تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

واحدة من الإشكاليات التى تواجه الباحثين الجدد فى مجال الدراسات الإسلامية، وربما حال اعتراض أحد هؤلاء الباحثين على فكرة أو مفهوم الإجماع تجعله فى مرمى نيران الجماعات المتشددة على اختلاف مشاربها.. ليس هذا فقط بل أيضا فى مرمى نيران الكثير من مؤسساتنا الدينية، وبينما جاء القرآن مؤكدًا على الفردية ومسئولية الفرد عن أفعاله، وأنه المسئول الأول أمام الله فى الدنيا والآخرة عما اقترف أى أن الله لن يسأل أولى الأمر عنا ولكن سنحاسب كأفراد، فيقول تعالى: “فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ”  (الأنعام:١٠٤)، “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ” (فاطر:١٨)، “مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا” (فصلت:٤٦).

بل ويؤكد القرآن على عدم احتياج الفرد للوصاية بل على العكس فقد كشف القرآن أن الوصاية وإتباع الفرد للجماعة أو الأوصياء يكون فى بعض الأوقات طريق للهلاك، فيقول تعالى “وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا” (الأحزاب:٦٧)، “إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ” (البقرة:١٦٦)، “إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا” (الجاثية:١٩).

ولكن المنظومة الفقهية على طرف النقيض من الرؤية القرآنية، فالمنظومة الفقهية لا تعترف إلا بالجماعة والتى يكون الفقهاء على رأسها يشكلون سلطة على العامة تأبى الخلاف من ناحية وتريد تعميم أحكامها على المجتمع والناس من ناحية أخرى.

وسلطة الفقهاء تستند إلى المفهوم الإشكالى إلى أبعد الحدود وهو مفهوم الإجماع، فالإجماع هو سلطة جماعة الفقهاء، سلطة تتجاهل الفردية والفرد ولا تراه إلا جزءًا من الجماعة، ولا يقف الأمر عند حد التجاهل بل يتم سلب الفرد حقه فى المشاركة فى العملية التشريعية استنادا إلى تلك السلطة. 

ومن أهم من ناقش هذا المفهوم الإشكالي فى عصرنا الحديث الشيخ على عبد الرازق الذى اشتهر بكتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذى يرى البعض أنه يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، بينما يرى البعض الآخر أنه أثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة فى الإسلام، بل ترك الله الحرية فى كتابه للمسلمين فى إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة، والكتاب أثار ضجة بسبب آرائه فى موقف الإسلام من "الخلافة" حيث نُشِر الكتاب فى نفس فترة سقوط الخلافة العثمانية وبداية الدولة الأتاتركية، بينما كان يتصارع ملوك العرب على لقب "الخليفة"؛ رد عليه عدد من العلماء من أهمهم الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر بكتاب "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم" ثم سحب منه الأزهر شهادة العالمية، وهو ما اعتبره الكثير من المفكرين ردًا سياسيا من الملك فؤاد الأول ملك مصر وقتئذ، وشن حملة على رأيه.

وأصدر الشيخ على عبد الرازق كتابًا آخر يناقش فيه قضية من أهم قضايا الفقه الإسلامى وهى قضية "الإجماع"، والذى يعد المصدر الثالث للتشريع الإسلامى بعد القرآن والسنة.

حيث اختلف الأصوليون فى تعريف الإجماع اصطلاحًا تبعًا لاختلافهم فى كثير من مسائل الإجماع المتعلقة بأركانه وشروطه وأحكامه.

والتعريف المختار أن الإجماع هو: اتفاق مجتهدى الأمة، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى عصر على أى أمر كان.

وحسب الشيخ على عبد الرازق لكى يتضح هذا التعريف فلا بد من شرحه وذكر محترزاته:
فاتفاق معناه: الاشتراك فى الرأى أو الاعتقاد، سواء دلّ عليه الجميع بأقوالهم جميعًا، أو بأفعالهم جميعًا، أو بقول بعضهم وفعل بعض، وهذا كله يسمى بالإجماع الصريح، أو بقول بعض أو فعله مع سكوت بعض آخر، وهذا يسمى بالإجماع السكوتي، وبهذا يكون التعريف شاملًا لقسمى الإجماع: الصريح والسكوتي.

أما مجتهدو الأمة، فالمجتهد: هو الذى يبذل وُسعه فى طلب الظن بحكم شرعى على وجه يُحس معه بالعجز عن المزيد عليه.

