حسن احمد عبدالله بعد 97 سنة على وضع اول دستور لبناني، يبدو المشهد الذي تنبأ به المفكر ميشال شيحا واقعا اليوم، في ظل الفوضى التي تعم البلاد جراء تمسك كل فريق بمواقفه التي هي في الاساس مواقف شخصية ومصلحة للقيمين على اطراف النزاع. اذ حين انتهى رئيس لجنة وضع الدستور، ميشال شيحا، قال: “يا سادة هذا دستور لبنان المكتوب، أما دستوره الحقيقي غير المكتوب فهو إن لبنان لا يُحكم إلاّ بالتسويات وأنصاف الحلول”.

 وما اكد هذه القاعدة ان طوال نحو 30 ثلاثين سنة، بعد وضع الدستور موضع التنفيذ جرت اول هزة، او بالاحرى خضع البلد لامتحان عنف دموي، تمثل في ما عرف لاحقا بـ”ثورة 1958″، التي انتهت الى “لا غالب ولا مغلوب”، لان فعلا البلد لا يحكم الا بالتسويات. وعندما وضع المفكر السياسي الهولندي أرنت ليبهارت نظرية “الديمقراطية التوافقية” في سبعينيات القرن الماضي، كانت بعض الدول في العالم تسير على هذا النسق، غير ان لبنان كان دائما يخرج على هذا المبدأ لان هناك من رأى في الانعزال فرصة له للهيمنة واعلاء شأن الخاص على العام، من خلال الاستحواذ الطائفي في مجتمع مركَبة متجانسة اجتماعيّاً، لكنه يختلف طائفيا، لهذا فان بحاجة الى العمل بمبدأ الوفاق والتنافس بين شرائح المجتمع المتعددة يقوم على مبدأ التكافؤ الاقتصادي والاجتماعي، وتحييد الطائفة عن السياسة، لان وفقا لميشال شيحا فان “كل ما تربحه الفكرة الطائفية تخسره الامة، وبالتالي لا يحكم لبنان إلا بالتوافق والتوازنات، لانهما هما يوطّدِان العيش المشترك بين اللبنانيين”. اليوم، وجراء فشل التيارات والاحزاب كافة في خلق قاسم مشترك يمكن ان يدفع باتجاه اعادة احياء المؤسسات والخروج من دائرة الافقار والجريمة، والتفلت الامني، لان الجميع اتجه الى الخارج لطلب المساعدة باستقواء على الاخر في الداخل، وهو وضع موروث منذ العام 1958، وتبلور في العام 1969 مع اول تنازل طوعي عن السيادة اللبنانية في ما سمي “اتفاق القاهرة”، وما تبعه من استنجاد بالعدو من اجل تغلب فئة على اخر، فكان اتفاق 17 ايار/ مايو 1983 العنوان الابرز للتغيرات الكبرى في لبنان، وما تبعه من ممارسات الاحتلال الاسرائيلي التي وسعت الهوة بين المكونات الاجتماعية، وهو ما اثر لاحقا على المجتمع الذي وجد نفسها يعيش انقساما عموديا، استمرت بتغذيته اطراف داخلية، ووصل الى حد المطالبة بالتقسيم. صحيح ان هذا الامر كان موجودا في ادبيات بعض الاحزاب اللبنانية التي وصلت الى الحائط المسدود جراء المتغيرات الاقتصادية والجغرافية التي شهدها لبنان خلال الحرب الاهلية، لكنها حاولت تغييب هذه الفكرة، غير انها اليوم عادت اليها بسبب عدم وجود مشروع وطني جامع. لهذا ما يشهده لبنان من فوضى، انما هي في الواقع نتيجة لغياب مشاريع وطنية حقيقية، لا تكون مغلفة بالشعارات الوطنية، انما مضمونها طائفي بحت، لهذا مثلا انقسم اللبنانيون في التعاطي مع العدو، ايا كان هذا العدو، لان وفقا  لمقولة عبدالرحمن بن خلدون “الناس على دين ملوكها”، وكما في المثل اللبناني “نحن مع الامير بشير مش مع الباذنجان”، فما رسخ الاقطاع والزبائنية في المجتمع طغى على مفهوم المواطنة والدولة، ولهذا لاخلاص للبنان اليوم الا بالعودة الى ما قاله ميشال شيحا قبل 97 سنة، طالما ان الجميع يعمل بالمثل الشعبي “حسب السوق سوق”، وهذه طامة المجتمع التي تربى على الزبائنية، ولم بترب على المواطنة. كاتب وصحافي لبناني

