بعد طوفان الأقصى وما أكّده من ازدواجية المعايير التي تحكم الامبريالية في مرحلتها المتصهينة -أي المرحلة التي سيطر فيها الصهاينة على اختلاف أديانهم وأجناسهم ولغاتهم على العالم الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا- يبدو من المشروع التشكيك في مصداقية العديد من المنظمات الدولية أو على الأقل قراءة دورها بصورة مختلفة.

وهو أمر لا يمكن حصره في التصنيفات السياسية التي تحدد الموقف الغربي من بعض الأنظمة، بل يتعدى ذلك إلى التصنيفات الدولية لواقع الحريات -خاصة حرية التعبير وحرية الصحافة- في عالمنا العربي ومنه تونس.

ولا يعني هذا النقد تبني السرديات السلطوية التي تلجأ إلى استراتيجية دفاعية مزدوجة أساسها من جهةٍ أولى تخوين الأصوات المعارضة في الداخل وشيطنتها لإنكار الواقع، والتغني -من جهةٍ ثانية- بالسيادة الوطنية ورفض التدخل الخارجي في الشأن الوطني.

إن هدفنا في هذا المقال هو تقديم بعض الأفكار التي قد تصلح للإجابة بصورة أكثر موضوعية عن السؤال التالي: هل يعكس التصنيف العالمي لحرية الصحافة انحيازا حقيقيا من لدن أغلب الإعلاميين للحقيقة ولمن هم أسفل ومَن لا صوت لهم، وانحيازا للانتقال الديمقراطي وبناء المشترك الوطني على قاعدة الاعتراف بالإرادة الشعبية؟ أم هي حرية شكلية ترتبط بتشريعات وضمانات مؤقتة وهشة وفّرتها منظومة الاستعمار الداخلي أو ما تسمى بـ"الدولة العميقة" وفرضتها على جميع الفاعلين في الحقل الإعلامي، كي تضرب الانتقال الديمقراطي وتنقلب عليه أو على الأقل كي تمنع أي إعادة توزيع أكثر عدلا وإنصافا للسلطة والثروة في تونس؟

هل يعكس التصنيف العالمي لحرية الصحافة انحيازا حقيقيا من لدن أغلب الإعلاميين للحقيقة ولمن هم أسفل ومَن لا صوت لهم، وانحيازا للانتقال الديمقراطي وبناء المشترك الوطني على قاعدة الاعتراف بالإرادة الشعبية؟ أم هي حرية شكلية ترتبط بتشريعات وضمانات مؤقتة وهشة وفّرتها منظومة الاستعمار الداخلي أو ما تسمى بـ"الدولة العميقة" وفرضتها على جميع الفاعلين في الحقل الإعلامي، كي تضرب الانتقال الديمقراطي وتنقلب عليه أو على الأقل كي تمنع أي إعادة توزيع أكثر عدلا وإنصافا للسلطة والثروة في تونس؟
لفهم واقع الإعلام في تونس وتناقضاته، يمكننا أن نبدأ بمحصول عملية الانتقال الديمقراطي ومأسسة استحقاقات الثورة: "تصحيح المسار" أو إجراءات الرئيس قيس سعيد يوم 25 تموز/ يوليو 2021 وما تلاها؛ من تحويل حالة الاستثناء المؤقتة إلى مرحلة تأسيسية لجمهورية جديدة ذات نظام رئاسوي.

ويعلم كل مهتم بالشأن التونسي أن "الديمقراطية القاعدية" أو الديمقراطية المباشرة هي مشروع سياسي يقوم على نفي الحاجة للأجسام الوسيطة، بل هو مشروع "التأسيس الثوري الجديد" الذي يتقابل جذريا مع "العشرية السوداء" بتشريعاتها وتوافقاتها ومؤسساتها ووسائطها، ويتقابل قبل ذلك كله مع منطق لا مركزية السلطة أو تعدد السلطات الذي أدارها.

