الدكتور هيثم عبدالكريم الربابعة: إكذب حتى يصدقك الناس
تاريخ النشر: 2nd, August 2023 GMT
الدكتور هيثم عبدالكريم الربابعة يُعَدُّ فن الدعاية وسياسة الكذب فصلاً مهماً في فصول التاريخ الحديث، وقد اتخذ أكثر الأحيان صور مختلفة عن أسلوب الكذب الصريح، فكان الحل في أن يكون التعبير دبلوماسياً، أي يؤطر المضمون بكلمات غامضة، ولا تشير إلى معنى واضح أو إجابة محددة المعالم، لكن أسلوب الكذب والدعاية المزورة كان ملفتاً للنظر في بعض الأنظمة السياسية، وكان أشهرها على الإطلاق نظام الدعاية الإعلامية.
يُعَدُّ جوبلز وزير الدعاية النازية ورفيق أدولف هتلر أحد الأساطير في الإعلام الكاذب، وهو صاحب الشعار الشهير «اكذب حتى يصدقك الناس»، واعتمد من خلال الكذب الترويج المستمر لمنهج النازية وتطلعاتها، واستخدم الحرب النفسية لتحطيم الخصوم من الجانب الآخر. وقد أكدت ظاهرة جوبلز هذه أن إحتكار وسائل الإعلام قد يملك القول الفصل في الحروب الباردة والساخنة على المدى القصير. لكن آثارها السلبية تكون كارثية نتيجة الإفراط في إستخدامها على المدى الطويل، فالمجتمعات تفقد ثقتها في الخطاب المتشنج والأحادي حين يطول، لكن خوفها من البطش من قبل السلطة يدفعها إلى الصمت وعدم التعبير، ولو كان النظام قريباً من حافة الانهيار، وقد كان انهيار برلين فصلاً تاريخياً مهماً في فشل أسلوب الدعاية، فالأحادية ومنهج الترويج الزائف عادة ما ينتهي في صورة مروعة. كان جمال عبدالناصر والإعلامي أحمد سعيد ثنائياً آخر في فنون الحروب الدعائية واعتماد سياسية الكذب في تاريخنا العربي الحديث، فقد كان سعيد بوقاً للدعاية والدجل لأفكار الزعيم وآرائه في الآخرين، وأجاد أحمد سعيد في فنون الكذب عبر إذاعة صوت العرب عندما نقل بيانات عسكرية منسوبة لمصادر عسكرية تخبر عن انتصار ساحق لمصر وعن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية، في الوقت الذي شهدت فيه جميع الجبهات هزيمة ساحقة للجيش المصري من قبل الجيش الإسرائيلي وقصف للطائرات المصرية وهي على الأرض وقبل أن تقلع من المدارج. كانت هذه الثنائيات تعبر عن حجم الإستبداد السياسي في تلك البلاد، وعن وصول سياسة القمع إلى درجات غير مسبوقة، فقد كان وزراء الدعاية النازية يعبِّرون عن إرادة الزعيم رغماً عنهم، ولا يجرؤ أي منهم أن يحيد عن الخطاب الموجه إليه، فكانوا مجرد أبواق لدعاية إعلامية ممزوجة بالكراهية والتحريض والعنف، وتعبر عن واقع سياسي داخلي مرير، فالقمع وفرض رأي واحد فقط يثير الرعب في نفوس الآخرين. تلك كانت أحد آفات الإستبداد السياسي في عقود خلت، ومهدت الطريق إلى إجتياح غربي للحضارات المجاورة، فقد أجاد الغرب في فرض مساحة مقننة في التعبير، وحاربوا في بلادهم كل الطرق التي تؤدي إلى النازية أو الأحادية المطلقة، ولهذا قاومت الولايات المتحدة المكارثية التي كادت أن تعصف بأقوى دولة في التاريخ الحديث، فالدول التي تحظى بتعدد الآراء وتنوع العقول وإستقلالها النسبي، قادرة أكثر في الإستمرار في خط الحكمة في السياسية. السلطة العليا قدر لابد منه في المجتمعات البشرية، وضرورة ماسة لحفظ الأمن والوحدة والإستقرار في البلدان، لكن سلوكها في الحالتين السابق ذكرها خروج سافر عن التقليد الأمثل للسلطة الأعلى، وذلك عندما قرر الزعيم إنزالها إلى الشارع في مهمة تكميم الأفواه وحراسة العقول، فكانت النتيجة صمتاً إختيارياً للجميع في فصل السقوط الأخير. ختاماً كان شعار جوبلز «اكذب حتى يصدقك الناس» خاطئاً بكل ما تعنيه الكلمة، فقد أثبت خطأه عبر التاريخ مراراً وتكراراً، والصحيح هو أن لا تكذب حتى يصدقك الناس، فالمصداقية في الخطاب السياسي والإقتصادي تحظى دوماً بالإحترام، مهما كانت مختلفة في الرأي أو الرؤية العامة.
