إضراب عمال السكة حديد (يوليو 1981): من أجهضك يا فراش؟
تاريخ النشر: 25th, May 2024 GMT
جاء الوقت لتتلو علينا جماعات من البرجوازيين الصغار كرامة جعفر محمد نميري البلقاء التي غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وجعلت الثورة عليه شططاً بآخرة. وهذه الكرامة هي أنهم شيعوه حين رحل من بيته في ود نوباوي. لم يمتلك أرضاً، ولم يبتن قصراً، ولا الضالين آمين.
علوا الزانة لقيادة الأمة يا مماحيق.
وذلك الرجل الذي لم يبن بيتاً لم تمنعه شعواء الحكم من تهديد عمال السكة حديد بطردهم من بيوتهم إذا واصلوا إضرابهم ضد نظامه في يوليو 1981.
إذا كنت قد أقسمت ألا أغفر لخصومي (أو حتى حلفائي) الفكريين شيئاً فهو “كسرة” إضراب عمال السكة الحديد في يوم 18 يوليو 1981. فما زلت أتبلغ غصصاً كثيرة من تلك المحنة. لن أغفر لنميري كيف وسوس له إبليسه بالحيلة التي توعد بها العمال المضربين بإخلاء منازل الحكومة متى ما لم يقبلوا بفك الإضراب والعودة للعمل. وتهافت الإضراب من بعد هذا الوعيد. ولن أغفر للسياسيين والمهنيين الذين استدعاهم نميري بعد تصدع الإضراب لدراسة وضع السكة الحديد بغرض تفكيكها وأقلمتها (تنظيمها على أسس إقليمية تزيل مركزية عطبرة عنها). فهم في نظري مجرد كاسري إضراب لأن نميري قد تبرع لهم بحل مسألتهم قبل أن يبدأوا البحث فيها. ولم أغفر للجمهوريين بيانهم الذي حرض الناس ضد الإضراب في سياق موقفهم “لماذا نؤيد ثورة مايو؟” (مايو 1979) لتوهمهم أن كل تحرك إضرابي ضد النظام إما من تدبير السيد الصادق المهدي أو الإخوان المسلمين لاحتواء نظام مايو، أو من خطط الشيوعيين لإسقاطه. ولن أغفر للنقابة (وكان على رأسها السيد عباس الخضر الحسن رئيس لجنة الحسبة بالمجلس الوطني) التي لم تستعد لانتقام الدولة التي تماسكت معها الحزز منذ ابريل 1978. وهذا الإبريل تاريخ معروف في عطبرة ب “انتفاضة ابريل” انكسرت فيه الحكومة لإرادة العمال. ولكنها تربصت بهم. والعاقل من تدبر.
وقد ظل هاجسي الشاغل أن أعرف الملابسات التي اكتنفت هذا الإضراب الذي كان بمثابة “انتحار” سياسي لأم النقابات. وعثرت في (الرأي العام 25-1-2000) على كلمة بقلم محجوب محمد عثمان جدد فيها ذكرى المرحوم الشريف حسين الهندي (توفى يناير 1982) الزعيم الاتحادي الديمقراطي المعروف. وقال محجوب إن إضراب عمال السكة حديد الحسير هو ثمرة من ثمار نشاط الشريف المعارض لنظام مايو. فإذا صدق قول محجوب توقعت أن يكون الشريف، وكان بيده مالاً لبدا (تحلق حوله المعتفون وأهل الحاجات والبعثات للدكتوراه) قد خصص ميزانية سخية لدعم هذا الإضراب.
ولم يهدأ لي خاطر منذ علمت بالصلة بين المعارضة الحزبية لنظام نميري وإضراب 1981 المهيض. فأصبحت أسأل من توسمت فيهم معرفة بخفايا المعارضة إن كان الشريف قد “بزم” مالاً لنقابة السكة الحديد تتلافى به ضغوط الحكومة وتصمد بين براثنها. وتحدثت إلى أطراف في المعارضة أمنت على أن الشريف تحسب لشر نميري، وبعث بمال وفير ليوضع تحت تصرف النقابة. فقائل قال إنه بعث بخمسة مليون جنيه بواسطة طالب بجامعة الخرطوم للغرض. وكان الطالب، واسمه يوسف، عفيفاً متقشفاً يركب المواصلات العامة وبحقائبه الملايين. وكان من فرط زهادته يسمونه “الشيوعي”. وسلم يوسف هذا المال المجعول للنقابة، بشهادة الراوي، إلى لجنة خماسية اتحادية تسرب المال بين أيديها ولم يبلغ مقصده.
ليس من شغل الأحزاب بالطبع الإيحاء بالإضراب لنقابة ما ولا تمويله. وسبق إن كتبت كيف خاضت نقابة السكة حديد إضراب الثلاثة الثلاثين يوماً في 1948 اعتماداً على صندوق مالها، وتبرع شعب مدينة عطبرة جوداً بالموجود نوعاً ونقداً. وقد جاء حزب الأشقاء (الزعيم الأزهري) بتبرعهم للنقابة بواسطة السيد محمد نورالدين. ولكن السيد الطيب حسن، سكرتير النقابة، أوقف نور الدين عند حده عندما طلب منه، بآصرة الزمالة في حزب الأشقاء، أن ترفض النقابة قبول محام بعث به حزب الأمة للدفاع عن النقابيين أمام المحاكم ليقتصر الدفاع على محاميّ الأشقاء مثل السيد مبارك زروق. وقال الطيب لنور الدين إن النقابة هيئة أخرى غير الحزب تحتاج لدعم الكل ولا تخضع للأشقاء أو غيرهم في رسم سياساتها. والتزم المرحوم على محمد بشير بنفس ما التزم به الطيب الشقيق. فقد رفض إملاءات من الشيوعيين، وكان في طليعتهم مندوباً شبه دائم لعمال ورشة المرمة (صرة الورش) في النقابة، بأن تدخل النقابة في إضراب لم يعتقد هو بمساسه بعمال السكة حديد، أو مناسبته لهم في الزمان والمكان. فاستحق لعنة الشيوعيين منذ ذلك الوقت. وطبقوا عليه صيغ اللعنة الشيوعية المتوارثة مثل وصفه بالإصابة بداء “العقلية النقابية”. وهذا ما اتوافر على دراسته حالياً.