والأمة: هى الطائفة من الناس تجمعها رابطة، والمراد بها: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: أتباعه المؤمنون به فى أى زمان، وهم أمة الإجابة لا أمة الدعوة.
وقد خرج باتفاق مجتهدى الأمة: 
١-     اتفاق المقلدين والعوامّ؛ فإنه لا يعد إجماعًا شرعيًا.
٢-     اتفاق بعض المجتهدين؛ فإنه لا يعد إجماعًا.
٣-    اتفاق مجتهدى غير هذه الأمة.

ليس هذا فقط بل يقوم الشيخ على عبد الرازق على امتداد صفحات الكتاب بعرض الآراء المختلفة للعلماء فى ذات الموضوع، فيسوق آراء وحجج من أنكر إمكان الإجماع ويناقشها ويقدم لحججهم مستدعيا كلمة الإمام أحمد بن حنبل ومقولته المشهورة: من ادعى الإجماع فهو كاذب. ليوضح أنه ليس مراده بها نفى وقوع الإجماع أو حجيته قطعًا؛ لكون الإمام يحتج به، ويستدل به فى كثير من الأحيان، وقد حملها العلماء على عدة أوجه، ومن أحسنها: أنه قال ذلك على سبيل الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو أنه قال ذلك فى حق من ليس له من معرفة بخلاف السلف، ويدل لذلك تتمة كلامه السابق حيث يقول: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسى والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، إذا هو لم يبلغه.. أى إذا لم يبلغه فى المسألة خلاف.

لا خلاف بين العلماء فى وقوع الإجماع على الأحكام التى تعلم من الدين بالضرورة، ولكن وقع الخلاف فى وقوع الإجماع فى الأحكام الظنية، على مذهبين:

المذهب الأول: إمكان وقوع الإجماع فيها، وإلى هذا ذهب الجمهور، وهو الصحيح، وليس أدل على ذلك من الوقوع، وأمثلة وقوع الإجماع كثيرة، مثل الإجماع على تقديم الدَّيْن على الوصية، وحرمة شحم الخنزير كلحمه، والإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه أو طعمه أو رائحته بنجاسة، لا يجوز الوضوء منه.

المذهب الثاني: أن هذا الإجماع مستحيل الوقوع، وذهب إليه النظام المعتزلي، وإمام الحرمين، وكثير من المعاصرين، واستدل لأصحاب هذا المذهب على ذلك بأن أهل الإجماع قد انتشروا فى مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الانتشار يمنع نقل الحكم، منهم وإليهم عادة، وإذا امتنع نقل الحكم امتنع الاتفاق منهم على حكم معين، ويجاب عن ذلك بأن أهل الإجماع عدد قليل معروفون بأعيانهم، وهم المجتهدون، وعليه فيمكن أن تنقل الواقعة إلى جميعهم، ويستطلع رأيهم فيها.

نستخلص مما تقدم وما يريد قوله الشيخ على عبد الرازق أن الإجماع كمصدر مهم من مصادر التشريع الإسلامى به خلاف بين العلماء فى معظم جوانبه بداية من تعريفه وانتهاء بوجوبه والاستناد إليه.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: إسلامية الشريعة الإسلامية دين الإجماع الشيخ على عبد الرازق الشیخ على عبد الرازق

إقرأ أيضاً:

الشيخ كمال الخطيب يكتب .. في ذكرى الإسراء والمعراج: لا لن نسوّد وجهك يا رسول الله

#سواليف

في #ذكرى_الإسراء_والمعراج: لا لن نسوّد وجهك يا #رسول_الله

أيام قليلة وبضع ليال هي التي تفصلنا عن أنوار الليلة المباركة والذكرى الحبيبة ليلة الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين من رجب والتي ستكون ليلة الإثنين القريب. إنها الليلة التي فيها اختلّت حسابات المسافات والجغرافيا وقد أكرم الله تعالى فيها حبيبه محمدًا ﷺ بالضيافة المباركة والوصال الميمون في رحلة ابتدأت من مكة المكرمة في محطتها الأولى، وصولًا إلى القدس الشريف في محطتها الثانية، وصولًا إلى السماء السابعة في محطتها الثالثة، ثم الرجوع والعودة إلى مكة، ويحدث كل ذلك وفراشه ﷺ ما يزال دافئًا {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} آية 1 سورة الإسراء، {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ*فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ*مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ*أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ*وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ*عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ*عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ} آية 8-15 سورة النجم.

