنهج ومقلق، خاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع. وقد وثقت منظمة أطباء السودان من أجل حقوق الإنسان في تقرير صدر في أبريل الحالي، ارتفاعًا في وتيرة الاعتقالات التعسفية للأطباء، حيث سجلت اعتقال 10 أطباء في عام 2023، وارتفع العدد إلى 15 طبيبًا في عام 2024، بالإضافة إلى 11 حالة اعتقال جديدة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025. تركزت هذه الاعتقالات في أحياء متفرقة من العاصمة المثلثة (أم درمان، شرق النيل، جبل أولياء، الرياض، الكلاكلة، المنشية، الحاج يوسف) وفي مدينة ود مدني بولاية الجزيرة بعد سيطرة الدعم السريع عليها، بالإضافة إلى حالات متفرقة في شمال كردفان، الدمازين، ربك، والدويم. وأشار التقرير إلى أن العديد من هذه الاعتقالات تمت بشكل تعسفي من داخل المستشفيات والعيادات الخاصة أثناء تأدية الأطباء لعملهم، أو من منازلهم، أو حتى من المساجد، مما يعكس استهدافًا شخصيًا ومقصودًا للكوادر الطبية وترهيبها.
أدى هذا الاستهداف المباشر، بالإضافة إلى انهيار المرافق ونقص الإمدادات والمخاطر الأمنية العامة، إلى نزوح أعداد كبيرة من الكوادر الطبية المؤهلة داخل وخارج السودان. أما من بقي منهم، فيواجهون ظروف عمل شبه مستحيلة، تتسم بنقص حاد في الموارد والأدوية والمعدات الأساسية، وانقطاع متكرر للكهرباء والمياه، وضغوط نفسية هائلة ناجمة عن مشاهدة الموت والمعاناة اليومية والعمل تحت التهديد المستمر. ورغم كل هذه التحديات، وفي مواجهة هذا الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي الرسمي، برزت مبادرات تطوعية ملهمة لأطباء أفراد ومجموعات، حيث بادر بعضهم بنشر أرقام هواتفهم عبر منصات التواصل الاجتماعي لتقديم استشارات طبية مجانية عن بعد للمرضى المحاصرين، بينما حول آخرون أجزاء من منازلهم إلى عيادات مؤقتة لخدمة سكان أحيائهم، كما تم إنشاء مجموعات عبر تطبيق "واتساب" تحولت إلى ما يشبه العيادات الافتراضية لتقديم الدعم والمشورة الطبية قدر الإمكان.

تداعيات انهيار النظام الصحي على السكان
أدى انهيار النظام الصحي المتسارع إلى عواقب وخيمة ومباشرة على صحة وحياة السكان المدنيين في جميع أنحاء السودان، وخاصة في مناطق النزاع والمناطق التي تستضيف أعدادًا كبيرة من النازحين. فقد حُرم الملايين من أبسط حقوقهم في الحصول على الرعاية الصحية الأساسية، حيث تشير التقديرات إلى أن ثلثي السكان يجدون صعوبة بالغة أو يستحيل عليهم الوصول إلى الخدمات الطبية عند الحاجة إليها. ويضطر الناس في كثير من الأحيان للسفر لمسافات طويلة ومحفوفة بالمخاطر بحثًا عن مستشفى أو عيادة عاملة، وغالبًا ما يُمنعون من التنقل بسبب انتشار حواجز الطرق التي تقيمها الأطراف المتحاربة وانعدام الأمن على الطرقات. أما المستشفيات والمرافق القليلة التي لا تزال تعمل، والتي لا تتجاوز نسبتها 20-30% من إجمالي المرافق قبل الحرب، فتعاني من اكتظاظ شديد يفوق طاقتها الاستيعابية بأضعاف، ومن نقص حاد ومزمن في الأدوية الأساسية والمستلزمات الطبية والوقود اللازم لتشغيل المولدات والكوادر الطبية المدربة.
أدى هذا الوضع إلى توقف أو تعطل شبه كامل لبرامج صحية حيوية كانت تشكل شبكة أمان للمجتمع، مثل حملات التطعيم الروتينية للأطفال، وبرامج رعاية الأمومة والطفولة، وخدمات الصحة الإنجابية، وعلاج الأمراض المزمنة كالسكر والضغط وأمراض القلب. وكنتيجة مباشرة لذلك، ارتفعت معدلات الوفيات التي كان يمكن تجنبها؛ فعلى سبيل المثال، سجلت وزارة الصحة وفاة 870 أم حامل بسبب غياب الخدمات الصحية الأساسية في مناطق سيطرة الدعم السريع حتى ديسمبر الماضي. كما تفاقمت الأزمة الصحية بشكل كارثي مع تفشي الأوبئة والأمراض المعدية نتيجة انهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وتدهور أنظمة المراقبة الوبائية، وتعطل حملات التطعيم ومكافحة نواقل الأمراض، بالإضافة إلى سوء الظروف المعيشية للنازحين في المخيمات ومواقع التجمع المكتظة.
