د. عبدالله الغذامي يكتب: الألفاظ أجساد وجمالها في ملابسها
تاريخ النشر: 25th, May 2024 GMT
سمع الشافعي أحد تلاميذه يقول «فلانٌ كذابٌ» فقال له: يا بني اكْسُ ألفاظَك أَحْسَنها ولا تقل: فلان كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء. وهنا تأتي مقولة كسوة الألفاظ وأبدأ من أبيات عنترة وهو يحكي عن نفسه وسط معمعة القتال والفروسية ويكشف عن علاقته بفرسه وفيها يقول:
ما زِلتُ أَرميهِم بِثُغرَةِ نَحرِهِ
وَلَبانِهِ حَتّى تَسَربَلَ بِالدَمِ
فَاِزوَرَّ مِن وَقعِ القَنا بِلَبانِهِ
وَشَكا إِلَيَّ بِعَبرَةٍ وَتَحَمحُمِ
لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اِشتَكى
وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي
حيث يكسو عنترة كلماته بتحويل الصمت إلى لغة صاخبة بالدم ومناورات السيوف والرماح التي تقع على هامة الحصان حتى ليزور عنها ويبحث عن لغة توصل شكواه للفارس الغارق في الطعان والمنازلة، وما ذا لو نطق الحصان وتكلم محاوراً أو مشتكياً، وهو هنا يجمع بين قطبي الخطاب البشري حيث المحاورة التي هي قطب العقلانية ومنطق الجدل وبين التشكي الذي يحتاج لعاطفة جياشة تجتمع فيها دلالات اللغة التي يترجمها عنترة مظهراً تعطل الكلمات وتوقفها عن التماهي مع المشهد الدموي المهول حتى لتتوقف اللغة دون وصفه، فلا المنطق يكفي لوصف الحدث ولا العاطفة تكشف شدة الهول، وهذه كسوة لغوية يدثر فيها عنترة نصه الشعري في تماهيه مع فرسه وفي الوقت ذاته يكشف عن غفلته عن فرسه أي غفلته عن نفسه ونسيانه لعقله، حيث تستحوذ عليه فكرة النزال والمواجهة حتى لتغرقه الدماء وتكسر أسنة الرماح على لبان الأدهم، وكذلك تتلاشى العاطفة فلا هو يرى نفسه ولا هو يحس بحصانه الذي يشتكي ويحاور، ولكن بلغة تكسوها الدماء وتكسوها اللحظة المنسية في تاريخ الذهن البشري حين يغيب الوعي وتسيطر غشاوة الحالة، وهذا كساء لغوي يعمي البصيرة ولن تحضر البصيرة في هذه الحال إلا بعد زوال الحدث وانقشاع الغشاوة، حيث تتحول الحال إلى حال شعرية نصوصية تحضر فيها اللغة لتصف لحظات اللا لغة، وقد غابت اللغة وقت الحدث ولكنها تعود لتصف الحدث وتكسو الكلمات التي كانت نبرات يهمهم بها الحصان ولم تكن منطقيةً ولا هي عاطفية حين تلك اللحظة، وكانت فقط عاريةً تتعرض للرماح وللدم المسال، ولكن عنترة في حقيقته شاعرٌ وبما أنه كذلك فهو يتحرك لتلبيس اللغة لبوسها الذي تستحقه فساق أبياته تقطر دلالات بعد أن قطرت دماءً، ومنح الحصان حقه في التعبير عن مشاعره وعن وجعه وعن عبرته وتحمحمه، هذه الحمحمة التي هي لغة من نوع متعالٍ تعجز الكلمات ويعجز المنطق عن رسمها أو منحها صوتاً يصنع دلالاتها، والحمحمة دون الصوت وفوق الصمت، وفي هذا الحيز الضيق من التعبير كان حدث اللغة غير المنطوقة، وتأتي القصيدة لتكفر عن غفلة الفارس عن شكوى فرسه، وتستعيد الشاعر الذي يحس ولا يغفل عن أي معنى شارد حتى ولو كان مجرد حمحمة، لكنها مع القصيدة تكتسي بالمجاز وتتشكل في سياق يربط النص بكل من يتلقاه سماعاً كما في زمنه وقراءةً كنا نحن معه في زمننا، وهذه أرقى كسوة يكسوها الشاعر لفرسه ولنفسه، حتى ليصلنا النص متحلياً بأجمل كسوة يستحقها نص ما.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً:
توزيع كسوة العيد على 50 يتيماً في مأرب بدعم من مؤسسة “صلة”
يمن مونيتور/ قسم الأخبار
نفذت شبكة النماء اليمنية للمنظمات الأهلية مشروع “رفقة الحبيب” لتوزيع كسوة العيد على 50 يتيماً في محافظة مأرب، بدعم كريم من مؤسسة “صلة”.
جاءت هذه المبادرة لتلبية احتياجات الأيتام وأسرهم مع اقتراب عيد الفطر المبارك.
وعبّر الأيتام وأمهاتهم عن امتنانهم العميق لهذه المبادرة، التي جاءت في توقيت يحتاجون فيه لدعم معنوي ومادي.
وقالت إحدى الأمهات: “الكسوة الجديدة أعادت الفرح إلى أطفالي، خاصةً في ظل الظروف الصعبة. نشكر كل من ساهم في رسم هذه الابتسامة”.
من جانبه، أكد منسق مشروع “رفقة الحبيب” في شبكة النماء الأستاذ فتحي النور أن هذه المبادرة تأتي استمرارًا لجهود دعم الفئات الأكثر احتياجًا,
وقال: “نسعى لتعويض الأيتام جزءًا من حقوقهم المهدورة، ونتوجه بالشكر لمؤسسة ‘صلة’ على شراكتها الفاعلة في إنجاح هذه الحملات”.
يهدف مشروع “رفقة الحبيب” إلى تقديم الدعم النفسي والمادي للأيتام وأسرهم على مدار العام، من خلال أنشطة متنوعة كالكفالات النقدية، والتعليمية، والمساعدات العينية، والتأمين الصحي.