قد يكون اعتراف إيرلندا وإسبانيا والنرويج بدولة فلسطين خطوة رمزية لا أثر لها في الواقع، باعتبار أنه ليس ثمة الآن دولة أصلا، وباعتبار أن ما تبقى من أراض ممزقة الأوصال في شكل معازل (بانتوستانات) في الضفة الغربية لا يصلح لإقامة «دولة قابلة للبقاء» (كما يقال في مكرور اللغة الخشبية) بل وحتى غير قابلة. ولكن لهذه الخطوة أبعادا سياسية ليس أدناها أهمية أن المجتمع الدولي، ليس في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فحسب وإنما في قلب أوروبا الغربية ذاتها، لم يعد يصدق أباطيل دولة الأبارتهايد الكولونيالية وأن المواويل الأسطورية الصهيونية التي لطالما هيمنت على الوعي الجمعي الغربي لم يعد لها على معظم الإنسانية أي سلطان.
كما قد يكون إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان استصدار أمر من قضاة المحكمة باعتقال كل من نتنياهو وغالانت خطوة رمزية لا أثر لها في الواقع، باعتبار أن الولايات المتحدة وإسرائيل (اللتين يفرض المنطق حسبانهما كيانا سياسيا واحدا) ليستا من أطراف معاهدة روما التي أنشأت المحكمة، وباعتبار أن الولايات المتحدة تتصدر منذ عقود قائمة الدول المارقة على القانون الدولي، بشهادة لفيف من الباحثين الأمريكيين أنفسهم.
وإن كانت تلك الدول مارقة مروقا براغماتيا تمليه المصلحة ورغبة الحكام في تأبيد بقائهم في السلطة، فإن الولايات المتحدة مارقة مروقا مبدئيا استعلائيا تمليه خرافة أن القانون الأمريكي هو الأعدل والأفضل وأنه يعلو في العالم كله ولا يعلى عليه. ولكن رغم رمزية خطوة المدعي العام، فإن لها أبعادا سياسية ليس أدناها أهمية أن المجتمع الدولي لم يعد يعترف بما يمكن أن يسمى «الاستثناء الإسرائيلي». الاستثناء الذي استبطنه المخيال الجمعي الغربي حتى صار مجرد اسم إسرائيل مرادفا ناجزا عنده لفضائل الامتياز الأخلاقي ولديمومة المظلومية الاحتكارية المستأثرة وحدها، أي لمجرد يهوديتها، بألم الإنسانية كله من فجر التاريخ حتى منتهاه.
ومعروف أن إنشاء المحكمة عام 2002 قد عُدّ فتحا مُبِينا على طريق إنفاذ القانون الدولي وتكريس سلطة المساءلة والمحاسبة، أي إلغاء جنة الإفلات من العقاب التي ظل المسؤولون السياسيون والعسكريون متنعمين فيها على مدى القرون.
اضطلعت المحكمة بواجبها القانوني بشجاعة تاريخية مُلغية امتياز الاستثناء الذي كان يحظى به الأقوياء ومنهية عهد الاستعلاء الغربي
ولكن المراقبين المنصفين استشعروا منذ البداية أن للمحكمة عينا واحدة لا تبصر إلا جرائم الأفارقة والعرب، أما العين الثانية فهي كليلة عن رؤية جرائم الآخرين من أمريكيين وأوروبيين وإسرائيليين وسواهم. لهذا، ورغم خطورة ما كشفه كريم خان لسي. إن. إن. قبل أيام حول المهمة الحصرية التي أناطها الغرب بالمحكمة الجنائية الدولية، حيث قال له «حكام منتخبون إنها أنشئت من أجل إفريقيا وبلطجية مثل بوتين وليس من أجل الغرب وحلفائه» فإن تصريحاته لم تفاجئ أحدا، بل إنها أكدت للمراقبين صدق ما استشعروه، ثم حقيقة ما خبروه بالتجربة طيلة عقدين. إذ الحقيقة المعروفة أن معظم أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة قد كانت ضد حكام ومسؤولين أفارقة، مثل عمر حسن البشير.
وتتأكد هذه الحقيقة بمزيد من الوضوح عندما نتذكر أنه قد رُفعت إلى المدعي العام السابق لويس مورينو أوكامبو ما لا يقل عن 240 دعوى ضد سلطات الاحتلال الأمريكي في العراق يتعلق معظمها بما هو من صلب اختصاص المحكمة، أي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. فماذا كانت النتيجة؟ لم يتحرج المدعي العام من إعلان عدم سماع الدعوى (!) حيث زعم في 10 شباط/ فبراير 2006 أنه ليس ثمة مسوغات قانونية كافية لفتح أي تحقيق ولو حتى في دعوى يتيمة من أصل 240! لهذا اتهمت المحكمة الجنائية الدولية آنذاك بأنها تمارس من السياسة الكثير ولا تمارس من القانون إلا النزر اليسير.
أما اليوم فإن المحكمة قد اضطلعت بواجبها القانوني بشجاعة تاريخية، مُلغية امتياز الاستثناء الذي كان يحظى به الأقوياء ومنهية عهد الاستعلاء الغربي. إلا أنه لا بد من التذكر أن واشنطن قد استخدمت إبان إنشاء المحكمة جميع عضلاتها الدبلوماسية لضمان أن يبقى مواطنوها في مَنجى من الملاحقة القضائية، حيث لم تتورع عن ابتزاز دول فقيرة بجعل المساعدات الأمريكية رهنا بتعهد هذه الدول بعدم تسليم أي مواطن أمريكي تطلبه المحكمة. لهذا من الصعب اليوم نفي احتمال أن تلجأ واشنطن للتهديد بالسلاح ذاته نيابة عن إسرائيل: أي أن تسلّط العقوبات أو الحرمان من المساعدات على كل دولة لا تتعهد بتوفير الحصانة لكل إسرائيلي مطلوب للعدالة الدولية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه نتنياهو الاستثناء نتنياهو دولة الاحتلال الاستثناء العدل الدولية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المدعی العام
إقرأ أيضاً:
صندوق النقد: تراجع الدعم الدولي يهدد استجابة الأردن لأزمة اللاجئين
سرايا - - كشف تقرير مراجعة صادر عن صندوق النقد الدولي، أن الدعم الدولي المقدم للأردن لمواجهة أزمة اللاجئين السوريين شهد "تراجعًا كبيرًا" العام الحالي، إذ لم تتلق المملكة حتى منتصف تشرين الأول الماضي سوى أقل من 40% مما حصلت عليه في عام 2023.
وأشار التقرير، إلى أن هذا الانخفاض الحاد يهدد قدرة الأردن على تقديم الخدمات الأساسية للاجئين، خاصة في مجالات الصحة والتعليم وسوق العمل، وسط تصاعد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
ووفقًا للتقرير، فإن نقص التمويل الدولي تسبب في فجوة كبيرة أثرت على الوضع المعيشي للاجئين السوريين، إذ وصلت نسبة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر إلى 67% بحلول نهاية 2023، مقارنة بـ57% في عام 2021، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي أشارت إلى أن 85% من الأسر السورية اضطرت إلى الاقتراض لتلبية احتياجاتها الأساسية.
- خفض وتمويل غير كافٍ -
في نيسان 2024، خفضت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين المساعدات النقدية بنسبة 20%؛ بسبب نقص التمويل، ورغم وصول جزء من الدعم في تموز، استمر التراجع.
كما اضطر برنامج الغذاء العالمي إلى تعليق المساعدات لنحو 100 ألف لاجئ، وخفض الدعم المقدم لـ310 آلاف آخرين بنسبة 30%، مما أدى إلى تقديم 21 دولارًا فقط شهريًا لكل لاجئ.
وأشار التقرير إلى أن هذا التراجع في التمويل سيؤدي إلى تفاقم الفقر وانعدام الأمن الغذائي بين اللاجئين، مما يضع أعباء إضافية على الموارد الوطنية للأردن.
ودعا صندوق النقد الدولي الجهات المانحة إلى تعزيز دعمها للأردن بشكل مستدام، محذرًا من أن غياب التمويل الكافي قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة.