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

هل تبدأ دولة المواطنة من خطابٍ تتبناه أقليّة سياسية منفيّة؟

هل تبدأ دولة المواطنة من خطابٍ تتبناه أقليّة سياسية منفيّة؟ في ظل الوضع الراهن في السودان، تبرز تساؤلات جوهرية حول إمكانية بناء دولة المواطنة من خلال خطاب تتبناه أقليّة سياسية، سواء كانت منفية خارج حدود الوطن أو داخل أسوار سلطات الأمر الواقع وسجونها. هذه التساؤلات تفتح الباب أمام نقاش عميق حول فعالية الخطاب الوطني الديمقراطي الليبرالي في مواجهة الخطابات الدينية والطائفية التي تسيطر على المشهد السياسي.
الخطاب الوطني الديمقراطي الليبرالي في مواجهة الخطابات الدينية والطائفية يستخدم المشروع خطاباً عفناً من مجاهل الغيب والتاريخ، وكلّ واحد منهما يعرف أنّ هذا النهج سيؤدي في النتيجة إلى نشوء خطاب مقابل، بل إلى تقوية الخطاب المقابل الموجود أصلاً والذي يحيل الصراع بدوره إلى حروب وجودٍ أسبابها دينية أو طائفية. في هذا السياق، يبرز السؤال: هل يقوى الخطاب الوطني الديمقراطي الليبرالي على مواجهة هذه الخطابات الدينية والطائفية؟
قوة خطاب العقلانية الأعزل هل يمكن لخطاب العقلانية الأعزل مثل طرح تقدم أو الطريق الثلاث مجرد من كل سلاح وعتاد عدا الكلمة أن يقاوم جيوشاً وأنظمة مدجّجة حتى أسنانها بكل ما هو فتّاك؟ وكيف السبيل إلى خلق واقعٍ ديمقراطي ليبرالي ما دام الديمقراطيون من الرجال والنساء أقليّة مسحوقة في السودان الخاوي على عروشه؟
الفعل والكلام و من أين يبدأ التغيير؟ هل يبدأ الفعلُ من الكلام والمبادئ والقيم، أم من السلطة التي تتحكم في الأرض وترسم الحدود وتضع القوانين والأنظمة وتطبقها وتحتكر العنف أو توزّعه بما يؤدي في النتيجة إلى شرعنة عنفها؟ هل تبدأ دولة المواطنة من خطابٍ تتبناه أقليّة سياسية منفيّة خارج حدود الوطن أو داخل أسوار تحت سلطات الأمر الواقع وداخل سجونها؟
اتحاد القوى الديمقراطية الواقع والمتخيّل , هل يمكن لاتحاد هذه القوى والشخصيات الديمقراطية أن توجِد واقعاً من المتخيّل والمأمول؟ وبعيداً عن الشعارات والبيانات المُستهلكة أو الاستقواء بالعسكر أو الحركات المسلحة أو إنشاء مليشيات، علينا كساسة أن نبدأ في أفهام الشباب بأن التعايش السلمي حتمي وحقيقة لابد أن يتم التعاطي معها بعقلانية.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً حول كيفية تحقيق دولة المواطنة في السودان. هل يمكن للخطاب الوطني الديمقراطي الليبرالي أن يواجه التحديات الدينية والطائفية؟ وهل يمكن لاتحاد القوى الديمقراطية أن يخلق واقعاً جديداً؟ الإجابة تكمن في قدرة السودانيين على التعايش السلمي والتعاطي مع الواقع بعقلانية، بعيداً عن الشعارات الفارغة والاعتماد على القوة العسكرية.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • غياب بايدن وميلوني عن صورة قمة العشرين: الفوضى تتصدر المشهد
  • قصة تسمية اليوم العالمي للرجل.. عندما أراد طبيب أن يحتفي بوالده
  • المولوي: الغارات التي تطالُ بيروت إجرامية ولبنان لا يقبل بانتهاك سيادته
  • «الفوضى الخلاقة».. إسرائيل ومحاولة فرض نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط
  • هل تبدأ دولة المواطنة من خطابٍ تتبناه أقليّة سياسية منفيّة؟
  • حادث المطار تابع...قليل من التضخيم يفرح قلب المتعطشين لهيبة الدولة
  • محافظ المنوفية يلتقى حالة انسانية من ذوى الهمم
  • ” عندما يكون الفن القوة التي تتحكم في التعايش السلمي ونبذ الاعراف البالية “فصلية “
  • استئناف 4 مهتمين على إعدامهم في خطف شاب وقتــ.له بأبو النمرس اليوم
  • اليوم.. عرض فيلم "مالدورور" ضمن المسابقة الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي