هل يعكس التصنيفُ الدوليُّ واقعَ الإعلام التونسي ودورَه بعد الثورة؟
تاريخ النشر: 24th, May 2024 GMT
بعد طوفان الأقصى وما أكّده من ازدواجية المعايير التي تحكم الامبريالية في مرحلتها المتصهينة -أي المرحلة التي سيطر فيها الصهاينة على اختلاف أديانهم وأجناسهم ولغاتهم على العالم الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا- يبدو من المشروع التشكيك في مصداقية العديد من المنظمات الدولية أو على الأقل قراءة دورها بصورة مختلفة.
ولا يعني هذا النقد تبني السرديات السلطوية التي تلجأ إلى استراتيجية دفاعية مزدوجة أساسها من جهةٍ أولى تخوين الأصوات المعارضة في الداخل وشيطنتها لإنكار الواقع، والتغني -من جهةٍ ثانية- بالسيادة الوطنية ورفض التدخل الخارجي في الشأن الوطني.
إن هدفنا في هذا المقال هو تقديم بعض الأفكار التي قد تصلح للإجابة بصورة أكثر موضوعية عن السؤال التالي: هل يعكس التصنيف العالمي لحرية الصحافة انحيازا حقيقيا من لدن أغلب الإعلاميين للحقيقة ولمن هم أسفل ومَن لا صوت لهم، وانحيازا للانتقال الديمقراطي وبناء المشترك الوطني على قاعدة الاعتراف بالإرادة الشعبية؟ أم هي حرية شكلية ترتبط بتشريعات وضمانات مؤقتة وهشة وفّرتها منظومة الاستعمار الداخلي أو ما تسمى بـ"الدولة العميقة" وفرضتها على جميع الفاعلين في الحقل الإعلامي، كي تضرب الانتقال الديمقراطي وتنقلب عليه أو على الأقل كي تمنع أي إعادة توزيع أكثر عدلا وإنصافا للسلطة والثروة في تونس؟
هل يعكس التصنيف العالمي لحرية الصحافة انحيازا حقيقيا من لدن أغلب الإعلاميين للحقيقة ولمن هم أسفل ومَن لا صوت لهم، وانحيازا للانتقال الديمقراطي وبناء المشترك الوطني على قاعدة الاعتراف بالإرادة الشعبية؟ أم هي حرية شكلية ترتبط بتشريعات وضمانات مؤقتة وهشة وفّرتها منظومة الاستعمار الداخلي أو ما تسمى بـ"الدولة العميقة" وفرضتها على جميع الفاعلين في الحقل الإعلامي، كي تضرب الانتقال الديمقراطي وتنقلب عليه أو على الأقل كي تمنع أي إعادة توزيع أكثر عدلا وإنصافا للسلطة والثروة في تونس؟
لفهم واقع الإعلام في تونس وتناقضاته، يمكننا أن نبدأ بمحصول عملية الانتقال الديمقراطي ومأسسة استحقاقات الثورة: "تصحيح المسار" أو إجراءات الرئيس قيس سعيد يوم 25 تموز/ يوليو 2021 وما تلاها؛ من تحويل حالة الاستثناء المؤقتة إلى مرحلة تأسيسية لجمهورية جديدة ذات نظام رئاسوي.
ويعلم كل مهتم بالشأن التونسي أن "الديمقراطية القاعدية" أو الديمقراطية المباشرة هي مشروع سياسي يقوم على نفي الحاجة للأجسام الوسيطة، بل هو مشروع "التأسيس الثوري الجديد" الذي يتقابل جذريا مع "العشرية السوداء" بتشريعاتها وتوافقاتها ومؤسساتها ووسائطها، ويتقابل قبل ذلك كله مع منطق لا مركزية السلطة أو تعدد السلطات الذي أدارها.
ففي الخطاب السياسي لتصحيح المسار لا وجود لسلطات، بل هناك وظائف تجد مرجعها ومركزها في الوظيفة التنفيذية باعتبارها أداة تنفيذ الإرادة الشعبية. وإذا كان البرلمان أو القضاء في هذه السردية قد فقدا وضعهما التقليدي باعتبارهما سلطة تشريعية وسلطة قضائية، فمن باب أولى أن تفقد الصحافة صفة "السلطة الرابعة" وأن تُدعى إلى الانخراط في "مشروع التحرير الوطني". ويذهب تقرير "مراسلون بلا حدود" لسنة 2024 إلى أن تقويض الفصل بين السلطات يُمثل "تهديدا كبيرا لمكاسب الثورة التونسية فيما يتعلق بحرية الصحافة".