ويستضيف الأردن قرابة 1.3 مليون سوري منذ بداية الأزمة السورية في 2011، بينهم قرابة 620 ألف لاجئ سوري مسجلين لدى المفوضية.
- تراجع "خطير للغاية" -
في 11 تشرين الأول الماضي، أكد جلالة الملك عبدالله الثاني خلال اجتماع في مدينة بافوس القبرصية على هامش قمة دول جنوب أوروبا "ميد 9"، ضرورة تحمل المجتمع الدولي مسؤولياته تجاه اللاجئين السوريين والدول المستضيفة لهم، لافتا النظر إلى التحديات الاقتصادية التي يواجهها الأردن في ظل الانخفاض الحاد في تمويل خطة الاستجابة للأزمة، الأمر الذي زاد الضغط على البنى التحتية والخدمات العامة، خاصة في قطاعي المياه والطاقة.
وحددت الحكومة حجم احتياجات الأردن لتمويل خطة الاستجابة للأزمة السورية للعام الحالي بقرابة ملياري دولار، وهو "الحجم الأقل" التي تحدده لتمويل الخطة منذ إطلاقها في العام 2015، في ظل "تراجع" الدعم الدولي لتمويل الخطة.
وبحسب البيانات فإن وزارة التخطيط والتعاون الدولي أعلنت أن حجم المنح الموجهة لدعم الخطة للعام الحالي بلغ 132,8 مليون دولار؛ تمثل 6,8% من حجم الاحتياجات لنهاية تموز؛ ليبلغ بذلك حجم احتياجات الخطة عند احتساب النسبة وحجم التمويل قرابة 1,953 مليار دولار.
وتراوح حجم تمويل خطط الاستجابة الأردنية للأزمة السورية منذ العام 2015 إلى العام الماضي؛ بين 2,276 مليار دولار و2,98 مليار دولار، بحسب إحصائيات لموقع الوزارة.
نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية أيمن الصفدي، عبّر خلال مشاركته في مؤتمر بروكسل الثامن لمستقبل سوريا والمنطقة" في بلجيكا بنهاية أيار، عن استيائه من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين والدول المضيفة لهم ومن تخلي المجتمع الدولي عنهم، واصفا أن هذا التراجع "خطير للغاية".
وأضاف أن المجتمع الدولي تخلى عن اللاجئين السوريين مع تضاؤل التمويل اللازم لدعمهم في الدول المضيفة، قائلا: "لن نتمكن من القيام بتقديم الخدمات الأساسية للاجئين بمفردنا، وسنستمر في بذل كل ما في وسعنا، وما لم يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته، ستقل الخدمات وستزيد معاناة اللاجئين".
والتزم مانحون والمجتمع الدولي بتمويل 45.9% من خطط استجابة الأردن للأزمة السورية منذ إطلاقها في العام 2015، ولنهاية العام الماضي 2023، حيث بلغ حجم تمويل الخطط قرابة 10.3 مليار دولار.
ووفق بيانات منصة الخطة التي تديرها وزارة التخطيط والتعاون الدولي، فإن حجم متطلبات الخطط التسعة التي تحمل جانبين؛ إنساني وتنموي، قرابة 22.1 مليار دولار، فيما بلغ عجز تمويل الخطط السنوية 11.8 مليار دولار، وبنسبة وصلت 54.1%.
وحصلت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الأردن على 41% من متطلباتها المالية لنهاية تشرين الثاني للسنة المالية 2024، إذ حصلت على 155 مليون دولار، من إجمالي قيمة المتطلبات البالغة 374.8 مليون دولار أميركي، فيما تمثلت نسبة العجز بـ 59% من المتطلبات المالية للمفوضية الأممية، وفق تقرير للمفوضية.
وخصصت المفوضية للأردن 374.786849 مليون دولار في 2024، مقابل 390.110643 مليون دولار في العام الماضي، مما يشير إلى انخفاض قدره 15.323794 مليون دولار ونسبته 3.93%.
المملكة
تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
طباعة المشاهدات: 1227
1 - | ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. | 20-12-2024 10:33 AM سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الرد على تعليق
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * | |
رمز التحقق : | تحديث الرمز أكتب الرمز : |
اضافة |
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...