ففي الخطاب السياسي لتصحيح المسار لا وجود لسلطات، بل هناك وظائف تجد مرجعها ومركزها في الوظيفة التنفيذية باعتبارها أداة تنفيذ الإرادة الشعبية. وإذا كان البرلمان أو القضاء في هذه السردية قد فقدا وضعهما التقليدي باعتبارهما سلطة تشريعية وسلطة قضائية، فمن باب أولى أن تفقد الصحافة صفة "السلطة الرابعة" وأن تُدعى إلى الانخراط في "مشروع التحرير الوطني". ويذهب تقرير "مراسلون بلا حدود" لسنة 2024 إلى أن تقويض الفصل بين السلطات يُمثل "تهديدا كبيرا لمكاسب الثورة التونسية فيما يتعلق بحرية الصحافة".

ليس يعنينا في هذا الموضع تفكيك السردية السلطوية باعتبارها إعادةَ تشغيل لمنطق المنظومة القديمة القائمة على ضرب الحريات بالتشكيك في وطنية خصومها وذممهم المالية وعلاقتهم بالخارج، أو تكميم الأفواه بدعوى حماية الدولة ورموزها وأعراض موظفيها، بل يعنينا أن نشتغل على دور المتدخلين في الشأن الإعلامي في الوصول إلى واقعنا الحالي.

ونحن لا نعتبر أن واقع الحريات الإعلامية في تونس هو جزء من "مكر التاريخ" أو سوء التقدير بقدر ما هو نتيجة استراتيجيات جماعية واعية، فمكر التاريخ أو سوء التقدير قد يبرران بعض الخيارات الفردية لدى أصحاب "القلوب الطيبة" أو العقول المحدودة، ولكنهما لا يفسران الخيارات الجماعية الممنهجة للهياكل القطاعية أو للمؤسسات "التعديلية"(نقابة الصحفيين، جامعة مديدي الصحف، الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.. الخ) التي انحازت بدرجات مختلفة إلى "تصحيح المسار" وتبنت سردية "العشرية السوداء".

منطقيا، تعكس شيطنة عشرية الانتقال الديمقراطي من طرف الإعلاميين ضربا من التناقض، ذلك أن كل مكاسب القطاع المادية والتشريعية وقعت في الفترة التي يُسميها أغلب الإعلاميين في مختلف المنابر المقروءة والمسموعة والمرئية بـ"العشرية السوداء". ولعل أفضل ما يشهد لذلك هو ترتيب تونس في المؤشر العالمي لحرية الصحافة منذ 2013 إلى حدود سنة 2021، فرغم أن ذلك الترتيب لا يعكس توجها إيجابيا ثابتا، إلا أنه يُظهر احتلال تونس للمرتبة الثالثة في ذلك المؤشر واحتلال المرتبة 96 عالميا سنة 2016، والمرتبة 73 عالميا والثانية عربيا بعد جزر القمر سنة 2019، والمرتبة الأولى عربيا و94 عالميا سنة 2021. أما بعد "تصحيح المسار" فقد احتلت تونس المرتبة 94 عالميا سنة 2022، المرتبة 121 عالميا والخامسة عربيا سنة 2023، والمرتبة 118 من بين 180 دولة هذا العام.

ونحن لا نأتي بهذا الترتيب لأننا نؤمن بموضوعية معاييره أو بأنها تعكس حرية إعلامية حقيقية تتحرك في أفق وطني وبالالتزام بأخلاقيات المهنة قبل 25 تموز/ يوليو 2021، بل نأتي به من باب الإلزام المنطقي للخصم، أي لبيان تناقض القول بـ"العشرية السوداء" مع التصنيف الدولي لحرية الصحافة في تونس خلال تلك الفترة.

إن تعريف "مراسلون بلا حدود" لحرية الصحافة على أنها "الإمكانية الفعلية للصحفيين بشكل فردي أو جماعي لاختيار وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية"، هو تعريف شكلي صرف. فهو يفترض أن الاستقلالية الصورية أو حتى المضمونة بالتشريعات تُلغي التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي في العمل الصحفي، كما يفترض أن الصحفي مشغول بالمصلحة العامة لا بمصلحته المادية والأيديولوجية أو بمصلحة مشغليه أو بمصلحة النظام. وأخيرا فإن هذا التعريف يفترض أن غياب التهديدات يعني بالضرورة الانحياز للحقيقة أو لمن لا صوت لهم من المهمشين والمقموعين.

ولا شك في أننا أمام افتراضات يؤكد استقراء دور الصحافة في مرحلة الانتقال الديمقراطي وبعد "تصحيح المسار" تهافتها، وبالتالي يعطي شرعية كبيرة للتشكيك فيما ينبني عليها من تصنيفات.

ختاما، فإن وضع الحريات الإعلامية في تونس خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي لم يكن يعكس قوة الديمقراطيين أو الأجسام الوسيطة المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية؛ بقدر ما كان يعكس ضعف الانتقال الديمقراطي ومن يُمثلون "مشروع المواطنة" والقطع مع المنظومة القديمة داخل أجهزة الدولة وخارجها. تقراء مسار الانتقال الديمقراطي يُظهر أن الأغلب الأعم من الإعلاميين قد وظفوا هامش الحريات لوأد الديمقراطية والانقلاب على الإرادة الشعبية وإرجاع ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم إلى مركز الشأن العامفأغلب الصحافيين في تونس كانوا منذ هروب المخلوع في خدمة المنظومة القديمة واستراتيجياتها لاستعادة التوازن والهيمنة بعد الثورة. ولذلك لم تكن الحرية التي تمتعوا بها ناتجة عن مبدئية أو عن قوة ذاتية أو حتى عن قوة التشريعات، بل كانت نتيجة ضعف المشروع الديمقراطي ذاته وقوة "الدولة العميقة".

مهما كان توصيفنا للواقع التونسي حاليا، فإن استقراء مسار الانتقال الديمقراطي يُظهر أن الأغلب الأعم من الإعلاميين قد وظفوا هامش الحريات لوأد الديمقراطية والانقلاب على الإرادة الشعبية وإرجاع ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم إلى مركز الشأن العام. فرغم ما عانته "الصحافة الحرة" في عهد المخلوع من تضييقات مُمنهجة عكسها التصنيف التونسي في مؤشر حرية الصحافة سنة 2010 -المرتبة 164 عالميا- فإن الأغلب الأعم من الفاعلين في المشهد الإعلامي ظلوا مرتبطين في خطوطهم التحريرية ومواقفهم من مخرجات الثورة بالنظام القديم ومصالحه المادية والرمزية.

ولا شك في أن هذا الخيار لا يعكس انحيازا للحرية ولا للحقيقة أو الديمقراطية، بل يعكس موقفا انقلابيا واعيا يجعل من البكائيات الحالية على واقع الحريات أمرا متناقضا ذاتيا، ولا قيمة له إلا من جهة التهرب من النقد الذاتي ورفض تحمل المسؤولية فرديا وجماعيا عن مسارات المشروع الديمقراطي التونسي ومآلاته الحالية.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحريات تونس الإعلاميين قيس سعيد تونس حريات الإعلام قيس سعيد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتقال الدیمقراطی العشریة السوداء لحریة الصحافة تصحیح المسار حریة الصحافة فی تونس

إقرأ أيضاً:

وكالة "موديز" ترفع التصنيف الائتماني لليونان مع نظرة مستقبلية مستقرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

رفعت وكالة (موديز) التصنيف الائتماني لليونان مع نظرة مستقبلية مستقرة، لتخرج اليونان من فئة ما يسمى بـ"المضاربة" وتغلق فصل أزمة الديون وتدخل فئة البلدان التي يمكن الاستثمار فيها، وذلك بعد قرارات مماثلة من وكالتي التصنيف الائتماني (ستاندرد آند بورز) و(فيتش) العام الماضي.