ليس يعنينا في هذا الموضع تفكيك السردية السلطوية باعتبارها إعادةَ تشغيل لمنطق المنظومة القديمة القائمة على ضرب الحريات بالتشكيك في وطنية خصومها وذممهم المالية وعلاقتهم بالخارج، أو تكميم الأفواه بدعوى حماية الدولة ورموزها وأعراض موظفيها، بل يعنينا أن نشتغل على دور المتدخلين في الشأن الإعلامي في الوصول إلى واقعنا الحالي.
ونحن لا نعتبر أن واقع الحريات الإعلامية في تونس هو جزء من "مكر التاريخ" أو سوء التقدير بقدر ما هو نتيجة استراتيجيات جماعية واعية، فمكر التاريخ أو سوء التقدير قد يبرران بعض الخيارات الفردية لدى أصحاب "القلوب الطيبة" أو العقول المحدودة، ولكنهما لا يفسران الخيارات الجماعية الممنهجة للهياكل القطاعية أو للمؤسسات "التعديلية"(نقابة الصحفيين، جامعة مديدي الصحف، الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.. الخ) التي انحازت بدرجات مختلفة إلى "تصحيح المسار" وتبنت سردية "العشرية السوداء".
منطقيا، تعكس شيطنة عشرية الانتقال الديمقراطي من طرف الإعلاميين ضربا من التناقض، ذلك أن كل مكاسب القطاع المادية والتشريعية وقعت في الفترة التي يُسميها أغلب الإعلاميين في مختلف المنابر المقروءة والمسموعة والمرئية بـ"العشرية السوداء". ولعل أفضل ما يشهد لذلك هو ترتيب تونس في المؤشر العالمي لحرية الصحافة منذ 2013 إلى حدود سنة 2021، فرغم أن ذلك الترتيب لا يعكس توجها إيجابيا ثابتا، إلا أنه يُظهر احتلال تونس للمرتبة الثالثة في ذلك المؤشر واحتلال المرتبة 96 عالميا سنة 2016، والمرتبة 73 عالميا والثانية عربيا بعد جزر القمر سنة 2019، والمرتبة الأولى عربيا و94 عالميا سنة 2021. أما بعد "تصحيح المسار" فقد احتلت تونس المرتبة 94 عالميا سنة 2022، المرتبة 121 عالميا والخامسة عربيا سنة 2023، والمرتبة 118 من بين 180 دولة هذا العام.
ونحن لا نأتي بهذا الترتيب لأننا نؤمن بموضوعية معاييره أو بأنها تعكس حرية إعلامية حقيقية تتحرك في أفق وطني وبالالتزام بأخلاقيات المهنة قبل 25 تموز/ يوليو 2021، بل نأتي به من باب الإلزام المنطقي للخصم، أي لبيان تناقض القول بـ"العشرية السوداء" مع التصنيف الدولي لحرية الصحافة في تونس خلال تلك الفترة.
إن تعريف "مراسلون بلا حدود" لحرية الصحافة على أنها "الإمكانية الفعلية للصحفيين بشكل فردي أو جماعي لاختيار وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية"، هو تعريف شكلي صرف. فهو يفترض أن الاستقلالية الصورية أو حتى المضمونة بالتشريعات تُلغي التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي في العمل الصحفي، كما يفترض أن الصحفي مشغول بالمصلحة العامة لا بمصلحته المادية والأيديولوجية أو بمصلحة مشغليه أو بمصلحة النظام. وأخيرا فإن هذا التعريف يفترض أن غياب التهديدات يعني بالضرورة الانحياز للحقيقة أو لمن لا صوت لهم من المهمشين والمقموعين.
ولا شك في أننا أمام افتراضات يؤكد استقراء دور الصحافة في مرحلة الانتقال الديمقراطي وبعد "تصحيح المسار" تهافتها، وبالتالي يعطي شرعية كبيرة للتشكيك فيما ينبني عليها من تصنيفات.