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
السبب وراء تصدُّر شيوخ السوشيال ميديا المشهد الديني.. الدكتور علي جمعة يُوضح
أجاب الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق، على سؤال حول ظاهرة شيوع المتكلمين في الدين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذين ربما لم يتلقوا التعليم الديني الصحيح في الأزهر أو على يد مشايخ معتمدين، نلاحظ أن هناك إقبالاً كبيراً على هؤلاء الذين يطلقون فتاوى وأحكاماً دينية عبر الإنترنت، بينما في المقابل نجد علماء أفنوا أعمارهم في تخصصات علمية رفيعة مثل علم الحديث، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم التفسير، ورغم ذلك لا نجد نفس الإقبال عليهم، فما العوامل التي قد تفسر هذه الظاهرة؟.
وقال عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق، خلال بودكاست "مع نور الدين"، المذاع على قناة الناس، اليوم الخميس، أن علاج ظاهرة شيوع المتكلمين في الدين عبر وسائل التواصل الاجتماعي يتطلب الغوص في أسبابها وتاريخها، لافتا إلى أن هذا يحتاج إلى استعراض الخلفية التاريخية لهذه الظاهرة التي ارتبطت بالفترة التي شهدت الاحتلال الإنجليزي لمصر في أوائل القرن العشرين، في تلك الفترة كان هناك هم كبير لدى العلماء لحل مشكلة الإسلام والخلافة التي كانت على وشك الانهيار، وظهر في هذا المقام العديد من العلماء مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، الذين حملوا هم الأمة الإسلامية في تلك الفترة التاريخية الحرجة.
وأشار الدكتور علي جمعة إلى أن السلطان عبد الحميد انتهى عام 1908، بينما كان الإنجليز في مصر والفرنسيون في الجزائر، والعراق محتل من قبل الإنجليز، وسوريا ولبنان محتلين من قبل فرنسا، موضحا أن الاستعمار كان يعتبر حالة مقيدة، حيث يشعر الإنسان أنه محتل من قِبل الغير، وهذا وضع غير مقبول على كافة الأصعدة سواء دولياً أو قانونياً أو دينياً أو اجتماعياً، وأن هذا الشعور بالاحتلال كان يدفع الشعوب إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وكان الهدف الأول في تلك المرحلة هو التخلص من الاستعمار، قبل أي شيء آخر.
وتابع الدكتور علي جمعة أنه في عام 1919 حدثت ثورة في مصر، وكذلك في عام 1916 وقعت الثورة العربية الكبرى، حيث حاول الشريف حسين تصحيح أوضاع الدولة التركية، مضيفا أن في عام 1924 حدث انهيار الخلافة العثمانية، فبدأت محاولات جديدة في مصر لإحياء الخلافة مرة أخرى. وعُقد مؤتمر الخلافة في عام 1925 في مصر، وكان الهدف منه أن تكون مصر هي التي تحمل الخلافة، ولكن التدخلات الأجنبية قد أثرت بشكل سلبي في هذه المحاولات، وبالتالي فشلت تلك المبادرات، وهذه الأوضاع المشحونة جعلت الناس يبحثون عن حلول بديلة لا علاقة لها بالعلم الشرعي، بل تركزت جهودهم في التخلص من الاحتلال.