وذكرت الوكالة - في بيان أورده راديو (فرنسا الدولي) - "أن هذه الترقية تعكس وجهة نظرنا بأن الملف الائتماني السيادي لليونان أصبح قادرا الآن على الصمود بشكل أفضل في مواجهة الصدمات المستقبلية المحتملة، لذلك قررت وكالة التصنيف الائتماني، رفع تصنيف اليونان من Ba1 إلى Baa3، مع نظرة مستقبلية مستقرة، في ضوء التحسن في المالية العامة للبلاد بسرعة أكبر مما توقعنا".

ورحبت الوكالة بالتدابير التي اتخذتها الحكومة اليونانية والاستقرار السياسي في البلاد، والتي من شأنها أن تمكنها من الاستمرار في توليد فوائض أولية كبيرة وبالتالي خفض عبء ديونها تدريجيا، خاصة وأن صحة القطاع المصرفي تستمر في التحسن.

وأكدت أن التوقعات "مستقرة" وليست "إيجابية" لأن الإصلاحات المؤسسية سوف تستغرق وقتا حتى تؤتي ثمارها.

وخلال عقد الأزمة المالية (2008-2018)، والمعروف باسم "أزمة الديون" بسبب انفجار العجز العام والدين العام، ارتفعت أسعار الاقتراض في اليونان بشكل كبير، مما أدى إلى سلسلة من تخفيضات التصنيف الائتماني للبلاد من قبل وكالات التصنيف، كما حرم البلاد من الوصول إلى سوق السندات.

يشار إلى أن أثينا طبقت خطط تقشف صارمة طالب بها الدائنون وكان لها تأثير كبير تمثل في انخفاض بنسبة 25٪ في الناتج المحلي الإجمالي في 8 سنوات، وانفجار في البطالة، وإضعاف نظام الصحة العامة، وأخيرا خرجت اليونان من الأزمة في أغسطس 2018 بعد عودتها إلى النمو قبل عام.

وشهدت البلاد نموًا مرتفعًا في السنوات الأخيرة (5.6% في عام 2022، و2% في عام 2023، و2.3% في عام 2024) ويتوقع أن ينمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 2.5% هذا العام، وفقًا لتوقعات بنك اليونان، لكن العديد من اليونانيين ما زالوا يعانون من ارتفاع أسعار المواد الغذائية في حين تظل الأجور منخفضة.

ويعد انخفاض القدرة الشرائية أحد أسباب السخط بين اليونانيين، على الرغم من أن التضخم، بعد أن بلغ ذروته في عام 2022 بسبب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، انخفض إلى 3٪ في عام 2024.
 

مقالات مشابهة

  • قمة افتراضية لبحث واقع الحرب وفرص السلام في أوكرانيا
  • "الحقيقة" الأمريكية
  • “فيتش” تبقي التصنيف الائتماني لفرنسا عند “إيه إيه سلبي”
  • وكالة "موديز" ترفع التصنيف الائتماني لليونان مع نظرة مستقبلية مستقرة
  • أبوخشيم: يجب محاسبة وسائل الإعلام التي تروج لخطاب الكراهية
  • صحافة العالم| حماس تتوعد الاحتلال إذا أخل بالاتفاق .. وقمع الحريات في أمريكا يتحول إلى كابوس
  • فاسدة وغسر شرعية..ترامب يهاجم ووسائل الإعلام التي تنتقده
  • بعد القوات العراقية وإقليم كوردستان.. معن يكشف تفاصيل مقتل أبو خديجة ودور القضاء
  • تايمز: ما قصة الثورة التي يريد ستارمر إطلاق شرارتها في بريطانيا؟
  • قنصل ليبيا: القضاء التونسي أصدر حكما جائرا بحق الليبي مهرب الكسكسي