ختاما، فإن وضع الحريات الإعلامية في تونس خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي لم يكن يعكس قوة الديمقراطيين أو الأجسام الوسيطة المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية؛ بقدر ما كان يعكس ضعف الانتقال الديمقراطي ومن يُمثلون "مشروع المواطنة" والقطع مع المنظومة القديمة داخل أجهزة الدولة وخارجها. تقراء مسار الانتقال الديمقراطي يُظهر أن الأغلب الأعم من الإعلاميين قد وظفوا هامش الحريات لوأد الديمقراطية والانقلاب على الإرادة الشعبية وإرجاع ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم إلى مركز الشأن العامفأغلب الصحافيين في تونس كانوا منذ هروب المخلوع في خدمة المنظومة القديمة واستراتيجياتها لاستعادة التوازن والهيمنة بعد الثورة. ولذلك لم تكن الحرية التي تمتعوا بها ناتجة عن مبدئية أو عن قوة ذاتية أو حتى عن قوة التشريعات، بل كانت نتيجة ضعف المشروع الديمقراطي ذاته وقوة "الدولة العميقة".
مهما كان توصيفنا للواقع التونسي حاليا، فإن استقراء مسار الانتقال الديمقراطي يُظهر أن الأغلب الأعم من الإعلاميين قد وظفوا هامش الحريات لوأد الديمقراطية والانقلاب على الإرادة الشعبية وإرجاع ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم إلى مركز الشأن العام. فرغم ما عانته "الصحافة الحرة" في عهد المخلوع من تضييقات مُمنهجة عكسها التصنيف التونسي في مؤشر حرية الصحافة سنة 2010 -المرتبة 164 عالميا- فإن الأغلب الأعم من الفاعلين في المشهد الإعلامي ظلوا مرتبطين في خطوطهم التحريرية ومواقفهم من مخرجات الثورة بالنظام القديم ومصالحه المادية والرمزية.
ولا شك في أن هذا الخيار لا يعكس انحيازا للحرية ولا للحقيقة أو الديمقراطية، بل يعكس موقفا انقلابيا واعيا يجعل من البكائيات الحالية على واقع الحريات أمرا متناقضا ذاتيا، ولا قيمة له إلا من جهة التهرب من النقد الذاتي ورفض تحمل المسؤولية فرديا وجماعيا عن مسارات المشروع الديمقراطي التونسي ومآلاته الحالية.
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحريات تونس الإعلاميين قيس سعيد تونس حريات الإعلام قيس سعيد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتقال الدیمقراطی العشریة السوداء لحریة الصحافة تصحیح المسار حریة الصحافة فی تونس
إقرأ أيضاً:
السيرة النبوية ودور الإملاءات السياسية والمذهبية.. قراءة في كتاب
الكتاب: الوحي و النص قراءة في المشروع المحمديالكاتب: فراس السواح
الناشر: دار التكوين للنشر و التوزيع ـ الشارقة ـ الطبعة الأولى 2024
(397 صفحة من القطع الكبير)
لقد بالغت المصادر الإسلامية القديمة في مسألة تجارة مكة مثلما بالغت في وصف الكعبة وطقوسها وآلهتها، وتبعها في ذلك الباحثون المحدثون، والكل يعتمد على سورة قريش في القرن الكريم: (لإيلافِ قُرَيْشٍ إِلَيْفِهِمْ رِحْلَةَ الشَّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ). وقد اختلف المفسرون على مدى تاريخ التفسير في معنى كلمة إيلاف، بينما تبنى معظم المحدثين رأي ابن حبيب مؤلف كتاب المحبر المتوفى عام 245هـ القائل إن الإيلاف هو ميثاق بين قريش وقبائل طريق التجارة، تتعهد فيه القبائل بحماية قوافل قريش التي تعبر أراضيهم مقابل إشراك سادتها في أرباح التجارة. أما عن رحلتي الشتاء والصيف فقد اتفق الجميع على أنهما رحلتان تجاريتان في كل عام واحدة إلى اليمن وأخرى إلى الشام على الرغم من أن السورة قالت رحلة ولم تقل "تجارة"، وهي الكلمة التي وردت عشرات المرات في النص القرآني. وهكذا نشأت أسطورة تجارة قريش والثروة التي حققتها من سيطرتها على تجارة اليمن والشام.
يقول المؤرخ التونسي هشام جعيط في كتابه السيرة النبوية الجزء الثاني: إن التجارة القوافلية كانت من قبل بأيدي اليمنيين ثم الأحباش ثم اللخميين، وبعدها آلت إلى قريش في اتجاه اليمن أولاً ثم في اتجاه سورية، عندما سيطرت على الطريق الرئيسي لتجارة البخور واللبان والمر والبهارات الهندية، الصاعد من العربية الجنوبية إلى الشام. وهذه التجارة كانت في الأساس تجارة ترانزيت، أي عابرة لبلاد العرب، ولكن القرشيين كانوا يقومون على الطريق ببعض المبادلات التجارية مع القبائل العربية. وقد قادت ثروة مكة التي جنتها من التجارة إلى تعقيد المشهد الاجتماعي؛ فهنالك الأشراف وعشائرهم من أقحاح قريش، وسلالات داخل العشائر، وموال وحلفاء وعبيد من الروم والأحباش والسريان يعملون في المهن، أي إن مكة كانت بشكل ما تلعب دور الميتروبول (= Metropolis). وبما أن التجارة لا تأخذ أكثر من شهرين في اتجاه الجنوب أو اتجاه الشمال، فإنه يتوفر لدى الأشراف وأبنائهم وقت طويل ملؤوه بالترفه والتزين، من شرب خمر وغناء واستجلاب قيان.
في هذا الكلام نموذج عن التهويل فيما يتعلق بتجارة مكة وثرائها، لا سيما عندما يقول المؤلف إن مكة كانت تؤدي دور الميتروبول، لأن كلمة الميتروبوليس اليونانية بالاستخدام الحديث تعني المدينة العظيمة التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة، والضواحي حولها مرتبطة بها، وفيها مقرات حكومية ومقرات سلطة دينية، فهل كانت مكة كذلك؟
السيرة النبوية ودور الإملاءات السياسية والمذهبية
عندما يعمل المخيال الجمعي على صياغة سيرة تأسيسية لأصول ثقافية انتقلت من البساطة إلى التركيب لابد من خضوع هذه السيرة للإملاءات السياسية والمذهبية. وهذا ما نجده بكل وضوح في السيرة النبوية، التي قام مدونوها بجمع شتات من هذه الإملاءات دون بذل جهد للتوفيق بينها، ولذلك نجد لكل مذهب أو حزب سياسي حصة فيها. فبعد وفاة الرسول بدأت الأحزاب السياسية بالتشكل عندما لم يدع الهاشميون إلى اجتماع سقيفة بني ساعدة، حيث تم اختيار خلف للرسول في إدارة الدولة الإسلامية، وما تبع ذلك من تأخر علي بن أبي طالب عن إعطاء البيعة لأبي بكر مدة أسبوع، لأنه اعتبر نفسه الأحق بالخلافة لأنه ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة، والأقرب إليه خلال حياته. ومنذ ذلك الوقت بدأ بالتشكل مصطلح أهل البيت الذي عُني به أسرة علي وفاطمة وولديهما الحسن والحسين. ثم تبعهم في ذلك أسرة العباس عم الرسول، الذين اعتبروا أنفسهم أهل البيت أيضاً. علماً بأن تعبير "أهل البيت"، بمعنى آل بيت محمد قد ورد مرة واحدة في القرآن بمعنى نساء النبي، وذلك في سورة الأحزاب حيث نجد خطاباً موجهاً إلى نساء النبي يبتدئ بقوله ينساء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ، وينتهي بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطهركم تطهيراً) الأحزاب: 32-33
عندما يعمل المخيال الجمعي على صياغة سيرة تأسيسية لأصول ثقافية انتقلت من البساطة إلى التركيب لابد من خضوع هذه السيرة للإملاءات السياسية والمذهبية. وهذا ما نجده بكل وضوح في السيرة النبوية، التي قام مدونوها بجمع شتات من هذه الإملاءات دون بذل جهد للتوفيق بينها،يقول المؤرخ فراس السواح: "عندما آلت الخلافة أخيراً إلى علي، وما تبع ذلك من أحداث الفتنة الكبرى ومعركة الجمل بينه وبين خصومه من الصحابة، ثم معركة صفين بين علي ومعاوية والي الشام، أخذت معالم عدة أحزاب سياسية بالتوضح وهي:
1 ـ شيعة علي أي الذين وقفوا إلى جانبه وناصروه وحاربوا معه.
2 ـ الحزب الأموي، وهم بنو أمية ومن ناصرهم في تحويل الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان.
3 ـ الخوارج، وهم أتباع علي الذين انشقوا عنه بعد معركة صفين لقبوله التحكيم مع معاوية وقالوا: "لا حاكم إلا الله، وأن الخلافة يجب أن تكون للأكفأ وأنه لا فضل لأحد لمجرد انتمائه بالنسب إلى النبي، لأن أكرم الناس عند الله أتقاهم (سورة الحجرات: 13)، ولأن النبي أعلن عن موقفه من الخلافة عندما قال: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى". وما عدا ذلك من أحاديث في فضل آل البيت باطل في رأيهم، وقد تجمع أربعة آلاف من هؤلاء في النهروان غير بعيد عن موقع بغداد فيما بعد، فحمل عليهم علي وأفناهم تقريباً، ولكنهم بقوا بعد ذلك مشكلة لحكام بني أمية وبني العباس، وقوة عسكرية معارضة أزعجت مقام الخلافة.
4 ـ الحزب الزبيري، وهم اتباع عبد الله بن الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر. وقد نشأ هذا الحزب بعد أن رفض عبد الله بن الزبير مبايعة يزيد بن معاوية على الخلافة، ثم أعلن نفسه خليفة بعد وفاة يزيد الذي لم يستطع إخضاعه ودانت له بلاد العرب والعراق بعد ذلك.
5 ـ وفي غمرة الصراع بين شيعة علي وبني أمية، والثورات العديدة الفاشلة للحزب الشيعي ضد بني أمية، نشأ الحزب العباسي الذي راح يدعو إلى خلافة بني العباس عم الرسول، باعتبارهم من آل البيت أيضاً.
6 ـ خلال الصراع السياسي بين هذه الأحزاب، تحول بعضها من حزب سياسي إلى طائفة مذهبية، وأخص بالذكر هنا الشيعة والخوارج فبعد استشهاد الحسين في كربلاء على يد الجيش الأموي الذي أرسله يزيد بن معاوية لقتاله، بدأ شيعة علي بالتحول إلى مذهب ديني يقوم على فكرة الإمامة، دعي فيما بعد بمذهب الشيعة الاثني عشرية. وبعد ذلك حصل انشقاق داخل المذهب الشيعي أدى إلى ظهور المذهب الإسماعيلي. كما تحول الخوارج بدورهم من جماعة سياسية إلى مذهب إسلامي مستقل اعتبر نفسه الممثل الوحيد لدين محمد وكفر غيره من المذاهب.
7 ـ في سياق العصر العباسي الأول (132-232هـ)، أخذت ملامح المذهب الأورثوذكسي الإسلامي الذي زرع بذوره بنو أمية بالتوضح، وهو المعروف تاريخياً بأهل السنة والجماعة، وتشكلت مذاهبه الفقهية الأربعة التي رفعت من شأن الحديث النبوي إلى مرتبة القرآن سواء فيما يتعلق بالعقائد أو الأحكام. وقد قال هؤلاء بأولوية النقل عن السلف في فهم النصوص. وإلى جانب أهل السنة نشأ المذهب الاعتزالي الذي يعطي الأولوية للعقل لا للنقل. ومع الاعتزال نشأ علم الكلام الذي يستخدم المنطق في معالجة المسائل الاعتقادية التي أدى الخلاف بشأنها إلى ظهور مذهب الأشاعرة واستقلاله عن أهل السنة والجماعة، على الرغم من بقاء هذين المذهبين في خندق واحد في مقابل الشيعة والمذاهب الأخرى.
وقد راح كل فريق من هذه الأحزاب والمذاهب يبحث عن مؤيدات له في الحديث والسيرة اللذين وضعا في خدمة السياسة والمذهبية، حتى صار من الصعب التمييز بين الحقيقي والمتخيل فيما يورد كل فريق(صص 100-101).
