سمع الشافعي أحد تلاميذه يقول «فلانٌ كذابٌ» فقال له: يا بني اكْسُ ألفاظَك أَحْسَنها ولا تقل: فلان كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء.  وهنا تأتي مقولة كسوة الألفاظ وأبدأ من أبيات عنترة وهو يحكي عن نفسه وسط معمعة القتال والفروسية ويكشف عن علاقته بفرسه وفيها يقول:
ما زِلتُ أَرميهِم بِثُغرَةِ نَحرِهِ 
 وَلَبانِهِ حَتّى تَسَربَلَ بِالدَمِ
فَاِزوَرَّ مِن وَقعِ القَنا بِلَبانِهِ 
 وَشَكا إِلَيَّ بِعَبرَةٍ وَتَحَمحُمِ
لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اِشتَكى
 وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي
حيث يكسو عنترة كلماته بتحويل الصمت إلى لغة صاخبة بالدم ومناورات السيوف والرماح التي تقع على هامة الحصان حتى ليزور عنها ويبحث عن لغة توصل شكواه للفارس الغارق في الطعان والمنازلة، وما ذا لو نطق الحصان وتكلم محاوراً أو مشتكياً، وهو هنا يجمع بين قطبي الخطاب البشري حيث المحاورة التي هي قطب العقلانية ومنطق الجدل وبين التشكي الذي يحتاج لعاطفة جياشة تجتمع فيها دلالات اللغة التي يترجمها عنترة مظهراً تعطل الكلمات وتوقفها عن التماهي مع المشهد الدموي المهول حتى لتتوقف اللغة دون وصفه، فلا المنطق يكفي لوصف الحدث ولا العاطفة تكشف شدة الهول، وهذه كسوة لغوية يدثر فيها عنترة نصه الشعري في تماهيه مع فرسه وفي الوقت ذاته يكشف عن غفلته عن فرسه أي غفلته عن نفسه ونسيانه لعقله، حيث تستحوذ عليه فكرة النزال والمواجهة حتى لتغرقه الدماء وتكسر أسنة الرماح على لبان الأدهم، وكذلك تتلاشى العاطفة فلا هو يرى نفسه ولا هو يحس بحصانه الذي يشتكي ويحاور، ولكن بلغة تكسوها الدماء وتكسوها اللحظة المنسية في تاريخ الذهن البشري حين يغيب الوعي وتسيطر غشاوة الحالة، وهذا كساء لغوي يعمي البصيرة ولن تحضر البصيرة في هذه الحال إلا بعد زوال الحدث وانقشاع الغشاوة، حيث تتحول الحال إلى حال شعرية نصوصية تحضر فيها اللغة لتصف لحظات اللا لغة، وقد غابت اللغة وقت الحدث ولكنها تعود لتصف الحدث وتكسو الكلمات التي كانت نبرات يهمهم بها الحصان ولم تكن منطقيةً ولا هي عاطفية حين تلك اللحظة، وكانت فقط عاريةً تتعرض للرماح وللدم المسال، ولكن عنترة في حقيقته شاعرٌ وبما أنه كذلك فهو يتحرك لتلبيس اللغة لبوسها الذي تستحقه فساق أبياته تقطر دلالات بعد أن قطرت دماءً، ومنح الحصان حقه في التعبير عن مشاعره وعن وجعه وعن عبرته وتحمحمه، هذه الحمحمة التي هي لغة من نوع متعالٍ تعجز الكلمات ويعجز المنطق عن رسمها أو منحها صوتاً يصنع دلالاتها، والحمحمة دون الصوت وفوق الصمت، وفي هذا الحيز الضيق من التعبير كان حدث اللغة غير المنطوقة، وتأتي القصيدة لتكفر عن غفلة الفارس عن شكوى فرسه، وتستعيد الشاعر الذي يحس ولا يغفل عن أي معنى شارد حتى ولو كان مجرد حمحمة، لكنها مع القصيدة تكتسي بالمجاز وتتشكل في سياق يربط النص بكل من يتلقاه سماعاً كما في زمنه وقراءةً كنا نحن معه في زمننا، وهذه أرقى كسوة يكسوها الشاعر لفرسه ولنفسه، حتى ليصلنا النص متحلياً بأجمل كسوة يستحقها نص ما.


كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: مرآة المتنبي د. عبدالله الغذامي يكتب: والصورة أكذب من ألف كلمة

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

الإمارات تطلق حملة كسوة الشتاء في شبوة اليمنية

أطلقت هيئة الهلال الأحمر الإماراتي، صباح اليوم الأحد، حملة "كسوة الشتاء" في عدد من المناطق النائية والصحراوية في محافظة شبوة اليمنية، بهدف توفير الملابس والاحتياجات الشتوية الضرورية للأسر الأشد فقراً، والنازحين، والبدو الرحل، الذين تأثروا بموجة البرد القارس التي تجتاح المحافظة.

وتأتي هذه الحملة، استجابة فورية لاحتياجات السكان المتضررين من موجة البرد في عدد من مناطق محافظة شبوة، وتعكس التزام الهلال الأحمر الإماراتي بمبدأ التضامن الإنساني ورعاية الفئات الأكثر حاجةً في المجتمع.
وأشاد الشيخ راجح سعيد باكريت عضو هيئة الرئاسة بالمجلس الإنتقالي الجنوبي، بالجهود الإنسانية والإغاثية المتواصلة للإمارات في اليمن، عبر ذراعها الإنساني والخيري هيئة الهلال الأحمر الإماراتي في تقديم المساعدات الإنسانية للأسر الأشد فقراً والمتضررين من موجة البرد القارس الذين يواجهون ضروفاً معيشية صعبة، وبما يسهم في تخفيف العبء عن المواطنين هناك، وتحسين ظروف حياتهم.
بدوره، أوضح ماجد بن سريع مدير الهلال الأحمر الإماراتي في شبوة، أن "هذه الحملة تتضمن توزيع الألبسة الشتوية والبطانيات على النازحين والبدو الرحل والأسر الأشد فقراً، الذين يقطنون في المناطق النائية والصحراوية في المحافظة، متوقعا أن يستفيد منها 1520فرداً".
من جانبهم، عبر المستفيدون من هذه المساعدات عن شكرهم وامتنانهم للهلال الأحمر الإماراتي على دعمه المستمر ومساهمته في تخفيف معاناتهم، مؤكدين أن هذه المساعدات ستسهم في توفير الحماية والدفء لأطفالهم خلال فصل الشتاء.

مقالات مشابهة

  • السفير عبدالله الرحبي: اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان (صور)
  • عن مسقط وجمالها وسحرها
  • د.حماد عبدالله يكتب: تحديث البنية الثقافية
  • «الهلال الأحمر» تطلق حملة كسوة الشتاء في شبوة
  • الإمارات تطلق حملة كسوة الشتاء في شبوة اليمنية
  • الهلال الأحمر تطلق حملة كسوة الشتاء في شبوة اليمنية
  • بي أف كاسب يتوج بكأس الديربي العماني في السباق التاسع للخيل
  • د.حماد عبدالله يكتب: " بلطجة " التعليم الخاص !!
  • عبدالله علي ابراهيم ، لمن يكتب هذا الرجل ؟
  • عيد اللغة العربية