قال الدكتور أحمد العوض سكنجا في كتابه “مدينة الحديد والنار” (بالإنجليزية 2002) إن إضراب 1981 كان منعطفاً حاداً في تاريخ نقابة عمال السكة الحديد. فقد دفعوا من جرائه ثمناً باهظاً، ولم يستردوا حيويتهم بعد. ولا تعدل كسرة عمال السكة الحديد في 1981 في نظري إلا “كسرة” المهدية في 1899 من حيث تجريد السودانيين أو جمهرة منهم (في الحالتين) من أداة لتغيير ما بأنفسهم ومعاشهم. وكانت تلك الأداة هي الدولة في حالة المهدية بينما هي النقابة في حالة السكة حديد. وهذه قناعة قد لا تجدها بين من لم يترب في أدب وسياسية وزمالة النقابة من أمثالي. فالنقابة هي هدية عطبرة والعمال لنا. وهي أوسع النظم الاجتماعية السودانية ديمقراطية لأنها، تعريفاً، مؤسسة تضم عمال المنشأة المعينة بغير نظر لفوارق الدين أو الإثنية أو القبلية أو اللغة أو الأنثوية أو الذكورية. فقد انضمت المعلمات والممرضات لنقابة المنشأة منذ أواخر الأربعينات. ودخل العمال من الغرب والجنوب في النقابة افواجاً متى ما بلغتهم السكة. وسعة النقابة للتنوع لا تقارن بسعة ما هو متعارف عندناً من النظم التقليدية مثل القبيلة والطائفة ذات المعايير الضيقة في تصنيف من انتمى إليها مهما بدا من رحابتها.
فكسرة النقابة، اي نقابة، طعنة نجلاء في إنسانيتنا. فقد ساءني دائماً الاتهام المعمم الذي راج بين جماعات يسارية جزافية من أن بيئتنا العربية المسلمة (الإسلاموعربية في لغتهم الإكتومايوية) مسكونة بالاضطهاد العنصري خرقاء من جهة حقوق الإنسان إلى يوم يبعثون. ولا فكاك للمرء منا إلا أن يخلع عروبته وإسلامه خلعاً وينكرها ثلاثاُ في الضحى الأعلى. وتجدهم يستدلون على ذلك بأبيات مستلة باعتساف من المتنبي عن كافور الإخشيدي، أو من ذكر ممارسات للزبير باشا، أو مبدأ الكفاءة في الزواج استناداً على عقد زواج شهير في السبعينات. وهذا انتقاء عشوائي للبرهان على نقص إنسانيتنا كمسلمين وعرب لن تسلم معه أي جماعة من تهمة الاضطهاد العنصري مهما بلغت من آيات السماحة. ولقد جادلت هؤلاء اليساريين الجزافيين طويلاً ألفت انتباههم دائماً إلى أن إنسانيتنا العربية الإسلامية (الإسلاموعربية) لم تتجمد في تاريخ الأولين لأنها فعل تاريخي يتجدد بالتاريخ ويجدده. وكنت أشير لهم مثلاً ب “النقابة” التي هي من أفضال مدينة للحديد والنار عربية إسلامية في الغالب. ولكن الأشقياء الجزافيين لا يرون حقاً للإنسان إلا ما تصدقت لهم به مراكز حقوق الإنسان المرابطين عند بواباتها . . . با”الأسامي الأجنبية”.
ليس تفريط أي كان، بما في ذلك العمال أنفسهم، بهذا الوعاء النقابي المجيد مجرد غفلة سياسية. إنه بالأحرى غفلة حضارية. وتستحق هذه الغفلة من صحافة التحري عندنا تسليط الضوء عليها في حين ما يزال شهود الأمر بيننا.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: السکة الحدید
إقرأ أيضاً:
السكة الحديد تقرر تشغيل خدمة جديدة على قطارات أسوان القاهرة
قررت الهيئة القومية لسكك حديد مصر امتداد مسير قطار 2007 (مكيف) أسوان / القاهرة لمحطة الإسكندرية، وتشغيل قطار 910 (مكيف) الإسكندرية القاهرة كخدمة جديدة، اعتباراً من يوم الأحد الموافق 1 / 12 / 2024 .
وتقرر امتداد مسير قطار 2007 مكيف أسوان / القاهرة والذى يقوم من محطة أسوان يوم 30 / 11 / 2024 الساعة 15:15 ويصل محطة القاهرة الساعة 04:05 صباح يوم 1 / 12 / 2024 ويمتد مسيره إلى محطة الإسكندرية كخدمة جديدة ليصلها الساعة 07:20 صباحاً طبقاً للجدول المرفق.
كما تقرر تشغيل قطار 910 مكيف الإسكندرية / القاهرة ( خدمة جديدة ) حيث يقوم من محطة الإسكندرية الساعة 10:00 صباحاً ويصل محطة القاهرة الساعة 12:40 طبقاً للجدول المرفق وبنفس تركيب قطار 2007.
ويترتب على ذلك تعديل مواعيد قطارات [ 661 – 163 – 3024 – 1212 ] طبقاً للجداول المرفقة.