من القرآن إلى المصحف
إن بقاء الخطاب القرآني متداولاً شفوياً خلال حياة الرسول، وإلى فترة طويلة امتدت قرناً بعد وفاته، ليس حالة منعزلة في تاريخ الثقافة والدين، بل إنه حالة عامة نجدها في الثقافات الكبرى عبر التاريخ، فأسفار الفيدا وهي السجل الفكري والتاريخي والحضاري للآريين الذي هاجروا إلى الهند في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد لم تدون بلغتهم السنسكريتية إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، عندما جاء تجار هنود من آسيا الغربية بأبجدية سامية اشتقت منها حروف الهجاء السنسكريتية. وأسفار الديانة الزرادشتية مثل أناشيد الغاتا والأفيستا، لم تدون إلا بعد عدة قرون من عصر زرادشت. والملاحم اليونانية مثل الأوديسة والإلياذة، وكتاب هزيود في أصل الآلهة، أو الثيوغونيا، التي تحتوي على مقدسات الشعب اليوناني، بقيت على حالتها الشفوية مدة تزيد على الثلاثة قرون قبل أن تدون في القرن السادس قبل الميلاد، وكانت محفوظة في ذاكرة الشعراء الجوالين، مثلما كان القرآن محفوظاً في ذاكرة القراء، الذين تقول الأخبار إن 150 قارئاً منهم قــد قتلوا في حروب الردة التي شنها الخليفة أبو بكر بعد وفاة النبي، الأمر الذي جعل أبا بكر يوافق عمر بن الخطاب على جمع القرآن في مدونة، وحسم الصراع بين القائلين بضرورة بقاء الوحي في الذاكرة والقائلين بتدوينه.
بعد استشهاد الحسين في كربلاء على يد الجيش الأموي الذي أرسله يزيد بن معاوية لقتاله، بدأ شيعة علي بالتحول إلى مذهب ديني يقوم على فكرة الإمامة، دعي فيما بعد بمذهب الشيعة الاثني عشرية. وبعد ذلك حصل انشقاق داخل المذهب الشيعي أدى إلى ظهور المذهب الإسماعيلي.يسود الاضطراب أخبار عملية جمع القرآن التي أنتجت المصحف، والتي نجدها في المصادر الرئيسية التالية؛ وهي متوفرة بطبعات حديثة:
ـ أبو بكر بن أبي داود السجستاني (ت عام 316هـ)، كتاب المصاحف.
ـ ابن النديم، محمد بن إسحاق (ت) عام 483هـ)، الفهرست.
ـ بدر الدين الزركشي (ت عام 794هـ)، البرهان في علوم القرآن.
ـ جلال الدين السيوطي (ت عام 911هـ)، الاتقان في علوم القرآن.
ـ وهناك مادة متوفرة أيضاً في مصنفات الحديث.
فقد قيل إن الجمع تم في حياة الرسول بأمر منه بعد أن كان موزعاً في رق وحرير وصحف وما شابهها من مواد، وقام بذلك خمسة من الأنصار في المدينة.
وقيل إن أول من جمع القرآن علي بن أبي طالب، الذي اعتكف في بيته ثلاثة أيام بعد وفاة الرسول حتى أتم المهمة، وكان مرتباً حسب النزول. وقيل إن الجمع تم في ولاية عمر بعد أن سأل عن آية في كتاب الله، فقيل له كانت فلان الذي قتل يوم اليمامة أثناء حروب الردة، فقال: إنا الله، ثم أمر بجمع القرآن وكان أول من جمعه في مصحف. وقيل إن الجمع تم في ولاية أبي بكر بتحريض من عمر، جمعه زيد بن ثابت الأنصاري. فقد ورد في صحيح البخاري عن زيد قوله:
أرسل إلى أبو بكر الصديق يوم مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر جالس عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالمواطن الأخرى، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت فيه ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: "قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... التوبة: 128 حتى آخر السورة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر طيلة حياته، ثم عند حفصة بنت عمر راجع البخاري الحديث رقم 4986، والترمذي 3103.