جاءت ليلة الإسراء والمعراج ليلة المواساة والمؤازرة من الله تعالى لحبيبه ومصطفاه محمد ﷺ بعد أشجان وأحزان، بعد هموم وبلاء، بعد بكاء ورجاء ودعاء. جاءت بعد مشوار حافل بمحطات من الحزن والوجع امتدت سنة كاملة من حياته ﷺ، كان أبرز هذه المحطات والأوجاع رحيل الزوجة الوفية خديجة رضي الله عنها وموت السند والظهير والنصير عمه أبو طالب. وكانت ذروة الأحزان والآلام بما وقع لرسول الله ﷺ من ظلم أهل الطائف لمّا ذهب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فكانت تلك الزفرات: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس”.

مقالات ذات صلة توقعات بالإفراج عن زكريا الزبيدي ضمن المرحلة الثانية من التبادل 2025/01/24

عندما يرقص البراق فرحًا

كانت السلوى من الله تعالى لرسوله ﷺ تعويضًا عمّا لاقاه من ذوي القربى في مكة، ومن أهل الطائف الذين تطاولوا عليه وأغلقوا في وجهه الأبواب. وإذا بها القلوب تفتح له في المسجد الأقصى المبارك ممن هم أكرم عند الله وأشرف من أهل الطائف ومكة بل ومن أهل الأرض جميعًا. إنهم رسل الله وأنبياؤه الذين استقبلوه في المسجد الأقصى المبارك، بل الذين تشرّفوا أن يكون هو إمامهم في الصلاة بالمسجد الأقصى المبارك مع أنه كان آخرهم بعثة ورسالة: “فلمّا دخل النبي ﷺ المسجد الأقصى قام يصلي فالتفت ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلّون معه”. وفي رواية أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله ﷺ بعد أن قدّمه للصلاة إمامًا: “يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال: لا يا جبريل. قال: صلى خلفك كل نبيّ بعثه الله”.

ومن دلالات ومعاني إمامة النبي ﷺ بالأنبياء ما أورده الأستاذ مخلص برزق في كتابه “الأقصى قرة عين النبي وأمته”:

اعتراف وإقرار من الأنبياء عليهم السلام بمكانته وفضله ﷺ عند ربه سبحانه، وأنه سيّد المرسلين وأفضل الخلق أجمعين، وأنه إمامهم في التبليغ عن الله وهداية البشر لعبادة الله الواحد جلّ جلاله.

وأن تلك الصلاة التي صلّى بها إمامًا بالأنبياء، فإنها كانت بمثابة صكّ وإعلان براءة الأنبياء من أتباعهم وأقوامهم إذا هم لم يدخلوا في الإسلام ولم يتبعوا محمدًا ﷺ ولم يتّخذوه إمامًا وقائدًا وهاديًا، وإذا لم يتّخذوا كتابه الذي أنزل عليه دستورًا ومنهاجًا وسائقًا إلى الجنة.

ومن الدلالات كذلك، تسليم الأنبياء والمرسلين مفاتيح الأرض المباركة لمحمد ﷺ، فمعظم هؤلاء الأنبياء قد عاشوا في هذه الأرض فكأنهم جاؤوا واجتمعوا في تلك الليلة في المسجد الأقصى لمبايعة رسول الله ﷺ، وليوكلوا أمته من بعده ويعهدوا إليهم ويأتمنوهم على بيت المقدس وأكنافه، وأنها ملك خالص لهم.

فإذا كان هذا هو مشهد استقبال أهل الأرض وهم الأنبياء أشرف خلق الله لرسول الله ﷺ، فكيف سيكون مشهد استقبال وترحيب أهل السماء به ﷺ، فقد ورد في الحديث الشريف: “فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء”.

وقبل استقبال أهل الأرض وأهل السماء فقد كان ذلك اللقاء الذي جمع بين رسول الله ﷺ ومعه البراق، فقد ورد في الحديث الشريف أن النبي ﷺ قد أُتي بالبراق ليلة أسري به ملجمًا مسرجًا فاستصعب عليه -تمنع- فقال له جبريل عليه السلام: أبمحمد تفعل هذا؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه. قال: فارفضّ البراق عرقًا أي تصبب عرقًا إكرامًا وإجلالًا لرسول الله ﷺ. وفي رواية أن البراق أخذ يهرول ويرقص ولا ينقاد ولا يجلس بسكينة لما أصابه من الفرح والطرب لأن الذي سيركبه ليس إلا سيّد الخلق وسيّد ولد بني آدم ﷺ، وهذه حالة تصيب الخيل عندما يصيبها الزهوّ والنشوة، بل إنها تصيب الإنسان عندما يفرح فرحًا شديدًا فيهتزّ ويتمايل نشوة وسرورًا. ولذلك يقال عن فلان أنه يكاد يطير من الفرح، قال رسول الله ﷺ: “فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين”. قال ابن أبي حمزة: “كان بقدرة الله عزّ وجل أن يُصعِد رسوله إليه بنفسه من غير براق ولكن ركوب البراق كان زيادة في تشريفه، لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش والراكب أعزّ وأكرم من الماشي.

المسجد الأقصى يوقد الشعلة

مثلما أن الله سبحانه كان قادرًا أن يوصل رسوله ﷺ إلى السماوات العلا من غير أن يركب البراق، ولكن الله أراد أن يعزّه ويكرمه بالركوب، فمثلها تمامًا أن الله سبحانه كان قادرًا على وصول حبيبه محمد ﷺ من مكة إلى السماء السابعة من غير أن تكون له محطة هي القدس الشريف.

لكن الله تبارك وتعالى أراد زيادة تكريم ومباركة للمسجد الأقصى ببركة وكرامة محمد ﷺ وأراد سبحانه أن يبارك محمدًا ﷺ ببركة المسجد الأقصى المبارك، لا بل إن الله تعالى أراد أن يجعل من المسجد الأقصى المبارك محطة للتزوّد والشحن لرسول الله ﷺ قبل انطلاق رحلة المعراج، تمامًا مثلما جعل الله تعالى المسجد الأقصى المبارك محطة لشحن الأمة وتزويدها بالروح المعنوية والعزة والكبرياء.

نعم إنه المسجد الأقصى المبارك الذي كلّما نزل بالأمة نازلة وكان الناس يسقطون في أتون الذلّ والهوان واليأس، وإذا بها نفحات المجد والعزّ والكرامة تنبعث من المسجد الأقصى المبارك وما حوله لتنبعث في الأمة الحياة من جديد. قال رسول الله ﷺ: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم، وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، فقال الصحابة: أين هم يا رسول الله؟ قال بأكناف بيت المقدس”. وقال ﷺ: “لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس”. إنهم الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم. إنهم مثل أشجار الزيتون تجذّرًا وصلابة، ومثل زيتها ينيرون للأمة ليلها ويبددون عتمتها. كان بشر الحافي يقول: “ما بقي من لذّات الدنيا إلا أن أستلقي على جنبي تحت السماء بجامع بيت المقدس. وقد قيل له: لمَ يفرح الصالحون ببيت المقدس؟ فقال: لأنها تذهب الهمّ ولا تستعلي النفس بها”.

بكى صفرونيوس وسيبكي غيره

إنه المسجد الأقصى المبارك الذي تحددت هويته ونسبه من يوم أن وضعه الله في الأرض بعد المسجد الحرام بأربعين سنة، ثم تأكدت هذه الهوية بإمامة النبي ﷺ إمامًا بالأنبياء فيه، وأكد هذا النسب صفرونيوس بطريرك الروم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد بكى وهو يسلّم المفاتيح لعمر، فسأله عمر عن سبب بكائه، فقال: “والله ما على زوال الملك بكيت ولكنني أبكي لأني أعلم أن ملككم عليه سيظلّ أبد الدهر يرقّ ولا ينقطع”. ومن يومها إلى يومنا هذا فإن هوية القدس كانت واضحة وأنها مدينة يبوسية عربية إسلامية، وكانت دائمًا تحت سيادة المسلمين منذ الفتح الإسلامي إلا في فترتين، الأولى: حينما وقعت تحت الاحتلال الصليبي بين العام 1099-1187، والثانية: لمّا وقعت تحت الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967 وحتى يومنا

هذا كان يومًا حزينًا يوم الجمعة 15 تموز 1099 وفق 23 شعبان 492 هـ، اليوم الذي دخلت فيه جحافل الصليبيين بلاد الشام واحتلوا القدس والأقصى بعد أن انسحبت من القدس الحامية المصرية الفاطمية في موقف خيانة مشبوه وليس أقلّ من ذلك.

قال مجير الدين الحنبلي في وصف ذلك الاحتلال: -قصد الإفرنج بيت المقدس في “ألف ألف مقاتل”- أي مليون من الجنود، وقد حاصروا بيت المقدس لنيّف وأربعين يومًا ودخلوها ضحى يوم الجمعة، وقد قتلوا في ساحات المسجد الأقصى سبعين ألف مسلم، وتوقف الأذان وتعطلت الصلاة ورُفع الصليب بدل الهلال، وحولوا المسجد القبلي اسطبلًا.

استمر هذا الحال على ما هو عليه حتى هيأ الله تعالى للمسجد الأقصى قادة سعوا لنيل شرف تحريره وتطهيره من رجس الصليبيين، فكان عماد الدين زنكي ثم كان ابنه نور الدين محمود زنكي الذي أمر ببناء منبر في مدينة حلب للمسجد الأقصى المبارك ليكون هديته له يوم تحريره، ثم كان صلاح الدين الأيوبي وهو الذي ولد بعد احتلال الأقصى بأربعين سنة ولم يكن قد كحّل عينيه برؤيته من قبل ولا قرّت عيناه بسجدة فيه، لكن ذلك لم يمنعه أبدًا بل إنه الذي زاده إصرارًا وقد حرّم على نفسه الضحك حتى يحرره ويطرد منه فلول الصليبيين، وكان له ما أراد رحمه الله. وكان مشروع تحرير الأقصى قد شارك فيه أبناء الأمة الإسلامية القادمون من المغرب والعراق ومصر والشام. وكان الدور الأبرز قبل التحرير لأهل الموصل في العراق الذين كانوا يسمون بـ “النفّاطة” لأنهم أتوا معهم بتراب من تراب منطقة الموصل وكان مخلوطًا بمادة سريعة الاشتعال، النفط، فكانوا يصنعون منه رمايات يقذفونها بالمنجنيق، ساهمت بشكل مباشر في كسر إرادة الصليبيين وهزيمتهم وفك الحصار عن المسجد الأقصى.

وإذا كان دور أهل الموصل بارزًا قبل الفتح والتحرير، فقد كان الدور بعد التحرير للمغاربة الذين وقفوا أبطالًا حراسًا حول المسجد الأقصى خشية أن يرجع الصليبيون لمحاولة احتلاله، وسُميّ الباب الذي كانوا عنده باب المغاربة.

من سيعطّر ويطيّب المسجد الأقصى

احتل الصليبيون المسجد الأقصى ضحى يوم الجمعة، وشاء الله تعالى أن يتحرر المسجد الأقصى من الاحتلال الصليبي ضحى يوم الجمعة 27 رجب 83 هـ وفق 20/10/1187 م، وقد أمضى صلاح الدين وجنوده أسبوعًا كاملًا في تنظيف وتطهير المسجد الأقصى المبارك من رجس وأدران الصليبيين. وكان صلاح الدين يطيّب بيديه المسجد القبلي ومسجد قبة الصخرة بعطر الورد كانت أرسلته إليه نساء مدينة ديار بكر الكردية وقد أوصينه أن يطيّب به المسجد الأقصى بعد التحرير.

ولقد تشرّفت قبل 14عامًا بزيارة مدينة ديار بكر جنوب شرق تركيا حيث أكثرية سكانها من الإخوة الأكراد، وقد حدثني أحد الإخوة القائمين على النشاطات وترتيب الجولة الدعوية التي قمنا بها، أن مجموعة من النساء هناك قد أعددن كميات من عطر ماء الورد يطيّبن به المسجد الأقصى بعد خلاصه من الاحتلال الصهيوني.

فلمّا كان يوم الجمعة بعد الفتح إلا وصلاح الدين يقدّم لخطبة الجمعة والفتح في المسجد الأقصى القاضي والخطيب ابن الزكي الدمشقي لأنه هو صاحب بشارة فتح المسجد الأقصى لما قال بعد تحرير حلب قبل تحرير القدس بأربع سنوات:

وفتحكم حلبًا بالسيف في صفر مبشّر بافتتاح القدس في رجب

وكان أن حقق الله بشارته وفُتحت القدس والأقصى في ليلة الإسراء والمعراج ليلة 27 رجب، وكانت خطبة ابن الزكي خطبة مؤثرة ومميزة وقد امتلأت ساحات المسجد الأقصى بجموع المسلمين وبكت العيون من شدة الفرح وخشعت الأصوات ووجدت القلوب وقد استهلها الخطيب ابن زكي بقول الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ۚ وَٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}

وها هي حلب الشهباء وقد تحرّرت من حاكم ظالم من طائفة النصيريين العميلة لأعداء الأمة، مثلما تحرّرت يومها من حكامها الفاسدين أعوان الصليبيين.

ومثلما كان تحرير حلب يومها مبشّرًا بافتتاح القدس والأقصى، فبإذن الله تعالى سيكون تحرير حلب هذه الأيام مبشّرًا بخلاص القدس والمسجد الأقصى المباركين.

لن نسوّد وجهك يا رسول الله

ها نحن نعيش أفياء ذكرى الإسراء والمعراج حيث يعيش المسجد الأقصى المبارك محنته الثانية منذ الفتح العمري، وقد كانت محنته الأولى بالاحتلال الصليبي، وها هي محنته الثانية بالاحتلال الصهيوني له. إنه المسجد الأقصى المبارك الذي ما تزال تحاك ضده المؤامرات السوداء التي تهدف إلى هدمه وبناء هيكل مزعوم على أنقاضه.

وليس أننا نحن من حذّرنا فقط من هذه المشاريع السوداء والسياسات الرعناء الطائشة، بل إنها قيادات سياسية وأمنية إسرائيلية حذّرت من هذه السياسات المتطرفة والتي يمكن أن تقود إلى حرب دينية قد تقوّض أركان المشروع الصهيوني برمته، لكن يبدو أن صرخات التحذير هذه لم تلقَ آذانًا صاغية عند حكومة يمينية هي التي تؤجج الصراع الديني، وهي من تصب الزيت على نار الصراع المتأجج أصلًا والتي استغلت أحداث 7 أكتوبر 2023 لفرض مزيد من الحصار والتضييق والتدنيس للمسجد الأقصى المبارك.

إنه المسجد الأقصى المبارك مسرى رسول الله ﷺ ومعراجه أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، هو حق خالص لنا نحن المسلمين وليس لغير المسلمين لا لليهود ولا لغيرهم حق ولو في ذرة تراب فيه.

وإذا كان رسول الله ﷺ قد قال في الحديث الذي رواه ابن ماجة في صحيحه: “ألا وإني فَرطكم على الحوض، مكاثر بكم الأمم فلا تسوّدوا وجهي”. [فرطكم -أي أسير في مقدمتكم]

وكيف نسوّد وجهك يا صاحب الوجه الأبيض والأكرم والأنور، ونحن الذين أحببناك واتبعناك دون أن نراك.

بكل بساطة يهواك قلبي وروحي والهواجس والخواطر

وأعرف أن مثلي ليس أهلًا لمدحك غير أن الوجه ساحر

فحقّ لنا أن نفاخر بك وإننا من أتباعك، وحقّ لك أن تفاخر بنا يا رسول الله ونحن الذين عاهدناك ألا نسوّد وجهك، وأن نظلّ على خطاك، نحافظ على مسراك حتى نلقاك بأبي وأمي أنت يا رسول الله.

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات مشابهة

  • ولي العهد يُعزي ولي العهد الكويت في وفاة الشيخ فاضل خالد السلمان الصباح
  • قاعة المؤسسات بمعرض الكتاب تناقش "حقوق المرأة بين الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية"
  • «المفتي»: بعض رموز التنوير يتعاملون مع النصوص الدينية بطرق تخالف المنطق العلمي والشرعي
  • مجمع البحوث الإسلامية: رحلة الإسراء والمعراج جسرًا سماويًا بين الأرض والسماء
  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. في ذكرى الإسراء والمعراج: لا لن نسوّد وجهك يا رسول الله
  • سوريا: الحكومة الانتقالية تدرب الشرطة وفق الشريعة الإسلامية وسط جدل داخلي وتحفظات دولية
  • وزير الشؤون الإسلامية يوجه بتخصيص خطبة الجمعة القادمة للتحذير من مدعي تعبير الرؤى
  • ماذا قال الشيخ الشعراوي عن السحر؟ لا يضرون
  • الشيخ السليمان: الحنان صفة من صفات الله ولا يجوز الدعاء به .. فيديو
  • أبرزهم غادة عبد الرازق.. البطولات النسائية تسيطر على ماراثون رمضان 2025