تواجه أكثر من ثلثي ولايات السودان حاليًا ثلاث أو أكثر من الأوبئة المتزامنة، أبرزها الكوليرا التي أودت بحياة أكثر من 1565 شخصًا وأصابت ما يزيد عن 58 ألفًا في (12) ولاية حتى ديسمبر الماضي، وحمى الضنك التي سجلت أكثر من 13,000 إصابة، بالإضافة إلى تفشي أمراض الحصبة وشلل الأطفال والدفتيريا والملاريا بشكل مقلق. ولم تقتصر الكارثة على الأمراض المعدية، بل تفاقم سوء التغذية بشكل حاد ومخيف، خاصة بين الفئات الأكثر ضعفًا كالأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات، لدرجة أن الأمم المتحدة أعلنت رسميًا عن وصول الوضع إلى مستوى المجاعة في عدة مناطق، بدءًا بمخيم زمزم للنازحين في أغسطس 2024، ثم امتدت لعشر مناطق إضافية، مع وجود سبع عشرة منطقة أخرى على حافة المجاعة. وتشير التوقعات إلى أن 24.6 مليون شخص، أي ما يعادل نصف سكان السودان، سيواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في عام 2025، بينهم 770 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم الذي يهدد حياتهم بشكل مباشر. وقد أكدت الفحوصات التي أجرتها فرق أطباء بلا حدود في مناطق مختلفة بدارفور هذه المعدلات المقلقة، حيث وجدت أن نسبة سوء التغذية الحاد الشامل بين الأطفال تصل إلى 30-35.5%، ونسبة سوء التغذية الحاد الوخيم تصل إلى 7%.
بالإضافة إلى المعاناة الجسدية، يعاني السكان، وخاصة النازحين، من مستويات عالية من الضغط النفسي والصدمات النفسية نتيجة العنف المباشر الذي شهدوه أو تعرضوا له، وفقدان الأحباء والممتلكات، والنزوح المتكرر، وانعدام الأفق. كما تزايدت التقارير الموثوقة عن أعمال عنف جنسي واسعة النطاق ارتكبتها الأطراف المتحاربة كأداة حرب، ويواجه الناجون والناجيات من هذا العنف صعوبة بالغة في الحصول على الرعاية الطبية والنفسية اللازمة بسبب انهيار الخدمات والخوف الشديد من الوصم المجتمعي الذي قد يؤدي في حالات متطرفة إلى جرائم شرف. وقد وثقت وزارة الصحة السودانية وفاة 12 ألف مدني داخل المستشفيات حتى ديسمبر الماضي، لكنها اعتبرت أن هذا الرقم لا يمثل سوى حوالي 10% فقط من إجمالي عدد القتلى المدنيين المحتملين نتيجة الحرب وتداعياتها الصحية.

الاستجابة الإنسانية والتحديات القائمة
في مواجهة هذه الكارثة الصحية والإنسانية غير المسبوقة، تواجه الجهود الإنسانية لتلبية الاحتياجات الهائلة تحديات جمة ومعقدة. يظل الوصول الآمن ودون عوائق للمساعدات الإنسانية هو التحدي الأكبر والأكثر إلحاحًا، حيث يستمر القتال وانعدام الأمن وإغلاق الطرق الرئيسية وانتشار نقاط التفتيش وفرض القيود البيروقراطية من قبل الأطراف المتحاربة، مما يعيق بشكل كبير قدرة المنظمات على الوصول إلى السكان المحتاجين، خاصة في المناطق النائية ومناطق القتال النشط. كما تعاني الاستجابة الإنسانية برمتها من نقص حاد ومزمن في التمويل، مما يحد بشكل كبير من القدرة على توسيع نطاق العمليات وتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية والغذاء والمياه النظيفة ودعم المرافق الصحية القليلة المتبقية.
على سبيل المثال، لم يتم تمويل سوى خُمس خطة استجابة منظمة الصحة العالمية لعام 2025، التي تبلغ قيمتها 135 مليون دولار، حتى الآن، وهو ما يمثل جزءًا ضئيلًا مما هو مطلوب بشكل عاجل. ورغم هذه التحديات الهائلة، تبذل منظمات دولية ومحلية، مثل منظمة الصحة العالمية، وأطباء بلا حدود، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، واليونيسف، بالتعاون الوثيق مع وزارة الصحة السودانية والهلال الأحمر السوداني والشركاء المحليين، جهودًا مضنية ومستمرة لتقديم المساعدة المنقذة للحياة. تشمل هذه الجهود دعم المستشفيات والمراكز الصحية القليلة التي لا تزال تعمل، من خلال توفير الإمدادات الطبية الأساسية والوقود اللازم لتشغيل المولدات ودفع حوافز للكوادر الصحية. كما يتم تشغيل عيادات متنقلة للوصول إلى المناطق التي لا تتوفر فيها خدمات ثابتة، وتقديم الرعاية الطارئة للجرحى والمصابين، وعلاج حالات سوء التغذية الحاد، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين والناجين من العنف.