يقول المؤرخ فراس السواح: "هاتان الروايتان المتناقضتان عن الجمع في ولاية أبي بكر أو ولاية عمر تنفيان رواية الجمع في حياة الرسول، كما تقدمان لنا معلومة عن جمع المادة من مصدرين هما ما دون على العسب واللخاف وغيرها من المواد، وما هو محفوظ في صدور القراء، دون أن نعرف نسبة هذه إلى تلك، فربما كان قليلها مدوناً وكثيرها محفوظاً في ذاكرة القراء، لأن عمر كان متخوفاً من حصول مقتلة كاليمامة في أماكن أخرى فيذهب كثير من القرآن. وهنا لا بد للمرء من أن يتعجب كيف تتسع العُسب واللخاف لسورة طويلة واحدة كالبقرة تتألف من 286 آية. وإني لأرجح اعتماداً على المنطق نفسه أن شيئاً لم يكن مدوناً في حياة الرسول الذي كان يعرف فضل الخطاب على النص، ولعل كل ما قيل في موضوع اتخاذ الرسول الكتاب وحي، هو من قبيل الدفاع عن مشروعية المصحف الذي أنتجه عثمان في عملية الجمع الوحيدة الموثقة لنا وفق المنطق التاريخي، وهذا ما تؤيده بعض الأخبار. فقد قال الشعبي صاحب كتاب معرفة القراء الكبار إنه لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء الأربعة إلا عثمان.
يبدو أن ما فعله عثمان بمصاحف الصحابة كان من أهم الأسباب التي أدت إلى مقتله على يد المتمردين الذين جاؤوا من مصر والعراق، وإلى عدم دفنه في مقبرة المسلمين. وعندما آل الملك إلى بني أمية جرى توسيع المقبرة حتى اشتملت على قبر عثمان.فقد قام عثمان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به. ثم شكل لجنة تحت إشراف زيد بن ثابت ضمت سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن حارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، وأمرهم بإعداد المصحف وقال لهم: ما اختلفتم فيه فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. وبناءً على تعليماته لم تكن اللجنة تقبل من القرآن شيئاً حتى يشهد عليه شاهدان، أي من جاء به ومعه شاهد آخر على صدقه. كما أرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر يطلب منها أن ترسل إليه المصحف الذي آل إليها من أبيها لمقارنته مع ما يرد إلى اللجنة، ففعلت ثم استعادته بعد الانتهاء"(ص 159).
بعد فراغ اللجنة من عملها أمر عثمان بإنتاج عدة نسخ من المصحف الإمام أرسلها إلى الأمصار، تختلف المصادر في عددها وفي الأمصار التي أرسلت إليها، وترك نسختين في المدينة وأمر بإحراق بقية المصاحف التي يحتفظ بها الصحابة. وأكثر ما نعرفه منها مصاحف عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وأبي بن كعب. وقد نجا مصحف حفصة من المحرقة ولكن إلى حين. فعندما آلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان وعين مروان بن الحكم والياً على المدينة. راح مروان يرسل إلى حفصة طالباً تسليمه المصحف فتأبى إلى أن توفيت، فأرسل من جاءه بتلك الصحف فشققت. ويبدو أن ذلك المصحف الإمام ونسخه قد ضاعت إلى الأبد، لأن أقدم المصاحف التي وصلت إلينا هي من الجيل الثاني والثالث من المصحف الإمام.
ويبدو أن ما فعله عثمان بمصاحف الصحابة كان من أهم الأسباب التي أدت إلى مقتله على يد المتمردين الذين جاؤوا من مصر والعراق، وإلى عدم دفنه في مقبرة المسلمين. وعندما آل الملك إلى بني أمية جرى توسيع المقبرة حتى اشتملت على قبر عثمان.
من المفترض بعد ذلك أن مصحف عثمان قد حقق الاستقراء للنص القرآني في أواخر العقد الثالث للهجرة، ولكنه في حقيقة الأمر لم يفعل ذلك، لأن ما وصلنا من الجيل الثاني من المصاحف، مثل طرس صنعاء تبدي اختلافات مع المصحف الذي بين أيدينا والمفترض أنه ينتمي إلى المصحف الإمام.
إقرأ أيضا: الإسلام والعصر الحديث مراجعة نقدية شاملة للموروث الديني.. كتاب جديد