وأوضح أن مؤتمر الخلافة الذي عقد في الهند عام 1926، حيث حضر فيه علماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي لم يتناول الموضوعات الحقيقية التي كانت تؤرق الأمة في تلك الفترة، بل كان يركز على ما لا علاقة له بالمصائب التي كانت الأمة تمر بها، مثل انهيار الدولة العثمانية وتفتتها، بل بدأ تطبيق اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916 بشكل تدريجي، مما أسفر عن تغييرات جذرية في شكل النظام السياسي للدول العربية، وأن هذه التحولات أدت إلى حالة من الفوضى الفكرية في الأمة الإسلامية، حيث كان التركيز في تلك الفترة على التخلص من الاستعمار بشكل مباشر دون الاهتمام الحقيقي بالعلم.
وأشار الدكتور علي جمعة إلى دور الشيخ محمد رشيد رضا في إنشاء معهد المنار في ذلك الوقت، الذي كان يهدف إلى تدريب الدعاة على مواجهة الاحتلال، ولكن هذا المعهد جذب إليه أفرادًا لم يتلقوا التعليم الأزهرى التقليدي أو الأكاديمي المعتمد، مما أدى إلى ظهور فكر غير علمي في بعض الأحيان، حيث بدأ يتصدر بعض هؤلاء الدعاة العلم وهم بعيدون عن المناهج العلمية الأزهرية الرصينة التي كانت تأخذ وقتًا طويلًا وتلتزم بمنهجية دقيقة، مؤكدا أن هذا التدريس السريع دون اهتمام بالأبعاد العلمية السليمة أنتج جيلًا من المتصدرين للعلم دون تأصيل علمي حقيقي.
وأضاف الدكتور علي جمعة أن هذه المحاولات من الشيخ رشيد رضا لتدريب الدعاة في فترة قصيرة وبدون اهتمام كافٍ بالجوانب العلمية أثرت بشكل سلبي على الفكر الديني، حيث لم تكن هذه المحاولات تركز على تعليم المتلقين بشكل عميق وإنما كانت تهدف إلى تعليمهم كيفية مقاومة الاحتلال وتحفيزهم بشكل سريع، ولكن ذلك تم على حساب الدراسات الأزهرية الرصينة التي كانت تأخذ وقتًا طويلاً في التحصيل وتتميز بالدقة والتمحيص العلمي.
وتابع أن هذه المحاولات لتدريب الأفراد على التدريس والحديث على المنابر في فترة قصيرة عبر "التيك أوي" أنتجت أفكارًا غريبة غير علمية، مثل تلك التي ظهرت من محمد أبو زيد الدمنهوري الذي ألف كتابًا بعنوان "العرفان في تفسير القرآن"، والذي أنكر فيه المعجزات والميراث والحدود وغيرها من الأمور الدينية الأساسية، مضيفا أن هذه الكتب كان لها تأثير ضار على الفكر الديني السليم، وأن الشيخ الذهبي في كتابه "التفسير والمفسرون" تحدث عن هذا الكتاب بشكل خاص واعتبره تفسيرًا ملحدًا للقرآن.
وأخيرًا، أشار الدكتور علي جمعة إلى أن محمد أبو زيد كان قد تعرض للعديد من القضايا القانونية نتيجة أفكاره الغريبة، حيث تم سحب الكتاب من الأسواق ولم يعد له أي وجود إلا في دار الكتب المصرية، واعتبر أنه مثال على التفسير غير الصحيح للقرآن، الذي ينقض كل الأسس التي قام عليها فهم الشريعة الإسلامية.