وتستمر الجهود لإجراء حملات تطعيم واسعة النطاق قدر الإمكان، حيث تم تطعيم أكثر من 10 ملايين طفل ضد الحصبة والحصبة الألمانية، و11.5 مليون ضد شلل الأطفال، وقرابة 12.8 مليون شخص ضد الكوليرا، كما تم إدخال لقاح الملاريا لأول مرة في ولايتي القضارف والنيل الأزرق بدعم من منظمة الصحة العالمية. وتقوم المنظمات أيضًا بتوزيع الأدوية والمستلزمات الطبية الحيوية، حيث قامت منظمة الصحة العالمية وحدها بتسليم أكثر من 2250 طنًا متريًا من الإمدادات الطبية إلى 18 ولاية سودانية منذ بدء النزاع، بما في ذلك عبر عمليات معقدة عبر الحدود من تشاد وجنوب السودان.
وفي محاولة لمعالجة الاحتياجات الطارئة والتنموية على المدى الطويل، ومع تقدم الجيش في بعض المحاور، تم إطلاق "مشروع المساعدة الصحية والاستجابة للطوارئ في السودان (SHARE)" مؤخرًا، وهو شراكة استراتيجية بين وزارة الصحة والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية واليونيسف، يهدف إلى إعادة تأهيل النظام الصحي ودعم تقديم الخدمات الصحية والتغذوية الأساسية في عشر ولايات كمرحلة أولى، بميزانية إجمالية تبلغ 80 مليون دولار (منها 20 مليونًا من البنك الدولي كمنحة أولية، و20 مليونًا عبر منظمة الصحة العالمية لتطوير المستشفيات، و62 مليونًا عبر اليونيسف لدعم الرعاية الصحية الأساسية). ومع ذلك، يظل هذا المبلغ ضئيلًا مقارنة بالحاجة الفعلية، حيث تقدر وزارة الصحة الحاجة المالية لإعادة تأهيل القطاع الصحي في العام الأول وحده بحوالي 2.2 مليار دولار. ويزيد اقتراب موسم الأمطار من تعقيد الوضع الإنساني الهش أصلاً، حيث يهدد بقطع طرق الإمداد القليلة المتاحة، وزيادة انتشار الأمراض المنقولة بالمياه والحشرات مثل الكوليرا والملاريا، وعزل المجتمعات المتضررة بشكل أكبر، مما يتطلب استعدادات وتدابير وقائية عاجلة.
ختامًا، لقد أدى عامان من النزاع المسلح الوحشي في السودان إلى انهيار كارثي وغير مسبوق في النظام الصحي، مما ترك الملايين من المدنيين دون رعاية طبية أساسية وفاقم من معاناتهم الإنسانية إلى مستويات لا تطاق. إن الهجمات المستمرة والمتعمدة على المرافق الصحية والعاملين فيها، ونهب الإمدادات الحيوية، وتفشي الأوبئة الفتاكة، وتفاقم سوء التغذية إلى حد المجاعة في بعض المناطق، تشكل جميعها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وتتطلب استجابة دولية ومحلية عاجلة ومنسقة وحاسمة. وفي نهاية المطاف، إن الحل المستدام والوحيد للأزمة الصحية والإنسانية المروعة في السودان يكمن في الوقف الفوري للقتال والتوصل إلى سلام عادل ودائم يضع حدًا لمعاناة الملايين. إن شعب السودان قد عانى بما فيه الكفاية، ولا يمكنه، ولا يجب أن يُطلب منه، الانتظار أكثر للحصول على الرعاية والحماية والمساعدة التي يستحقها بشكل عاجل.

drhammor@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تحت أرض الخرطوم) 4
  • هل تجلب المسيرات السلام الى السودان؟
  • كيف أدت الحرب إلى تغيرات تركيب الطبقة العاملة السودانية؟ (١/٢)
  • موظفو الأرصاد في مطار عدن يعلنون إضراباً شاملاً احتجاجاً على التهميش والتجاهل
  • الحرب في السودان .. خسائر بمليارات الدولارات
  • كيف يمكن للمليشيا ومن يدعمها بعد كل تلك الفظائع التى إرتكبتها بحق أهل السودان أن يعيشوا معهم بسلام
  • “هآرتس” : يمكن لترامب إنهاء حرب غزة بتغريدة واحدة فقط
  • الكوارث الطبيعية والحروب وتأثيرها على عمل الإعلام في السودان
  • الصحة تحت النار: أثر الحرب على المنظومة الصحية السودانية
  • جريمة مطلوقة